Thursday, December 07, 2006

bashir muntasser

13 Comments:

Blogger Bashir Muntasser said...

الإهداء

إلى روح الوالد إبراهيم السني المنتصر
وإلى روح الوالدة الأم الحنون



































توطئة

بسم الله الرحمن الرحيم
عندما كتبت هذه الذكريات سنة 1970م لم أكتبها بغرض النشر. وعندما راجعتها وطبعتها في أواخر التسعينات كنت أرغب في الاحتفاظ بها في مكتبتي للذكرى، ولأفراد عائلتي في المستقبل، كما يحتفظ الناس بمذكراتهم وصورهم. ولكن أمام إصرار بعض الأصدقاء، وأفراد العائلة، وتقدم العمر، ونذير قلب يعمل بمنظم نبضات القلب، لم يكن لي خيار سوى نشر هذه الذكريات.
وأود أن أوضح، أنني لا أدعي أن هذه الذكريات مساهمة هامة في كتابة تاريخ ليبيا، فأنا لست متخصصًا في التاريخ أو كتابته، ولا أريد أن أكون دخيلًا عليه ككثيرين. وكتابة تاريخ ليبيا متروكة لشبابنا الأكاديمي المتخصص، لتنقيته من الشوائب التي أدخلت عليه من طرف فئات، لا تتمتع بالكفاءة أو بالحياد العلمي النزيه، ومن الإعلام الرسمي. كما أريد أن أوضح، أن ما ورد من تعليقات وانتقادات للسياسات والأشخاص ورمز النظام الملكي نفسه، ليست وليدة اليوم، بل هي وليدة فترة الأحداث نفسها، كما كنا نقولها ونتداولها في بيوتنا، وفي مكاتبنا، قبل الفاتح من سبتمبر 1969م.
وأرجو أن يعذرني القراء في عدم التوسع في السرد، لأنه لا يمكن سرد تجارب ومعايشة الإنسان للأحداث في صفحات أو حتى مجلدات. وكلما حاول الإنسان الكتابة، تدافعت المعلومات والأفكار في ذهنه، بحيث لم يعد في إمكانه تسجيلها وتنظيمها وتقديمها للقراء كما يجب. وكلما كتب الإنسان شيئًا، كان يتمنى عند قراءته أن يعيد صياغته ليكون أحسن وأجمل وأكمل وأدق.
وأعتذر لبعض الشخصيات وأبنائهم إذا شعروا بعدم الرضا عما كتبت. وفي الحقيقة، لا يستطيع الإنسان الكتابة بصدق عن شخص تولى منصبًا عامًا، إلا إذا تعرض لبعض ايجابياته وسلبياته، وإلا كان مجرد مادح منافق أو ناقد حاقد، وهي صفات شاعت بين كتابنا ومؤرخينا، وفي إعلامنا الرسمي في العالم العربي اليوم.
وختامًا، أود أن أشكر الإخوة الذين تفضلوا بوقتهم وجهدهم في مساعدتي ومراجعة الصياغة، والحصول على الصور من المصادر المتاحة، وأخص بالشكر السيد الدكتور سادات عبدالرزاق البدري الذي راجع الكتاب وساهم في صياغته وإعداده للنشر. كما أشكر السادة المهدي محمود المنتصر والسيد عاشور الشامس وزملائه في هيئة تحرير موقع أخبار ليبيا على مساهماتهم. وكذلك الذين شجعوني على نشرها، وأخص بالذكر إخوتي على وعبدالعظيم والهادي وأبنائهم وابن أختي الدكتور هشام بن لامين. ولا يفوتني إلا أن أشكر السادة الذين تفضلوا بالتعليق عليها حال نشرها على الويب، وفي مقدمتهم الأستاذ أمين مازن والدكتورة فوزية محمد بريون والأستاذ سالم الكبتي. وأشكر زوجتي التي وفرت لي كل أسباب الراحة والوقت لأتفرغ للكتابة.
بشير السنـي المنتصـر
bisunni@yahoo.co.uk
لنــدن 24 مارس 2008م










مقــدمـة

إن تجربتي في العمل في رئاسة مجلس الوزراء، كوكيل وزارة، وكوزير دولة، ومراقب عن قرب لما يجري، كانت قاسية، وكانت تجربة تعلمت منها الكثير، وعرفت فيها لماذا تتأخر شعوبنا العربية، ودور الاستعمار في رسم مسيرتها. كما عرفت أن فشل القيادات العربية، يرجع إلى عدم إيمانها بالديمقراطية، وعدم احترامها لرغبات وآمال شعوبها. كما أن استكانة الشعوب العربية، ورضوخها للظلم والكبت والاضطهاد، والتخلي عن حرياتها للحاكم قسرًا أو اختيارًا، قد ساعدت الحكام العرب على التمسك بالحكم والاستمرار فيه.
إن أسلوب الحكم الذي خبرته في العهد الملكي، لا يختلف عما يجري في البلاد العربية الأخرى. فأنظمة الحكم تفرض وصايتها على الشعوب، بسبب عدم وعي الشعوب العربية، وتفشي الجهل فيها، مما يساعد الحاكم على الانفراد بالحكم. لقد تفشى النفاق بين الشعوب العربية، وللأسف، على اختلاف طبقاتها وعودت الحاكم على التطبيل والتصفيق والتهليل والمدح، مما يجعله يتناسى دوره كخادم للشعب.
ولم يعد الحاكم العربي يعتمد على مساعديه ومستشاريه الأكفاء المختصين في تسيير شئون الحكم، بل أصبح يعتقد بأنه فعلًا هو مصدر الحكمة الملهم، وله حق إلهي في عمل ما يشاء، وفق ما يراه، وتعيين من يشاء في مناصب الدولة. ويتوقف مستوى العدالة وتوفر الحريات الشخصية في أي بلاد عربية على شخصية الحاكم. فقد يكون همه التمسك بالحكم، بإذلال زعماء البلاد وممثليها، واستغلال البلاد لمصالحه وعائلته دون اعتبار آخر. وقد يكون الحاكم حسن النية خييرًا عفيفًا، يرغب في عمل الخير، وتوفير الحريات الفردية والاقتصادية للشعب، لكنه يعمل بما يراه هو صائبًا، وليس بما يراه الشعب، وفي كلتا الحالتين يسود حكم غير ديمقراطي.
إن الرغبة في العدل وعمل الخير شيء، والحكم الديمقراطي شيء آخر. فالحاكم الفردي، حتى لو كان يحب عمل الخير، وتوفير الأمن والرفاهية لشعبه، ونزيهًا، لا يستطيع أن يعدل، لأنه يعتقد أنه ولي الأمر وصاحب القرار، وما يقدمه من خير للشعب هو إحسان منه، وإن من حقه أن يحسن لمن يشاء، وأن يحرم من يشاء، وأن يستمر في الحكم ما دام حيًا. بينما الحاكم الديمقراطي هو الذي يؤمن بسلطة الشعب، صاحب الحق وسلطة القرار، ودوره كحاكم هو تنفيذ ما يريده الشعب، وأن يتقبل مبدأ تبادل السلطة، وترك الفرصة لغيره إذا رأى الشعب ذلك. والملك إدريس قد تنطبق عليه صفة الحاكم حسن النية، الذي يرغب في عمل الخير وتوفير الأمن لشعبه، بالشكل الذي يراه هو صالحًا، لكنه يفتقد لصفات الحاكم الديمقراطي المستنير، الذي يؤمن بحكم الشعب وإرادته، ويحترم قراره وحرياته وفقًا للدستور.
وقبل الدخول في التفاصيل أود أن أبدي الملاحظات التالية:
1- رغم نصيحة كثير من الأصدقاء في العهد الملكي، بأن أحتفظ للتاريخ بصورة من كل ما أستطيع من الوثائق التي تتاح لي الفرصة الإطلاع عليها، بحكم عملي القريب من أصحاب القرار، إلا أنني لم أعمل بهذه النصيحة، لاحترامي للثقة التي اؤتمنت عليها. لقد حاولت إجراء تنظيم وتجميع لبعض الوثائق الهامة المهملة في الخزائن السرية لرئاسة مجلس الوزراء، وقمت بحفظها في خزائن المكتب في رئاسة المجلس، ولا يعرف مصيرها الآن.
2- عدد كبير من الوثائق كانت تحفظ في الخزانة الخاصة برئيس مجلس الوزراء بعد اتخاذه الإجراء بشأنها، وعادة ما يأخذ رؤساء الوزارات هذه الوثائق معهم عند استقالتهم، إذا سمحت لهم الظروف بذلك، ولا يعرف مصيرها إلا من تولى منصب رئيس الوزراء.
3- الكتابة عن العهد الملكي الليبي لن تكون دقيقة وموثوقة إلا إذا أمكن الرجوع الى الملفات الليبية، وبالأخص ملفات مجلس الوزراء ومجلس الأمة (يتكون مجلس الأمة "البرلمان" من مجلسي الشيوخ والنواب)، وتقارير الأمن والمخابرات ووزارة الخارجية، والتي لا يعرف مصيرها الآن.
4- يوم الأول من سبتمبر 1969م أخذت مع غيري من مسئولي العهد الملكي إلى ثكنات باب العزيزية. وقد فتش منزلي بعد ذلك وأخذت منه بعض أوراقي الخاصة، بما فيها الشهادات الدراسية والعائلية، ولم يرجع إلي إلا بعضها بعد ثلاث سنوات، وكان بعضها محترقًا بالنار. وقال رجال الشرطة إنها وجدت في خزانة حديدية في الحقول خارج مدينة طرابلس، وقد حاول خاطفوها فتحها، ولما عجزوا تركوها. وقد فتحتها الشرطة بالنار، ولما وجدوا فيها أوراقي الخاصة جئ بها إلي.
وبعد انتقالي إلى جنيف سنة 1977م هدم منزلي بطرابلس بكاملة بحجة وقوعه في مخطط توسيع الطريق التى أمام منزلي، ووضعت محتويات المنزل، وهى كل ما أملك في تلك المرحلة من حياتي، من أثاث وملابس وكتب وأوراق، في مخزن في أرض المنزل، وجرى بعد ذلك التصرف فيها بالإهمال وتوزعت وضاعت كلها ولم أعرف مصيرها.
5- بعد خروجي من المعتقل يوم 3 ديسمبر 1969م، بقيت ملازمًا للبيت طوال عام 1970م، فلم تفرض علي أية قيود تحدد إقامتي أو تنقلاتي. وقد خطرت لي خاطرة كتابة بعض المذكرات، خاصة وأن الذاكرة كانت نشطة آنذاك. وقد تمكنت من تسجيل تفاصيل بعض الأحداث، كما عرفتها في فترة عملي بالحكومة من أول سبتمبر 1956 إلى أول سبتمبر 1969م، بما فيها الأحداث التي تلت الأول من سبتمبر 1969.
6- إن سردي للأحداث، وسياسات وآراء رؤساء الحكومات، والسفراء ووكلاء الوزارات الذين عملت معهم، لم يكن رواية عن أحد، ولم يؤخذ من وثيقة رسمية أو تقارير صحفية، وإن كل المعلومات التي وردت في هذه الذكريات اعتمدت على ما رأيت وسمعت شخصيًا من أصحاب القرار، الذين عملت معهم أنفسهم، وعلى ما كنت أستنتجه من سياساتهم وقراراتهم التي اتخذوها، أثناء مراحل إعدادها وصدورها، ورد الفعل حولها. وقد أتاح لي عملي كوكيل وزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء ووزير دولة، أن أطلع على بريد رؤساء الحكومات والسفراء الذين عملت معهم، وأن أكتب وأشارك في صياغة أغلب خطبهم وتقاريرهم وبياناتهم البرلمانية والصحفية، نيابة عنهم وبناء على توجيهاتهم، وعلى ما كنت أعرفه عنهم، وأستنبط من تفكيرهم وآرائهم.
7- هذه الذكريات كتبت سنة 1970م ولم أغير فيها شيئًا من جوهرها حفاظًا على عفويتها، ولهذا فهي تعبر عن ماض ولا علاقة لها بالحاضر، وهي ليست دراسة مقارنة. أما توقيتها، فقد كنت آمل أن أضيف لها بعض المعلومات وأحولها إلى مذكرات مفصلة، ولكن الوقت والظروف الصحية حالت دون ذلك. أما تعرضي بالنقد لأسلوب الملك محمد إدريس السنوسي في الحكم، فإن غرضي لم يكن النيل منه شخصيًا، لأني احترمه، واحترامي له عائلي موروث للسنوسية منذ قدوم جده السيد محمد بن علي السنوسي إلى ليبيا.
والملك إدريس ليس سنوسيًا شريفًا من أهل البيت فحسب، بل هو أيضًا مواطن ليبي قبل منصبًا عامًا، وأقسم بأن يحترم الدستور ويرعى مصالح الشعب رعاية كاملة، وعلى هذا فهو معرض للنقد والتقييم كغيره من كبار المسئولين في العهد الملكي الليبي. وقد رأيت أنه من واجبي نحو وطني، ونحو كل الرجال الذين أخلصوا لليبيا إبان العهد الملكي، أن يعرف الناس، أن سبب فشل النظام الملكي في ليبيا، لا يقع على عاتق السياسيين الذين تولوا الحكم في العهد الملكي وحدهم، بل يرجع بعضه لسياسات وأسلوب الملك إدريس السنوسي في الحكم، وهذا لا يعني أن رؤساء الوزارات والوزراء وكبار المسئولين في العهد الملكي السابق غير مسئولين أو منزهين، فقد كانوا بشرًا، يحسنون ويخطئون، وكان فيهم الشريف النزيه، والمستغل المستفيد.
8- إن ما كتبته في هذه المذكرات اعتمد على الذاكرة. وقد سنحت لي الفرصة بعد تقاعدي من العمل في الأمم المتحدة سنة 1994م، لزيارة لندن والإطلاع على ملفات وتقارير السفارة البريطانية في ليبيا خلال كل فترة الحكم الملكي. وأقول للتاريخ، إن السفراء البريطانيين ومساعديهم سجلوا تفاصيل الأحداث في ليبيا في تلك الفترة، والتعريف بالمسئولين عليها، وسرد نبذ عن حياتهم، وسياسات الحكومات المتعاقبة، وتفاصيل مقابلات السفراء ومساعديهم مع الملك، ورؤساء الحكومات والوزراء، والنواب وكبار المسئولين، وضباط الشرطة والجيش، وزعماء المعارضة، والطلاب، والمواطنين العاديين، الذين فتحوا صدورهم وأفشوا أسرار عما كان يجرى في البلاد، ظنًا منهم بأن هذه المعلومات لن تنشر. وبعضهم قد لا يعرف أن كل كلمة قالها لدبلوماسي سجلت بحذافيرها، وهذه المعلومات التى سردها السفراء ومساعدوهم لا تتوفر في أي مصدر آخر، كما يفترض فيها الصدق والحياد، لأنها سرية، وصادرة عن مصادر تتمتع بثقة في بلادها لنقل فكرة صادقة عما كان يجري في ليبيا. وعلى كل حال فالذين كتبوا هذه التقارير هم بشر، يتأثرون بما يعتقدون، ويعلمون، وهم عرضة للخطأ. وأتمنى لو ترجمت هذه الوثائق ونشرت ووضعت لإطلاع طلاب التاريخ في ليبيا عليها، وقد قامت بعض دول الخليج العربية بمثل هذا العمل.
9- إن المذكرات والكتب التي صدرت حتى طباعة هذه المذكرات من طرف بعض المسئولين السابقين، وعلى رأسهم السيدان مصطفى بن حليم ومحمد عثمان الصيد، كانت مساهمة مشكورة في توضيح تاريخ ليبيا في العهد الملكي. وأعتقد أن حملة الانتقادات التي ثارت حول هذه المذكرات تنقصها الدقة. فرجل السياسة عندما يكتب، وخاصة إذا كان في مستوى رئيس الوزراء، فإنه يدافع عن أعماله وسياسة حكومته ورأيه، ويجب أخذ كلامه في هذا الإطار، ولكنه رأي يعبر عن واقع مجريات الأمور لا يتوفر في المراجع المروية عن الغير.
10- لقد خصصت الفصل الأول لسيرة حياتي منذ الطفولة وسنوات الدراسة، بهدف إعطاء القارئ صورة عن الحياة السياسية والاجتماعية في ليبيا في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، وليس المقصود سرد أحداث شخصية لا تهم القارئ. ويشمل الجزء الثاني من هذه المذكرات ذكرياتي عن الفترة بعد الأول من سبتمبر 1969م وعملي في شركات البترول في ليبيا، ثم في الأمم المتحدة، الذي استمر لأكثر من ربع قرن.


































نبـذة عـن حـياة صاحـب المـذكرات

بشير إبراهيم السني المنتصر ينتمي إلى عائلة المنتصر المعروفة في مصراته. ولد بها بتاريخ 4 أبريل 1932م، وشب في عائلة محافظة متدينة لها مكانة بين السكان، تستدعي المحافظة على احترامهم وخدمتهم وتلبية حاجاتهم، والعطف على الفقير والأخذ بيد الضعيف. كانت العائلة من ملاك الأراضي في العهد العثماني، وتولى بعض أفرادها مناصب إدارية عالية وحازوا ألقابًا تركية رفيعة.
بدأ والده حياتة مدرسًا في مدرسة مصراته الابتدائية، وتدرج في سلك التعليم وتولى وظيفة مدير عام التعليم الابتدائي، ثم عين وكيلًا لكلية العلوم في الجامعة الليبية حتى أحيل إلى التقاعد بعد قيام ثورة الفاتح من سبتمبر 1969م. وبشير المنتصر له أربعة إخوة هم علي وهو الأكبر وفاطمة والهادي وعبدالعظيم، وقد فقدوا أخاهم أحمد سنة 1984م، بعد تأهله لشهادة الدكتوراه في الهندسة المعمارية من جامعة برلين إثر مرض عضال.

الابتدائية
دخل بشير المنتصر مدرسة مصراته الابتدائية خلال العهد الإيطالي. وخلال سنوات الحرب درس في المدارس القرآنية لحفظ القرآن وتعلم النحو والصرف والأدب العربي، كما تلقى دروسًا خاصة في هذه العلوم على أيدي نخبة من علماء مصراته المعروفين في ذلك الوقت. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في ليبيا عاد إلى مدرسة مصراته الابتدائية التي تغيرت الدراسة فيها إلى العربية بعد أن كان تعليمها باللغة الإيطالية قبل الحرب. وكان المعلمون فيها من أبناء مصراته مثل الأستاذ محمد مسعود فشيكة والأستاذ عبدالله الترجمان ووالده الأستاذ إبراهيم السني المنتصر والأستاذ محمد الطبولي والأستاذ مختار معافة وغيرهم.


الثانـويـة
تخرج بشير المنتصر من مدرسة مصراته الابتدائية في صيف 1946م والتحق بأول مدرسة ثانوية افتتحت في نفس السنة في طرابلس في عهد الإدارة البريطانية، وقضى فيها خمس سنوات وتخرج منها في صيف 1951م. كانت مدرسة طرابلس الثانوية فى تلك الفترة منارة التعليم الحديث في البلاد، وساهم طلابها بقسط وافر في الحركة الوطنية قبل الاستقلال ومعارضة مشروع بيفن ـ سفورزا لتقسيم ليبيا ووضعها تحت الوصاية. وكان الأساتذة فيها في السنوات الأولى من الليبيين ومنهم الأستاذ محمد مسعود فشيكة والأستاذ المهدي الحجاجي والأستاذ محمود البشتي والأستاذ مصطفى بعيو والأستاذ محمود فرحات والأستاذ مظفر الأمير والأستاذ الهادي عرفة والأستاذ فؤاد الكعبازي والأستاذ محمد الأمين الحافي وغيرهم كثيرين.
وكان بعض موظفي الإدارة البريطانية العرب يعطون للطلاب دروسًا مسائية في اللغة الإنجليزية ومنهم الأساتذة موسى إبشوتى والأمين الطيبي اللذين اشتهرا في الإذاعة البريطانية بعد ذلك، والأستاذ نصر الدين الأسد الذي كان له الفضل الكبير في إعداد طلابه لإتقان اللغة العربية وأدابها، والذي شاع صيته بعد ذلك في الوسط الجامعي والتعليمي في مصر وليبيا وكوزير للتعليم العالي في الأردن، وكذلك الشيخ الكبير الأستاذ شكال الذي كان يعطي للطلاب دروس اللغة الفرنسية.
بعد ذلك تولت البعثة التعليمية المصرية مهام التدريس في المدرسة. وبعد التخرج سنة 1951 حاول رئيس الإدارة العسكرية البريطانية المستر تريفرز بلاكلي إقناع طلاب الدفعة الأولى، بصفتهم النخبة المتعلمة في البلاد، بالالتحاق بدورات تدريبية لتولي الوظائف القيادية في سياسة التلييب لإعداد البلاد للاستقلال في أول سنة 1952. ولكن معظم الطلاب، إن لم يكن كلهم، رفضوا العرض وأصروا على مواصلة دراستهم الجامعية، وهكذا أرسلوا في خريف سنة 1951 إلى مصر في بعثة دراسية.
وكان بشير المنتصر من بين الدفعة الأولى التي تألفت منه ومن الإخوة علي الميلودي وعز الدين المبروك ومحمد إسماعيل سيالة وخيري الصغير وأحمد بن لامين وعبدالله بن لامين وشعبان عريبي. ثم أرسلت دفعة ثانية من بينهم إبراهيم الفقيه حسن وراشد السراج ومبروك العجيل وسالم كوكان وشمس الدين أبوشويرب وإبراهيم الميت وعبدالحفيظ سليمان ومحمد بن محمود وغيرهم. وقد اضطروا جميعهم لإعادة السنة التوجيهية لأن مصر لم تعترف بالتوجيهية الطرابلسية لأن المنهج فيها كان فلسطينيًا، وسكنوا في المعادي. اعترفت الحكومة المصرية بالتوجيهية البرقاوية لأن المنهج فيها كان مصريًا. وكان طلبة برقة قد سبقوا زملاءهم الطرابلسيين إلى مصر ومنهم منصور الكيخيا وسالم عميش والشريف والكاديكي وعبدالرحيم النعاس وعبدالحميد الرعيض وغيرهم، وسكنوا في حلوان.








الأحتفال بافتتاح أول مدرسة ثانوية في طرابلس سنة 1946 ويرى الأستاذ كاظم نديم بن موسى
يعزف نشيد الأفتتاح (1) وبشير المنتصر (2) بين زملائه ومنهم: نورى بازيليا (3) أحمد الباروني
(4) محمد إسماعيل سيالة (5) إبراهيم الميت (6) بشير الحنش (7) وسالم عطية (8)

وهكذا دخل بشير المنتصر المدرسة الخديوية الثانوية في حي السيدة زينب في القاهرة، الشهيرة بنشاطها الوطني، وتخرج منها في يونيو 1952م، قبل قيام ثورة يوليو برئاسة البكباشي (المقدم) جمال عبدالناصر ببضعة أسابيع، ودخل كلية التجارة جامعة القاهرة في نفس السنة، رغم أن مجموعه كان فوق 85% رياضي يؤهله لدخول كلية عملية. وكانت أوراقه قد حولت رسميًا بطلب من السفارة الليبية إلى كلية الهندسة، إلا أنه رفض وسحب أوراقه وقدمها إلى كلية التجارة، رغبة منه في الالتحاق بشعبة العلوم السياسية التي كانت تابعة لكلية التجارة آنذاك، والتي تخرج منها في يونيو سنة 1956م، وكان ترتيبه كما كان دائمًا في سنوات دراسته الجامعية أول دفعته، التي ضمت عددًا من خيرة الطلاب المصريين والعرب، والذين تولوا مناصب وزارية ودبلوماسية في بلادهم بعد ذلك، وقد أتيحت له الفرصة الالتقاء بهم في جنيف بعد ذلك.
كان أساتذته في تلك السنوات نخبة من أساتذة مصر العظام آنذاك، مثل الأساتذة وهيب مسيحة وعبدالمنعم البنا وعبدالمنعم حجازي وبطرس غالي وإبراهيم صقر وفتح الله الخطيب وعبدالجليل العمري وعبدالمنعم القيسوني والدكتور العريان وغيرهم كثيرين، وأغلبهم عينوا في مناصب وزارية في حكومات الثورة المصرية المتعاقبة. وتولى بطرس غالى منصب السكرتير العام للأمم المتحدة (1992-1996م)، وتولى الدكتور عبدالمنعم حجازي رئاسة الحكومة المصرية لفترة في عهد عبدالناصر. وكانت هذه الفترة من أهم الفترات في تاريخ انطلاق القومية العربية بقيادة الزعيم عبدالناصر، وانبعاث الدعوة إلى الوحدة العربية. وكانت جامعة القاهرة مركز الثقل لنشاط الثورة العربية الناصرية رغم تفشي الخلاف بين ثورة 23 يوليو والإخوان المسلمين.

الانـخراط في السـلك الوظيـفي
رجع بشير المنتصر إلى طرابلس في صيف 1956م وعين في أول سبتمبر في وزارة الخارحية بالدرجة الرابعة كسكرتير ثان ومساعد لرئيس الشئون العسكرية والسرية، وعين بعدها رئيسًا لأول قسم للشئون الاقتصادية أسس في الوزارة. وفي سنة 1957م وعندما تولى السيد عبدالمجيد كعبار رئاسة الوزارة طلب منه أن يكون سكرتيرًا خاصًا له بالدرجة الثالثة بالوكالة. ورغم رغبته في مواصلة دراسته وعرض الجامعة الليبية عليه بتعيينة معيدًا وإرساله للخارج للحصول عل درجة الماجستير والدكتوراة، إلا أنه تحت إصرار رئيس الوزراء رأى تأجيل دراسته وقبل منصب السكرتير الخاص لرئيس الوزراء. وقد أتاح له هذا المنصب التعرف على المسئولين وزعماء البلاد وشيوخ القبائل، كما رافق رئيس الوزراء في زيارته الرسمية إلى بريطانيا لمفاوضات إعادة النظر في الاتفاقية المالية بين بريطانيا وليبيا.
كان مقر الحكومة الليبية آنذاك في البيضاء وبنغازي معظم الوقت مع فترات قصيرة في طرابلس. ورغم مغريات الوظيفة، إلا أن أمله في مواصلة دراسته جعله يلح على رئيس الوزراء لإعفائه من منصبه وإنهاء فترة انتدابه ورجوعه إلى وزارة الخارجية. ورغم محاولة رئيس الوزراء إقناعه بالرجوع عن رأيه، إلا أنه تفهم هدف سكرتيره، ووافق على إرجاعة إلى وزارة الخارجية، وساعده في أول حركة تنقلات بتعيينه سكرتيرًا ثانيًا في السفارة الليبية في لندن. وكان السفير الليبي في لندن هو الدكتور علي الساحلي، الذي سرعان ما نقل بعد تعيينه رئيسًا للديوان الملكي، وحل محله الدكتور عبدالسلام البوصيري كسفير لليبيا. وأسندت إلى بشير المنتصر مهام الشئون الصحفية والسياسية، كما انتسب إلى جامعة لندن للحصول على الماجستير.
في سنة 1962م تقرر نقله الى القاهرة بدرجة سكرتير أول وتولى فيها مهام الشئون الصحفية أيضًا، وكان السفير الليبي في مصر آنذاك هو السيد خليل القلال. وفي نهاية 1962م تقرر نقله الى ديوان وزارة الخارجية، ومقره آنذاك في مدينة البيضاء، التي أصبحت مقرًا لرئاسة الحكومة أيضًا مع بعض أجزاء من الوزارات التي استمرت في طرابلس، وقد عين في الخارجية رئيسًا للشئون العربية وقسم شئون فلسطين ورقي إلى درجة مستشار. وفي سنة 1963م شارك مع الوفد الليبي برئاسة الأمير الحسن الرضا ولي العهد في مؤتمر القمة الإفريقي التاريخي الأول الذي أسست فيه منظمة الوحدة الإفريقية.
في أوائل سنة 1964م عندما عين محمود المنتصر رئيسًا للحكومة للمرة الثانية، عرض علي بشير المنتصر تولي مهام مكتب رئاسة مجلس الوزراء منتدبًا من وزارة الخارجية، وعين كوكيل وزارة لشئون الرئاسة بالوكالة. وفي 1 نوفمبر 1964م عين وكيلًا للوزارة في حركة التنظيمات التي تمت بعد صدور قانون الخدمة المدنية الجديد، وحضر في هذه السنة مؤتمر القمة العربي الثاني الذي عقد في الإسكندرية وحضره الملك إدريس. وقد استمر في منصب وكيل الوزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء في عهد حكومة السيد حسين مازق، وكذلك في عهد حكومة السيد عبدالقادر البدري بدون انقطاع 1964-1967م.
في 24 أكتوبر 1967م عين وزيرًا للدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء في حكومة السيد عبدالحميد البكوش. وبعد فترة انتدب من طرف مجلس الوزراء كوزير للعدل بالوكالة، واستمر في هذا المنصب حتى استقالة السيد البكوش في سنة 1968م. وبعدها عين من جديد وزيرًا للدولة لشئون الرئاسة في حكومة السيد ونيس القذافي، الذي خلف السيد البكوش، بالإضافة الى ذلك أسندت لبشير المنتصر مهام وزير بالوكالة لوزارات الخارجية والعدل والبترول أثناء غياب وزرائها الأصليين، بالإضافة الى عمله الأصلي كوزير للدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء.









بشير السني المنتصر وكيل الوزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء بمكتبه بطرابلس

الاعـتـقال
في 1 سبتمبر 1969م اعتقل بشير المنتصر مع زملائه الوزراء وكبار مسئولي الحكم الملكي في ثكنات باب العزيزية، مقر رئاسة الجيش، ونقلوا بعدها إلى نادي الضباط في الفرناج وبعدها إلى سجن طرابلس المركزي. أطلق سراحه يوم 3 ديسمبر من نفس السنة وبقي كل عام 1970م ملازمًا للبيت، ولم تفرض عليه أية قيود، وعومل معاملة حسنة، واستغل هذه الفرصة واستأذن للسفر إلى الحج مع والده ووالدته وأخيه الهادي.
بعد عودته من الحج طلب السماح له في العمل، وقبل عرضًا من شركة شل للاستكشاف الليبية، وعين فيها مديرًا لشئون الموظفين لمجموعة شركات شل في ليبيا في 4 أبريل 1971م. وأرسل على الفور إلى لندن، حيث أمضى كل سنة 1971م في مركز شركة شل العالمية في (واترلو ـ لندن) للتدريب والإطلاع على أنظمة الشركة. وخلال هذه الفترة حضر دورات تدريبية عالية أعدت لكبار موظفي الشركات البريطانية، ومنها دورة في الإدارة العامة فى معهد جلاسيير (رايسليب ـ ميدل سيكس)، ودورة في فن اتخاذ القرار في نفس المعهد لأعضاء مجالس الإدارة للشركات، ودورة للعلاقات الصناعية والتفاوض بين الإدارة واتحادات العمال نظمت بالتعاون بين منظمة اتحادات أرباب العمل البريطانية ومؤسسة الصناعة البريطانية والمعهد البريطاني لإدارة شئون الأفراد والإدارة في (إيست بورن) في جنوب بريطانيا.
كما حضر دورة في الإدارة وعلوم السلوك الصناعي في معهد أشريدج (هارتفورد شاير) بريطانيا، ودورة في استخدام الكمبيوتر في إدارة الأفراد في معهد إدارة الأفراد بمركز الكمبيوتر في (برمنجهام) بريطانيا، ودورة في اختيار وتقييم الأفراد في المعهد الوطني لعلم النفس الصناعي (بيكرستريت- لندن). كذلك أثناء فترة عمله مع شركة شل حضر دورة في معهد الشرق الأوسط للعلاقات الصناعية (ميرك) في بيروت لبنان، والاجتماعات السنوية لمدراء شئون الأفراد لشركات شل في الشرق الأوسط، التي عقدت في بيروت ونيقوسيا بقبرص بإشراف شركة شل العالمية.
وفي نهاية سنة 1971م رجع إلى ليبيا وتولى مهامه كمدير لشئون الموظفين والإدارة والعلاقات التجارية. وبعد تأميم حصة شركة شل في شركة الأويزس، وعدم عثور شركة شل للاستكشاف على البترول بكميات تجارية، تقرر انسحاب شركة شل بالكامل من ليبيا والاستغناء عن كل موظفيها. وهكذا انتهى عمله بشركة شل وأصبح عاطلًا. ففكر في الأعمال التجارية الحرة ولكنه وجد أن المجال الذي كان يرغب في العمل فيه قد أمم.
وقد حاول أعضاء اللجنة الشعبية لشركة شل المنتهية، والذين استطاع هو مساعدتهم على الانتقال إلى الشركات البترولية الأخرى العاملة في البلاد، مع اللجنة الشعبية لشركة أوكسيدنتال لترشيحه لوظيفة مدير شئون الموظفين الشاغرة بها، ولكنهم أخبروه بأن رئيس مجلس إدارة الشركة، وكان آنذاك السيد عمر مصطفى المنتصر، رفض قبول ترشيحه للعمل في شركة هو رئيس مجلس إدارتها. وقد كان متفهمًا لقرار ابن عمه هذا لما عرفه عنه من الابتعاد عن الشبهات، ولم يؤثر هذا القرار على علاقتهما الوطيدة.
وبعد فترة اتصلت به اللجنة الشعبية لشركة أوكسيدنتال، وأفهمته بأن الأخ عمر مصطفى المنتصر انتقل من رئاسة مجلس إدارة شركة أوكسيدنتال ليبيا، وحل محله السيد مسعود جرناز، وأنه يعرض عليه الوظيفة الشاغرة. وهكذا تولى مهام مدير علاقات الموظفين بشركة أوكسيدنتال، وكانت شركة ليبية منتجة ومؤممة مشتركة بين الحكومة وشركة أوكسيدنتال، وعمل بها من أول سنة 1974م وحتى يوليو 1977م. وحضر في هذه الفترة الاجتماعات السنوية لمدراء شئون الأفراد لشركات أوكسيدنتال في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وليبيا، والتي كانت تعقد في لوس أنجلوس وبيكرسفيلد ومونتري في الولايات المتحدة الأمريكية.

الالـتحاق بالأمـم المـتحدة
في سنة 1977م تلقى بشير المنتصر عرضًا من المستر رفائيل سالاس (الفليبيني الجنسية) المدير التنفيذي لصندوق الأمم المتحدة للسكان للعمل مع الصندوق. ورغم أن مجلس إدارة أوكسيدنتال عينه نائبًا لرئيس الشركة لشئون الأفراد، وعرض عليه رئيس مجلس إدارتها آنذاك السيد مسعود جرناز أن يكون مركز عمل منصبه الجديد في لندن، للإشراف على أعمال شركة الأوكسيدنتال الليبية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية (التي كانت تتولاها شركة أوكسيدنتال العالمية نيابة عنها كالمشتريات وانتداب الخبراء)، إلا أنه رفض عرض أوكسيدنتال وقبل عرض الأمم المتحدة. وهكذا غادر ليبيا بعد عمل استمر حوالي أربعة عشر عامًا مع الحكومة في النظام الملكي الليبي السابق، وحوالي سبع سنوات مع شركات النفط بعد الفاتح من سبتمبر 1969، أي فترة تزيد على عشرين سنة، ليبدأ حياة جديدة بعيدًا عن الوطن.
في 23 يوليو 1977م عين بشير المنتصر ممثلًا لصندوق الأمم المتحدة للسكان ورئيس مكتبه الأوروبي للاتصال في جنيف بسويسرا. كانت مهام المكتب تمثيل الصندوق لدى مكتب الأمم المتحدة الأوروبي بجنيف، ومنظمات الأمم المتحدة والمنظمات الحكومية وغير الحكومية في أوروبا وحضور الاجتماعات الخاصة بها، وكذلك السعي لدى الحكومات والمجالس التشريعية للدول المانحة الأوروبية والعربية لزيادة مخصصاتها للصندوق، بالإضافة إلى مهامه كمنسق لبرامج صندوق الأمم المتحدة للسكان في البرتغال واليونان وألبانيا ورومانيا وبولندا وتشيكوسلافاكيا وهنغاريا وبلغاريا ومالطة ويوغسلافيا، وهي الدول الأوروبية التي كانت مؤهلة لتلقي مساعدة الأمم المتحدة الفنية في شئون السكان. كان عليه أن يتنقل بين هذه البلدان للإشراف على تنفيذ مشاريع الصندوق التي تنفذها الحكومات المعنية بالتعاون مع منظمات الأمم المتحدة الدولية والإقليمية المتخصصة في تلك الدول. في 7 يوليو 1981م رقي إلى درجة مدير بنفس المهام المذكورة.
في 1 سبتمبر 1990م تقرر نقل جميع شئون تنسيق برامج الصندوق في الدول الأوروبية المذكورة إلى مكاتب برنامج التنمية، التى أنشئت في عواصم تلك الدول، وإلى مقر الصندوق الرئيسي في نيويورك. وأصبح المكتب الأوروبي لصندوق الأمم المتحدة للسكان في جنيف مسئولًا عن شئون العلاقات العامة والإعلام، بالإضافة إلى مهامه الأساسية الأصلية وهي تمثيل الصندوق لدى مكتب الأمم المتحدة الأوروبي ومنظمات الأمم المتحدة التي مقرها في أوروبا، والتنسيق مع الدول المانحة والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، وحضور اجتماعاتها التي تعقد في أوروبا وجنيف كممثل لصندوق الأمم المتحدة للسكان.
وقد حضر في هذه الفترة العديد من المؤتمرات الدولية والإقليمية التي نظمتها الأمم المتحدة في مجالات السكان والبيئة والتنمية الاجتماعية والمرأة وحقوق الإنسان. كما حضر معظم اجتماعات لجان الخبراء ومجالس إدارات منظمات الأمم المتحدة المتخصصة التي لها علاقة مباشرة بصندوق الأمم المتحدة للسكان، مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية واللجنة الأوروبية التابعة للأمم المتحدة ومنظمة شئون اللاجئين الدولية ومنظمة الهجرة الدولية و"الانتكاد" (منظمة التجارة والتنمية الدولية) في جنيف والمكتب الأوروبي لمنظمة الصحة العالمية في امستردام ومنظمة التغذية والزراعة والبرنامج الغذائي في روما واليونسكو في باريس ومنظمة الصناعة وإدارة الشئون الاجتماعية في فيينا ومنظمة البيئة في نيروبي كممثل للصندوق. كما حضر اجتماعات لجان التنسيق ضمن نظام الأمم المتحدة واجتماعات المنظمات الحكومية والبرلمانية والمنظمات غير الحكومية في جنيف والمدن الأوروبية.








بشير السني المنتصر مندوب صندوق الأمم المتحدة للسكان في إحدى اجتماعات الأمم المتحدة بجنيف

في 30 مايو 1994م أحيل على التقاعد. ومنذ ذلك التاريخ وحتى كتابة هذه السطور، كلف بعدة مهام كخبير غير متفرغ وممثل لصندوق الأمم المتحدة في الاجتماعات السنوية للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وبعض الاجتماعات الأخرى، كلما استدعت الحاجة إليه.  
الفصل الأول

1:54 AM  
Blogger Bashir Muntasser said...

الفصل الأول

تمهيـد صاحب المذكرات

كثيرًا ما فكرت في احتراف الكتابة، وهي رغبة كانت تراودني منذ الطفولة. وخلال سنوات الحرب العالمية الثانية وبعدها، كنت أتنافس مع أخي الأكبر علي على كتابة صحيفتين بيتيتين لا يقرأهما إلا أنا وهو والوالد أحيانًا، لمجرد حب الإطلاع. وكنا لا زلنا في مرحلة الدراسة الابتدائية، إلا أن تعليمنا اللغوي كان متقدمًا بفضل الدروس الخصوصية اللغوية والدينية التي كنا نتلقاها أثناء سنوات الحرب وقفل المدرسة. وكان كل واحد منا يحاول مناقشة وانتقاد الآخر في ما ينشره من آراء في صحيفته. وقد ساعدنا على ذلك كون والدنا مدرسًا في ذلك الوقت، وكنا نشاركه هواية القراءة، وخاصة المجلات المصرية كالرسالة والمصور وآخر ساعة والصباح وروايات جورجي زيدان والمجلات والكتب الأدبية التي كانت متوفرة في ذلك الوقت في حانوت السيد محمد جميل في مدينة مصراته، التي كان عدد المتعلمين فيها قليلًا. وقد ساعدتنا قراءة هذه المطبوعات على تحرير صحيفتينا، ومتابعة الحركات الأدبية والأنشطة السياسية في العالم العربي والعالم الخارجي.
كان خالنا السيد عبدالله بلقاسم عمر باشا المنتصر، الذى عاش معنا لفترة طويلة في فترة الحرب، زادًا غزيرًا من المعلومات عن أوروبا والعالم، وخاصة تطورات أحداث الحرب. وكان قد درس في جامعة تيفولي الإيطالية، وكان يقرأ الجرائد والمجلات الإيطالية ويتابع أحداث الحرب عن طريق الراديو، ويشرح لنا ما يجري في العالم، ويناقشنا بمشاركة والدنا فى ما نقرأ وفي أحداث الساعة، وقد تعلمنا منه الكثير. وكان يعرف الكثير عن تاريخ ليبيا في العهد العثماني وتاريخ عائلة المنتصر وشجرة العائلة حتى مؤسسها المنتصر، وهذا يرجع إلى أنه كان قد عاش مع جده عمر باشا المنتصر بعد وفاة والده وهو طفل، وكان عمر باشا المنتصر قائمقامًا على سرت وله أملاك كثيرة فيها.
يقال حسب رواية خالي أن جد العائلة المنتصر جاء من الكوفة بالعراق مع مجموعة من المهاجرين العرب، ونزلوا في مصراته وأطلق عليهم قبيلة الكوافي. وتولى المنتصر وأولاده وأحفاده منصب الشيخ لقبائل الأهالي في مصراته، وقائمقام ومتصرف في مصراته والخمس وسرت، وحصل بعضهم على لقب بك أو باشا في العهد التركي. وهناك رأي يقول أن المنتصر الأول جاء من المغرب ونزل في مصراته، ورحبت به قبيلة الكوافي واختير شيخًا عليها، ثم عينت الحكومة العثمانية ابنه الشيخ بلقاسم شيخًا على قبائل الأهالي.
ويقطن في مصراته ثلاث مجموعات من القبائل: أهالي وكراغلة وأولاد شيخ. ويقال إن الأهالي أصلهم من سكان ليبيا القدامى (البربر) ثم استعربوا بمرور الزمن تحت الحكم العربي. والكراغلة أصلهم من الأتراك والأعاجم الذين جاءوا من كل أنحاء الإمبراطورية العثمانية إلى مصراته ثم استعربوا، أما أولاد الشيخ فهم القبائل العربية التي جاءت وسكنت مصراته بعد الفتح العربي لليبيا والله أعلم.

الطفـولــة
ولدت يوم 4 أبريل 1932 في مدينة مصراته وكنت الابن الثاني بعد أخي الأكبر علي لأبوين من عائلة المنتصر. كان والدي لا زال يدرس ويعيش مع جدي أحمد السني مصطفى المنتصر، الذي كان ميسورًا ويملك أراض شاسعة في مصراته وتاورغاء ومسلاتة وبنغازي، وكان له ثمان بنات وابن واحد هو والدي. لم يعمل جدي في الحكومة أو التجارة، بل كان يعيش على دخل أراضيه. وكان يعامل الفلاحين معاملة حسنة عملًا بنظام المغارسة، حيث جرى العرف على إعطاء النصف من الناتج للمالك في المحاصيل المطرية والربع في المحاصيل المروية، ويصبح الفلاح مالكًا لنصف الأرض بعد إتمام غرس عدد معين من الأشجار المثمرة في فترة محددة تمتد لعشرين سنة، وهذا جعل معظم الفلاحين ملاكًا لأراضيهم بعد فترة زمنية معينة.
بعد مولد أختي فاطمة، وهي ثالثنا، اضطر والدي إلى مغادرة بيت والده دون رضاه ليعيش مستقلًا، فقد كان من الصعب على والدتي العيش مع عماتي في بيت واحد، رغم اتساعه، وخاصة بعد أن تزايد عدد أفراد أسرتها، وقد اضطر والدي للبحت عن وظيفة. وكانت الحكومة الإيطالية لا توظف الليبيين إلا في وظائف تدريس اللغة العربية أو الوظائف الإدارية البسيطة أو المؤقتة، وعين في وظيفة في جهاز الإحصاء، ثم أصبح مدرسًا بعد نجاحه في امتحان التدريس سنة 1936م ضمن 26 مدرسًا منهم الأساتذة: مصطفى السراج ومحمد بن زيتون ومحمد خليل القماطي وأحمد نبيه ومراد بك درنة وبشير البدري وعبد الخالق الطبيب وعمر فخري الحمداني وغيرهم، وساعده والده بإعطائه منزلًا قريبًا منه.
ورغم مساعدة والده وخالتيه في طرابلس، إلا أن ظروف معيشة العائلة أصبحت صعبة بعد حياة مريحة في بيت والده. وهكذا ترعرت أنا وإخوتي في جو عائلي متواضع ومحافظ جدًا. وعندما كنا أطفالًا، وحتى نتمكن أنا وأخي من الحصول على تغذية صحية، كان أخي الأكبر علي يقيم في طرابلس مع خالة والديه، أما أنا فكنت أتناول طعامي باستمرار مع جدي في بيته القريب من بيتنا.







بشير المنتصر مع والده وإخوته الهادي (على شمال الوالد) وأمامه المرحوم أحمد
ثم الأخ الأصغر عبدالعظيم
كانت عائلة المنتصر تتمتع بمركز اجتماعي وسياسي متميز ولها تاريخ طويل في خدمة الناس. وكانت تتمتع بمكانة لدى الحكومة العثمانية، حيث تولى بعض أفراد العائلة وظائف إدارية عالية، وحصلوا على ألقاب تركية كثيرة منها الشيخ والبكوية والباشوية. وقد فرضت علينا هذه الظروف العائلية قيودًا والتزامات منذ الطفولة، فقد كان ممنوعًا علينا اللعب والمرح في الشارع دون رقابة، وكنا نذهب إلى المدرسة مع مرافق لنا باستمرار.









وكان الناس يعرفون العائلة باسم عائلة البي (بك التركية) وينادون أفرادها بلقب بي حتى الأطفال منهم. وكانت العائلة محسودة على مكانتها الاجتماعية من طرف المتطلعين إلى النفوذ والسيطرة، ومع هذا فقد كان احترام الناس العاديين والفلاحين، ووجودهم حولنا دائمًا، وتقديم خدماتهم لنا عن طيب خاطر وطواعية، يبعث فينا رضًا وتعلقًا بهم وتقديم كل ما نستطيع من خدمات لهم، ومشاركتهم مشاكلهم وأفراحهم وأحزانهم. كانت بيوتنا مفتوحة أمامهم وتعج بالزوار وخاصة في أيام السوق، حيث يتوافد الفلاحون على السوق في مصراته لبيع محاصيلهم وشراء حاجياتهم، وكانوا يحضرون لنا بعض منتوجهم من الخضار والفواكة باستمرار، وكنا نقدم لهم ما نستطيع من ضيافة متواضعة. وأذكر أن بيتنا الذي كان مواجهًا للسوق الرئيسي، كان دائمًا مفتوح الباب لا يغلق خلال الأربع والعشرين ساعة، دون خوف من سارق أو معتد.

مرحلة الدراسة الابتدائية
بدأت التعليم في المدرسة مبكرًا، فوالدي كان مدرسًا في زاوية المحجوب. وأذكر أول يوم ذهبت فيه إلى المدرسة وعمري كان حوالي الخامسة مع والدي وأخي علي، وقد أعطيت كراسة وقلم حبر يستعمل مع المحبرة، فأرقت الحبر على الكراسة وملابسي، وقرر بعدها والدي إرجاء التحاقي بالمدرسة إلى السنة التالية. وفي السنة التالية دخلت مدرسة مصراته الابتدائية المركزية بعد أن نقل والدي إليها. وكان التعليم بها بالإيطالية مع تدريس الدين واللغة العربية كمواد غير أساسية، وكان مديرها الإيطالي آنذاك السنيور (دي ساباتو) كريمًا معنا، وكثيرًا ما كان يحمل معه الحلوى (كرميلة) يعطيها لنا كلما أجدنا وحفظنا عن ظهر قلب ما كان يكلفنا به. ولا زلت أتذكر بعض المقاطع من النشيد الفاشيستي الشهير "Giovinezza" (شبابًا):
يا شبابًا يا شبابًا .. يا ربيعًا مستطابا
إننا أبناء روما .. جندها نحن القدامى
قد مضينا ألف عامًا .. ثم عدنا إلى العهود
لا رجوع لا هوينا .. في طريق قد بنينا..
كما كنا نتغنى بأغنية العلم الإيطالي ذي الثلاثة ألوان وأسماء ملوك إيطاليا وزعمائها وجبالها وأنهارها، كنهر "البو" أكبر نهر في إيطاليا. وهكذا كانت إيطاليا تعد أبناء ليبيا كجزء من الشعب الإيطالي، ولكن الله أنقذ الشعب الليبي من هذا المصير، وانتهى حكم إيطاليا لليبيا بعد خسارة إيطاليا الحرب مع الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
كانت الحياة بسيطة في متطلباتها في تلك الفترة، وكان مستوى المعيشة لعائلتي متوسطًا، إذا قورن بحياة الغالبية الفقيرة للشعب، وكان دخل والدي محدودًا. وبعد فترة ولد أخي الهادي قبل الحرب العالمية الثانية وكان رابعنا. ذهب والدي إلى الحج في سنة 1938 وأخبرنا بأحوال العالم العربي الذي لا نسمع عنه كثيرًا تحت حكم إيطاليا. وكان العرف أن يحتفل بمناسبة حج أحد أفراد العائلة ويدعى الأقارب والأصدقاء والمعارف إلى مآدب الأكل، وتحتفل النساء وتعم الحي زغاريد النساء وتقام الولائم. وأذكر أن الوالد أخبرنا بما يجري في فلسطين وقيام بريطانيا بالسماح للمهاجرين اليهود بالمجئ إلى فلسطين، وكان الناس متحمسين لما يجري في فلسطين.
كان يوجد عدد كبير من اليهود يعيشون بيننا وكانت علاقتنا معهم علاقات ودية وكنا نتزاور ونحتفل معهم بأعيادهم ويحتفلون معنا بأعيادنا. كنا نسكن قريبًا من حارة اليهود وكنت أسمع صوت الزمور من المعبد اليهودي في الفجر مناديًا للصلاة وكثيرًا ما يتجاوب مع أذان الفجر في الجوامع المجاورة ونواقيس الكنيسة المسيحية في وسط المدينة. وقد أحضر والدي معه من الحج قصيدة مكتوبة باليد عن فلسطين حفظتها عن ظهر قلب ولا زلت أتذكر معظم أبياتها إذ تقول:
فلسطين فلسطين نفوس العرب تفديك
أيدنو منك صهيون ورب العرش يحميك
أسود نحن لا نخضع وعرب نحن لا نخنع
فيا صهيون لا تطمع فلسنا نرهب المدفع
وتنتهي بهذا البيت: فخلي الجهل في لندن فنصر العرب قد شع

السيد إبراهيم السني المنتصر
كان والدي الحاج إبراهيم السني المنتصر رائدًا ومن الرعيل الأول في مجال التعليم. امتهن التعليم منذ أن عين مدرسًا بزاوية المحجوب بمصراته سنة 1936م وظل مدرسًا وإداريًا في هذا المجال حتى تقاعده سنة 1970م ووفاته سنة 1978م. ولد إبراهيم السني المنتصر في مصراته سنة 1911م من أبوين من عائلة المنتصر. وقد تعلم في المدارس الإيطالية والمعاهد الدينية في مصراته، التي كانت تزخر بكثير من العلماء الأجلاء، الذين خدموا العلم والدين الإسلامي في وقت أغلقت فيه أبواب التعليم العربي على أبناء ليبيا تحت الحكم الإيطالي، وشب إبراهيم السني المنتصر في عائلة معروفة بالورع والعلم وخدمة الناس.
لقد احتفظت فروع عائلة المنتصر باسم جدها الأول المنتصر. والعائلة تنقسم إلى فروع رئيسية هي عمر المنتصر والسنوسي المنتصر وحسن المنتصر وعبدالمجيد المنتصر ومحمود المنتصر ومصطفى المنتصر، وقد تفرعت هذه الفروع بدورها إلى فروع كثيرة. وزاد تقارب أفراد العائلة بالزواج من بعضهم البعض وهي عادة عربية غير حميدة حافظ عليها العرب خلال القرون الطويلة الماضية. اشتهر فرع مصطفى المنتصر بالتجارة والعلم، فقد سافر جدهم مصطفى المنتصر إلى بنغازي وبقى فيها فترة طويلة تملك فيها أملاكًا كثيرة، وقد اضطر إلى العودة إلى مصراته لزواج ابنة عمه. أما فروع عائلة المنتصر الأخرى فيجمعها جد واحد هو الشيخ بلقاسم المنتصر الذي عينته الإمبراطورية العثمانية شيخًا، وهو لقب تركي يعطى للحكام العرب في مناطقهم.
هذا ويلاحظ أن أحد فروع عائلة المنتصر لقب بالسنوسي تبركًا بزيارة الشيخ محمد بن علي السنوسي أثناء قدومه من مكة سنة 1841م (1257 هجري) وإقامته في بيت أحمد باشا المنتصر (جد السيد محمود المنتصر رئيس الوزراء) بطرابلس قبل إقامته ببرقة. وكان السيد محمد بن علي السنوسي قد مر على مصراته في طريقه إلى الحجاز سنة 1823م (1238 هجري)، وأكرم من طرف الشيخ بلقاسم المنتصر عميد العائلة ووالد أحمد باشا المنتصر. وفرعنا لقب بالسني تبركًا بزيارة الشيخ أحمد السني إلى مصراته، وهو من الإخوان السنوسيين بمزدة. وكانت عائلة المنتصر تحترم وتكرم الأشراف وأهل البيت والمرابطين وأولاد الشيخ ورجال الطرق الصوفية، وكانت منازلهم في مصراته تعج بعشرات الطلاب لقراءة القرآن في مناسبات وفاة أحد منهم أو في إحياء ذكراهم في شهر رمضان والمناسبات الدينية وقراءة البغدادي في المولد النبوي.
السيد إبراهيم السني المنتصر من فرع مصطفى المنتصر، تزوج السيدة خديجة بلقاسم عمر باشا المنتصر وأنجب منها خمسة أولاد وبنت هم علي (السفير السابق) وتزوج ابنة السيد محمود عبدالمجيد المنتصر، وبشير صاحب هذه الذكريات، وفاطمة وتزوجت الأستاذ أحمد بن لامين المستشار القانوني والقاضي في الاستئناف وأنجبت منه ابنًا هو الدكتور هشام بن لامين وبنتين، والهادي (محرر العقود) وتزوج ابنة السيد محمود القلالي، وأحمد السني الثاني (توفي في برلين سنة 1984 إثر مرض عضال وهو في ريعان الشباب) والمهندس عبدالعظيم وتزوج ابنة الشيخ أحمد المقهور.
بعد الحرب العالمية الثانية وتعريب المدارس في ليبيا قام والدي السيد إبراهيم السني المنتصر بالتعاون مع الأستاذ محمد مسعود فشيكة، الذي رجع من مصر حاملًا شهادة التدريس من كلية العلوم، بحملة توعية بأهمية المدارس الحديثة بعد تعريبها. وكان الوالد يحث الناس على إرسال أولادهم وبناتهم إلى المدارس بالخطب في المساجد والاتصال المباشر في وجه حملة شعواء ضد المدارس الحديثة شنها فقهاء وأئمة المساجد ومشايخ الدين الذين كانوا يعتبرون المدارس غير القرآنية من أدوات الاستعمار التي تهدف إلى القضاء على الدين الإسلامي واللغة العربية كما كانت عليه في عهد إيطاليا. وكان على رأس هذه الحملة الشيخ علي أحمد حسن المنتصر إمام وفقيه زاوية المنتصر الشهيرة بمصراته التي خرّجت المئات من حفظة القرآن الكريم، وسافر بعضهم إلى مصر للالتحاق بالأزهر الشريف ودار العلوم، وأذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، الشيخ مصطفى عبدالسلام التريكي والشيخ الدكتور عمر التومي الشيباني والشيخ كمال علي المنتصر والشيخ إبراهيم ارفيدة وغيرهم كثيرين لم تسعفني الذاكرة بتذكرهم.







وقد انضم إلى السيد إبراهيم السني في حملته للدعوة إلى الالتحاق بالمدارس الرسمية في مصراته الأساتذة محمد مسعود فشيكة وعبدالله الترجمان ومحمد الطبولي ومختار معافة وإبراهيم الفلاح وغيرهم. وقد تولى والدي إبراهيم السني مهام مدير المدرسة الابتدائية بمصراته بعد نقل مديرها الأستاذ محمد مسعود فشيكة إلى طرابلس. ثم عين الوالد مديرًا للتعليم في منطقة مصراته، وكان له الفضل الكبير في إنشاء كثير من المدارس في ضواحي ومناطق مصراته آنذاك. وقد تتلمذ على يديه مئات التلاميذ وشاع نشاطه في طرابلس وفي المقاطعات الأخرى.
وتوافد على مصراته للزيارة كبار رجال التعليم آنذاك من مدراء التعليم والمفتشون، وأذكر منهم المستر ستيل كريج المدير الإنجليزي لإدارة التعليم في ولاية طرابلس في عهد الإدارة البريطانية، وكذلك مدراء التعليم العربي كمال حافظ (فلسطيني)، وعبدالحكيم جميل (سوداني)، والمفتشون العرب الأستاذ عبدالله الشريف، والأستاذ إسماعيل السويح وغيرهم.
بدأ الأستاذ إسماعيل السويح رحلتة الطويلة مع التدريس سنة 1932م وعين في مزدة وعمل في زليطن ومصراته والقرابولي ثم مفتشًا عامًا للتعليم في "المقاطعة الشرقية" أثناء فترة الإدارة البريطانية (1945-1951م). تولى عدة وظائف هامة في التعليم بعد الاستقلال وعين مستشارًا ثقافيًا لليبيا في تونس والمغرب العربي من سنة 1964 حتى 1967م. تقاعد سنة 1968م وعين عضوًا في المجلس البلدي حتى عام 1973م وتوفي في طرابلس سنة 1992م. له ابن واحد هو الدكتور سعدون إسماعيل السويح، أكاديمي وأديب معروف، يعمل حاليًا مع الأمم المتحدة في نيويورك.

وقد عرف والدي إبراهيم السني بالكرم النادر، وكان بيتنا لا يخلو يومًا من زوار. ولا زلت أتذكر الزائر الدائم الشيخ علي جبرين، الذي كان كبير السن وفاقدًا للبصر، ولكنه كان على قدر كبير من خفة الظل والفكاهة. وكان يحكي لنا ونحن أطفالًا قصصًا طريفة عن دراسته في المغرب والحياة الاجتماعية فيها ومغامراته ونكته الجميلة التي لا زلت أتذكرها حتى اليوم. كما كان الوالد يرحب بالزوار من رجال التعليم، ونظرًا لعدم توفر الفنادق في مصراته آنذاك، كان يدعوهم إلى الطعام باستمرار وأحيانًا للإقامة في بيتنا الكبير طوال زيارتهم لمصراته. ولن أنسى بعثة المدرسين التي مرت بمصراته في طريقها إلى مصر التي ضمت أكثر من 34 مدرسًا ومفتشًا من مدرسي ولاية طرابلس في سنة 1945، على ما أذكر، وقد أقام لهم الوالد مأدبة غذاء كبيرة للقاء مدرسي منطقة مصراته والاحتفاء بهم.
انتقل بعد ذلك والدي إبراهيم السني إلى طرابلس بعد تعيينه مديرًا للتعليم في منطقة طرابلس، ثم مديرًا للتعليم الابتدائي، ونقل بعدها إلى وظيفة وكيل كلية العلوم بجامعة طرابلس وبقى فيها حتى أحيل على التقاعد سنة 1970. وقد لعب دورًا هامًا في نشر التعليم والإشراف على المدارس في جميع أنحاء ولاية طرابلس بالتعاون مع الأساتذة محمد توفيق حموده، الذي تولى منصب مدير التعليم بعد تلييب الوظيفة وعبدالله الشريف ومحمد الأمين الحافي ومصطفى المبروك وإبراهيم الفلاح وعبدالغني البشتي، وسكرتير إدارة المعارف الدائم الأستاذ بشير عبدالله البدري وغيرهم كثيرين.






الأستاذ بشير عبدالله البدري (1969م)

وقد اشترك والدي إبراهيم السني في البعثة التدريبية للفيف من رجال التعليم إلى أمريكا للإطلاع على نظم التعليم والتربية فيها. وخلال النشاط الوطني قبل الاستقلال وتأليف الأحزاب السياسية رفض والدي إبراهيم السني الانضمام إلى الأحزاب السياسية التي قامت قبل الاستقلال لخوض النشاط السياسي والحزبي، كما رفض الترشيح في انتخابات مجلس النواب المتتالية. ورغم محاولات بعض زعماء الأحزاب، مثل حزب الاستقلال، للاستفادة من تعليمه وخبرته ومكانته في مجال التعليم، إلا أنه رفض كل الإغراءات وبقي في مجال التعليم الإداري إلى النهاية، وتوفي سنة 1978 عن عمر يناهز 67 عامًا.

الحـرب العالمـية الثانـية تمـتد إلى ليـبـيا
قامت الحرب سنة 1939 وأنا في السنة الثانية الابتدائية، فأغلقت المدارس الرسمية ولجأنا إلى المدارس القرآنية في المساجد، وكانت الدراسة التقليدية بها تتمتع باحترام الناس، فهي توفر للطالب حفظ القرآن الكريم وكذلك دراسة العلوم الدينية واللغة العربية. هذا كما خصص لنا الوالد دروسًا خصوصية في النحو والصرف على أيدي بعض كبار المشايخ الذين درسونا النحو من كتاب الكفراوي وحفظت الأجرومية وبعض ألفية ابن مالك وحوالي ربع القرآن الكريم عن ظهر قلب.
عندما أصبحت ليبيا كلها ميدانًا للحرب انتقلنا إلى الريف، وعشنا مع عائلة السيد الطاهر الماني من سكان الأرياف الذي كان يرعى مزارع لجدي في مكان يعرف بعباد، وكان ميسور الحال بالنسبة لغيره من الفلاحين، ورجل متدين ومتزوج من امرأة من عائلة معروفة في مصراته. بالإضافة إلى عمله في الزراعة كان يشتغل أيام السوق في تجارة الصوف، وكانت تضحيته كبيرة. وقد ساعده والدي، كما ساعد عددًا كبيرًا من المواطنين الليبيين، في التوسط لدى الطبيب الإيطالي، الذي كان صديقًا للوالد ومسئولًا عن الكشف الطبي للمجندين الليبيين للحرب مع إيطاليا، بأن يعفيهم من التجنيد بحجة عدم صلاحيتهم صحيًا. وقد بلغ من كرم وحسن ضيافة السيد الطاهر الماني أن ترك بيته لنا ولجدي وبناته، وانتقل هو وأطفاله إلى زريبة من جريد النخيل حيث بنى دارًا حولها.
كانت ليبيا مسرحًا للحرب العالمية الثانية، وقد جرت على الليبيين مشاكل المآسي والفاقة. وكانت طائرات الحلفاء في أول الحرب، ثم المحور بعد الاحتلال، تقذف بقنابلها المدن الليبية ومنها مصراته وتقتل المئات في تلك المدينة. وأذكر يوم السبت الأسود في مصراته حين قذفت الطائرات البريطانية السكان البدو، الذين جاءوا إلى المدينة بالآلاف لأخذ التموين المخصص لهم، واعتقد الطيارون أنهم جمعًا من الجنود الإيطاليين، وقد مات منهم العشرات وجرح المئات ولم يبق بيت في مصراته إلا وفقد أو جرح له عزيز لهم، وكان من بين الجرحى زوج إحدى عماتي السيد محمد بن احميدة من قبيلة المقاوبة.
كانت الطائرات كثيرًا ما تخطئ وتضرب أحياء ومزارع المدنيين، وفعلًا سقطت قريبًا من البيت الذي كنا نعيش فيه كثير من القنابل، ومع هذا كان والدي يذهب للعمل حيث كلف المدرسون بأعمال إدارية في فترة غلق المدارس. وكنا نذهب لزاوية المنتصر أو كما تعارف أهل مصراته على تسميتها بـ"زاوية البي" في مركز المدينة لحفظ القرآن. وخصصت لأطفال العائلات الميسورة بعد ذلك مدرسة في الريف مجاورة لسكنانا انتسبنا إليها، وكنا عندما تبتعد المعارك عن مصراته نرجع إلى بيوتنا في المدينة. وقد اضطر جدي وبناته الانتقال إلى بيت آخر في إحدى المزارع القريبة منا نظرًا لضيق البيت الذي كنا نسكنه معًا.
نهايـة الحرب وبداية العمل الوطني
بعد احتلال البريطانيين لمصراته أواخر 1942، وانسحاب الإيطاليين والألمان منها، عدنا إلى بيوتنا في مصراته المدينة، لكن الحرب استمرت في ليبيا بعيدًا عنا، وكانت تؤثر في حياتنا. وقد تفتحت مداركنا في هذا الجو الخانق، ومشاكل الحرب وحالة الفقر التي يعيشها الناس. وكانت حياتنا في البيت بإشراف والد متعلم وخال مثقف تعلمنا منهما الكثير، فقد كانا على جانب كبير من الثقافة والمعرفة وتجارب في الحياة. وأذكر أني كنت رغم صغري أناقشهما في ما يجري في الحرب بين المحور والحلفاء.
كنت متحمسًا للألمان وللقائد العسكري رومل، كمعظم الليبيين، وكنت مبهورًا بهم وبشجاعتهم التي كانت أساطير تروى بين الناس، بينما كان الناس يكرهون إيطاليا بسبب استعمارها لهم. وكان جدي أحمد السني المنتصر يكره إيطاليا لأسباب كثيرة، أهمها أنها في حربها ضد الليبيين بعد الحرب العالمية الأولى اعتقلته في مصراته، وقدم للمحاكمة بتهمة مساعدة المجاهدين (الفلاقة كما كانت تسميهم إيطاليا) لدخول مصراته، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، ثم خفف الحكم إلى عشر سنوات بعد أن ذكر محاموه للمحكمة أنه أب لثماني بنات صغيرات لا عائل لهن. وقد قضى منها سنتين ونصف في سجن قلعة طرابلس ثم أفرج عنه بعد صلح إيطاليا مع حكومة مصراته بزعامة المجاهد رمضان الشتيوي السويحلي.







وكان جدي قد ألقي القبض عليه مع مجموعة من وجهاء مصراته بعد واقعة القرضابية، وعصيان المجاهد رمضان السويحلي مع غيره من المجندين الليبيين في الجيش الإيطالي، وانضمامهم إلى المجاهدين بقيادة السيد صفي الدين السنوسي. وكان من بين الذين اعتقلوا مع جدي شقيقي رمضان السويحلي، أحمد وسعدون، اللذين كانا مع جدي أيضًا في سجن طرابلس، وذلك بحجة التآمر مع رمضان السويحلي والتخطيط لهذا العصيان مقدمًا. وقد ساعده ذلك على أن يحظى بمعاملة خاصة من حكومة رمضان السويحلي وإقامته في مصراته، رغم العداء الذي كان قائمًا بين رمضان السويحلي وبين أبناء عمر باشا المنتصر منذ العهد العثماني، والذي وصل إلى درجة الاقتتال لأسباب عائلية.
وبدأ هذا الخلاف بقيام رمضان السويحلي وإخوته بقتل بلقاسم المنتصر ابن عمر باشا المنتصر، عندما كان مسافرًا في طريقه من مصراته إلى طرابلس، عند موقع وادي عين كعام قرب مدينة زليتن في العهد العثماني إنتقامًا لإعتدائه على بعض أفراد عائلة السويحلي، ولم يكن معه سوى حارس واحد اسمه أحمد درم، تخلف عنه في زليتن لشراء بعض الطعام، ولما لحقه وجده مقتولًا. (والحادثة يرويها الأستاذ محمد بن مسعود فشيكة في كتابه تاريخ ليبيا العام).
وقد قامت الحكومة العثمانية بإلقاء القبض على رمضان السويحلي وإخوته وأخذتهم إلى قبرص للمحاكمة بعيدًا عن جو الصراع الذي نتج عنه قيام عبدالقادر عمر المنتصر، أخ بلقاسم، بإثارة قبائل الأهالي في مصراته، مطالبًا بأخذ الثأر لأخيه، بينما قام أخوه الثاني أحمد ضياء الدين عمر المنتصر بمتابعة محاكمة أبناء الشتيوي السويحلي في قبرص التي أخذت وقتًا طويلًا من الحكومة العثمانية، وكلفته أموالًا باهظة اضطرته إلى بيع أراض للعائلة لتغطية التكاليف. وبعد أن تخلت تركيا عن ليبيا لإيطاليا أواخر 1912م أوقفت المحاكمة، وأطلق سراح رمضان الشتيوي وإخوته ورجعوا إلى مصراته، التي كانت إيطاليا قد احتلتها من ضمن المدن الساحلية الليبية.
بعد احتلال إيطاليا للمدن الليبية الساحلية الرئيسية، قامت بتأليف جيش من الطرابلسيين لمحاربة السنوسية في برقة. وعرضت إيطاليا أمر قيادة المجندين الطرابلسيين على عمر باشا المنتصر وأبنائه، وكانوا يتولون مناصب قائممقام في مصراته وسرت في العهد العثماني، ولكنهم رفضوا لأنهم من أتباع طريقة الإخوان السنوسيين الدينية، منذ قدوم السيد محمد علي السنوسي الكبير من الجزائر ونزوله عند عائلة المنتصر في مصراته، وهو في طريقه إلي المشرق للحج وإقامته بعد رجوعه من الحج في برقة. وقيل أن عمر باشا المنتصر قال للإيطاليين لو أعطيتموني الدنيا وما فيها فلن أحارب الأشراف السنوسيين، وكان معروفًا عن عمر باشا أنه يحترم ويخاف من الأشراف و(المرابطين).
بعد ذلك لجأ الإيطاليون إلى رمضان السويحلي خصم عمر باشا المنتصر وأولاده، وعرضوا عليه قيادة المجندين الليبيين، فاستغل الفرصة وقبلها للتخلص من مضايقة خصومه، إلا أنه انقلب على الجيش الإيطالي مع غيره من المجندين الطرابلسيين في معركة القرضابية المشهورة (28-29 أبريل 1915)، حيث هزم الجيش الإيطالي بقيادة العقيد أنطونيو مياني هزيمة نكراء. رفض المجاهد رمضان السويحلي مع غيره من الليبيين المجندين إجباريًا في الجيش الإيطالي إطلاق الرصاص على إخوانهم المجاهدين الليبيين، ووجهوا بنادقهم إلى الجيش الإيطالي وانضموا، بتدبير مخطط مسبقًا، إلى إخوانهم المجاهدين من قبائل برقة وقبائل سرت وفزان بقيادة السيد صفي الدين السنوسي، وهزموا الجيش الإيطالي في هذه المعركة الشهيرة. رجع السيد رمضان السويحلي منتصرًا إلى مصراته مع السيد صفي الدين السنوسي ثم اختلف معه وقتل بعض مرافقيه من برقة، وبعض أنصاره في مصراته بتهم شتى، مما اضطر السيد صفي الدين إلى الهرب سرًا إلى برقة هو ورفاقه خوفًا من نفس المصير، تاركين مصراته في أيدي رمضان السويحلي الذي أعلن نفسه رئيسًا للجمهورية.
وقام الجيش الإيطالي قبل انسحابه من مصراته تحت ضغط المجاهدين بنقل أعيان مصراته كسجناء، كما قام بتسفير عمر باشا المنتصر وأولاده إلى طرابلس التي كانت تحت الحكم الإيطالي. وقد بقي بعض أفراد عائلة المنتصر في مصراته وتعاونوا مع رمضان السويحلي، وحصل نزاع بينهم وأبناء عمر باشا المنتصر وصل الى درجة القطيعة والتآمر. وذهب بعضهم مع رمضان الشتيوي في حملته ضد ورفلة وعبد النبي بلخير التي قتل فيها رمضان، بينما كان عبدالقادر المنتصر وعبدالعظيم المنتصر يحاربان مع عبد النبي بلخير ضد جيش رمضان الشتيوي. أدت وفاة رمضان الشتيوي إلى خلاف كبير بين زعماء طرابلس من المجاهدين وانقسام استغلته إيطاليا، التي كانت تشجع أحدهما على الآخر وتمدهم بالمال والسلاح وتخصص لهم المرتبات والمساعدات.
كان جدي أحمد السني المنتصر، كما ذكرت أعلاه، يكره إيطاليا ويتمنى أن يخسر المحور الحرب وانتهاء حكم إيطاليا ومجئ بريطانيا، التي كانت في رأيه تحب وتعرف العرب وستعمل على تحرير ليبيا وتحقيق استقلالها، وهو الأمل الذي كان يراود الليبيين في ذلك الوقت. كانت إيطاليا تسعى لضم ليبيا وجعلها جزءًا من إيطاليا، وقد هجّرت إليها فعلًا قبل بداية الحرب العالمية الثانية عشرات الآلاف من الإيطاليين، وأجبرت بعض الليبيين من الموظفين والتجار على التجنس بالجنسية الإيطالية. وأذكر أن جدي كان فرحًا يوم قتل المرشال بالبو نتيجة سقوط طائرته قرب طبرق، وكان والدي قد سمع الخبر على الراديو وطلب مني أن أجري وأخبر جدي، وكان بيته قريبًا منا.
وأذكر أن جدي كان فرحًا أيضًا يوم احتلال البريطانيين لمصراته، ونظرًا لفقدان بصره، الذي كان يعزيه إلى ما قاساه في سجن إيطاليا والنوم على الأرض والبلاط البارد مدة طويلة، فقد كان يصر على والدي أن يذهب إلى المتصرف البريطاني ويهنئه باسمه، ويقدم نفسه له بهدف إعداده للمشاركة في النشاط السياسي، الذي كان متوقعًا بعد انتهاء الحرب. إلا أن والدي كان يختلف عن جدي وكان مخلصًا لمهنة التدريس التي اختارها لنفسه، وليست لديه أحلام سياسية رغم المغريات والفرص المتاحة لأمثاله من المتعلمين، خاصة من العائلات المعروفة ذوات النفوذ بين المواطنين، وقد بقى طوال حياته بعيدًا عن السياسة مدرسًا ثم إداريًا في التعليم حتى بعد الاستقلال، الذي أتاح الفرصة للمتعلمين من أمثاله لاستلام مناصب هامة، وواصل مهامه في التعليم حتى تقاعده سنة 1970م من منصبه كوكيل لكلية العلوم بالجامعة الليبية. وقد توفي جدي أحمد السني بعد الاحتلال البريطاني بفترة وجيزة وانتقلنا بعد ذلك إلى بيت العائلة الكبير للعيش مع عماتنا.
بعد انتهاء الحرب عدت وأخي علي إلى المدرسة الابتدائية بمصراته، وقد أصبحت الدراسة فيها باللغة العربية، بعد أن كانت بالإيطالية في العهد الإيطالي مع تدريس العربية كلغة ثانية والدين فقط. كان مستوى الدراسة في مدرسة مصراته الابتدائية بعد الحرب فوق المستوى الابتدائي العادي، بعدما أمضى الطلاب عدة سنوات في التعليم خارج المدرسة. كما كان أساتذتنا من الليبيين المثقفين يعلموننا ما يعرفون من العلوم الدينية واللغوية، فقد كنا ندرس النحو والصرف والأدب والشعر والمنطق والحساب والجبر والهندسة والطبيعة.
ولازلت أذكر بعض أساتذتنا الذين درسونا ومنهم الأستاذ محمد مسعود فشيكة ووالدي إبراهيم السني المنتصر والأستاذ عبدالله الترجمان والأستاذ محمد الطبولي. وبدأنا بعد الحرب في الصف الثالث، وكان عددنا محدودًا. وكان بعض فقهاء الجوامع يعارضون وينصحون الناس بعدم إرسال أولادهم إلى المدرسة ويقولون إنها حرام ضد الدين، كما كان الحال في العهد الإيطالي عندما تبنى فقهاء الجوامع ورجال الدين حملة ضد التجنس بالجنسية الإيطالية والتعليم الإيطالي خوفًا من القضاء على الهوية العربية والإسلامية لليبيين.
كانت ليبيا بعد الحرب تختلف عن عهد إيطاليا حيث تمتع الناس بالحرية وإظهار شعورهم الوطني، وبدأوا في تأسيس النوادي الرياضية والأدبية وجمع التبرعات لفلسطين، كما بدأ التطوع للجهاد في فلسطين. وأذكر يوم ذهاب متطوعي مصراته للجهاد في فلسطين سنة 1948م حال إعلان دولة إسرائيل، وقد كان احتفالًا عظيمًا لم تشهد المدينة له مثيلًا. وكانت الحياة الاقتصادية صعبة ومرت سنوات جفاف في غرب ليبيا، وقل المعروض من الحبوب، كما كانت المواصلات صعبة بين غرب ليبيا وشرقها حيث تتوفر المحاصيل الزراعية.
تطور الأمور في فلسطين شجع اليهود الفقراء على الهجرة إلى فلسطين. وكانت الإدارة البريطانية قد سمحت لرسل الصهيونية دخول ليبيا لإعداد اليهود للهجرة، وأتوا بالأطباء الإخصائيين لمعالجة فقراء اليهود وخاصة مرض التراخوما قبل شحنهم إلى إسرائيل. وقد تعكر الجو بين اليهود والعرب بشكل ملحوظ أدى إلى أحداث دموية أحيانًا، إلا أن وضع اليهود قد تحسن في عهد الإدارة البريطانية، وأصبح منهم موظفون وضباط ورجال البوليس، كما قوي مركزهم التجاري، واستولوا على السوق وحلوا محل الإيطاليين في تمثيل الشركات الأجنبية، وشراء الأراضي من الإيطاليين الذين بدأ ملاكها في الهجرة إلى إيطاليا بعد الاحتلال البريطاني تحسبًا للمستقبل. كانت الهجرة الإيطالية جماعية وكلية في برقة، أما في طرابلس فقد بقي بضعة آلاف منهم انتظارًا لتقرير مصير ليبيا بعد الحرب، وبقوا بعد الاستقلال حتى الفاتح من سبتمبر 1969م.
كان أخي علي يسبقني في الدراسة بسنة وعندما تخرج من الابتدائية لم تكن هناك فرصة لدخوله مدرسة ثانوية لعدم وجود تعليم ثانوي في كل إقليم طرابلس، ولم تكن الحالة المالية لوالدي تسمح بإرساله إلى مصر أو أي بلاد أخرى خارج ليبيا لمواصلة تعليمه، ولهذا تفرغ لحفظ القرآن ودراسة العلوم اللغوية والدينية، وأعد نفسه للامتحان لنيل شهادة التدريس. وفعلًا نجح في امتحان المعلمين، وتم تعيينه كمدرس ابتدائي في زاوية المحجوب، وكان يقطع المسافة بين البيت ومدرسة زاوية المحجوب (12 كم) بالدراجة، وانتقل بعدها إلى مدرسة مصراته الابتدائية.

الدراسـة الثانويـة
بعد إتمامي للدراسة الابتدائية في صيف 1946م، علمنا بافتتاح أول مدرسة ثانوية في طرابلس، فقرر بعض زملائي الميسورين الالتحاق بها وهم أحمد امحمد بن لامين وعبدالله إسماعيل بن لامين ومحمد سالم القاضي ومحمد العريفي. كان الأولان من أبناء كبار تجار مصراته، والثالث ابنًا لعميد بلدية مصراته، والرابع ابنًا لأكبر موظف إداري في مصراته. قررت المحاولة مع والدي للموافقة على سفري معهم لمواصلة دراستي. ولم يكن الأمر سهلًا، فمصاريف الدراسة في طرابلس كانت باهظة بالنسبة لوالدي الذي كان مدرسًا.
كانت الإقامة في القسم الداخلي تكلف 1500 مال (عملة أصدرتها الإدارة البريطانية لتحل محل العملة الإيطالية) شهريًا، ومصاريف المدرسة 1000 مال على قسطين، وهذه مبالغ كبيرة، ولكن تحت إصراري ودعم والدتي، وافق والدي على السماح لي بالسفر مع زملائي للالتحاق بمدرسة طرابلس الثانوية في أول سنة دراسية لها.
لم يكن هذا قرارًا سهلًا بالنسبة لوالدي، وكان محرجًا مع أخي علي الذي لم يتمكن من مواصلة دراسته، إلا أن إتمام دراستي الابتدائية صادف افتتاح المدرسة الثانوية في طرابلس، ولم اضطر كما اضطر أخي علي دخول التدريس مبكرًا، لعدم توفر تعليم ثانوي عقب تخرجه من الابتدائية. ولم يكن هذا القرار سهلًا بالنسبة لوالدتي أيضًا، فلم تتعود البعد عن أبنائها، وكان معروفًا أني لن أستطيع زيارة العائلة إلا في مناسبات الأعياد، لأنه رغم أن طرابلس لا تبعد عن مصراته إلا 200 كم، إلا أن المواصلات في تلك الأيام كانت صعبة وتكلف كثيرًا.












وقد خفف من حدة فراقي لوالدتي أن أختها كانت تعيش في طرابلس، وكانت زوجة لإبراهيم سالم عمر باشا المنتصر الذي كان يعيش مع والده عميد عائلة المنتصر ومن كبار الساسة في ولاية إقليم طرابلس، وتولى رئاسة الجبهة الوطنية المتحدة بعد تأسيس الأحزاب السياسية، ثم ترأس حزب الاستقلال. وكان مفروضًا علي أن أزور خالتي أثناء إقامتي في طرابلس وأن تشملني بعنايتها، خاصة أنها لم تنجب أطفالًا، وكانت مشرفة على بيت عمها سالم المنتصر.
وهكذا سافرت إلى طرابلس، وأقمت في القسم الداخلي وبدأنا الدراسة. وافتتحت المدرسة الثانوية رسميًا في احتفال حضره الأعيان وكبار ضباط الإدارة البريطانية. كانت مدة الدراسة خمس سنوات وكان يتولى مهمة مدير المدرسة الأستاذ عبدالحكيم جميل، وهو سوداني، بالإضافة إلى مهامه الأصلية كمدير لإدارة المعارف العربية في ولاية طرابلس. كان أغلب المدرسين ليبيين، وأذكر منهم الأساتذة محمد مسعود فشيكة ومحمود فرحات وفؤاد الكعبازي والمهدي الحجاجي والهادي عرفة ومحمد الأمين الحافي ومظفر فوزي الأمير وعلى جمعة المزوغي ومحمود المسلاتي وعمر الباروني ومدرس الخط أبوبكر ساسي المغربي.












الأساتذة الليبيين في أول مدرسة ثانوية تفتح في ليبيا بطرابلس سنة 1946م
وهم السادة (من الشمال) مظفر الأمير ومحمود فرحات ومحمد مسعود فشيكة وفؤاد الكعبازي
ووقف خلفهم قدماء المباشرين في المدرسة














1949- الفوج الأول من طلاب مدرسة طرابلس الثانوية: الجالسون في الصف الأول من اليمين : الإخوة سالم عطية، عبدالحفيظ سليمان، مبروك العجيل، إبراهيم الميت وعبدالله إسماعيل بن لامين وجلس أمامهم من اليمين: مصطفى القريتلي وشعبان عريبي. الواقفون من اليمين: الأستاذ محمد مسعود افشيكة، الإخوة محمد الكريو، بشير السني المنتصر، علي الميلودي وخلفهما أحمد الباروني، الأستاذ مصطفى فهمي مدير المدرسة (مصري) وراءه إبراهيم علي الفقيه حسن، ثم أحمد امحمد بن لامين، محمد سالم لطفي القاضي، وراءه: راشد السراج، ثم خيري الصغير، محمد إسماعيل سيالة، عز الدين المبروك، البدراوي أستاذ (مصري) وخلفهما محمد بن محمود ثم بهجت القرامانلي سكرتير المدرسة. وورائهم جزء من حائط المدرسة المهدم من قنابل الحرب والمبنى سبق وأن كان للمدرسة الإسلامية العليا في العهد الإيطالي وأصبح ثكنة عسكرية بريطانية أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية وخصص جزء من المبنى لمدرسة طرابلس الثانوية بعد الحرب وكانت أول مدرسة ثانوية افتتحت في طرابلس.

وكان يدرسنا اللغة العربية والأدب الأستاذ نصر الدين الأسد وكان من الأردن، وقد اشتهر بعد ذلك في مجال تدريس اللغة العربية والأدب العربي في جامعات مصر وليبيا، وأصبح مديرًا للجامعة الأردنية ووزيرًا للتعليم العالي في الحكومة الأردنية، وكان له الفضل في تمكننا من تعلم اللغة العربية، إذ كان معروفًا ومشهورًا في مجال تخصصه. هذا وكان بعض موظفي الإدارة البريطانية من العرب يأتون مساءًا لتعليمنا اللغة الإنجليزية، وأذكر منهم الأساتذة موسى إبشوتي ومنير الطيبي، وقد اشتهرا أخيرًا في الإذاعة البريطانية، والأستاذ شكال وكان يعلمنا اللغة الفرنسية. وفي السنة الثانية قام بالتدريس إلى جانب هؤلاء أعضاء بعثة التدريس المصرية وتولى رئيسها مهام مدير المدرسة وكان اسمه مصطفى فهمي.

حـياة القسم الداخلـي
كانت حياة القسم الداخلي شيئًا جديدًا بالنسبة لنا، فلم نتعود الحياة بعيدًا عن أهالينا في الماضي. وكان طلاب القسم الداخلي من مدن الدواخل في إقليم طرابلس، وأذكر منهم الإخوة عبدالله سويسي وعون رحومة اشقيفة ومبروك العجيل ويحيي عمرو سعيد ومسعود المقدمي ومسعود قنان وعمران العزابي ونوري بازيليا وخيري الصغير ومحمد قويدر وسالم عطية، بالإضافة إلى طلاب مصراته السابق ذكرهم. وكان المسئول على القسم الداخلي الأستاذ محمود فرحات يساعده السيد خيري فرحات وبإشراف مدير المدرسة.
تكرمت خالتي زوجة إبراهيم سالم المنتصر بدعوتي لتمضية نهاية الأسبوع معهم، والاهتمام بتنظيف ملابسي. وكنت أنام في بيت سالم المنتصر يوم الخميس وأرجع الى القسم الداخلي مساء الجمعة. وكنت أتناول الغذاء والعشاء رغم صغر سني على مائدة سالم المنتصر، وكانت دائمًا تضم كبار رجال البلد والضيوف العرب، وكان بعضهم يلازمونه باستمرار ويتناولون الطعام على مائدته يوميًا، وكان من ضيوفه الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة وغيره الذين لم تسعفني الذاكرة بتذكرهم. وقد استفدت من مشاركتهم المائدة والاستماع الى أحاديثهم، فقد كانوا يتناولون الشئون السياسة الليبية والعربية والعالمية.
وكانت ليبيا في فترة الأربعينات تمر بفترة هامة، وتنتظر البت في مستقبلها من طرف الدول الكبرى المنتصرة في الحرب، ثم من طرف الأمم المتحدة التي أحيلت إليها مسئولية البت في مستقبل المستعمرات الإيطالية. وكانت تصرفات الإدارة البريطانية والنشاط السياسي للأحزاب والشخصيات السياسية دائمًا في طليعة مواضيع التعليق. ولما كان طلاب المدرسة الثانوية في تلك الفترة يشاركون في النشاط السياسي على أوسع نطاق، فقد كان دوري على المائدة إعطاء فكرة عما يجري من مظاهرات وخطب، وخاصة بعد استقالة السيد سالم المنتصر من رئاسة الجبهة الوطنية المتحدة، وعزلته المؤقتة عن المشاركة في النشاط السياسي، وانفراد السيد بشير السعداوي بزعامة الحركة الوطنية والتفاف جماهير الشعب حوله.

السيد سالم عمر المنتصر
كان السيد سالم عمر المنتصر في طليعة زعماء ليبيا الذين شاركوا في النشاط السياسي والحزبي في الفترة التي سبقت الاستقلال وبعده. ولد في مصراته في أواخر القرن التاسع عشر وتعلم في المدارس التركية وعلى أيدي علماء مصراته في مجال اللغة العربية والدين. كان والده عمر باشا المنتصر قائمقامًا على سرت، وتولى هو بدوره قائمقامًا على مصراته حتى الاحتلال الإيطالي. انتقل هو ووالده عمر باشا المنتصر وإخوته أحمد وعبدالقادر إلى طرابلس بعد الاحتلال الإيطالي لأسباب سبق ذكرها. أنجب السيد سالم المنتصر ولدين إبراهيم ومحفوظ وبنتين، إحداهما تزوجت السيد مختار حسن المنتصر، والأخرى تزوجت السيد عبدالله بلقاسم المنتصر. بقي بعد الاحتلال الإيطالي في الوطن كغيره من زعماء البلاد في مدينة طرابلس، الذين تركز دورهم على مساعدة المواطنين الليبيين الذين تعرضوا للسجن والاضطهاد والعسف، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد أن سيطرت إيطاليا على مقاليد البلاد. وقد اكتسب احترام الحكومة الإيطالية كغيره من زعماء البلاد الآخرين الذين نزعوا للسلم في التعامل معها، وعين كمستشار للشئون العربية.
بعد زوال الحكم الإيطالي سارع سالم المنتصر إلى المشاركة في النشاط السياسي والحزبي على رأس زعماء البلاد في الداخل، وانضم إليهم بعد ذلك زعماء البلاد في الخارج، والذين رجع بعضهم من المهجر للانضمام إلى إخوانهم الليبيين في الداخل، للمشاركة في المطالبة بوحدة ليبيا واستقلالها والانضمام إلى جامعة الدول العربية التي كانت تضم بعض الدول العربية المستقلة.
كانت سياسة إيطاليا ترمي إلى ضم ليبيا إلى إيطاليا، وإعطاء الليبيين حق الجنسية الإيطالية مع احتفاظهم بالدين الإسلامي. هذه السياسة لاقت معارضة واستنكار زعماء وعلماء البلاد في الداخل، الذين قادوا الحركة الوطنية الشعبية لرفض هذه السياسة الاستعمارية. وبعد هزيمة إيطاليا في الحرب واحتلال برقة وطرابلس من طرف بريطانيا وفزان من طرف فرنسا، سمحت إدارة الاحتلال البريطانية للمواطنين الليبيين بحرية التعبير والنشاط السياسي، وإصدار الصحف، وإنشاء النوادي الرياضية والأدبية، وأخيرًا إنشاء الأحزاب السياسية التي أجمعت على المناداة باستقلال البلاد ووحدتها والانضمام إلى الجامعة العربية.
ورغبة في توحيد كلمة الشعب والأحزاب السياسية التي تألفت في تللك الفترة، تكونت في مايو 1946م الجبهة الوطنية المتحدة، التي ضمت كبار زعماء الأحزاب والزعماء المستقلين، واختير السيد سالم المنتصر رئيسًا لها. وقد قامت الجبهة الوطنية المتحدة بزعامته برفع مطالب الشعب الليبي المتمثلة في الاستقلال ووحدة الأقاليم الليبية والانضمام إلى الجامعة العربية إلى الدول الأربع الكبرى التي بدأت النظر في مصير المستعمرات الإيطالية، وإلى دول الاحتلال، بريطانيا وفرنسا، وطالبت البدء حالًا في تلييب الإدارة وإعداد البلاد للاستقلال. ولتحقيق وحدة الأقاليم الليبية، التي أخضعت لإدارات منفصلة بعد الاحتلال (رغبة في تقسيم ليبيا بين الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب)، قامت الجبهة الوطنية المتحدة بطرابلس بتأليف وفد كبير برئاسة الشيخ محمد أبوالأسعاد العالم، ومن الأعضاء السادة إبراهيم بن شعبان، عبدالمجيد كعبار، عبدالرحمن القلهود، سالم المريض، عون أحمد سوف، محمد الميت ومختار حسن المنتصر.
سافر وفد الجبهة الوطنية المتحدة إلى بنغازي في يناير 1947م، للاجتماع بأعضاء الجبهة الوطنية البرقاوية، لإقرار وحدة ليبيا واستقلالها، والاتفاق على نظام الحكم بما في ذلك إمارة السيد محمد إدريس السنوسي، التي يعتبرها البرقاويون شرطًا أساسيًا للوحدة الليبية، والحيلولة دون تقسيم ليبيا إلى ولايات أو دول قزمية، خاصة وأن الإدارة البريطانية بدأت تعد برقة للحكم الذاتي تحت إمارة السيد إدريس السنوسي. لم تنجح المباحثات بين زعماء برقة وطرابلس، وقد أدى فشل هذه المباحثات إلى انقسام بين زعماء طرابلس على سياسة واحدة.
في يناير 1948 عاد السيد بشير السعداوي إلى ليبيا على رأس هيئة تحرير ليبيا، واستُقبل استقبالًا شعبيًا ورسميًا. وكانت هيئة تحرير ليبيا تنادي بالاستقلال والوحدة والانضمام إلى الجامعة العربية حسب السياسة التي رسمتها لها الجامعة العربية وأمينها العام آنذاك السيد عبدالرحمن عزام باشا، الذي كان يعارض إمارة السيد إدريس السنوسي لأسباب تاريخية وشخصية.
وبعد أن وطد السيد بشير السعداوي زعامته في إقليم طرابلس، قام بتأليف المؤتمر الوطني العام (الطرابلسي) في أوائل يوليو 1949م برئاسته، وانضمام عدد كبير من زعماء البلاد إليه بما فيهم عدد كبير من أعضاء الجبهة الوطنية المتحدة. استقال على إثر ذلك السيد سالم المنتصر من رئاسة الجبهة الوطنية المتحدة ولزم العزلة وامتنع عن أي نشاط سياسي رسمي، وأسندت رئاسة الجبهة الوطنية المتحدة إلى الشيخ محمد أبوالأسعاد العالم الذي تولى بدورة منصب نائب رئيس المؤتمر الوطني.
بعد سقوط مشروع بيفن ـ سفورزا في الأمم المتحدة وبداية الإعداد للاستقلال، وسيطرة السيد بشير السعداوي على الرأي العام في طرابلس، شعر السيد سالم المنتصر مع غيره من زعماء إقليم طرابلس التقليديين، وأفراد العائلات ذات النفوذ في دواخل القطر الطرابلسي، بضرورة المشاركة في النشاط السياسي للبلاد، وعدم تركه لزعماء المهجر الذين رجعوا للبلاد بعد الاحتلال البريطاني، وعلى رأسهم الزعيم بشير السعداوي. ولهذا سارعوا بتأليف حزب الاستقلال الذي ضم زعماء الأقاليم التقليديين في ولاية طرابلس، وأذكر منهم السادة علي بن شعبان من زوارة والشيخ أحمد قرزة من مزدة وعبدالمجيد وأحمد راسم كعبار من غريان وعلي تامر من ورفلة وأبوبكر نعامة من ترهونة وبعض أفراد عائلة المنتصر من مصراته وسرت وعبدالله الشريف ونور الدين المسعودي سكرتير حزب الاستقلال من طرابلس وغيرهم كثيرين.






وقد وجدت إيطاليا في حزب الاستقلال فرصة لدعمه ومساندته لخلق مشاكل لبريطانيا، والحيلولة دون انفرادها بالنفوذ على ليبيا المستقلة بعد أن خدعتها بتأييد مشروع بيفن ـ سفورزا في الأمم المتحدة، وعملها في ليبيا على تشجيع الليبيين في كل أنحاء ليبيا لمعارضته، والمطالبة بالاستقلال تحت إمارة حليفها الأمير إدريس السنوسي. كما أن الجامعة العربية وسكرتيرها العام عزام باشا، وبعض الدول العربية، وجدت في اندفاع السيد بشير السعداوي في قبول إمارة السيد محمد إدريس السنوسي غير المشروطة، والسير مع السياسة البريطانية في رسم مستقبل ليبيا، فرصة لتأييد حزب الاستقلال ضد السيد بشير السعداوي، مما حدا بهذا الأخير إلى عقد مؤتمر تاجوراء الشهير لمهاجمة السيد عزام باشا وإدانة تدخله في الشئون الليبية.
وبعد انشقاق زعماء المؤتمر الوطني وتخلي عدد كبير منهم عن السيد بشير السعداوي بزعامة نائب رئيس المؤتمر الشيخ محمد أبوالأسعاد العالم، وتحالفهم مع زعماء حزب الاستقلال، تمت مشاركتهم في إقرار تأليف الجمعية الوطنية التأسيسية بالتعيين، وقبول النظام الفيدرالي، وإعلان الملك إدريس ملكًا على البلاد، وتأليف الحكومة المؤقتة والحكومة الفيدرالية برئاسة السيد محمود المنتصر، الذي لعب دورًا محايدًا في هذه الخلافات السياسية بين زعماء الأحزاب الطرابلسية. أما السيد سالم المنتصر رئيس حزب الاستقلال، ورغم قبوله بالأوضاع التي قامت بعد الاستقلال، إلا أنه لم يكن راضيًا عن سياسة ابن أخيه السيد محمود المنتصر لأسباب تعرضت لها في غير هذا المكان، وقد توقف عن نشاطه الحزبي واكتفى بعضوية مجلس الشيوخ حتى توفي سنة 1965م.
شخصية السيد سالم المنتصر موضع خلاف لدى كثيرين من السياسيين والمؤرخين والمواطنين. فرغم أن البعض يرى فيه السياسي المحنك الأقدر على فهم الأوضاع الداخلية والمناورات الخارجية، يتهمه البعض الآخر بالرجعية ومحاباته لإيطاليا. ولا يمكن لأي إنسان أن يعرف السيد سالم المنتصر على حقيقته، إلا إذا كان قد عرفه عن قرب، واجتمع به وشارك في ندواته المستمرة مع زعماء البلاد من أجيال مختلفة. عرفت السيد سالم المنتصر عندما كنت طالبًا في المدرسة الثانوية في طرابلس، وكنت أحظى بالحديث معه، والجلوس على مائدة طعامه، التي كانت تضم دائمًا كبار الزعماء الليبيين والزوار من الزعماء والساسة العرب.
كان السيد سالم المنتصر ملمًا بشئون المنطقة العربية وتطوراتها منذ العهد العثماني، وكان على ثقافة عربية عالية، ويقرأ كل ما يصل ليبيا من صحف وكتب ومجلات عربية في تلك الفترة. وكان دائما يعطيني بعض الجرائد والمجلات المصرية كلما زرته في نهاية الأسبوع، وكان سعيدًا بأني أعرف العربية ولست كغيري من الشباب الذين لا يتقنون إلا اللغة الإيطالية. وعندما كنت طالبًا في القاهرة في الجامعة كنت أزوره كلما عدت إلى طرابلس في العطلة الصيفية، وكان يستقبلني في نهاية سلم بيته ويودعني حتى باب منزله على رغم صغر سني، مما يدل على تواضعه وأخلاقه العالية. وكنت أقضي معه وقتًا شيقًا في مناقشة ما يجري في مصر، ورأيه في عبدالناصر والزعماء العرب الآخرين.
كان السيد سالم المنتصر من الرعيل الأول للساسة العرب الذين شبوا وتعلموا في العهد العثماني، والذين عايشوا نهاية الإمبراطورية العثمانية وتقاسم الدول العظمي لممالكها الواسعة. كان وطنيًا صادقًا، يحب ليبيا والشعب الليبي، كما كان قوي الحجة في كلامه ونقاشه ويستمع باهتمام إلى من يحاوره. كان من السياسيين الذين يؤمنون بعامل القوة في السياسة الدولية، وهو مبدأ مسلم به في علم السياسة، وعدم النزوع إلى العنف لتحقيق أهداف البلاد. واليوم رغم الاعتراف بالحريات وإعلان حقوق الإنسان، لا زال عامل القوة هو الأساس في حسم القرارات الدولية. كان يرى في سياسة الرئيس عبدالناصر ومهاجمة الدول الكبرى سياسة غير حكيمة، وهو يرى ويؤمن أن الدول العظمى لها المقدرة في انتظار أول فرصة للإنتقام من أعدائها، ويعتقد بأن الرئيس عبدالناصر سينتهي بضربة على أيدي الدول الكبرى أو بتحريض إسرائيل عليه طال الزمن أو قصر، وكان يقول هذا قبل حرب السويس وطبعًا قبل حرب 1967م.
كنت رغم تفهمي لما يقول، أختلف معه في الرأي، فقد كنت متحمسًا ناصريًا قلبًا وقالبًا. كان سالم المنتصر يعزي الخلاف بين زعماء ليبيا إلى المطامع الشخصية، ويرى في السيد بشير السعداوي سياسيًا مندفعًا في مطامعه الشخصية الرامية إلى السيطرة على البلاد، دون الأخذ في الأعتبار أراء غيره من زعماء البلاد. كما كان يستنكر أعمال الإدارة البريطانية، وتدخلها الصريح في النشاط الوطني، ودعمها لخصومه السياسيين في المؤتمر الوطني العام في الفترة الأولى للإعداد للاستقلال.
كان السيد سالم المنتصر يستمع إلى غيره من الزعماء الذين يشاركونه مائدة طعامه باستمرار، مثل السيد عون سوف والسيد العيساوي بوخنجر والسيد الدكتور خيري بن قدارة، وهم من الذين عاشوا في مصر وسوريا وعلى إلمام بالسياسات العربية ومناورات الزعماء العرب، وكذلك ابنه الأكبر إبراهيم الملم بالشئون الدولية والمتابع لما تنشره الصحافة الإيطالية والعالمية. كان السيد سالم المنتصر يتميز بالجدية والمرجعية، وكان استعراض الأحداث في ليبيا على رأس المواضيع التي يتعرض لها في حديثه مع جلسائه، كما أن نقاشه مع الزعماء العرب الذين يزورون ليبيا يتميز بالموضوعية والإلمام بالمشاكل العربية. لم يكن راضيًا عن مجرى الأحداث في ليبيا وعن تسليم مقاليد البلاد لأشخاص غير جديرين بها حسب رأيه. وهو يعرف أن الملك إدريس لا يثق فيه كثيرًا، ولا يدعوه للاستشارة، ويظهر أن مواقفه السابقة عندما كان رئيسًا للجبهة الوطنية المتحدة بشأن عدم إقرار مبدأ الإمارة مقدمًا وضرورة إخضاعها لقيود دستورية هى مصدر هذا الجفاء بين الرجلين الملك إدريس وسالم المنتصر. ومنذ تركه للنشاط السياسي والحزبي في سنة 1952م بعد إعلان الاستقلال لم يشارك بنشاط يذكر في تسيير الأمور في البلاد.


مدرسة طرابلس الثانوية
كانت المدرسة الثانوية بطرابلس في مبنى المدرسة الإسلامية العليا بمنطقة الظهرة، التي أسسها الإيطاليون سنة 1936م، وانتهى نشاطها بعد زوال الحكم الإيطالي. وقد استخدم المبنى أيام الحرب كثكنة عسكرية للقوات البريطانية، وقد خصص قسم منه للمدرسة الثانوية، وبقي معظم المبنى محتلًا من طرف الجنود البريطانيين. وكان الطلبة الليبيين الصغار في القسم الداخلي يشاركون الجنود البريطانيين نفس المبنى. كما كان طلاب القسم الداخلي يساهمون في عملية رفع الأنقاض من بعض أجزاء مبنى المدرسة المهدم نتيجة لتعرضه للقنابل أثناء الحرب.
كانت الدراسة في المدرسة الثانوية حقل تجارب للمناهج الدراسية، فقد استورد البريطانيون المناهج الدراسية من فلسطين ومصر والسودان، التي كانت تحت السيطرة البريطانية، وكذلك كان المدرسون متعددي الجنسيات. وقد كان هذا التعدد في المناهج وفي المدرسين مصدر ضعف وقوة في آن واحد، فكان مستوى التعليم ممتازًا يفوق غيره في البلاد التي استوردت منها هذه المناهج. كانت رغبتنا كطلاب ليبيين في تعلم المزيد كبيرة، وكنا نشعر بحاجة بلادنا إلى متعلمين، فلم يزد عدد المتعلمين الجامعيين في ليبيا في تلك الفترة عن بضعة أفراد، وكانت رغبتنا في مواصلة تعليمنا الجامعي قوية.
وأذكر أنه في السنوات الأخيرة 1949-1951م، كانت الإدارة البريطانية مشغولة بتعيين وتدريب الموظفين الليبيين لتلييب الوظائف الإدارية والفنية الرئيسية، استعدادًا لاستقلال البلاد المقرر له نهاية 1951م. واتجهت أنظار رئيس الإدارة العسكرية البريطانية آنذاك المستر تريفرز بلاكلي إلى طلاب مدرسة طرابلس الثانوية بصفتها أعلى معهد تعليمي في البلاد. وقد زارنا شخصيًا، وعرض علينا وحاول أن يقنعنا بدخول دورة تدريبية وقبول وظائف إدارية عالية، ولكن معظمنا رفض عرضه وأصر كل منا على مواصلة دراسته الجامعية.
وقد نظمت المدرسة لنا رحلة إلى تونس في سنة 1947م، رافقنا فيها بعض أساتذة المدرسة الليبيين. وقد زرنا معظم المدن التونسية، ونزلنا في المعهد الميلوبي، وزرنا المدرسة الصادقية التي كانت قلعة التعليم العربي في تونس، وحضرنا محاضرات لمدير المعهد والأستاذ المسعودي والأستاذ علي البهلوان. وكان استقبال التونسيين لنا عظيمًا، تناول حتى تبادل الخطب الوطنية تحت رقابة البوليس الفرنسي، الذي كان يراقبنا عن كثب. وزرنا باي تونس الأمين باي محمد بن الحبيب (آخر البايات) في قصره، والوزير الأول السيد مصطفى الكعاك، وبعض الوزراء. ورغم وجود حكومة تونسية، إلا أن تونس كان يديرها الحاكم العام الفرنسي بالحديد والنار.
وبعد رجوعنا إلى طرابلس، دفعتني قريحة الكتابة فأعددت وصفًا طويلًا لزيارتنا إلى تونس ومعالمها ومعاهدها وحكومتها بالتفاصيل الدقيقة، التى كنت أسجلها منذ تحركنا من طرابلس حتى عودتنا من تونس. وكان هذا بالنسبة لي أول تقرير صحفي كامل أقوم به، وقد أعطيته إلى الأستاذ محمد مسعود فشيكة أستاذنا في التاريخ آنذاك للإطلاع عليه، وقد أعجب به جدًا وشكرني على هذا العمل الأدبي واحتفظ بالتقرير. ولما كانت علاقتي معه وطيدة منذ سنوات الدراسة الابتدائية في مصراته، فقد كان دائما يذكرني بتقريري عن زيارتنا إلى تونس. وقد قال لي مرة بأن تقريري عن الزيارة كان أحد مراجعه أثناء إعداده لكتابه (كأنك معي في طرابلس وتونس)، الذي نشره بعد الزيارة مباشرة.
في هذه الفترة ذهبنا أيضًا في أول رحلة مدرسية إلى الجبل الغربي لرؤية غريان ونالوت ويفرن وباقي بقاع الجبل الجميل الأشم. وكنا في حافلة كبيرة، وهي سيارة نقل كبيرة وضعت فيها مقاعد خشبية طويلة وغطيت بقماش سميك، وهي من نوع الحافلات الذي كان متوفرًا في ذلك الوقت للمواصلات العامة. وكان معنا بعض الأساتذة، وكان من بينهم الأستاذ كاظم نديم بن موسى، الذي كان يتحفنا بموسيقاه وألحانه العذبة الجميلة طوال أيام الرحلة.
وفي إحدي الليالي جلس أحد الزملاء الطلاب على آلة العود التى كانت تلازم الأستاذ كاظم طوال اليوم، وذلك عن طريق الخطأ، فكسر العود ولم يعد صالحًا للاستعمال. وقد وقع هذا الحادث على الأستاذ كاظم وقع الصاعقة، وانهمر في البكاء كأنه فقد عزيزًا عليه، ولم تفلح معه محاولات المواساة والأسف التي أحاطوه بها الأساتذة والطلاب لتخفيف وطأة الحادثة عليه، وبقى حزينًا حتى نهاية الرحلة. وآله العود هذه التي كسرت كانت رفيق طفولته وشبابه، بالإضافة إلى عدم توفر مثل هذه الآلة بسهولة في أسواق طرابلس في ذلك الوقت.
في سنة 1949م، عندما كنت في السنة رابعة ثانوي، نقل والدي من وظيفة مدير التعليم بمصراته إلى طرابلس كمدير للتعليم بها. وهكذا انتقلت العائلة إلى طرابلس، وغادرت أنا حياة القسم الداخلي في المدرسة للعيش مع العائلة من جديد. وكان أخي علي قد نقل بدوره كمدرس من مدرسة مصراته الابتدائية إلى مدرسة طرابلس الابتدائية بشارع ميزران. عشنا في أول الأمر في شقة صغيرة خلف ميدان الشهداء، ثم انتقلنا إلى شقة في أخر شارع ميزران، حتى اشترى والدي بيتًا كبيرًا في شارع حلب خلف شارع الاستقلال والمحاذي لشارع حسونة باشا. هذا وقد ولد في يناير سنة 1950م أخونا الأصغر عبدالعظيم. وكان أخي أحمد السني قد ولد سنة 1947م في مصراته، وكنت غائبًا في المدرسة في طرابلس آنذاك، ولما رجعت في عطلة الصيف وجدت القادم الجديد في حجر أمه. وهكذا أصبحنا ستة أبناء (خمسة أولاد وبنت) على قيد الحياة في تلك الفترة، وقد مات أخ لنا وأختان وهم أطفال قبل وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.
انتقلت المدرسة الثانوية بدورها إلى مبنى جديد بشارع ميزران، وكان هذا المبني بدوره ثكنة عسكرية بريطانية، وكانت مجاورة للبيت الذي كنا نسكنه. وقد أصبحت أشارك أخي علي حجرة نوم واحدة، وكان يدرس اللغة الإنجليزية ويتعلم خارج المدرسة إلى جانب عمله كمدرس، ويحاول بجد رفع مستواه العلمي، كما كان يفعل غيره من الذين لم تتح لهم فرص مواصلة التعليم العالي. كان على جانب كبير من الذكاء ومزايا عديدة أخرى، وله أسلوب مميز في الانتقاد وطلاقة اللسان، ويملك موهبة للنكات اللاذعة، كلها صفات كانت تبشر بمستقبل ناجح. وفعلًا تحقق هذا، فقد قضى كل حياته بعد التدريس في الخارج كدبلوماسي ليبي في لندن وروما، وتدرج حتى وصل إلى درجة قائم بأعمال أول سفارة ليبية في الجزائر، ثم سفيرًا في يوغسلافيا في العهد الملكي، ثم سفيرًا في فنزويلا والبرازيل وكوبا، وسفيرًا معتمدًا غير مقيم في كل من سيرنام والأرجنتين وتشيلي، وأخيرًا في البعثة الليبية في نيويورك في الأمم المتحدة بعد الفاتح من سبتمبر 1969، وقد استمر في نيويورك حتى 1994. وقد انتخب رئيسًا للجنة الخامسة للجمعية العامة للأمم المتحدة مرتين، وترأس عدة لجان تابعة للأمم المتحدة.

حركـة وطنـية نـشطة
كانت سنوات دراستي في طرابلس تتميز بفترة نشاط للحركة الوطنية في ليبيا، إذ بدأت الحركات الوطنية تنادي بالاستقلال ووحدة ليبيا. وكان مستقبل المستعمرات الإيطالية السابقة لا زال تبحثه الدول الكبرى المنتصرة في الحرب، وقد عجزت عن اتخاذ قرار بشأنها. فقد كانت روسيا تحاول الحصول على الوصاية على طرابلس، ولم تكن أمريكا وبريطانيا راغبتين في توسع روسيا جنوبًا في البحر المتوسط، ولهذا أحيل موضوع المستعمرات الإيطالية للأمم المتحدة. كان النشاط الوطني في الأول يتركز في النوادي التي أسست في عهد الإدارة البريطانية، وكان نشاطها اجتماعيًا موجهًا نحو الأدب والرياضة.
وبدأ تأليف الأحزاب السياسية كالحزب الوطني وترأسه السيد أحمد الفقيه حسن، ثم الحاج مصطفى ميزران، والكتلة الوطنية الحرة وتزعمها الأخوان على وأحمد الفقيه حسن، وحزب العمال وترأسه السيد بشير بن حمزة، وحزب الاتحاد الطرابلسي المصري وترأسه السيد علي بن رجب، وحزب الأحرار وترأسه السيد الصادق بن زراع. ثم تألفت الجبهة الوطنية المتحدة من معظم الأحزاب وترأسها السيد سالم المنتصر.







وقد تأسس بعد ذلك حزب المؤتمر الوطني العام، الذي حل محل الجبهة الوطنية المتحدة برئاسة السيد بشير السعداوي، وضم زعماء الحزب الوطني ومعظم الشخصيات الهامة من مدينة طرابلس والدواخل وكبار التجار وموظفي الإدارة البريطانية من الليبيين وعمداء البلديات، وتمتع بشعبية كبيرة لدى الجماهير أيضًا. وأخيرًا تألف حزب الاستقلال الذي ترأسه السيد سالم المنتصر بعد استقالته من الجبهة الوطنية المتحدة بسبب خلافه مع السيد بشير السعداوي.
كان السيد بشير السعداوي قد جاء على رأس هيئة تحرير ليبيا التي أسستها الجامعة العربية وأمينها العام عبدالرحمن عزام باشا بمصر في مارس 1947م. وقد اختير السعداوي لرئاستها وضمت عددًا من الزعماء، وكان من ضمنهم السادة محمود المنتصر والطاهر المريض ومنصور بن قدارة وجواد بن زكري وأحمد السويحلي، وكان هدف هيئة التحرير إعداد الشعب الليبي لعملية الاستفتاء التى وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على إجرائه وإرسال بعثة تشرف على ذلك لمعرفة ماذا يريد الليبيون لمستقبلهم.
كانت هيئة التحرير تنادي بالاستقلال ووحدة ليبيا بين طرابلس وبرقة وفزان التي كانت تخضع لإدارات عسكرية منفصلة. وقد استُقبل السعداوي شعبيًا في طرابلس، كما رحبت به الإدارة البريطانية لرغبتها في توحيد ليبيا تحت إمارة السيد إدريس السنوسي، الذي ترتبط بعلاقات صداقة معه عندما كان لاجئًا سياسيًا في مصر، ولهذا أعدت للسعداوي استقبالات في المدن الطرابلسية نظمت شعبيًا وشجعت رسميًا من طرف رجال الإدارة البريطانية.







1946- السيد عبدالرحمن عزام أمين عام جامعة الدول العربية (1945-1952م) بمكتبه بالقاهرة

كانت بريطانيا قد اتفقت مع إيطاليا تحت ضغوط أمريكية، ولقطع الطريق أمام روسيا التي كانت تطالب بالوصاية على طربلس، على تقديم مشروع بيفن ـ سفورزا في مايو 1949م (وهذه التسمية نسبة إلى اسمي وزير خارجية بريطانيا المستر إرنست بيفن ووزير خارجية إيطاليا الكونت كارلو سفورزا في ذلك الوقت) إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة لتقسيم ليبيا إلى ثلاث مناطق، بحيث تبقى برقة تحت الوصاية البريطانية، وفاءًا بالوعد الذي أعطته بريطانيا للسيد محمد إدريس السنوسي أثناء الحرب بعدم رجوع برقة تحت الحكم الإيطالي، وتوضع طرابلس تحت الوصاية الإيطالية، وتوضع فزان تحت الوصاية الفرنسية.
وكانت السياسة البريطانية غير المعلنة هي السعي للسيطرة على كل ليبيا، والحيلولة دون عودة إيطاليا إلى طرابلس، الشئ الذي لم تستطع المطالبة به دوليًا خوفًا من رفض الدول الكبرى الأخرى. وكان الحل الوحيد لتحقيق هذا الهدف هو تشجيع الليبيين على المناداة باستقلال كل ليبيا تحت إمارة السيد إدريس السنوسي، مما سيسهل عليها ربط ليبيا ببريطانيا باتفاقية تحالف تمكنها من السيطرة على كل ليبيا بعد الاستقلال. ولهذا عندما فشلت المباحثات بين زعماء طرابلس وبرقة على الوحدة وإمارة السيد إدريس السنوسي، رحبت الإدارة البريطانية بقدوم هيئة تحرير ليبيا التى كانت تنادي بالاستقلال والوحدة، وشجعت السيد بشير السعداوي لتوحيد كلمة الطرابلسيين على هذه السياسة التي هي في صالح ليبيا وتخدم أهداف بريطانيا الخفية.





الكونت كارلو سفورزا المستر إرنست بيفن

وكما أشرنا سابقًا، قامت الجبهة الوطنية المتحدة في يناير 1947 بإرسال وفد يمثل طرابلس للاجتماع بممثلي برقة، المتمثلين في جبهتهم الوطنية، لدراسة مستقبل ليبيا وتنسيق الجهود بينهم لتحقيق الاستقلال والوحدة. وكانت برقة تتمتع برعاية خاصة من بريطانيا. فقد أصدر وزير خارجية بريطانيا المستر أنتوني إيدن تصريحًا في البرلمان البريطاني في يناير 1942م، تلتزم به بريطانيا بعدم السماح لرجوع إيطاليا إلى برقة، تقديرًا لمشاركة جيش التحرير السنوسي لبريطانيا في حربها ضد قوات المحور، وهذا دفع بريطانيا إلى الموافقة على استقلال برقة تحت إلحاح الأمير إدريس دون الانتظار لقرار الأمم المتحدة.
لم يستطع وفد الجبهة الوطنية المتحدة الذي سافر إلى بنغازي للاتفاق مع ممثلي برقة، فقد أصر ممثلوا طرابلس على المطالبة بالاستقلال ووحدة ليبيا تحت إمارة الأمير محمد إدريس السنوسي، المشروطة بنظام ديمقراطي برلماني، السلطة فيه للشعب، ورفض أي قرار بتقسيم ليبيا. ولكن ممثلي برقة أصروا على مبدأ إمارة السيد إدريس السنوسي بلا قيد أو شرط، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أي إذا تعذرت الموافقة على استقلال كل ليبيا والوحدة، يتم استقلال برقة ثم العمل على استقلال طرابلس وفزان وتحقيق الوحدة تحت التاج السنوسي دون قيد أو شرط بعد ذلك، ولم تنجح هذه المباحثات بين الوفدين الطرابلسي والبرقاوي.
بعد تقديم مشروع بيفن ـ سفورزا إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة قامت المظاهرات الصاخبة في المدن الليبية ضده، وكانت الإدارة البريطانية كما بينت تشجعها، رغم أن
بيفن وزير خارجيتها هو أحد مقدمي المشروع، للأسباب التي أوضحتها أعلاه. كانت
هذه المظاهرات تستوعب معظم وقتنا، وكنا طلاب المدرسة الثانوية في طليعة الطلاب الذين كانوا عصب المظاهرات والاحتجاجات ضد هذا المشروع. ولم نكن نجد معارضة من هيئة التدريس المصرية أو من رجال الشرطة بقيادة الضباط البريطانيين، بل بالعكس، كنا نجد التشجيع، وخاصة من مدير المدرسة السيد مصطفى فهمي المصري الجنسية. وكان ضباط الشرطة البريطانيين يشجعون وينظمون سير المظاهرات، ولا أذكر أن قامت الشرطة بأي عمل ضد المتظاهرين. إلى جانب معارضة الشعب الليبي لمشروع
بيفن ـ سفورزا، كانت الشعوب والدول العربية والجامعة العربية تقف كلها إلى جانب الشعب الليبي.
وكما ذكرت، قامت الجامعة العربية، بدعم من مصر بإرسال هيئة تحرير ليبيا
برئاسة بشير السعداوي، الذي استطاع كسب تأييد الشعب الليبي، الذي كان يرى
في الجامعة العربية والقاهرة مصدر دعم وقوة له، خاصة أنه كان على رأس الجامعة
العربية آنذاك، شخص مشهور بجهاده مع الليبيين ضد إيطاليا بعد الحرب العالمية
الأولى، ألا وهو السيد عبدالرحمن عزام باشا. أسس السعداوي المؤتمر الوطني العام بعد
خلافه مع بعض زعماء طرابلس على مبدأ الإمارة التي كان يراها ضرورة ولا تحتاج
إلى استفتاء شعبي، رغم أن هذا المبدأ لم يكن في برنامج هيئة التحرير التي ألفها عزام
باشا وترأسها السعداوي. وقد استطاع المؤتمر الوطني برئاسة السعداوي الحصول
على تأييد أغلبية الشعب وخاصة في المدن. وكان المؤتمر الوطني يضم أغلبية الشباب الطرابلسي المتحمس وموظفي الحكومة والتجار والطبقة المثقفة، ويتمتع بتشجيع الإدارة البريطانية، وخاصة بعد فشل مشروع بيفن ـ سفورزا وموافقة الجمعية العامة على استقلال ليبيا، بعد انتهاء لجنة التحقيق من زيارة ليبيا وتقديم تقريرها الذي أكد إصرار الشعب الليبي على استقلاله ووحدته.








طرابلس أبريل 1973م - قبل وفاته بفترة وجيزة السيد عبدالرحمن عزام (الأول من اليمين ) يتسلم مفتاح مدينة طرابلس ويقف على شماله الشيخ الطاهر الزاوي مفتي ليبيا

كان تأييد السعداوي لمبدأ إمارة السيد إدريس السنوسي قبل إقرارها رسميًا من الشعب الليبي، ودون قيد أو شرط، قد جر عليه معارضة بعض الأحزاب الطرابلسية (حزب الاستقلال وحزب الكتلة) والجامعة العربية وأمينها العام السيد عبدالرحمن عزام باشا الذي سبق وأن عين وأيد السعداوي كرئيس لهيئة تحرير ليبيا. كان عزام باشا على معرفة بتاريخ الكفاح الليبي، وبعلاقات الأمير إدريس السنوسي السابقة، وتحالفه مع بريطانيا منذ الحرب الليبية الإيطالية. وقد عاش عزام باشا طوال حياته مناوئًا لسياسة البريطانيين عندما كان في ليبيا، ثم في مصر، ويعارض نفوذهم في المنطقة العربية، ولهذا كان يرى أن وضع كل السلطات في أيدي الأمير إدريس السنوسي لحكم ليبيا، معناه في رأيه، تمكين البريطانيين من جر ليبيا المستقلة إلى التحالف معهم وإبعاد ليبيا عن مصر والدول العربية.
وكانت مصر وبعض الدول العربية ترى نفس السياسة، ولهذا عندما قبل السعداوي بإمارة السيد إدريس دون قيد أو شرط، أعلن عزام باشا معارضته له، بل أصبح يساند حزب الاستقلال المناوئ للسعداوي. كما إن إيطاليا أصبحت تساند وتدعم حزب الاستقلال بعد أن شعرت بأن بريطانيا خذلتها. فرغم اشتراك بريطانيا مع إيطاليا في تقديم مشروع بيفن ـ سفورزا، إلا أن بريطانيا كانت تسعى من وراء الستار إلى تشجيع وحدة ليبيا واستقلالها، وربط ليبيا المستقلة بتحالف مع بريطانيا، والانفراد بها، مستغلة علاقتها الوثيقة مع السيد إدريس السنوسي. وقد تجلى ذلك، كما أوضحت، في تشجيع المظاهرات داخل ليبيا للمطالبة بالاستقلال والوحدة تحت التاج السنوسي، مما أفشل مشروع بيفن ـ سفورزا، الذي حال دون تولي إيطاليا الوصاية على طرابلس. لم ينجح حزب الاستقلال ولا إيطاليا ولا الجامعة العربية في إضعاف زعامة السعداوي، بعد أن حاز على ثقة أغلبية الشعب في طرابلس بدون منازع، ودعم الإدارة البريطانية له.
وبعد شعور السعداوي بمعارضة الجامعة العربية وعزام باشا والعرب وتأييدهم لخصومه حزب الاستقلال، عقد مؤتمر تاجوراء الشعبي الكبير، الذي أعلن فيه تأييده لإمارة إدريس السنوسي، وتنديده بعزام باشا وسياسته المناوئة للسعداوي وللمؤتمر الوطني العام. كان دافع السعداوي من هذه السياسة الجديدة هو تحقيق وحدة حقيقية لليبيا يتولى فيها هو مسئولية رئاسة الحكومة بعد الاستقلال. ولكن ظنه خاب عندما شعر أن بريطانيا قد خذلته وأصبحت تحارب سيطرته على المؤتمر وتقف عثرة في توليه السلطة، خاصة وأن شعبيته الكبيرة في طرابلس أثارت مخاوف الإدارة البريطانية ومخاوف الأمير إدريس ملك المستقبل.
وهكذا بدأ السعداوي في محاربة النظام الاتحادي الذي وافقت عليه الجمعية الوطنية التأسيسية، رغم أنه هو الذي كلف من قبل المستر أدريان بيلت مندوب الأمم المتحدة – بدأ مهمته في ليبيا في يناير 1950 - بتعيين مندوبي طرابلس في لجنة الواحد والعشرين، التي قررت تأليف الجمعية الوطنية التأسيسية بالتعيين، والتي وافقت بدورها على النظام الفيدرالي، الذي يعطي الملك السيطرة الكاملة على مجرى الأمور في البلاد نتيجة توزيع السلطات بين الحكومة الاتحادية والولايات التى ترتبط بالملك رأسًا، كما أنه يعني في الواقع تقسيم ليبيا إلى ثلاث دول.
وقد عملت الإدارة البريطانية، بعد معارضة السعداوي للنظام الفيدرالي، على تفتيت وإضعاف المؤتمر الوطني وتشجيع بعض أعضائه على الانشقاق عن السعداوي، خاصة أن أهم أعضاء المؤتمر الوطني، رغم شعبيته، هم من كبار الساسة والتجار وكبار موظفي الإدارة البريطانية من الليبيين، الذين كانوا يرون في تأييد الإدارة البريطانية للمؤتمر ما يخدم مصالحهم، وتخليها عن المؤتمر سيهدد هذه المصالح. ولكن معظم جماهير الشعب في طرابلس والشباب والمثقفون بقوا مخلصين للمؤتمر الوطني وللسعداوي حتى النهاية.
ورغم أن السعداوي اختير من طرف المندوب السامي للأمم المتحدة لتعيين العضو الليبي في مجلس الأمم المتحدة الاستشاري التابع للمستر أدريان بيلت المندوب السامي للأمم المتحدة في ليبيا، وكذلك تعيين أعضاء طرابلس السبعة في لجنة الواحد والعشرين، وهو اعتراف ضمني بزعامته على إقليم طرابلس، إلا أنه بعد معارضته للنظام الاتحادي، وبموافقة من السيد إدريس السنوسي، أعطيت مسئولية تعيين أعضاء طرابلس العشرين في الجمعية الوطنية التأسيسية (لجنة الستين) لمفتي ليبيا الشيخ محمد أبوالأسعاد العالم نائب رئيس المؤتمر الوطني وزعيم الفريق المنشق عن السعداوي في المؤتمر الوطني. وهكذا أبعد السعداوي عن المشاركة الرسمية في النشاط السياسي لتأسيس الدولة الليبية، وبقي في المعارضة حتى انتخابات مجلس النواب الأولي ونفيه خارج البلاد في أواخر فبراير 1952م.


إعـلان الاستقلال
كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد رفضت مشروع بيفن ـ سفورزا بصوت واحد، هو صوت دولة هايتي الذي صوّت مندوبها (إيميل سان لو) ضده، رغم تعليمات حكومته بالموافقة. وقررت الجمعية العامة بعد ذلك استقلال ليبيا قبل أول يناير 1952، وإرسال المستر أدريان بيلت مندوبًا ساميًا للأمم المتحدة، لمساعدة الشعب الليبي على تنفيذ هذا القرار، وعين له مجلس استشاري يتألف من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا ومصر وباكستان ومندوب عن كل من طرابلس وبرقة وفزان والأقليات.
وكان الخلاف في المجلس الاستشاري كبيرًا بين بريطانيا وفرنسا تدعمهما الولايات المتحدة، ويساند هذه المجموعة ممثل الأمم المتحدة المستر أدريان بيلت والدول المعارضة لها التى تتكون من مندوبي مصر وباكستان، حول إنشاء الجمعية الوطنية التأسيسية بالتعيين واختيار النظام الاتحادي. كان ممثل إيطاليا وكذلك ممثل الأقليات محايدين بين المجموعتين، حرصًا على مصالح الإيطاليين المقيمين في ليبيا. وكان ممثل طرابلس السيد مصطفى ميزران، أحد نواب رئيس المؤتمر الوطني، يؤيد مجموعة مصر وباكستان، بينما كان ممثل برقة السيد علي الجربي وممثل فزان السيد أحمد صوفو، والذى استبدل بسبب اعتلال صحته بالسيد محمد عثمان الصيد فيما بعد، يؤيدان إنشاء الجمعية الوطنية التأسيسية بالتعيين والنظام الفيدرالي حسب أوامر الأمير إدريس السنوسي والسيد أحمد سيف النصر.
كانت المعارضة في طرابلس قوية ضد تدخل الإدارة البريطانية وضد النظام الفيدرالي، وتتجاوب مع سياسة السعداوي وحزب المؤتمر والجامعة العربية والدول العربية. وتم إنشاء الجمعية الوطنية التأسيسية بالتعيين والمساواة بين الأقاليم الثلاث. وكما ذكرت، عين أعضاء طرابلس سماحة مفتي ليبيا نائب رئيس حزب الموتمر الوطني الذي استعان بحزب الاستقلال. وكان زعماء حزب الاستقلال من المعارضين للسياسة البريطانية، لكنهم وجدوا أنفسهم في عزلة، بعد سيطرة السعداوي على الرأي العام في طرابلس، واتهموا شعبيًا بالتعاون مع إيطاليا وهي العدو القديم لليبيين، وكان على زعماء حزب الاستقلال إما تأييد السعداوي، الذي أصبح معارضًا لسياسة الملك والإدارة البريطانية والمندوب السامي للأمم المتحدة، مما يعرضهم إلى الاصطدام مع الإدارة البريطانية والحكومة الليبية القادمة، وفقدان نفوذهم ومكانتهم السياسية بين أنصارهم، أو الانضمام إلى المنشقين عن السعداوي من أعضاء المؤتمر الوطني برئاسة سماحة الشيخ مفتي ليبيا محمد أبو الأسعاد العالم والمشاركة في عملية الإعداد للاستقلال حماية لمصالحهم، خاصة أنهم من العائلات القديمة ذات النفوذ القبلي، وفي حاجة للاحتفاظ بنفوذهم. وهكذا شمل الشيخ المفتي بعض أعضاء حزب الاستقلال في قائمة أعضاء طرابلس في الجمعية الوطنية التأسيسية، رغم أن الأغلبية من الأعضاء المختارين العشرين كانوا من أعضاء المؤتمر الوطني المنشقين عن السعداوي.








16 مارس 1950م نيويورك: المستر أدريان بيلت (في وسط الصورة) مع المستر ديفيد فون (على الشمال) مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لشئون المؤتمرات والخدمات العامة والمستر توماس باور (على اليمين) سكرتير بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا.
أما بخصوص موقف المستر بيلت المندوب السامي للأمم المتحدة، فقد حاول التوفيق بين أعضاء مجلسه، إلا أنه خضع في النهاية لسياسة بريطانيا المدعمة من أمريكا والملك إدريس. ورأيه حسب ما سمعت منه في فترات تالية، أنه كان حريصًا على تحقيق استقلال ليبيا في موعده المحدد، ولم يكن في الإمكان إرغام برقة والملك إدريس على قبول الوحدة الكاملة، أو إخضاع إمارة إدريس لاستفتاء شعبي. والحل الفيدرالي تحت التاج السنوسي كان في رأيه الحل الممكن، لأن البديل هو إعادة القضية الليبية إلى الأمم المتحدة، وعندئذ قد يقترح وضع ليبيا تحت الوصاية من جديد، وهذا ليس في صالح الشعب الليبي. وافقت الجمعية الوطنية التأسيسية على الدستور الليبي الاتحادي وأعلنت مبايعة الأمير إدريس السنوسي ملكًا على البلاد، كما اختير السيد محمود المنتصر رئيسًا لأول حكومة اتحادية، وعين ولاة لطرابلس وبرقة وفزان.

المعـاهدة البريطانـية
وحال استقلال ليبيا بدأ العمل لتوقيع معاهدة تحالف مع بريطانيا لضمان موارد مالية، خاصة أن ليبيا كانت أفقر بلاد في أفريقيا بحسب تقارير الأمم المتحدة آنذاك، وليس لها دخل لتغطية حتى مصروفاتها الإدارية. كما أن الدول العربية لم تتقدم بأية مساعدة في هذا الشأن، وحسب ما ذكر آنذاك، أن الحكومة المصرية اشترطت ضم منطقة الجغبوب إليها مقابل تقديم مساعدة مالية سنوية قدرها مليون جنية مصرى. كان الرأي العام الشعبي السائد في منطقة طرابلس يؤيد السعداوي، وكان الجميع يرى أن وضع الدستور من طرف جمعية تأسيسية غير منتخبة غير قانوني وغير ملزم وخطأ لا يغتفر، واختيار النظام الفيدرالي سيؤدي إلي تقسيم البلاد، وأن توقيع المعاهدة مع بريطانيا سيجعل استقلال ليبيا شكليًا، وأن المساعدات المالية يجب أن تطلب من الدول العربية أو الأمم المتحدة وليس من أية دولة أو دول معينة ومشروطة بتقديم تسهيلات دفاعية، ولهذا فإن النظام السياسي الليبي الفيدرالي أقيم بدون موافقة الشعب. واتجه الشعب الليبي بعد ذلك إلى الزعيم جمال عبدالناصر في مصر، الذى أصبح محور اهتمام وأمل الجماهير الليبية.
كان الدستور الليبي من أحدث الدساتير في العالم، أعده خيرة خبراء القانون الدولي والدستوري في ذلك الوقت، وفصلت فيه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وضمنت فيه كل الحريات وحقوق الإنسان، ولكنه أعطى للملك سلطة حل البرلمان، مما يمكنه من فرض إرادته بشتى الحجج. كما أن الدستور كان يحتاج إلى جهاز تنفيذي متقدم تفتقده ليبيا في ذلك الوقت. كان الملك رغم نزاهته وزهده من الجيل القديم، ورغم خبرته السياسية الطويلة، إلا أنه لم يكن قادرًا على تفهم الإدارة الحديثة، وهذا ما قاله لي بعد ذلك المستر أدريان بيلت مندوب الأمم المتحدة.
بدأ الملك بعد تقلد العرش رسميًا، يحكم البلاد بأسلوب الحكام العرب من جيله، ولم يكن الدستور في رأيه ملزمًا له في اتخاذ القرارات. وشهادة للتاريخ، فإنه رغم كل تلك السلبيات فإن النظام الملكي كان يحمل بذور الديمقراطية والتطور وممارسة الحريات، وحاول المسئولون الأوائل من رؤساء حكومات ووزراء وموظفين تسيير الأمور في حدود إمكانياتهم المحدودة على كل الأصعدة السياسية والإدارية.
سأتعرض بشئ من التفصيل، أثناء سردي للأحداث في هذه المذكرات، عن الحكومات التي سنحت لي الظروف العمل فيها، والحكومات التي عملت فيها قريبًا من رؤسائها، في الفترة التي تبدأ بأول 1964م وإلى الفاتح من سبتمبر 1969م. ولا أريد التعرض بالتفصيل للفترة بين 1951 و1956م التي كنت فيها غائبًا عن البلد في القاهرة لمواصلة دراستي الجامعية، وكذلك الفترة ما بين 1956 و1963م التي كنت فيها موظفًا في وزارة الخارجية وفي السفارات الليبية، بعيدًا عن أصحاب القرار وشئون الحكم في البلاد، مع التعرض إلى أحداث هذه الفترات بشئ من الاختصار، بهدف التسلسل التاريخي لأحداث العهد الملكي منذ نشأته وحتى نهايته.

الدراسة الجامعـية في القاهـرة
بعد التخرج من السنة التوجيهية بمدرسة طرابلس في يونيو 1951م، أرسلنا إلى القاهرة من قبل حكومة ولاية طرابلس المؤقتة، في بعثة دراسية بمخصصات ضئيلة لا تتجاوز 60 جنيها مصريًا في السنة للطالب، وهو مبلغ لا يفي بحاجاتنا، بينما كان زملاؤنا الطلاب المبعوثين من ولاية برقة، يحصلون على عشرين جنيهًا شهريًا. وقد كانت هذه المعاملة المختلفة لطلاب من نفس البلاد موضع نقد وتذمر لدى طلاب طرابلس. ولكن الحكومة الاتحادية بعد تأليفها سوت بين الطلاب الليبيين في المعاملة. والاختلاف الثاني بين طلاب طرابلس وطلاب برقة، هو عدم اعتراف مصر بشهادة التوجيهية للطلاب القادمين من طرابلس، لأن المنهج المقرر فيها ليس مصريًا، كما هو الحال في برقة، وهذا يمثل التفرقة التي فرضتها الإدارة البريطانية بين طرابلس وبرقة في المناهج الدراسية والعملة والنظم الإدارية.
وهكذا كان علينا طلاب طرابلس إعادة السنة التوجيهية في مصر، وخسر جيلنا سنة أخرى بعد خسارة ثلاث سنوات الحرب في الابتدائية. وكان عدد أفراد الفوج الأول من طلاب البعثة ثمانية طلاب هم خيري الصغير، شعبان عريبي، أحمد بن لامين، عبدالله بن لامين، علي الميلودي، عز الدين المبروك، محمد سيالة، وبشير السني المنتصر. وبعد ذلك لحقت بهم دفعة ثانية تتألف من عشرة، وأذكر منهم إبراهيم الفقيه حسن، إبراهيم محمد الميت، المبروك العجيل، سالم كوكان، شمس الدين أبوشويرب، راشد السراج، محمد بن محمود، سالم عطية وعبدالحفيظ سليمان.
وقد رافق البعثة الأستاذ محمود البشتي مدير مدرسة طرابلس الثانوية آنذاك، وقرر إقامتنا في منطقة المعادي في شقتين، ووزعنا على ثلاث مدارس ثانوية، هى الخديوية والخديوي إسماعيل والإبراهيمية في القاهرة، ودخلت أنا المدرسة الخديوية في حي السيدة زينب في السنة التوجيهية قسم رياضي. وكانت السنة الدراسية (1951-1952م) مليئة بالأحداث الوطنية في مصر. وكانت حكومة مصطفى النحاس باشا قد ألفت في ظروف صعبة، وكان هناك خلاف بين الملك فاروق وضباط الجيش، تجلى في انتخابات نادي الضباط. وفي هذه السنة أعلن النحاس إلغاء معاهدة سنة 1936م في البرلمان المصري بالجملة المشهورة "باسم مصر وقعت المعاهدة وباسم مصر أطالبكم اليوم بإلغائها".
وسرعان ما اصطدم البريطانيون مع الحكومة المصرية والمقاومة الشعبية في منطقة القناة، بعد أن جلا البريطانيون من ثكناتهم في القاهرة والإسكندرية، وأصبحت المعارك اليومية بين القوات البريطانية والمقاومة المصرية في منطقة القناة الشغل الشاغل للشعب المصري، وعلى رأسهم الطلاب. وكانت المظاهرات تجتاح شوارع القاهرة والإسكندرية باستمرار منادية بجلاء البريطانيين. وسرعان ما تطورت الهتافات ضد الملك، وكان حريق القاهرة، وإقالة حكومة النحاس باشا، وتعيين حكومات ضعيفة غير شعبية، وصفت من طرف الطلاب بالحكومات العميلة.
كان حريق القاهرة إنذارًا بالثورة الشعبية ضد الاستعمار والملك والإقطاع، ورد فعل لهزيمة مصر في حرب 1948 ضد إسرائيل، واحتجاجًا على قضية الأسلحة الفاسدة، التي اتهم فيها كبار المسئولين وعلى رأسهم الملك نفسه. وزاد الأزمة تدخل الملك في انتخابات نادي الضباط، وطلاق الملك من زوجته الأولى فريدة، وانتشار أخبار استهتاره وحياة المجون التي كان يعيشها. وفي هذه الفترة ولد ابنه أحمد فؤاد وسط هذه الأحداث، وقد استغل الشعب الاحتفالات التي أقيمت بهذه المناسبة لإظهار سخطه على الملك. ولازلت أذكر هذه الأيام العصيبة التي عشناها، وشاركنا فيها الشعب المصري كفاحه ومرحلة غليانه، وما كان يجري في تلك الفترة، وقد أثر هذا في حياتنا.
وكانت متابعتنا لما كان يجري في بلادنا ليبيا امتدادًا لما يجري في مصر، وتسلط الاستعمار وتدخلاته في ما يجري في بلادنا وفلسطين والعالم العربي والإسلامي. كانت الدراسة شبه متوقفة خلال السنة الدراسية 1951-1952، وكان علينا الاعتماد على مراجعة دروسنا في البيت لدخول امتحان الشهادة الثانوية في يونيو 1952م. وكانت إعادتنا للتوجيهية في مصر قد ساعدتنا على استيعاب المنهج المقرر بسهولة.
بعد امتحان يونيو رجعنا إلى طرابلس للإجازة الصيفية، وسمعنا هناك قيام ثورة 23 يوليو المصرية بقيادة الضباط الأحرار، وقد أعلن محمد نجيب رئيسًا لها. وسرعان ما عدنا إلى مصر بعد الثورة في سبتمبر للالتحاق بالجامعات المصرية بعد نجاحنا في امتحان التوجيهية. كنت أنوي دخول كلية الهندسة لأن مجموعي من القسم الرياضي كان عاليًا يزيد عن 80% ويؤهلني لدخول الكليات العملية، إلا أن تدخلات غير معروفة أدت إلى تحويل طلبات جميع الطلاب العرب غير المصريين المقدمة لجامعة القاهرة إلى كليات جامعتي الإسكندرية وجامعة إبراهيم (سميت جامعة عين شمس فيما بعد). والغالب أن السبب كان تقدم عدد كبير من الطلاب العرب الحاصلين على مجموعات عالية إلى كليات جامعة القاهرة يفوق عدد الطلاب المصريين من الحاصلين على تقدير عال. ولا زلت حتى اليوم لا أعرف السبب في تغيير رأيي في آخر لحظة. فحال ما سمعت رغبة جامعة القاهرة تحويل كل طلباتنا الى كليتي الهندسة بجامعتي الإسكندرية وعين شمس قررت سحب أوراقي والتقدم بها الى كلية التجارة جامعة القاهرة.
كان هدفي أن أتخصص في الاقتصاد والعلوم السياسية، خاصة وأن مجال العمل سيتيح لي الدخول في السلك الدبلوماسي الليبي بسهولة. كما أن زميلين لي قررا الدخول لنفس الكلية للغرض نفسه، إلا أن وضعهما كان يختلف عن وضعي، فأحدهما ابن وزير، والثاني ابن نائب برلماني أصبح وزيرًا بعد ذلك، وقد ساعد هذا على عدم منعنا من طرف الحكومة الليبية دخول قسم العلوم السياسية. فقد كانت الحكومات العربية، بما فيهم ليبيا، ضد دخول الطلاب إلى كليات العلوم السياسية. وقد وجدت صعوبة في سحب أوراقي من إدارة الجامعة بعد أن قدمتها السفارة الليبية رسميًا لتحويلها الى كلية الهندسة، خاصة بعد أن انتهى موعد تقديم الأوراق، ولكن أمام إصراري سلملها لي سكرتير عام الجامعة على أن أتحمل مسئولية عدم قبولها. أسرعت بأوراقي إلى كلية التجارة فعارض مسجل الكلية قبولها لانقضاء الموعد المحدد للقبول، ونصحني بإرجاع أوراقي الى إدارة الجامعة لتحويلها لكلية الهندسة بجامعة إبراهيم كما تقرر.
ولكنني لم أفشل وصممت على مقابلة عميد الكلية، وبقيت أمام مكتبه ساعات طويلة حتى تمكنت من الكلام إلى وكيل الكلية الدكتور عز الدين فريد وهو خارج من مكتب العميد، وشرحت له وضعي، ورغم أنه بدوره أبدى شكه في قبولي لتأخر الوقت، إلا أنه عطف على رجائي وتوسلاتي ووعدني بالمحاولة مع العميد، وأخذ أوراقي ودخل بها على العميد، وانتظرته على أحر من الجمر. وما هي إلا دقائق حتى رجع بأوراقي مؤشرًا عليها من العميد بالقبول، وطلب مني الإسراع بتسليمها إلى المسجل، الذي استغرب هذا الإجراء الاستثنائي، وطبعًا قبل المسجل أوراقي وعدت مطمئنًا إلى البيت.
استغرب زملائي الليبيين تركى لكلية الهندسة، وكان عذري أن الطبيب نصحني بعدم دخول كلية الهندسة لضعف نظري. وفعلًا لم يقرر الدكتور نجاحي في الامتحان الطبي إلا بعد أن استعملت نظارة للقراءة لأول مرة. وهكذا بدأت دراستي الجامعية في كلية التجارة جامعة القاهرة، وأقمت مع زميلين لي هما أحمد بن لامين، وقد أصبح صهري بعد ذلك وتزوج أختي فاطمة، وكان قد دخل كلية الحقوق، والثاني كان عبدالله بن لامين ودخل معي كلية التجارة، وقد عشنا معًا خلال دراستنا في الجامعة.
كانت سنوات الدراسة بالجامعة حافلة بالأحداث السياسية في مصر. فقد كان دخولنا للجامعة في الأسابيع الأولى للثورة المصرية، وعاصرنا إلغاء النظام الملكي، وقضية رشاد مهنا، والخلاف بين مجلس قيادة الثورة بزعامة جمال عبدالناصر والرئيس محمد نجيب، ورد فعل تنحيه الأخير لدى الرأي العام المصري، ونشاط الإخوان المسلمين في الجامعة وسيطرتهم على اتحادات الطلاب، ونشاط الأحزاب السياسية الأخرى داخل الجامعة. كما كانت الحركات السياسية العربية القومية والبعثية والشيوعية نشطة إلى حد كبير بين الطلاب، إلا أنني كنت من الذين لم تبهرهم الأنشطة الحزبية التي لا يستفيد منها سوى زعماء الأحزاب السياسية، الذين يسخرون الطلاب لمصالحهم الحزبية الخاصة.

كان ضغط زملائنا من الإخوان المسلمين كبيرًا علينا وعلى الطلاب العرب، وكنت أشعر بضيق لمحاولتهم إقناعي بالانضمام إليهم وفصلي عن الطلاب المصريين الحزبيين، وخاصة في الرحلات الجامعية التي كانوا يخصصونها للوعظ والإرشاد بدلًا من الإطلاع والراحة. وقد استطعت تجنب الانضمام إليهم، مع عدم المساس بعلاقات الصداقة معهم، حتى بعد اشتعال الخلاف بين الإخوان المسلمين والثورة المصرية، ومحاولة اغتيال جمال عبدالناصر، وحل جمعية الإخوان المسلمين، وعزل محمد نجيب للمرة الثانية. وقد اختفت وجوه الإخوان المسلمين من مدارج الجامعة بعد هذه الأحداث وقتل من قتل وسجن الباقي، وقدموا للمحاكمة مع غيرهم من زعماء وأعضاء جمعية الإخوان المسلمين. وحمدت الله أني لم أنضم إليهم، وزادني ذلك إيمانًا بعدم الانضواء تحت أي تنظيم حزبي مستقبلًا - رغم أن كثيرًا من زملائي الليبيين انضموا إلى هذا التنظيم أو ذاك - وقد ساعدني هذا على التفرغ لدراستي ونجاحي الأول في مجموعتي دائمًا طوال سنوات الدراسة في الجامعة.

علاقاتنا بالطلبة الليبيين في مصر
كان الطلبة الليبيين موزعين على عدة جامعات في مناطق مختلفة، هي جامعة القاهرة (جامعة فؤاد سابقًا) وجامعة عين شمس (جامعة إبراهيم سابقًا) وجامعة الإسكندرية (جامعة فاروق سابقًا) وكليات جامعة الأزهر الشريف، ولم يكن يجمع الطلاب الليبيين اجتماعيًا تنظيم أو ناد أو رابطة أدبية أو رياضية أو سياسية، سوى النادي الثقافي الطرابلسي، الذي حسب ما أذكر أسس من طرف طلاب الأزهر، وهو في منطقة الأزهر، ومعظم أعضائه من طلاب الأزهر

4:27 AM  
Blogger Bashir Muntasser said...

وبعض الطلاب من طرابلس وبرقة في الجامعات المصرية. وكانت تلقى فيه المحاضرات وتعقد فيه الاجتماعات ويلتقي فيه الطلبة لتبادل الأحاديث ومناقشة الأحداث السياسية الهامة التي كانت تجري في ليبيا للإعداد للاستقلال، بالإضافة إلى مجلة "صوت ليبيا" التي كان يصدرها النادي وتحتوي على أخبار ومقالات هامة تعبر عن مشارب الطلاب واتجاهاتهم السياسية المختلفة، والمتعارضة أحيانًا في تلك الحقبة، وكانت هذه كلها تجربة ديمقراطية لحرية الصحافة وحق التعبير وإبداء الرأي.
كنا غير راضين عن وضع النادي، لأن جل أعضائه من طلاب الأزهر، فلم ينضم إليه ( في فترة أوائل الخمسينات على الأقل) سوى عدد قليل من طلاب الجامعات المصرية ومن الطلبة البرقاويين بصفة خاصة، مما ساعد على عدم تعارف الطلبة الليبيين وتوحيد كلمتهم في تلك الفترة الهامة، الأمر الذي انعكس على علاقاتهم بعد التخرج ورجوعهم إلى ليبيا. ومما زاد الطين بلة، كانت السلطات الليبية والإدارات العسكرية قبل الاستقلال تعامل طلاب طرابلس وبرقة معاملة مختلفة، كما كانت معاملة طلاب الأزهر غير عادلة من ناحية المساعدات المالية والعينية، ومعظم طلاب الأزهر كانوا يعتمدون على مواردهم الخاصة، واستمر هذا الحال بالنسبة لطلاب الأزهر حتى بعد الاستقلال إلى حد ما. وقد ساعدت هذه المعاملة المختلفة على خلق جفاء وفرقة بين الطلاب الجامعيين الطرابلسيين والبرقاويين، وبينهم وبين طلاب الأزهر، وباعدت بينهم، مما أضعف دورهم القومي والوطني في المشاركة السياسية في الفترة التي تلت عودتهم، في الوقت الذي كانت البلاد تنتظرهم على أحر من الجمر لافتقارها إلى الخريجين والكفاءات في الفترات الأولى للاستقلال.
وكنت مع زملائي من مصراته، أحمد وعبدالله بن لامين، أعضاء في النادي نذهب إليه أحيانًا بسبب بعده عن سكنانا، للاجتماع بزملائنا الطلاب من جامعة الأزهر، وخاصة أن عددًا كبيرًا منهم من مصراته. وقد كنا نلتقي في تلك الفترة مع الطلاب مصطفى عبدالسلام التريكي إخوته محمد وعلي، وإبراهيم ارفيدة، وعمر التومي الشيباني وغيرهم من الطلاب، ونتزاور في العطلات الأسبوعية، ونأكل معًا البازين، الذي يعتبر في ليبيا من الأكلات المحببة. وكانت هذه المناسبات فرصة جميلة وطدت علاقاتنا ببعض، واستمرت حتى بعد رجوعنا إلى البلد بعد إتمام دراساتنا. الشيخ مصطفى التريكي

كانت دراستي للعلوم السياسية للعمل الدبلوماسي، وليست سلمًا للعمل السياسي أو خدمة لفكرة معينة أو لمذهب سياسي معين. وكنت رغم عدم نشاطي الرياضي والاجتماعي في الجامعة، أنال دائمًا ثقة كل زملائي ومن عرفني عن قرب، وثقة كل من اشتغلت معهم بعد ذلك في حياتي العملية. كنت متسامحًا ومجاملًا إلى درجة الإفراط، وكان رؤسائي في العمل في حياتي العملية يثقون بي وبطريقتي في معاملة الناس. ولا أذكر أن أحدًا اشتكى من معاملتي له، أو أني أسأت إلى أحد، أو قصرت مع طالب حق، وهذا كان دائمًا مبعث رضى لي وراحة لضميري.
كنت أومن بأن الإنسان يجب أن يكون مستمعًا أكثر من أن يكون متكلمًا، وأحزن كثيرًا عندما أفشل في إقناع الآخرين بوجهة نظري، التي أبديتها لهم بإخلاص وحسن نية، وأحيانًا عن تجربة ودراية بالموضوع الذي يثار. ورغم أني وجدت تجاوبًا وتفهمًا من البعض، وجدت أن معظم الناس تحب المديح، وسماع كلمات الإعجاب بهم، أكثر من سماع النقد والنصيحة.
هذه انطباعات سريعة في غير موضعها في المذكرات عن تجربتي في عملي قريبًا من أصحاب القرار في الحكومة. الشئ الآخر الذي أود الإشارة إليه في هذه العجالة، هو أن المناصب والمهام والوظائف التي توليتها أو أسندت إلي، لم تكن موضع طموحي أو هدفي في الحياة، ولم أسع إليها علنًا أو ضمنًا، بل كلها كانت تسند لي قبل أخذ رأيي مقدمًا، وكثيرًا ما قبلتها غير راض عنها. وأعتقد الآن أن الإنسان مسير في حياته وفقًا للظروف التي تحيط به والفرص التي تتاح له، وليس بما يقرره المرء أو يخطط له مسبقًا.
كانت دراستي في القاهرة تجربة مفيدة، وقصة طويلة، للفترة من سبتمبر 1951 إلى يونيو 1956م. إن الحديث عن هذه الفترة لا يمكن اختصاره في صفحات معدودة، فهي فترة قيام ثورة 23 يوليو، ومرحلة إرساء الأساس للحكم الناصري وبناء صرح الجمهورية العربية المتحدة، وكانت تحولًا تاريخيًا في تاريخ مصر والعرب والشرق الأوسط والعالم. كان صراع ثورة يوليو مع الاستعمار والقوى الداخلية عنيفًا، وكانت دعوة عبدالناصر إلى القومية العربية والوحدة العربية شرارة امتد لهيبها إلى كل أرجاء العالم العربي من الخليج إلى المحيط، ودفعة قوية لحركات التحرير والاستقلال في أفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية، ساعدت على اشتعال الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفيتي. إن من عاش هذه الفترة في مصر، وفي جامعة القاهرة بالذات، عاش تاريخ انبعاث القومية العربية والأمة العربية، وبداية العمل من أجل قيام الوحدة العربية الشاملة، والصراع والمواجهة مع الاستعمار القديم لفرنسا وبريطانيا وأسبانيا، ومع الهيمنة وسياسة الاستحواذ الأمريكية.
كانت جامعة القاهرة إحدى قلاع الثورة، فقد كانت تضم كبار رجال العلم في مصر في جهاز التدريس، وميدان النشاط الوطني للشباب والطلاب والصراع الحزبي والمذهبي. وكانت كلية التجارة في تلك الفترة تضم نخبة من أساتذة الاقتصاد وإدارة الأعمال والعلوم السياسية والقانون، وكان من ضمن أساتذة الكلية الدكتور عبدالعزيز حجازي الذي أصبح بعد ذلك رئيسًا للوزراء في عهد عبدالناصر، والدكتور بطرس غالي الذي تولى الوزارة وعين بعد ذلك سكرتيرًا عامًا للأمم المتحدة، والدكتور عبدالجليل العمري والدكتور عبدالمنعم البنا والدكتور فتح الله الخطيب والدكتور إبراهيم صقر والدكتور وهيب مسيحة أب الاقتصاد في مصر والدكتور عبدالله مرزبان والدكتور حسين الشافعي أب علم الإحصاء في مصر وغيرهم كثيرين، ومعظمهم تولوا الوزارة ومناصب هامة في سنوات تالية، حيث كان الرئيس عبدالناصر يركز على الاقتصاد ويستعين برجال الاقتصاد في جهازه الحكومي.
كان قسم العلوم السياسية يضم عددًا قليلًا من الطلاب العرب والمصريين، وكان الطلاب المصريين لا يقبلون على قسم العلوم السياسية ويفضلون قسم المحاسبة وقسم إدارة الأعمال، لأن فرص العمل بعد التخرح منهما أوسع وأضمن، وكان أغلب الطلاب المصريين معنا من عائلات سياسية أو ثرية أو دبلوماسية، ولهم طموح في دخول السلك الدبلوماسي المصري أو العمل السياسي، وكانت هذه الفرص محدودة وتتطلب استعدادًا علميًا ولغويًا غير عاديين. وكنا ثلاثة طلاب من ليبيا في هذا القسم، وكان بيننا طلاب من سوريا والسودان والعراق والأردن وفلسطين.
وأذكر أن معظم الطلاب الذين كانوا معنا بما فيهم المصريين دخلوا السلك الدبلوماسي. وقد سنحت لي الفرصه للقاء بعضهم بعد ذلك في الحياة العملية كسفراء لبلادهم في الخارج ومنهم السفير عبدالعزيز الكباريتي من الأردن، والسفير سعد الدين الفرارجي من مصر، والذي أصبح سفيرًا لمصر لدى الأمم المتحدة في جنيف عندما كنت أعمل مع الأمم المتحدة، ثم أصبح مساعدًا لسكرتير عام الأمم المتحدة ورئيسًا للقسم العربي في برنامج التنمية في نيويورك، وبعد ذلك عين سفيرًا للجامعة العربية لدى الأمم المتحدة في جنيف.










بشير المنتصر بين أساتذة وطلاب العلوم السياسية لجامعة القاهرة ويظهر بينهم الدكتور بطرس بطرس غالي الأستاذ بكلية التجارة شعبة العلوم السياسية آنذاك (الصف الثاني، الثاني من الشمال)

وكان معنا في قسم العلوم السياسية بعض ضباط الجيش، وأذكر منهم الرائد حسن مهران، والرائد علي إبراهيم أخ السيد حسن إبراهيم عضو مجلس قيادة الثورة المعروف. وكان حسن إبراهيم في تلك الفترة وزيرًا لشئون الرئاسة ومكتبه بقصر عابدين، وكان مختصًا بشئون ليبيا. وقد أخذنا نحن الطلبة الليبيين إليه زميلنا أخوه علي إلى مقابلته في قصر عابدين، ورحب بنا، وأعرب عن استعداده لحل أية مشاكل قد نواجهها، فشكرناه وأكدنا له أننا نعيش في بلدنا الثاني مصر مكرمين وليس لدينا أية مشاكل. هذا وأذكر أننا دعينا في سنة 1953م الى مأدبة إفطار في رمضان في نادي الضباط في الزمالك من طرف أعضاء مجلس قيادة الثورة برئاسة جمال عبدالناصر، الذي لم يصبح رئيسًا للجمهورية بعد، مع مجموعة من الطلاب العرب في الجامعات المصرية.









بشير المنتصر بين طلاب العلوم السياسية بجامعة القاهرة ويظهر بينهم المقدم علي إبراهيم أخ السيد حسن إبراهيم عضو مجلس قيادة الثورة المصري

كان ضباط الثورة لا زالوا غير معروفين لدى كل الناس، وقد جلس كل واحد منهم على مائدة ضمت مجموعة من الطلاب العرب، كما تبادلوا مقاعدهم على الموائد حتى يمكنوا جميع الطلاب العرب الحاضرين من مجالستهم جميعًا. وكان الحديث عن الكفاح ضد الاستعمار والقومية العربية والوحدة العربية، وقد أعربوا جميعًا عن سرورهم لوجودنا بينهم في مصر، وأننا سنكون رسل القومية العربية والوحدة العربية عندما نعود الى أوطاننا. وكان سرورنا عظيمًا لرؤية ضباط الثورة المصرية، وخاصة جمال عبدالناصر، في أوائل عهد حكومة الثورة، ولم يحضر معهم الرئيس محمد نجيب.
كانت دراستي الجامعية في مصر من أهم فترات حياتي، وقد بذلت جهدًا كبيرًا للاستفادة من وجودي في الجامعة. كان عدد المصريين بيننا نسبيًا أقل من نسبتهم العادية في أقسام الكلية والكليات الأخرى، وكانوا رغم قلة عددهم يتمتعون بمقدرات خاصة في اللغات الأجنبية، لأن بعضهم كان إما من أمهات أجنبيات، أو من أبناء الدبلوماسيين الذين قضوا شطرًا من حياتهم في الخارج وتعلموا في مدارس أجنبية قبل ثورة يوليو، كما كان بعض ضباط الجيش ضمن الطلاب، كما بينت، وقد دخلوا الكلية بعد الثورة لإعداد أنفسهم للعمل السياسي.
كانت المحاضرات ممتعة، وكان الخوض في علوم وشئون السياسة شيئًا جديدًا على الطالب العربي، بعد أن كانت حرامًا عليه. وكان الفكر الثوري ظاهرة جديدة أيضًا، كما كانت دراسة المذاهب الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية تطورًا للفكر العربي في علوم كان غير مسموح بها في العهد الملكي المصري. وكانت الكتب العربية في هذا المجال نادرة إن لم تكن مفقودة، ولهذا كان علينا الاعتماد على المصادر الأجنبية، وخاصة الإنجليزية. والسياسة على العموم هى ممارسة أكثر منها علم يدرس في الجامعة.










الفصل الثاني

العمل الحكومي بوزارة الخارجية

أنهيت دراستي الجامعية في يونيو 1956م وتحصلت على بكالوريوس التجارة في العلوم السياسية بدرجة جيد جدًا، وكنت أول دفعتي بين عدد من الطلاب العرب والمصريين الأكفاء الذين كانوا يأملون في هذا الشرف. وبتخرجي من الجامعة بدأت مرحلة جديدة في حياتي، ورجعت إلى الوطن بعد قضاء فترة خمس سنوات في مصر. وقد جرت خلال هذه الفترة أحداث كثيرة في ليبيا، كنت أتابعها عن بعد من القاهرة، وعن قرب خلال فترات العطلة الدراسية الصيفية في طرابلس، وكانت أخبار ليبيا غير مرضية. فالشعب كان يتعرض لإجراءات غير ديمقراطية، حيث ألغيت الأحزاب وزورت الانتخابات البرلمانية كما ذكر في الأخبار، ووقعت معاهدة تحالف مع بريطانيا واتفاقيات عسكرية مع بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ضد رغبات الشعب. كما أن الحالة الاقتصادية كانت سيئة للغاية، ومستوى الحكم كان متدنيًا على الصعيدين السياسي والثقافي، وانعكس هذا على إدارة البلد، وكانت العلاقات الليبية العربية سيئة. كل ذلك انعكس على تفكيرنا ونحن نعود إلى الوطن لنبدأ العمل مع الحكومة الليبية. وكانت بعثتنا أول بعثة ليبية تنهي دراستها بعد الاستقلال، وكان قد سبقنا من درس على حسابه الخاص.
حال رجوعنا إلى أرض الوطن عينتنا الحكومة، حسب تعهدنا بالعمل معها، بالدرجة الرابعة، ووزعنا على الوزارات المختصة. وعينت أنا وزميليّ السيدين عبدالله بن لامين وإبراهيم محمد الميت المتخرجين في كلية التجارة قسم العلوم السياسية في وزارة الخارجية، وكنا طبعًا غير راضين عن المستوى الذي عينا به. كنا فخورين بالشهادة الجامعية، وفاتنا أن الخبرة عامل مهم في العمل الوظيفي. وقد طلبنا من الحكومة إرسالنا إلى الخارج لمواصلة دراستنا العليا والحصول على الماجستير والدكتوراه، ولكن طلبنا رفض بحجة أن الحكومة بحاجة إلى العناصر المؤهلة، وهكذا بدأنا العمل.
ورغم أن الجو بيننا وبين زملائنا القدامى في الأيام الأولى لم يكن مرضيًا، لأن زملائنا القدامى شعروا بتخوف من منافستنا على الوظائف التي كان من المتوقع إنشاؤها بعد التوسع في كادر الوزارة، لكن سرعان ما اندمجنا معهم وسادت روح ودية وتعاون بيننا، واستفدنا من خبرتهم العملية، وعاملونا باحترام. وقد أسندت لي وظيفة مساعد لقسم الشئون العسكرية والسرية، وكان رئيس القسم آنذاك هو السيد منصور عثمان.
كان رئيس الحكومة في تلك الفترة السيد مصطفى بن حليم، وكان يتولى وزارة الخارجية بالإضافة إلى منصبه، وكان وكيل الوزارة هو السيد سليمان الجربي، ولم تكن لي معرفة مسبقة بهما. وبعد فترة أسندت لي وظيفة رئاسة قسم الشئون العسكرية بعد فصله عن القسم السري. كانت مهام القسم هي تنفيذ الاتفاقيات العسكرية مع بريطانيا وأمريكا، وتنسيق العمل بين السلطات الليبية والقوات الأجنبية عن طريق السفارتين البريطانية والأمريكية فيما يتعلق بالتدريبات العسكرية وتخصيص الأراضي وتعويضات الملاك والمتضررين من التدريبات والحوادث، وهي إجراءات طويلة ومشاكلها كثيرة. وفي هذه الفترة وقع الاعتداء الثلاثي على مصر سنة 1956م وهبّ الشعب الليبي غاضبًا في مظاهرات عارمة، وشوهدت القوات البريطانية في شوارع طرابلس وبنغازي التى خرجت لحماية الرعايا الأجانب إذا تعرضوا للخطر، وفرضت الحكومة الأحكام العرفية بما في ذلك منع التجول، مما زاد غضب الشعب بعد فترة هدوء نسبيًا تلت حوادث الانتخابات الأولى.
كان اعتقاد الشعب أن الاستعمار الذي تخلى عن الحكم المباشر، أصبح يباشر سلطاته عن طريق الحكومة الوطنية التي تعمل بمقتضى توجيهاته. ولم يكن أمام الشعب سوى الاستمرار في كفاحه ضد الاحتلال الأجنبي والمطالبة بالجلاء، خاصة بعد الاعتداء الثلاثي على مصر. وقد بثت وسائل الإعلام المصرية أن بريطانيا استعملت قواعدها في ليبيا في هجومها على مصر، رغم نفي السلطات الليبية، ولم يثبت هذا في أية وثائق رسمية بعد ذلك. أما بالنسبة لنا الذين درسنا في مصر ودخلنا العمل الحكومي فقد كانت السلطات تشك في إخلاصنا، خاصة أن بعض الطلاب العائدين من مصر كانوا قد انضموا إلى حركات سياسية، مثل حزب البعث والقوميين العرب والشيوعيين، وكانت تتقاذفنا تيارات كثيرة. وكان السؤال، هل يجب علينا التفرغ للعمل لبناء الدولة الليبية، أم التفرغ للكفاح الداخلي من أجل تحرير البلاد أولًا من الاستعمار والقوات الأجنبية، وذلك بالعمل مع القوى الوطنية.
لقد كنت، ولا أزال، من الفئة التي تؤمن بأن الإصلاح الإداري والتنمية في جميع مجالاتها لها الأولية لتعزيز الحرية والديمقراطية وجلاء القوات الأجنبية، فالإصلاح الإداري وتنمية الفرد وحريته عوامل هامة لخدمة الأهداف الوطنية. ومن السهل على السياسي في الوطن العربي أن يكون بطلًا وطنيًا، إذا جعل من القضايا الوطنية، مثل المطالبة بالجلاء ومحاربة الاحتلال الأجنبي، وسيلة لكسب الجماهير. ومن النادر أن تجد السياسي العربي الذي يصارح مواطنيه بالصعوبات التي تعترض طريق الإصلاح، وبناء صرح الاستقلال والتنمية، والوقت اللازم لتحقيق ذلك. وكنت، ومازلت، ضد تحريض الجماهير لكسب تأييدها على حساب المصلحة العامة. وقد أدت السياسة العربية الرسمية إلى خلق رأي عام غير متعاون مع السلطة، فرغم الهزائم المتكررة في فلسطين وغيرها، لم يقم القادة بمصارحة الشعب بالأسباب الحقيقية لمثل هذا المصير، وهي التخلف والجهل والمرض.
إن الظروف السياسية الدولية، وللأسف، لازالت لا يفهمها المواطن العادي، لأن تفكيره يقوم على المبادئ الأخلاقية والوطنية، بينما يجد السياسي أوضاعًا سياسية خارجية تقوم على المصالح وعامل القوة، خاصة في ضوء التقدم التيكنولوجي. فالدول الكبرى جعلت من المبادئ النبيلة، مثل حقوق الإنسان والحريات والعدالة، شعارات إعلامية لإخفاء سياساتها الحقيقية المبنية على المصالح والسيطرة.
كانت التيارات السياسية في العالم العربي تعصف بالشباب العربي في مقاعد الدراسة وفي مجالات العمل. وانضم الكثيرون إلى الأحزاب والحركات السياسية التي قامت في الوطن العربي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، مثل حزب البعث والقوميين العرب والشيوعيين وغيرهم، ووصل بعضهم إلى السلطة وبقي البعض الآخر يعمل سرًا للوصول إلى الحكم. وقد زاد هذا الاختلاف في المبادئ من حيرة الشباب وسط الضباب الفكري الذي عم الوطن العربي. وقد علمت الحكومة الليبية بالحزبيين ونشاطهم السري، فسجن من سجن، وأبعد من أبعد عن العمل الحكومي، وساعد هذا على خلق جو من عدم الثقة بين الطبقة المثقفة والمسئولين في الحكومة.
بعد قضائي فترة في قسم الشئون العسكرية بوزارة الخارجية، أسس في الوزارة قسم للشئون التجارية والاقتصادية، وأسندت رئاسته لي، وقد سررت بذلك، لأنه يتناسب مع تخصصي ويساعدني على الاستعداد لمواصلة دراستي عندما يحين الوقت.

تغـيير في الـوزارة
وفي الوقت نفسه حدث تغيير وزاري إثر صراع بين السيد مصطفى بن حليم وأصدقاء وأنصار السيد البوصيري الشلحي ناظر الخاصة الملكية في الوزارة، مثل الدكتور علي الساحلي وزير الخارجية والدكتور محي الدين فكيني وزير العدل، وقد عين في هذا التعديل الجديد السيد عبدالمجيد كعبار، الذي كان رئيسًا لمجلس النواب، نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للخارجية. وكما ذكرت سابقًا، لا أريد التعرض بالتفصيل لفترات الحكومات الليبية السابقة لدخولي العمل الحكومي برئاسة السادة مصطفى بن حليم ومحمد الساقزلي ومحمد عثمان الصيد ومحمود المنتصر الأولى، وكذلك حكومة الدكتور محي الدين فكيني وبعض فترة حكومة السيد عبدالمجيد كعبار، لأنني كنت في هذه الفترة في الخارج، إما للدراسة الجامعية في القاهرة 1951- 1956م، أو للعمل في الخارج في سفارتي ليبيا في لندن والقاهرة من 1958 إلى 1962م، وفي ديوان وزارة الخارجية في الفترة من 1963 إلى يناير 1964م. وحرصًا على تسلسل الأحداث السياسية في العهد الملكي، فإني سأتعرض لبعض الأحداث في هذه الفترات، التى تغيبت فيها عن البلاد، والتي عرفت عنها بعض المعلومات من المسئولين الذين عايشوا هذه الأحداث، وإطلاعي على الوثائق التي حفظت في خزائن رئاسة مجلس الوزراء.
بعد أن تولى السيد عبدالمجيد كعبار وزارة الخارجية، عين السيد وهبي البوري وكيلًا للوزارة بدلًا من السيد سليمان الجربي، والذى نقل هو والوكيل المساعد الأستاذ عمر الباروني إلى سفارتي ليبيا في واشنطن ولندن على التوالي، وبقيت أنا في قسم الشئون التجارية والاقتصادية خلال هذه الفترة. وكانت أهم أعمال القسم التجاري والاقتصادي هي المشاركة والتنسيق للمباحثات التجارية بين ليبيا والدول الأجنبية، وأذكر أن أول عمل قمت به في هذا الشأن، كان مشاركتي في المباحثات التجارية بين ليبيا واليونان. وكان الوفد الليبي يتألف من مستشار وزارة المالية المستر بيت هارديكر وموظفين من وزارة المالية ونظارات المالية في الولايات والغرف التجارية فيها ومن وزارة الخارجية التي أمثلها، ولأول مرة أشارك في موضوع هام حاولت فيه إظهار اجتهادى كمبتدئ في معالجة الأمور عمليًا.





السيد عمر الباروني السيد وهبي البوري
كان مستشار وزارة المالية المستر بيت هارديكر آنذاك يتمتع بنفوذ كبير، ورغم أنه موظف ليبي، إلا أنه منتدب ضمن الخبراء الذين تعتمد عليهم بريطانيا في الإشراف على تنفيذ الاتفاقية المالية بين بريطانيا وليبيا، لهذا كان دوره هامًا في أي عمل يشارك فيه. ورغم أنه قبل بعض مقترحاتي في مشروع الاتفاقية، إلا أنه لم تعجبه جرأتي في حضوره للتدخل في النواحي الفنية، وكنت دائمًا مؤيدًا من أعضاء الوفد الليبي. وأذكر أن أهم مداخلات أعضاء الوفد الليبي كانت من جانب السيد عوض لنقي رئيس الغرفة التجارية ببرقة، وقد أعجبت بصراحته وانتقاده لتصرف التجار اليونانيين في تعاملهم مع التجار الليبيين، وكان يتكلم عن خبرة عملية كتاجر له علاقة بتجارة ليبيا مع اليونان في مجال الأغنام. والسيد عوض لنقي هو أخ السيد يوسف لنقي عميد بلدية بنغازي الذى عرف بالشهامة والجرأة، وكان لقراراته الحاسمة في تنفيذ مشاريع المرافق والخدمات العامة العامل الأكبر في إعمار مدينة بنغازي، وإعادة الحياة إليها بعد الدمار المريع الذى أحدثته الغارات الجوية للحلفاء والمحور في الحرب العالمية الثانية. وقد توفي السيد يوسف لنقي سنة 1958.





السيد يوسف لنقي
وأود هنا أن أسجل بأن المستر بيت هارديكر كانت له مواقف حميدة في السنوات الأخيرة للعهد الملكي. لقد استدعي من النمسا، حيث تقاعد هناك بعد انتهاء عمله مع الحكومة الليبية، من طرف رئيس الوزراء السيد محمود المنتصر عندما ألف وزارته الثانية سنة 1964م، وعينه مستشارًا اقتصاديًا لرئيس مجلس الوزراء، وكان في هذه الفترة غير مرتبط بحكومته في عمله، رغم أن البريطانيين رحبوا بهذا التعيين ليكون قناة وصل للمعلومات وللاتصالات غير الرسمية بين السلطات الليبية والسفارة البريطانية. وقد استطاع أن يقف في وجه بعض الشركات البريطانية التي حاول مدراؤها ووسطاؤها استغلال علاقتهم مع الملك للحصول على عقود لمشاريع كبيرة دون دراستها مع الوزراء المختصين ومستشاري الحكومة مقدمًا، وذلك بلفت نظر الحكومة البريطانية عن طريق السفير البريطاني في ليبيا إلى خطورة مثل هذه المحاولات والتدخلات وتضايق المسئولين الليبيين منها. فمثلًا كانت بعض الشركات البريطانية غير راضية عن السياسة الليبرالية للدكتور علي عتيقة وزير التخطيط والتنمية، الذي كان يعارض مثل هذا التدخل، وفي الوقت نفسه يحظى باحترام المستر بيت هارديكر والمستشارين الإنجليز.
وفي الحقيقة كان معظم المستشارين البريطانيين مخلصين في عملهم مع الحكومة الليبية، وحرصوا على حيادهم كفنيين قبل أن يكونوا بريطانيين، وكان يهمهم تنفيذ مشارع التنمية بشكل سليم لخدمة الاقتصاد الليبي والتجاوب مع مصالح الشعب الليبي. لقد تغيرت سياسة الحكومة البريطانية في المجال المالي والتجاري في الفترة الأخيرة، فبعد أن كانت تشجع الحكومة الليبية على الاقتصاد في النفقات، عندما كانت ليبيا تعتمد على مساعدات بريطانيا المالية، أصبحت تشجع الحكومة الليبية على الإنفاق والتعامل مع الشركات البريطانية بعد تزايد الدخل من البترول.
في تلك الفترة التي كنت فيها في القسم التجاري في وزارة الخارجية كانت ليبيا تعمل على تشجيع صادراتها من المنتوجات الزراعية والحيوانية، وكانت جل صادراتها من الخضراوات والفواكة وزيت الزيتون إلى إيطاليا، والأغنام إلى اليونان ومصر، واستغلال الشواطئ الليبية لصيد السمك وجمع الإسفنج، الذى كانت تقوم بها السفن اليونانية، التي كانت تهرب معظمه إلى اليونان دون المرور بليبيا. وكانت صادرات ليبيا إلى إيطاليا من المنتوجات الزراعية تتمتع بمعاملة الدولة الأكثر رعاية، وكانت معفية من رسوم الاستيراد بإذن من "الغات" (GATT منظمة الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة)، التي ترتبط به الأطراف المتعاقدة من الدول الأوروبية والأمريكية التي تتبع التجارة الحرة. وكانت إيطاليا تشجع الصادرات الليبية خدمة للمزارعين الإيطاليين الذين بقوا في ليبيا بعد الاستقلال.
كانت ليبيا من أفقر الدول الإفريقية وتحتاج إلى مساعدات على المستوى الثنائي وعلى المستوي الدولي. وكان على ليبيا تقديم تقرير سنوي إلى الاجتماع السنوي لمنظمة "الغات" في جنيف حول إعفاء الصادرات الليبية إلى إيطاليا من الرسوم الجمركية، لتتأكد الدول المصدرة لنفس المنتوجات من حاجة ليبيا لهذه المساعدة قبل الموافقة على تمديدها. وأذكر أني حضرت معظم اجتماعات "الغات" حتى عندما كنت في السفارة الليبية في لندن مع مدير الجمارك الليبية آنذاك السيد خليفة موسى. وكانت مهمة الوفد الليبي تقديم التقرير الليبي وإلقاء كلمة لشكر الحكومة الإيطالية ومنظمة "الغات" على مساعدتهما، والمطالبة بتمديد الإعفاء الجمركي في إيطاليا للصادرات الليبية. وأذكر أن أكثر الدول المعارضة لاستمرار الإعفاء كانت البرازيل، وهي أكبر دولة مصدرة للمنتوجات الزراعية آنذاك. ومن المهام التي طلب مني القيام بها في القسم التجاري، المشاركة في المباحثاث التجارية بين ليبيا وتونس، التي نجمت عنها اتفاقيات ثنائية في ميادين مختلفة.









1959م- أثناء إحدى اجتماعات (الغات) بجنيف. أعضاء الوفد الليبي المكون من بشير السني المنتصر والسيد خليفة موسى مدير الجمارك الليبية (في وسط الصورة) وعلى يمينه السيد عبدالرحيم النعاس مندوبًا عن وزارة الاقتصاد والتجارة

حكومة السيد عبدالمجيد الهادي كعبار
بعد استقالة السيد مصطفى بن حليم في مايو 1957 كلف الملك السيد عبدالمجيد كعبار بتأليف الحكومة. لم أكن أتوقع أن يؤثر هذا الحدث في حياتي الوظيفية، وأن أواجه قرارًا صعبًا. فالسيد عبدالمجيد كعبار كان يعرف أني أعمل في وزارة الخارجية التي كان وزيرها في فترة حكومة السيد مصطفى بن حليم الأخيرة. وكنت أعرفه جيدًا من قبل للعلاقات العائلية، فهو متزوج من شقيقة السيد محمود المنتصر وابنة عم والدتي، وكان أحد أركان حزب الاستقلال، وقد تعرفت به على مائدة السيد سالم المنتصر رئيس حزب الاستقلال عندما كنت طالبًا في المدرسة الثانوية.
أرسل لي السيد عبدالمجيد كعبار عن طريق والدي عرضًا بأن أعمل معه كسكرتير خاص. وقد فوجئت بهذا العرض، خاصة وأني كنت أريد مواصلة دراستي العليا في الاقتصاد، بالإضافة إلى عملي في السلك الدبلوماسي في سفارات ليبيا في الخارج. كنت أعتقد أنني أستطيع الجمع بين العمل فيها والدراسة، وخاصة إذا عينت في القاهرة أو لندن، ولكن عرض رئيس الوزاء كان مغريًا، فقبول وظيفة السكرتير الخاص لرئيس الوزراء سيحسن وضعي الوظيفي من الدرجة الرابعة إلى الثالثة ولو بالوكالة لأنني سأبقى منتدبًا من وزارة الخارجية، كما أن الوظيفة تتيح لي الاجتماع والتعرف على الوزراء وأعيان البلاد وأكون قريبًا من أصحاب القرار، وهو ما قد يسهل موضوع إتمام دراستي العليا والعمل الدبلوماسي. كانت هذه أحلام شباب.
بعد قبولي العرض رسميًا تمت إعارتي من وزارة الخارجية إلى رئاسة مجلس الوزراء، وعينت سكرتيرًا خاصًا لرئيس مجلس الوزراء بالدرجة الثالثة بالوكالة، واستلمت العمل من السكرتير السابق للسيد مصطفى بن حليم السيد عبدالستار الثلثي. كان الجو في رئاسة مجلس الوزراء يختلف عن أجواء وزارة الخارجية، فمعظم العمل موجه للشئون الداخلية والتعامل مع الوزراء وكبار الموظفين وأعضاء البرلمان ومشايخ القبائل ومستشاريها، وكان الكل يمر بمكتبي قبل الدخول على رئيس الوزراء.
كانت إدارة شئون الدولة في تلك الفترة محدودة الإمكانيات في جميع المجالات. وكانت الحكومة الاتحادية محدودة الاختصاصات الدستورية، ولم تكن تسيطر على الولايات، التي كانت تتمتع بسلطات واسعة في الشئون الداخلية والأمن، وفي الاقتصاد والتجارة والأشغال العامة، ولها السيطرة على كل المجالات الداخلية. وتسيير العمل في مثل هذه الحالات يتوقف على مقدرة رئيس الوزراء في التعامل مع الولاة ومدراء الأمن وكسب ثقتهم وصداقتهم للعمل سويًا للصالح العام، وكذلك على تمتع رئيس الوزراء بثقة الملك ودعمه له، لأنه كان السلطة الوحيدة التي لا يستطيع أحد مخالفتها.
كان معظم المسئولين في تلك الفترة من الجيل القديم الذين لو أتيحت لهم فرص التعليم العالي في العهد الإيطالي لكان دورهم أكثر فعالية، إذ كانوا يتمتعون بذكاء فطري وخبرة في التعامل مع الناس ومشاكلهم والتعاطي مع الأزمات واقتراح الحلول، وهو ما يستحقون عليه كل الإعجاب والتقدير. فقد استطاعوا تسيير أمور البلاد بكفاءة وإخلاص، وكانوا أقدر من الشباب على إبداء آرائهم بصراحة للملك، وكان هو بدوره يستمع إلى آرائهم ويتقبل مقترحاتهم بصدر رحب، وكان الملك في نفس الوقت صارمًا لا يقبل من أحد التساهل أو التغاضي عن تعليماته التي قد تشمل في بعض الأحيان صغائر الأمور، ولكنه في الفترة الأخيرة من حكمه أصبح أقل تقبلًا للرأي الآخر، ويشك في أقرب الناس إليه، ولا يعطي الوقت الكافي لشئون الدولة والتشاور مع رؤساء وزرائه، ونادرًا ما يطلب المشورة من وزرائه على انفراد أو مجتمعين.
كان يتم الاتصال بينه وبين رئيس الوزراء عن طريق سكرتيره الخاص وليس عن طريق رئيس الديوان وجهازه القانوني ومستشاريه، كما كان العمل به في السنوات الأولى للاستقلال. كان لا يعطي اهتمامًا لرأي الشعب في الشارع إلا متأخرًا وقت الأزمات، وكثيرًا ما يختلف مع حكوماته في الحلول المطروحة للمشاكل القائمة رغم موافقته على ما يقترحون عليه دون التقيد بها، مما جعل بعض السفراء الأجانب الذين يتعاملون مع الحكومة ويتشاورون مع الملك في حيرة من مصداقية القرار الليبي ويضطرون للتعامل المزدوج، مما يحرج رؤساء الحكومات والوزراء، وكثيرًا ما تتم استقالة رؤساء الحكومات بسبب مثل هذه الحالات.
عندما استلمت عملي كسكرتير خاص لرئيس الوزراء اكتشفت أن مستوى العمل لا يزيد عن شئون سكراتيرية وتشريفات، كتحديد مواعيد رئيس الوزراء ومقابلاته، وإعداد مراسلاته الخاصة والسرية مع الملك والولاة ومدراء قوات الأمن فيها ورئيس أركان الجيش ومدير البوليس الاتحادي. كانت معظم هذه المراسلات تتم بطريق رموز الشفرة، لأن خدمات الهاتف لم تكن في مستوى فني متقدم لضمان سريتها. وكان عمل رئاسة الوزراء في ما عدا ذلك يتولاه مدير مكتب رئيس الوزراء، وكان في تلك الفترة هو الأستاذ سلطان الخطابي، وخلفه السيد رمضان المصري، وكان يتولي مهام سكرتير عام مجلس الوزراء السيد مصطفى بن سعود، الذي تولى هذا المنصب بعد ذلك مع جميع رؤساء الوزارات حتى الفاتح من سبتمبر 1969، باستثناء فترة الدكتور محي الدين فكيني.
ولا شك أن طبيعة عملي لم تكن في المجال الذي كنت أصبو إليه، وكنت أطمح في القيام بوظائف فنية تعدني لحياة أكاديمية في المستقبل. وقد صارحت رئيس الوزراء واقترحت توزيع الاختصاصات في الرئاسة، وإنشاء وظائف فنية وتنسيق تتولى دراسة ما يعرضه الوزراء، وتقديم المشورة لرئيس الوزراء، إلا أنه رفض ذلك بحجة أنها سابقة قد يعارضها الوزراء المختصون بحجة تدخل المستشارين في شئونهم.
كان عمل الحكومة محدودًا ودورها في الشئون الخارجية والدولية ضئيلًا، فلم تكن لليبيا مشاكل مع دول الجوار أو دول التحالف، كذلك كان دورها في مجال الاقتصاد والتجارة لا يكاد يذكر. فليبيا دولة فقيرة تعتمد ميزانيتها الإدارية على المساعدات البريطانية وميزانية التنمية على المساعدة الأمريكية، وما تجود به الدول المانحة والأمم المتحدة، وهذا قليل لا يكاد يذكر، ودورها في شئون الدفاع كان في بدايته. ورغم ذلك كان رؤساء الحكومات والوزراء وكبار الموظفين متحمسين لبلادهم وحريصين على مصالحها وعلاقاتها. وليس هناك صحة لما يقال إن الحكومات الليبية في العهد الملكي كانت مسيرة من طرف بريطانيا وأمريكا، فلا يوجد تدخل بالمعنى المعروف، وكان التعامل مع الحكومة الليبية يتم في حدود السيادة، ويقتصر على التشاور وإبداء النصائح على مستوى السفراء للحفاظ على الصداقة والمصالح المتبادلة.
كان المسئولون الليبيون حريصين أكثر من حلفائهم البريطانيين والأمريكيين على حماية بلادهم من الحركات الناصرية والقومية والبعثية ودول الجوار. ولم تكن لأمريكا مشاكل مع عبدالناصر الذي كان يتجنب الضغط عليها لمساعدته في نزاعه مع إسرائيل. وحتى بريطانيا لم تعد ليبيا في رأيها مركز حماية لمصالحها في المنطقة بعد فشل الاعتداء الثلاثي على مصر وفقدان قناة السويس وتحجيم دورها في شئون المنطقة، ولهذا كان التحالف الغربي الليبي في صالح الطرفين وغير مفروض، كما كانت الدعاية العربية تثير الشعب الليبي، وتتهم الحكومات الليبية بالعمالة.
بعد أن تولى السيد عبدالمجيد كعبار الوزارة تقرر نقل الحكومة الاتحادية إلى مدينة البيضاء ثم إلى بنغازي. وكانت مدينة البيضاء في تلك الفترة مدينة صغيرة جميلة تتوسط الجبل الأخضر الجميل وتشعر فيه كأنك في جبال وغابات أوروبا، وقد بنيت فيها بضعة فيلات لإقامة أعضاء الحكومة، كما خصص مبنى عادي قديم من عهد إيطاليا ليكون مقرًا للحكومة.
كانت الشئون المالية في الدولة يتولاها وكيل وزارة المالية السيد عبدالرزاق شقلوف، وكان له القدح المعلى، لعلاقته بالملك، الذي كان يحبه ويعطف عليه ولا يقبل فيه كلمة سوء. وكان مدير المالية الإنجليزي المستر ديفز، الذي عين في أوائل الاستقلال، لتتأكد بريطانيا على أن مساعداتها تصرف وفقا للوائح والقوانين، قد استمر في العمل مع النظام الملكي بعد أن انتهت علاقاته الرسمية مع حكومته بريطانيا.
كان لا يستطيع أحد التدخل في سلطات السيد عبدالرزاق شقلوف أو في تصرفه، وكان مستقلًا في اتخاذ القرار، وكان هذا موضع تعليق في المجالات الحكومية والشعبية. وكان في نفس الوقت يتمتع بثقة جميع رؤساء الحكومات الذين عمل معهم لطبيعته السمحة وإخلاصه ونزاهته شخصيًا. كان شهمًا ومتعلمًا وملمًا بعمله ويحبه الجميع، وكان نشاط التنمية والمساعدات الأمريكية يدخل ضمن اختصاصاته. ورغم أن الأمريكيين كانوا غير راضين عن تصرفاته، إلا أنهم كانوا يعرفون نفوذه عند الملك ويتعاملون معه وفقًا لذلك، كما كان موضع ثقة وزراء المالية جميعًا الذين عمل معهم.
بعد انتهاء الصيف انتقلت الحكومة إلى بنغازي وأقمنا فيها، وكانت لا زالت تعاني من دمار الحرب وكانت الحركة فيها محدودة، خاصة بعد أن هجرها الإيطاليون واليهود منذ الحرب، وكانت عليها الصبغة العربية الشرقية لوجود عدد من العمال العرب. كان فندق البرنيتشي المتنفس الوحيد للسفراء وغيرهم، رغم أن السفارات الكبيرة كانت تحتفظ ببيوت ضيافة لموظفيها وضيوفها.
كان معظم المراجعين لرئيس الوزراء في البيضاء وبنغازي من مستشاري ومشايخ قبائل برقة للحصول على مزايا لهم ولقبائلهم، ويعتبرون أنفسهم هم أهل الدار وحصن البلاد وسند ملك البلاد ولهم الحق في قطف ثمار الاستقلال. وكان رجال القبائل في برقة، الذين استولوا على مزارع الإيطاليين وتقاسموها، جعلوها مرتعًا لأغنامهم وأبقارهم وجمالهم، واعتمدوا على المساعدات والمعاشات الحكومية في حياتهم.
كان تجار بنغازي أحسن حالًا من تجار طرابلس الليبيين. فقد ترك الإيطاليون واليهود مدينة بنغازي واستولى التجار الليبيين فيها على جميع الوكالات التجارية والمنشآت الزراعية والصناعية الخفيفة التي كانت قائمة، وقد أصبح منهم عدد من كبار الأثرياء وملاك الأراضي. كما كان نقل الحكومة من طرابلس إلى بنغازي مصدرًا هامًا لنمو التجارة وأعمال البناء والصيانة، بينما بقت كل الوكالات التجارية والمنشآت الصناعية وحتى المزارع الكبيرة في مدينة طرابلس في أيدي الإيطاليين واليهود، مما جعلها ذات طابع أوروبي ومكان إقامة السفراء ورجال السلك الدبلوماسي، ومقرًا للشركات البترولية التي بدأت تأتي بحثًا عن البترول، وزادها وجود قاعدة الملاحة الأمريكية فيها إلى تضاعف النشاط التجاري.
من أهم الأحداث العربية التي حصلت في أول فترة حكومة السيد كعبار هو الانقلاب في العراق بقيادة عبدالكريم قاسم. وقد أثار هذا الانقلاب غضب وسخط الملك على الطريقة التى قتل بها الملك فيصل وولي العهد عبدالإله والسيد نوري السعيد رئيس الوزراء الشهير، ومنع الملك الحكومة الليبية من الاعتراف بالحكومة العراقية الجديدة حتى بعد اعتراف كل دول العالم بما فيها الدول العربية، ولا زلت أذكر ملابسات هذا الحدث.
فقد استطاع رئيس الوزراء السيد عبدالمجيد كعبار الاتفاق مع الملك على الاعتراف بالنظام العراقي الجديد بعد فترة من الزمن أثناء مقابلته له في طبرق. وقد رجع رئيس الوزراء مسرعًا إلى بنغازي، ودعى مجلس الوزراء للانعقاد على عجل، وتقرر اعتراف ليبيا بالنظام الجمهوري في العراق، وأعددت بدوري لرئيس الوزراء برقية تهنئة لعبدالكريم قاسم. وتم استدعاء القائم بالأعمال العراقي، الذي بقي في ليبيا رغم عدم الاعتراف بالنظام الجديد، وإبلاغه اعتراف المملكة الليبية رسميًا بالنظام الجديد في العراق والحكومة العراقية.
وأثناء هذه الاتصالات وصلت برقية مستعجلة من الملك بالشفرة إلى رئيس الوزراء قمت أنا بفتح رموزها كالعادة، وما أن قرأتها حتى ذهلت من محتوياتها وأسرعت بها لرئيس الوزراء، ولا زلت أتذكرها حرفيًا وهي كما يلي: "بعد الإشارة إلى موضوع العراق الذي تكلمت معكم حوله، أود إفادتكم بأني فكرت البارحة مليًا ولم يغمض لي جفن، وبعدها قررت بعون الله عدم الاعتراف بحكومة القتلة، ووجدت أن مخالفة العالم أهون علي من الاعتراف بالباطل، ولهذا يطلب منكم عدم الاعتراف بالنظام العراقي".
وفورًا دعي مجلس الوزراء إلى الانعقاد، وقررت الحكومة تقديم استقالتها أذا أصر الملك على رأيه. ودعي إلى اجتماع مجلس الوزراء الدكتور عبدالسلام البوصيري رئيس الديوان الملكي آنذاك، وطلب منه إبلاغ قرار المجلس بالاستقالة إلى الملك، وإعلامه بأن قرار الاعتراف قد أبلغ رسميًا لحكومة العراق وليس من المستطاع التراجع فيه. وبعد اتصالات مكثفة وتدخلات رئيس الديوان، وجد الملك نفسه في موقف لا خيار فيه سوى سحب اعتراضه على قرار الحكومة بالاعتراف، فقبول استقالة الحكومة وإلغاء قرار الاعتراف بالنظام العراقي الجديد يجعله في موقف محرج مع الشعب الليبي والدول العربية.






الرئيس عبدالكريم قاسم
والموقف الآخر المماثل الذي لا زلت أذكره، هو أن الملك غضب غضبًا شديدًا على مظاهرة وطنية قام بها طلبة معهد المعلمين بطرابلس، وأرسل برقية لرئيس الوزراء بالشفرة طالبه فيها بتسفير جميع المدرسين المصريين حالًا، لأنه قيل له من طرف الحاشية أن المدرسين المصريين شجعوا الطلاب على المظاهرة. وقد جرت عقب ذلك اتصالات مكثفة بين والي طرابلس والقصر الملكي وشرحوا للملك صعوبة تسفير المدرسين في منتصف السنة الدراسية، وقد وافق الملك على عدم تسفيرهم بشرط عدم انتدابهم مستقبلًا في السنة الدراسية القادمة. ومنذ ذلك الحادث حرص الملك على عدم الموافقة على زيادة المدرسين المصريين، رغم حاجة البلاد إليهم، واضطرت الحكومة إلى البحث عن مصادر عربية أخرى للحصول على المدرسين.
والموقف الآخر الذي أذكره من المراسلات السرية بالشفرة بين الملك ورئيس الوزراء، هو أن الملك غضب مرة على رئيس المجلس التنفيذي لولاية فزان السيد سيف النصر عبدالجليل لكثرة سفره إلى مصر، فأرسل له الملك برقية عن طريق رئيس الوزراء وليس عن طريق والي فزان، يأمره فيها بالعودة حالًا إلى مقر عمله في فزان، وإلا فإنه، أي الملك، ليس في حاجة إلى خدماته.
من الأحداث الهامة أيضًا في هذه الفترة انعقاد مجلس الجامعة العربية في بنغازي لفض الخلاف بين سوريا ومصر، وكان اجتماعا فاشلًا، وتعذر فيه الوصول إلى أية نتيجة، رغم مساعي رئيس الوزراء السيد عبدالمجيد كعبار، الذي ترأس الاجتماع، والسيد عبدالخالق حسونة الأمين العام للجامعة العربية.

المفاوضات حول الاتفاقية المالية مع بريطانيا
في سنة 1958م حان موعد إعادة النظر في الاتفاقية المالية مع بريطانيا التي تنص على إعادة النظر فيها كل خمس سنوات. وكانت بريطانيا تريد التخلص من بعض العبء المالي لتغطية عجز الميزانية الليبية لأسباب كثيرة، أهمها تناقص حاجة بريطانيا إلى قواعدها العسكرية في ليبيا بعد فشلها في حرب السويس وفقدانها السيطرة على القناة وتقلص نفوذها في الشرق الأوسط، وتولي أمريكا المركز القيادي للنفوذ الغربي في المنطقة، ولهذا شعرت بريطانيا بأنه على أمريكا أن تتحمل العجز في الميزانية الليبية نظرًا لقلة ما تدفعه لها مقابل منشآتها العسكرية الكبيرة فيها. ونظرًا لأهمية هذه المباحثات تقرر إجراؤها في لندن قريبًا من أصحاب القرار فيها.
ألف الوفد الليبي للمفاوضات برئاسة السيد عبدالمجيد كعبار رئيس مجلس الوزراء وعضوية السيد عبدالرزاق شقلوف وكيل وزارة المالية والأستاذ عمر الباروني وكيل وزارة الخارجية، وتولى السيد حسن أبوخريص من الخارجية سكراترية الوفد. ورافقت بدوري رئيس الوزراء كما رافقه ياوره الخاص العقيد عبدالسلام الكتاف. كانت هذه أول زيارة لرئيس وزراء ليبيا السيد عبدالمجيد كعبار إلى بريطانيا وأوروبا بصفة عامة. وفي لندن انضم إلى الوفد السفير الليبي الدكتور علي الساحلي، ونزلنا ضيوفًا على الحكومة البريطانية في فندق (جروفنر هاوس) بارك لين.
بدأت المفاوضات في وزارة الخارجية البريطانية وتولى وزير الخارجية البريطاني المستر سلوين لويد رئاسة الوفد البريطاني يساعده عضوان من وزارة الخارجية والمالية. وكان رئيس الوزراء السيد عبدالمجيد كعبار يملي علي بعد كل جلسة تفاصيل ما جرى في المفاوضات ويطلب مني إرساله إلى الملك، وكثيرًا ما كان يطلب رأيه وتعليقه في بعض المقترحات التي تقدم من الجانب البريطاني.










وكما كان متوقعًا كان الوفد البريطاني مصرًا على تخفيض قيمة المساعدة البريطانية بحجة وضع بريطانيا المالي واستعداد الولايات المتحدة بتغطية أي عجز لليبيا في ميزانيتها. وكان الملك يبعث ببرقياته اليومية إلى رئيس الوزراء بالشفرة يحثه فيها على التمسك بالمبلغ الذي تعهدت به بريطانيا عند توقيع الاتفاقية، لأن ليبيا مازالت في حاجة ماسة إلى المساعدة المالية وثقة ليبيا في بريطانيا كبيرة. أما الاقتراح البريطاني بقيام أمريكا بتغطية عجز الميزانية الليبية فيرى الملك رفضه، ويمكن لبريطانيا أن تسترد من أمريكا ما تدفعه إلى ليبيا، لأن ليبيا لا تريد أن تكون تحت رحمة أمريكا، فهي تقدم مساعداتها بشروط ولا تدفع مخصصات المساعدة إلى الخزينة الليبية مباشرة، ولا تستطيع ليبيا الاعتماد عليها لإدراجها في الميزانية التي تقدم للبرلمان وفق حاجات البلاد ومقترحات البرلمان.
وجملة ما تقدمه أمريكا لليبيا من مساعدات حتى ذلك الوقت هو دفع مرتبات الخبراء الأمريكيين العاملين في مشاريع التنمية في ليبيا وقيمة ما يستورد منها من آلات ومواد لهذه المشاريع، بينما تخصص المساعدة البريطانية لتغطية عجز الميزانية للمصروفات التي لا يمكن تغطيتها من إيرادات الدولة وتدفع على أربع دفعات سنوية إلى الخزانة الليبية نقدًا. ورفع الوفد البريطاني في الجلسات الأخيرة مبلغ المساعدة إلى خمسة ملايين جنيه استيرليني، وهو أقل من المبلغ الذي التزمت به بريطانيا في سنة 1953، ولكنه أعلى مما كان متوقعًا، مع تعهد بريطانيا بالسعي لدى الولايات المتحدة لتغطية ما تبقى من العجز في ميزانية ليبيا.
وكانت أخر تعليمات الملك لرئيس الوزراء أن يحاول زيادة المساعدة إلى ما كانت عليه، فإذا أصر البريطانيون على المبلغ المقترح فيقبل من الجانب الليبي، وعدم رجوع الوفد الليبي دون التوصل إلى اتفاق معهم، ورفض فكرة إحلال المساعدة الأمريكية محل المساعدة البريطانية بأي شكل من الأشكال. وتصميم الملك على استلام المساعدة من بريطانيا بدلًا من أمريكا يدل على عدم ثقته في الولايات المتحدة الأمريكية لأسباب كثيرة لديه، وكان يخشى تخلف بريطانيا عن الدفع فيصبح تحت سيطرة أمريكا سياسيًا وماليًا وهو ما لا يريده، لأنه يعتقد أن أمريكا كانت وراء الانقلابات العسكرية ضد الملوك في البلاد العربية.







1958م- السيد عبدالمجيد كعبار رئيس الوزراء (في وسط الصورة) وعلى يمينه السيد محمود المنتصر السفير الليبي في روما وعلى يساره السيد عبدالرزاق شقلوف وكيل وزارة المالية ومعهم بشير السني المنتصر والعقيد عبدالسلام الكتاف ياور رئيس الوزراء أثناء مرور الوفد الليبي بروما في طريقه إلى لندن لإجراء مفاوضات مالية

هذا وقد تناولت المحادثات استعراض الوضع السياسي في الشرق الأوسط وموقف الرئيس عبدالناصر المتصلب ضد المصالح البريطانية، ورغبة بريطانيا الجادة في تحسين علاقاتها مع جميع الدول العربية بما فيها مصر. وقد شرح رئيس الوزراء بدوره سياسة ليبيا وأملها في تحسن العلاقات البريطانية المصرية لأن ذلك يساعد على استقرار المنطقة ومن بينها استقرار الوضع في ليبيا، كما أكد التزام ليبيا بأي قرار يجمع عليه العرب بشأن فلسطين، وطلب من بريطانيا بذل جهودًا مع أمريكا لمساندة الحقوق العادلة
للشعب الفلسطيني وإيجاد حلول عادلة لقضيته. وكذلك طلب من بريطانيا مساعدة الشعب الجزائري، وبذل مساعيها لدى فرنسا للاعتراف باستقلال الجزائر، بدلًا من استمرار الحرب ونشر عدم الاستقرار في المنطقة. وأوضح المستر سلوين لويد وزير خارجية بريطانيا اهتمامه الخاص بتحسين علاقات بريطانيا مع الدول العربية وبذل جهوده مع حلفائها لتحقيق هذا الهدف.
رجع الوفد الليبي المفاوض إلى بنغازي واعتبرت الحكومة نتيجة المفاوضات نجاحًا، فقد كان هناك شك في قبول بريطانيا الاستمرار في دفع مساعدات للميزانية الليبية بعد تعهد أمريكا بتقديم المزيد من مساعداتها لليبيا. ورحب البرلمان بمجلسيه بالاتفاق، رغم تخفيض مبلغ المساعدة البريطانية. وكان الاعتقاد السائد أن نجاح المفاوضات الليبية البريطانية سينعكس في زيادة المساعدة الأمريكية كما وعد الوفد البريطاني.

العودة إلى وزارة الخارجية
برجوعي من لندن مع الوفد الليبي للمفاوضات قررت مفاتحة رئيس الوزراء برغبتي في العودة إلى وزارة الخارجية، خاصة أني علمت بقرب حركة تنقلات بين الوزارة والسفارات، ولا أريد أن أفقد دوري في العمل في الخارج. وعندما صارحته برغبتي أعرب عن أسفه وعدم رضاه لأنني لم أتم في عملي معه سنة كاملة. وبعد أن شرحت له الأسباب ورغبتي في مواصلة الدراسة إذا تمكنت من الانتقال إلى إحدى السفارات بحيث أجمع بين الدراسة والعمل الدبلوماسي، كما أن وظيفة السكرتير الخاص لا تتيح لي العمل في مجال تخصصي الدراسي، رغم أني حظيت بمعاملة أبوية أثناء عملي معه وشكرته على ثقته، عندئذ طلب مني اختيار شخص أثق به وقادر على القيام بمهام سكرتيره.
وكنت قد عينت مساعدًا لي هو السيد فوزي الغرياني الذى كان السيد عبدالمجيد كعبار يعرف أباه، وهو من غريان، وعاش في مصر كل حياته، إلا أن السيد فوزي الغرياني كانت تنقصه الخبرة ومعرفة ما يجري في البلاد وسير العمل الحكومي فيها. فاقترحت على السيد كعبار تعيين السيد حسن أبوخريص من وزارة الخارجية، والذي كان سكرتير الوفد الليبي في مفاوضات لندن، ويعرفه رئيس الوزراء جيدًا. وبعد إصراري على قراري،
رغم المحاولات المتكررة معي للعدول عن رأيي، وافق رئيس الوزراء على طلبي، وتقرر إنهاء انتدابي ورجوعي إلى وزارة الخارجية، وانتدب السيد حسن أبوخريص كسكرتير لرئيس الوزراء.
وعلى إثر انتقالي إلى وزارة الخارجية تم تعييني سكرتيرًا ثانيًا في السفارة الليبية في لندن ضمن الحركة الدبلوماسية التي تمت بعد ذلك، وشكرت رئيس الوزراء على معاملته النبيلة ومساعدتي في الاستجابة لطلبي. ومن الصدف أني عينت في نفس الوظيفة التي كان أخي علي السني المنتصر يشغلها في السفارة الليبية في لندن بعد نقله إلى ديوان الوزارة في نفس الحركة الدبلوماسية. وكان أخي علي، ولا يزال، مشهورًا بنكاته اللاذعة، فقال مازحًا: " إن أخي بشير أعجبته لندن أثناء زيارته لها مع رئيس الوزراء فقرر أخذ مكاني".
وفي أول سبتمبر 1958م غادرت ليبيا إلى لندن عن طريق روما. وبسفري إلى لندن تنفست الصعداء، وتطلعت إلى نوع من الحياة مختلف، ومجال أوسع للدراسة والإطلاع. ورغم سروري بالعمل في لندن، كنت راضيًا عن عملي مع السيد عبدالمجيد كعبار، فقد مكنني من التعرف على الكثيرين من الناس وكبار رجال الدولة وأعيان البلاد وزعمائها، ومراكز القوى فيها، وظروفها ومشاكلها، الشئ الذي كان له تأثير في عملي مستقبلًا.

ضغوط فرنسية لتتخلى ليبيا عن ثوار الجزائر
ومن الأحداث التي عاصرتها في عهد حكومة السيد كعبار هي أزمة الاعتداء الفرنسي في أوائل أكتوبر 1957م على قرية إيسين في فزان على الحدود الليبية الجزائرية. فقد كانت حكومة السيد عبدالمجيد كعبار متعاونة مع ثورة الجزائر بموافقة الملك، الذي كان يعطي الكفاح الجزائري اهتمامًا خاصًا ودعمًا لا حدود له. فالجزائر هي بلد عائلته الأصلي قبل قدوم جده إلى ليبيا، وكان السلاح يهرب من مصر عن طريق ليبيا إلى الجزائر. وقد اهتمت الحكومة الليبية بهذا الاعتداء، الذي كان نتيجة لمتابعة الجيش الفرنسي لمجموعة من الثوار الجزائريين داخل الحدود الليبية، وأرسلت تعزيزات من الجيش الليبي إلى فزان لحماية الحدود رغم قلة إمكانياته. وقد أظهر الحادث ضخامة احتياجات ليبيا الدفاعية لاتساع رقعتها وطول حدودها وعدم الاعتماد على الحليف الأجنبي في حماية أراضيها، وخاصة بعد تردد بريطانيا وأمريكا في الاحتجاج على فرنسا.
كان هدف العدوان الفرنسي هو الضغط على ليبيا لوقف نشاط الثوار الجزائريين في ليبيا، ووقف تسرب الأسلحة والمعدات إلى الجزائر. إلا أن ليبيا، رغم أخذها للحيطة والحذر من النشاط الجزائري في ليبيا، لم تحد من استمرار المساعدات على المستوى الرسمي والشعبي إلى جبهة التحرير الجزائرية، والسماح بمرور السلاح تحت إشراف رجال الأمن الليبيين عن طريق الجو والبر. وكنت أثناء أزمة الاعتداء أنام في مكتبي برئاسة مجلس الوزراء وأوافي رئيس الوزراء بتفاصيل ما يحدث، بالتنسيق مع رئيس البوليس الاتحادي آنذاك الزعيم (العميد) محمد الزنتوتي، وإبلاغ تعليمات رئيس الحكومة إليه وإلى رئيس أركان الجيش. وكان الملك شديد الاهتمام بثورة الجزائر، كما أظهر الشعب الليبي تضامنًا كاملًا مع الشعب الجزائري، وقدم مساعداته بسخاء منقطع النظير إلى إخوانه الجزائريين، رغم ضيق اليد وقلة الإمكانيات.
قبل الاسترسال في قصة انتقالي إلى السفارة الليبية في لندن، أود أن أقف قليلًا لإلقاء بعض الضوء عن أحداث أخرى جرت في فترة حكومة السيد عبدالمجيد كعبار، ورأيي فيما كان يجري حسب انطباعاتي آنذاك. إن حكمي على تلك الأحداث قد يختلف الآن، نتيجة لإطلاعي على مئات من الوثائق البريطانية عن ليبيا عن تلك الفترة، وقراءة العديد من الكتب التي ألفت حتى الآن عن النظام الملكي الليبي، وبعد خبرة العمر الطويلة في الحياة.

أحـداث وزوابـع خلال حكومة عبدالمجيد كعبار
في أول عهده عين السيد عبدالمجيد كعبار السيدين محمود المنتصر ومصطفى بن حليم مستشارين خاصين للملك، مراعاة لمكانتهما ومحافظة على مركزهما، لما قد يتعرضا له من مضايقات من خصومهما. وقد رحبا بدورهما بالقرار، لأنه يسبغ عليهما الصبغة الرسمية التي فقداها بعد تركهما للحكم. ولكن ما أن أعلن مرسوم تعيينهما حتى هبت زوبعة معارضة قوية تزعمها والي برقة آنذاك السيد حسين مازق وناظر الخاصة الملكية السيد البوصيري الشلحي، وكان هدف هذه الحملة عدم تمكينهما من التدخل في شئون الدولة وهما خارج الحكم.
وفعلًا غير الملك رأيه كعادته عندما يتدخل ناظر خاصته، وأرسل رسالة إلى كل من السيد محمود المنتصر والسيد مصطفى بن حليم توضح لكل منهما، بأن تعيينهما كمستشارين للملك لا يعطيهما حق ممارسة أي عمل أو تدخل في شئون الحكومة، وأن عملهما يقتصر على إبداء المشورة عندما يطلب الملك منهما ذلك، وقد اعتبر المذكوران الرسالة ما هي إلا إلغاء ضمني لمرسوم تعيينهما، وعلى هذا سعى رئيس الوزراء لتعيينهما كسفيرين، فعين السيد محمود المنتصر في روما والسيد مصطفى بن حليم في باريس.
كذلك لم يكن السيد عبدالمجيد كعبار على وفاق مع السيد الصديق عبدالمجيد المنتصر الذي عين وزيرًا للدفاع حلًا للمشكلة التي خلقها للسيد مصطفى بن حليم، وتتلخص هذه المشكلة في أن السيد مصطفى بن حليم عندما رئيسًا للوزراء استغل فرصة اعتصام الطلبة الليبيين في السفارة الليبية في القاهرة وأوعز للملك بأن السفير الصديق المنتصر شجعهم على الاعتصام لغاية في نفسه ومعارضة الحكومة وطلب نقله من القاهرة إلى الوزارة كسفير تحت الطلب. وفعلًا أصدر الملك مرسومًا بهذا، ولكن السيد الصديق المنتصر استطاع أن يقنع الملك، بمساعدة صديقه السيد البوصيري الشلحي ناظر الخاصة الملكية، بأن ما ادعاه رئيس الوزراء غير صحيح، وأن سبب نقله هو اهتمام المنتصر بزيارات السيد البوصيري الشلحي نفسه إلى مصر، الذي كانت تربطه علاقات صداقة خاصة مع الرئيس جمال عبدالناصر وإعطاء هذه الزيارات الطابع الرسمي.
اقتنع الملك برأي السفير الصديق المنتصر، وألغى مرسوم نقله من مصر. وتكرر إصدار المرسوم وإلغاؤه بعد إعلام الحكومة المصرية رسميًا، مما أحرج السيد مصطفى بن حليم ودفعه إلى تقديم استقالته من رئاسة الحكومة، وقد تم ذلك حينما كان السيد عبدالمجيد كعبار وزيرًا للخارجية، ولهذا لم تكن العلاقة بين السيد الصديق المنتصر والسيد عبدالمجيد كعبار حسنة، وحتى يمكن نقل السيد الصديق المنتصر من مصر وإنهاء الأزمة التي خلقها، اقترح السيد عبدالمجيد كعبار تعيينه وزيرًا للدفاع عندما ألف حكومته. وفعلًا وافق الملك، واعتبر السيد الصديق المنتصر ذلك تعويضًا معنويًا لحفظ سمعته مع الحكومة المصرية.
كان السيد الصديق المنتصر صعب المراس، يعتقد أنه أولى من غيره لمناصب الدولة الهامة لخبرته الطويلة في الإدارة البريطانية السابقة لطرابلس ونفوذ عائلته السياسي، ولهذا وطد علاقته بالسيد البوصيري الشلحي واستخدمه في صراعه مع خصومه. وقد كان أيضًا صديقًا لوالده السيد إبراهيم الشلحي، الذي سعى لتعيينه واليًا على طرابلس، ليكون عقبة تحد من نفوذ ابن عمه السيد محمود المنتصر رئيس الوزراء آنذاك، والذي كان بدوره في نزاع مع السيد إبراهيم الشلحي الأب حول اختصاصات الحكومة الاتحادية والولايات ودور رجال القصر في شئون الدولة، وقد أدى هذا الخلاف إلى استقالة السيد محمود المنتصر من رئاسة الحكومة في فبراير 1954.

زواج ولي العهد الحسن الرضا
ومن الأحداث ذات العلاقة بمجرى السياسة في عهد السيد كعبار زواج الأمير الحسن الرضا ولي العهد من ابنة السيد الطاهر باكير والي طرابلس، ولم أحضر تفاصيل هذا الزواج لأني كنت خارج ليبيا. وقيل أن الملك الذي صادق على هذا الزواج كان يهدف إلى ربط ولاية طرابلس مع ملك ليبيا المقبل. وقد استُقبل هذا الزواج بعدم الرضا من سكان برقة، وكان يفضل عندهم أن يصاهر الأمير السيد حسين مازق والي برقة بالزواج من ابنة هذا الأخير للمحافظة على برقاوية الملك في ليبيا، وهو الثقل السياسي الذي يعوض الفارق السكاني بين الإقليمين طرابلس وبرقة.
كانت بريطانيا وأمريكا مهتمتين بتوطيد العرش السنوسي، وتسهيل انتقاله من الملك إدريس إلى ولي عهده بعد وفاته بدون مشاكل بين طرابلس وبرقة قد تعرض مصالح الدولتين للخطر، خاصة وقد كثر الكلام عن ضعف ولي العهد وعدم درايته بشئون البلاد وعدم تحمس الملك له وإهماله له بعد تعيينه. إن العلاقات التاريخية بين الملك وأفراد عائلته كانت متأزمة، مما جعل الملك يشك في نياتهم، خاصة بعد اغتيال صديقه وناظر خاصته السيد إبراهيم الشلحي سنة 1954 على يد أحد أحفاد السيد أحمد الشريف السنوسي، وانعكس ذلك في الإجراءات التي اتخذها ضد أفراد عائلتة السنوسية.

انتقالي إلى السفارة الليبية في لندن
كما ذكرت، تم تعييني سكرتيرًا ثانيًا بالسفارة الليبية في لندن، وكان الاتفاق أن أتولى مهام السكرتير الأول بالوكالة بالدرجة الثالثة إلى أن يحين موعد ترقيتي إلى درجة السكرتير الأول، ولكن علمت أن درجة السكرتير الأول ألغيت من كادر السفارة نتيجة سعي بعض أصحاب المصالح لتعيين شخص آخر فيها، ولم تنفع احتجاجاتي لدى رئيس الحكومة للوفاء بوعده. وكان السفير آنذاك في لندن الدكتور علي الساحلي وكان السيد فتحي العابدية مستشارًا للسفارة.
قبل استلامي لعملي بالسفارة قررت قضاء إجازتي المتراكمة في أوروبا، فسافرت إلى روما، وبعد ذلك رافقت السيدين محسن عمير وفيصل السنوسي الأشهب في سيارة هذا الأخير إلى لندن مرورًا بألمانيا وباريس. وعند وصولي إلى لندن أقمت في شقة أخي علي التي تركها لي بعد نقله وسفره إلى وزارة الخارجية في البيضاء وكانت في شارع (ادجوير روود). وعلمت حال وصولي أنه تقرر إعادة أخي علي إلى سفارة لندن كملحق ثقافي منتدبًا من وزارة الخارجية لوزارة المعارف، وقد سررت بذلك، لأنها كانت فرصة لي لنقيم معًا في شقة واحدة (في شارع هسكر استريت بتشلسي)، بعد أن فرقتنا ظروف الحياة أكثر من ثماني سنوات، وفي نفس الوقت أستفيد من خبرته الطويلة في لندن. لم يدم انتداب أخي علي سوى بضعة أشهر نقل بعدها إلى ديوان الوزارة، وعين بدله السيد أحمد بن خيال.
وقد أسندت لي مهام الشئون الصحفية بالسفارة إلى جانب مساعدة مستشار السفارة السيد فتحي العابدية، الذي كانت تربطني به روابط صداقة واحترام متبادل. وقد استفدت من هذه المهمة، فقد كان عليّ أن أطلع يوميًا على أهم الصحف البريطانية ومنها جرائد (التايمس والديلي تلغراف والجارديان والديلي ميل والأوبزيرفر والإكونيمست وجويش كرونيكل وجويش أوبزيرفر اليهوديتان)، وكنت أعد ملخصًا يوميًا للسفير، وتقريرًا أسبوعيًا إلى وزارة الخارجية، يحتوي أهم ما نشر من أخبار وتعليقات عن أحداث العالم، وخاصة عن ليبيا والعالم العربي وقضية فلسطين.
وبعد فترة قصيرة تقرر نقل السفير الدكتور علي الساحلي إلى ليبيا وعين رئيسًا للديوان الملكي، وحل محله السفير الدكتور عبدالسلام البوصيري، ولا زلت أذكر يوم وصوله. فقد أعلمتنا وزارة الخارجية البريطانية بأن السفير الليبي وزوجته يحملان معهما خمس قطط، وفوجئنا في المطار بقدوم رجال الحجز الصحي البريطاني في انتظار القطط ونقلها لحجزها ستة أشهر كاملة حسب القانون البريطاني. لم يكن ذلك هينًا على زوجة السفير التي كانت تعتبر هذه القطط كأطفالها، وقد حاولت إخفاء إحداها في محفظتها الخاصة لتهريبها دون حجز، لكن رجال الحجز الصحي تنبهوا لذلك وأخذوا القطة منها مع الاعتذار. وقد حجزت القطط في مكان خارج لندن لفترة ستة أشهر، وكانت زوجة السفير تزورها يوميًا لتطمئن عليها، وقد ماتت إحداهن في الحجز.
وقبل سفر الدكتور علي الساحلي قام بتوديع الملكة اليزابيت الثانية خلال الحفلة السنوية التي تقيمها الملكة لرجال السلك الدبلوماسي، وقد كنت أنا والمستشار السيد فتحي العابدية وزوجته برفقة السفير. وفي هذه المناسبة تمر الملكة ومن ورائها أفراد العائلة المالكة على السفراء ومرافقيهم المصطفين حسب ترتيب الأقدمية للسلام عليهم والحديث معهم والاستفسار عن أحوالهم، وعندما وصلت إلى الدكتور علي الساحلي وقفت لفترة غير قصيرة للكلام معه، لأنها كانت تعرف أنه منقول إلى ليبيا، وكانت فرصة للسفير لوداعها نظرًا لاضطراره إلى السفر على عجل وعدم إمكانية تحديد موعد خاص له لمقابلتها للسلام قبل سفره كما جرى العرف. وقد طلبت منه الملكة أن يبلغ تحياتها للملك إدريس، كما ذكرت له بأنها تعرف مدينة طبرق حيث يعيش الملك، لأنه سبق لها أن زارتها سنة 1954م مع زوجها الأمير فيليب، وتمنت للسفير طيب الإقامة فيها.










لندن 1959م - بشير المنتصر مع أحمد محمود المنتصر (الأول من

4:38 AM  
Blogger Bashir Muntasser said...

لندن 1959م - بشير المنتصر مع أحمد محمود المنتصر (الأول من
اليمين) والزبير يوسف لنقي القنصل العام بالسفارة الليبية بلندن

قدم السفير للملكة مستشار السفارة السيد فتحي العابدية وزوجته، وكذلك قدمني لها ذاكرًا بأني وصلت حديثا للعمل بالسفارة. وقد تفضلت الملكة بالكلام معي معلقة بأني شاب صغير ومحظوظ لتولى مهام دبلوماسية في مدينة هامة مثل لندن. وأذكر أن رجال البروتوكول الذين كانوا في رفقتها هنأوني على اللفتة الكريمة التي خصتني بها الملكة، لأنها عادة تقتصر تعليقاتها مع رؤساء البعثات، وتكتفي بالسلام على مرافقيهم. وعندما مرت الأميرة مارغريت أشارت في حديثها مع السفير إلى عدم إحضار زوجته أثناء وجوده في لندن كسفير، وأنه الآن لا شك سعيد للعودة إلى ليبيا ليلتحق بها.












اللواء السنوسي الأطيوش رئيس أركان الجيش الليبي في زيارة لبريطانيا وعلى يمينه بشير المنتصر وعلى يساره السيدين سليمان افتيتة وجمعة التركي من أعضاء السفارة الليبية في لندن

هذا وقد قدمني السفير إلى جميع أعضاء العائلة المالكة الذين كانوا خلف الملكة في طابور طويل، بما فيهم زوجها الأمير فيليب والملكة الوالدة وأخت الملكة الأميرة مارجريت، رغم أن رجال البروتوكول طلبوا من السفير تقديم المستشار وزوجته فقط. وقد سنحت لي الفرصة مرة ثانية بمقابلة الملكة اليزابيت عندما رافقت السفير الجديد الدكتور عبدالسلام البوصيري لتقديم أوراق اعتماده لها.
ومن الجدير بالذكر هنا بأنه سبق لي أن تناولت طعام الغذاء على مائدة رئيس وزراء بريطانيا المستر هارولد ماكميلان في 10 داوننج استريت مع السيد عبدالمجيد كعبار رئيس وزراء ليبيا آنذاك أثناء زيارته لبريطانيا في أوائل سنة 1958، والتي حضرها وزير الخارجية المستر سلوين لويد ووزير الدفاع المستر دنكن ساندز وأعضاء الوفد الليبي في المفاوضات.











1958م- بشير المنتصر وأخيه على المنتصر السفير بوزارة الخارجية (الثاني من اليمين) مع السفير الليبي السيد عبدالسلام البوصيري أثناء تقديم أوراق اعتماده كسفير لليبيا في لندن ويظهر معهم السيد فتحي العابدية مستشار السفارة والسيدان الطاهر برشان وجمعة التركي

كان الدكتور عبدالسلام البوصيري كبيرًا في السن وقد درج على تكليفي بكتابة تقاريره ومراسلاته إلى الوزارة والجهات المعنية، وكان المفروض أن يساعده في ذلك مستشار السفارة ولكن يظهر أنهما كانا على غير وفاق ويختلفان في تفكيرهما السياسي. وقد أدى هذا الخلاف في الرأي بين السفير والمستشار إلى وضعي في مركز محرج في كتابة تقارير السفير التي كان يملي عليّ فحواها ودوري فيها يقتصر على صياغتها.
والدكتور عبدالسلام البوصيري من الرعيل الأول والجيل القديم. عاش ودرس في تركيا وتزوج سيدة تركية. وكان يؤمن كباقي ساسة ليبيا القدامى في الحكم آنذاك بالحفاظ على صداقة بريطانيا وأمريكا والدول الغربية، وأخذ الحيطة من الحركات القومية الناصرية. وكانت تقارير السفير البوصيري إلى وزير خارجية ليبيا ورئيس الوزراء والملك تعبر عن تفكيره الغربي وتتسم بالتحذير من السياسة المصرية العربية المتطرفة وما يسمعه من سفراء الدول العربية الصديقة لبريطانيا المتنازعة مع مصر ومن الساسة البريطانيين وسياستهم العدائية لمصر وعبدالناصر.
هذا، وفي نفس الوقت كان المستشار السيد فتحي العابدية قومي وناصري التفكير، وقد تزوج سيدة سورية تنتمي إلى عائلة الأمير عبدالقادر الجزائري. كانت سوريا في تلك الفترة متحدة مع مصر، وكان السيد العابدية غير راض عما يكتبه السفير من تقارير ولا يتفق معه في الرأي فيها. ورغم علاقات الصداقة التي كانت تربطني بالسيد فتحي العابدية فإنه كثيرًا ما أبدى لي لومه وعدم رضاه عما أكتبه للسفير.
ورغم أني كنت من الشباب المتحمس لناصر وللقومية العربية والوحدة وقد عشت السنوات الأولى لثورة 23 يوليو في مصر ولا أختلف مع السيد العابدية في آرائه القومية، إلا أنني كنت أعتقد أن من حق السفير أن يعبر عن رأيه. كما أني أعرف من خلال علاقاتي وعملي السابق مع رئيس الوزراء أن الملك ورؤساء حكوماته ومعظم السياسيين الليبيين في تلك الفترة يؤمنون بنفس الآراء والسياسة التي يعبر عنها الدكتور عبدالسلام البوصيري. وقد حرصت في عملي مع أصحاب القرار في ليبيا احترام الرأي الآخر، والاستماع إلى أصحاب الخبرة والمعرفة بتفهم. وقد أفادتني دراستي للعلوم السياسية إلى عدم الانسياق وراء الحماس الوطني في معالجة الشئون السياسية الدولية التي تعتمد على تبادل المصالح وتجنب الاصطدام وقبول أوساط الحلول.
من أهم الأحداث التي وقعت أثناء وجودي في لندن إعلان انفصال سوريا عن مصر، ونهاية أول وحدة عربية التى كانت مبعث الأمل للوحدة العربية الشاملة. وقد استقبلنا الخبر جميعًا بالدموع وحسرات الأسف والغضب على من شجع هذا الانفصال في سوريا. كانت ولاتزال الوحدة العربية أمل العرب وحلمهم ومسعى لا حياد عنه، رغم الصعاب الداخلية والخارجية، ومعارضة ومحاربة الاستعمار لها.











السفيران المصرى والسوري في استقبال بشير المنتصر بمقر سفارة الجمهورية العربية المتحدة بلندن بمناسبة احتفالات إعلان الوحدة









بشير المنتصر مع السفير المصرى بلندن (بعد الانفصال عن سوريا) السيد محمد القوني








بشير المنتصر يستقبل من طرف الطيب سليم السفير التونسي في لندن للاحتفال بالعيد الوطني التونسي











سفيرة المغرب بلندن الأميرة لالة عائشة (شقيقة الملك الحسن الثاني) وزوجها السيد محمد اليعقوبي في استقبال بشير المنتصر










لندن - صورة تجمع بين بشير المنتصر والسيد عبدالخالق حسونة - أمين عام جامعة الدول العربية - (الأول من اليمين) والسيد الطاهر برشان الموظف بالسفارة الليبية

حال وصولي إلى لندن سارعت إلى مواصلة دراستي العليا حسب تخطيطي، وانتسبت إلى كلية لندن للاقتصاد، وهي من أشهر الجامعات في مجال الاقتصاد والعلوم السياسية، وتعتبر مدرسة الاشتراكيين وعلى رأسهم الأستاذ لاسكي مفكر حزب العمال البريطاني آنذاك. وكنا في السفارة في لندن نتابع ما يجري في ليبيا، وكان أهم نشاط تتوجه الأنظار إليه هو النشاط البترولي والاكتشافات البترولية، وتزايد الإشاعات حول الفساد والاستغلال، حتى أصدر الملك بيانًا تاريخيًا مشهورًا عرف ببيان "بلغ السيل الزبا". ورغم شدة هذا البيان، إلا أن أثاره كانت محدودة، لأن مصدر الفساد كان تدخل الحاشية الملكية في العطاءات الحكومية، مما شجع الرشاوى بين رجال الدولة على مختلف مستوياتهم. ثم جاءت مشكلة طريق فزان، ومعارضة مجلس النواب للحكومة، واستقالة السيد عبدالمولى لنقي من حكومة السيد عبدالمجيد كعبار، وانطلاق الإشاعات والاتهامات حول الصفقات التي كانت تعقد في الخفاء، والتي أدت جميعها إلى سحب الثقة من حكومة السيد كعبار.

فترة حكومة السيد محمد عثمان الصيد
انتهت الحملة في البرلمان على رئيس الحكومة السيد عبدالمجيد كعبار باستقالته في أكتوبر 1960م، وكلف السيد محمد عثمان الصيد بتأليف الحكومة الجديدة، التي استُقبلت بكثير من الاستغراب في الدوائر الشعبية والرسمية، والشك في مقدرة السيد الصيد على تولي هذه المسئولية الكبيرة. كان السيد محمد عثمان الصيد من الرعيل الأول ووزيرًا مخضرمًا، وعلى رأس ممثلي فزان في الجمعية الوطنية التأسيسية أثناء الإعداد للاستقلال وعضو مجلس النواب. كان ذكيًا بإفراط، رغم عدم حصوله على تعليم عال، وحياته البسيطة في فزان، وتعيين الملك له كان يرجع إلى رغبته في معاملة أقاليم ليبيا الثلاثة معاملة متساوية، وخاصة بعد تعيين اثنين من رؤساء الحكومات من كل من برقة وطرابلس.
استخدم السيد محمد عثمان الصيد ذكاءه واستطاع بأساليبه السياسية القائمة على الترغيب بالمصالح الشخصية من الحصول على دعم بين أعضاء مجلس الأمة وزعماء البلاد وكبار الموظفين، مما زاد من الإشاعات لتفشي الرشوة والفساد في الحكومة خاصة. وقد بدأ في هذه الفترة تصدير الشحنات الأولى من البترول. وقد استطاع السيد محمد عثمان الصيد تجديد الاتفاقية المالية البريطانية الليبية لخمس سنوات أخرى دون ضجة. كما تم في عهده تعديل الدستور الليبي وإلغاء النظام الاتحادي وإلغاء حكومات الولايات والولاة وإقامة نظام مركزي تتولى فيه الحكومة كل السلطات، وهو مطلب قديم للشعب الذي عارض قيام النظام الاتحادي في أوائل إعلان الاستقلال. وقد استُقبل التعديل الدستوري بترحيب شعبي كبير، وباستغراب أيضًا، أن يصدر هذا القرار بسهولة ودون ضجة أو ضغط شعبي أو حتى برلماني، مما أثار الشكوك في الهدف الحقيقي من وراء هذا التغيير الذي أمر به الملك المعروف بحرصه على حفظ توازن القوى بين الولايات والمساواة بين برقة وطرابلس في التمثيل والمخصصات المالية وغيرها.
وقد عرف السبب بعد ذلك، واتضح أن شركات البترول الأمريكية وجدت صعوبات من حكومة ولاية برقة في مد أنابيب البترول من بعض حقول البترول الواقعة في ولاية برقة إلى موانئ بترولية تقع داخل حدود ولاية طرابلس، وكان معظم البترول في ذلك الوقت يأتي من مناطق تقع في ولاية برقة. ونتيجة لذلك سعت أمريكا تؤيدها بريطانيا بإقناع الملك بأن الوحدة الليبية أصبحت ضرورية لمصلحة البلاد للاستفادة من ثرواتها البترولية على الوجه الأكمل، وأن وحدة البلاد تعززت بمرور السنوات ولم يعد هناك خطر يهدد سلطات الملك كما كان عليه الحال في الماضي. ولكن رغم تحقيق الوحدة الليبية، إلا أن الملك استمر في العمل بالأسس التى قام عليها النظام الاتحادي وتوزيع التمثيل في مجلس الشيوخ وفي المناصب الوزارية والقيادية الأخرى وفي المخصصات المالية بالتساوي بين الولايات وخاصة بين برقة وطرابلس، ولم تظفر ولاية طرابلس بفائدة تذكر من الوحدة المعلنة بل خسرت المحافظة على كادرها ونظامها الإداريين المتسمين بالكفاءة والحداثة، ولم يعد للشعب في طرابلس دور في شئون حكم البلاد.
وخلال فترة وزارة السيد محمد عثمان الصيد ظهر الخلاف داخل الجيش إلى العلن، والكل كان يعرف أن ضباط الجيش ينقسمون إلى مجموعات لا تقل عن ثلاث. إحداها تحيط بالعقيد عبدالعزيز الشلحي الابن المتبني عمليًا للملك، ومجموعة أخرى ضده، والثالثة تضم غير المنتمين لهذا أو ذاك وهم الأغلبية. وقد توالى على رئاسة أركان الجيش الليبي ضباط عراقيين إلى حين تعيين اللواء السنوسي الأطيوش رئيسًا ليبيًا للأركان، وكان عمه المجاهد صالح الأطيوش من كبار رجال القبائل في برقة، وانضم الاثنان إلى الجيش السنوسي الذي أسس أثناء الحرب العالمية في مصر وشارك مع الجيش البريطاني في تحرير ليبيا من الاحتلال الإيطالي.
كان اللواء الأطيوش قويًا وشجاعًا، حاول خلق جيش قوي لكنه وجد من مجموعة العقيد عبدالعزيز الشلحي مقاومة لإضعاف نفوذه وعقبة في طريق مشاريعه، ونتيجة لتحريض الملك عليه تمت تنحيته وعين سفيرًا بوزارة الخارجية، وهو الأسلوب الذي كان يتبع مع من يراد إبعاده عن السلطة، وعين بدله اللواء نوري الصديق بن إسماعيل وهو من بنغازي ومن عائلة معروفة أصلها من قبيلة الكوافي بمصراته، وكان لا يختلف عن سلفه في شكواه من تدخل العقيد عبدالعزيز الشلحي وسلوك أنصاره في الجيش. وكنت أعرف اللواء نوري الصديق جيدًا كما أعرف اللواء السنوسي الأطيوش، وكانا كثيرًا ما يصارحاني بالمشاكل التي كانا يواجهانها في الجيش عند مرورهم بمكتبي أثناء زيارتهم لرئيس مجلس الوزراء. وكنت أعرف العديد من ضباط الجيش أو من هم في رتبة عقيد، لأن بعضهم كانوا زملائي في مدرسة طرابلس الثانوية.
وقد تمكنت مجموعة العقيد عبدالعزيز الشلحي من التخلص من اللواء نوري الصديق أيضًا وعين مكانه اللواء السنوسي شمس الدين السنوسي، وهو صهر العقيد عبدالعزيز الشلحي ورجل طيب ونزيه ولكنه واقع تحت تأثير صهره وأعوانه، وعائلة الشلحي تصاهر أيضًا الفريق محمود أبوقويطين قائد عام الأمن في برقة، والسفير محمد عبدالسلام الغماري. وفي هذه الفترة أغتيل العقيد إدريس العيساوي وهو من ألمع وأقوى ضباط الجيش، وكان العقيد عون أرحومة شقيفة أول من وجده في سيارته مضروبًا بالرصاص. وحصلت في تلك الفترة أيضًا أول محاولة للسيطرة على البلاد من قبل الجيش، ولكنها فشلت وحوكم القائمون بها، وأشيع بأن وراء المحاولة اللواء السنوسي الأطيوش رئيس أركان الجيش السابق.
واستمرت الإشاعات في عهد السيد محمد عثمان الصيد عن الكسب غير المشروع والفساد والإثراء والإسراف في الإنفاق الحكومي والإعلام الموجه لخدمة الحكومة، وكان على رأس الجهاز الإعلامي السيد أحمد الهمالي الذي أدخل الإعلام الدعائي لأول مرة في ليبيا، والذى كان يقوم على الإشادة والمبالغة في المديح للملك والحكومة، الشئ الذي لاقى استنكار الشعب الذي كان يعرف الحقائق دون حاجة إلى إعلام، فالمجتمع الليبي كان صغيرًا وأخباره تنتشر في سهرات "المرابيع" والمقاهي، التي كانت أيضًا مرتعًا للإشاعات والتعليقات والنكات السياسية التي استوردت من مصر.
لقد حاول السيد محمد عثمان الصيد أن يجعل من نفسه زعيمًا ليبيًا متميزًا بأساليبه المعروفة، فهاجم رؤساء الحكومات السابقين، وخاصة السيد مصطفى بن حليم، وسعى لبناء شعبية عن طريق الترغيب والوعود، وضم إلى حكومته عددًا من وزراء نواب غير معروفين لمجرد إرضائهم وكسب ثقتهم، مما جعل تركيبته الحكومية غير متجانسة. وتميزت فترة حكمه بهدوء سياسي على المستوى الوطني والإقليمي. فالساحة العربية كانت هادئة نسبيًا، كما أن انفصال سوريا عن مصر وفشل أول وحدة عربية أضعف الدعوة القومية بين الجماهير العربية، خاصة أن مصر تعرضت لضغوط اقتصادية من طرف الدول الغربية، مما جعلها تتجنب الدخول في المزيد من المشاكل معها وتتفرغ لحل مشاكلها الاقتصادية. كما أن الانقلاب العراقي وحكم السيد عبدالكريم قاسم ساعدا على إضعاف الحركة القومية والعلاقات بين الدول العربية.
وفي الداخل تمتعت ليبيا بفترة هدوء نتيحة هذه الأوضاع العربية. فالرأي العام في ليبيا يتأثر ويتفاعل مع الأحداث العربية أكثر من الاهتمام بما يحدث في ليبيا، لأن ما يحدث في ليبيا بالنسبة للشعب الليبي قضية خاسرة. كما أنه لم تجر في عهد السيد الصيد انتخابات نيابية، رغم أن المجلس النيابي القائم أجبر حكومة السيد عبدالمجيد كعبار على الاستقالة، ولكن السيد الصيد استطاع أن يكسب تأييدهم ودعمهم بالإغراء المادي والقروض والمناصب، وهو رئيس الوزراء الوحيد الذي لم يتخل عنه أنصاره حتى بعد خروجه من الحكومة وخلق جبهة قريبة من الحزب السياسي.
ويؤخذ على السيد الصيد أنه أبعد ليبيا عن الجزائر، فقد لوحظ فتور في العلاقات الليبية الجزائرية في عهده، واستطاع أن يقنع الملك أو يدعم الرأي القائل بأن السيد أحمد بن بلة يقف مع عبدالناصر وأن الجزائر خطر على ليبيا كمصر، وكان هذا هو رأي البريطانيين والأمريكيين أيضًا. كان الملك يتوقع تقديرًا وعرفانًا من زعماء الجزائر بتأييده لجبهة التحرير الجزائرية وتقديم الدعم لها على المستوى الرسمي والشعبي أثناء الحرب الجزائرية. وهذا الموقف الغريب للحكومة الليبية والملك لم أستطع فهمه أو من كان وراءه، خاصة أن زعماء الجزائر وعلى رأسهم الرئيس بن بلة يكيلون الشكر دائمًا لليبيا ملكًا وحكومة وشعبًا لما قدموه من مساعدات للجزائريين أثناء كفاحهم ضد فرنسا. وكان السيد أحمد بن بلة مندفعًا في الإعراب عن هذا التقدير للشعب الليبي، وقدمت الجزائر في عهده كل التسهيلات لليبيين، وكان يقول أنه ليبي قبل أن يكون جزائريًا. صحيح أن بن بلة قومي ويؤيد الرئيس عبدالناصر لكنني لا أصدق أنه يحمل شيئًا ضد ليبيا أو الملك.
لقد اتهم السيد محمد عثمان الصيد بالمحسوبية والوساطة. فبعد أن نظمت التعيينات والترقيات للموظفين في ليبيا بقوانين صارمة ومقيدة وفقًا لأحدث التشريعات، وأصبحت محترمة ومقدسة من جميع المسئولين في الحكومات السابقة، جاء السيد محمد عثمان الصيد ليخرق هذه السياسة بفتح باب الترقيات والتعيينات لغير المؤهلين. كان ذلك بادرة سيئة أدت إلى هبوط المستوى الإداري في الفترات التالية، بل أكثر من ذلك فتح باب التعيين في وظائف السلك الدبلوماسي من خارج الوزارة، الذي كان مقصورًا على موظفي الخارجية ومفصولًا عن الخدمة المدنية، بتعيين مجموعة في أعلى سلم الوظائف في الوزارة كوزراء مفوضين دون تمتعهم بشروط المؤهل والخبرة لوظائف السلك الدبلوماسي الليبي، الأمر الذي أثار تذمرًا بين موظفي وزارة الخارجية. كما استطاع إبعاد السيد عبدالرزاق شقلوف من وظيفته كوكيل لوزارة المالية بعد فترة كان فيها المتصرف الوحيد في الشئون المالية، وأعتقد أن الأمريكيين ساعدوه على ذلك لدى الملك لأنهم كانوا غير راضين عن السيد شقلوف طوال فترة إدارته لوزارة المالية.
في ديسمبر 1961م احتفلت ليبيا بمرور عشر سنوات على استقلالها، ودعت وفودًا رسمية على مستوى عال لحضور الاستعراض العسكري والاحتفالات التي أقيمت بهذه المناسبة. وألقى الملك فيها خطابًا حذر فيه من مشاكل الرخاء الذي بدأت طلائعه تظهر، وكان خطابًا بليغًا، وقيل أن الذي أعده كان السيد سليمان الجربي وزير الخارجية آنذاك. وفي عهد حكومة السيد محمد عثمان الصيد تطورت مدينة البيضاء وتوسع بنيانها، مما مكن الحكومة من الإقامة نهائيًا فيها. ونقلت إليها وزارة الخارجية ورئاسة مجلس الوزراء وعدد كبير من أجهزة الوزارات الأخرى، وأصبحت المقر الرسمي الدائم بعد أن كانت المقر الصيفي للحكومة.

خيبة أمـل بريطانيـا في ولي العـهد
كانت أحداث السفارة الليبية في لندن أثناء وجودي بها عادية. وقد زار بريطانيا في تلك الفترة الأمير الحسن الرضا ولي العهد زيارة رسمية واستُقبل استقبالًا رسميًا في المطار من قبل المستر جون بروفومو وزير الدولة للحرب، وأقيمت له عدة حفلات هامة ودعي من طرف رئيس الوزراء والملكة الأم إلى حفلة غذاء وحفلة عشاء، وأجرى مباحثات هامة مع كبار المسئولين في الحكومة البريطانية. وقد أقام الأمير حفلة عشاء فخمة في محل إقامة السفير اللببي حضرها المستر هارولد ماكميلان رئيس الوزراء والمستر سلوين لويد وزير الخارجية والمستر هيو جيتسكل زعيم حزب العمال والمستر دينس هيلي وزير خارجية حكومة الظل في بريطانيا من المعارضة وعدد كبير من الوزراء البريطانيين وأعضاء البرلمان البريطاني وأعضاء الوفد المرافق للأمير وأعضاء السفارة الليبية في لندن.
ونظرًا لعدم إحضار المترجم الرسمي لوزارة الخارجية البريطانية الذي كان يرافق الأمير أثناء زياراته، اقترح السيد فتحي الخوجة كبير التشريفات الملكية المرافق للأمير أن أتولى أنا الترجمة للأمير مع ضيوفه. وأذكر أن رئيس الوزراء البريطاني كان متحفظًا على ذلك وسألني عن وظيفتي قبل أن أبدأ بالترجمة بينه وبين الأمير. بدأ المستر ماكميلان كلامه بتوجيه الشكر للأمير على زيارته وطلب منه إبلاغ الملك إدريس تحياته وتقديره للصداقة التي تربط بين ليبيا وبريطانيا، وحرصه على تطوير واستمرار هذه العلاقات واستمرار أواصر التحالف حسب المعاهدة المعقودة بين الدولتين، واستعداد بريطانيا للدفاع عن ليبيا ضد أي اعتداء خارجي. كما سأل الأمير عن الأمور في ليبيا وما هي المشاكل التي تواجهها ومن هي الشخصيات الليبية التي تحظى برعاية وثقة الملك، وسياسة الحكومة الليبية ومشاريعها من أجل استثمار الدخل البترولي المتزايد للنهوض بالاقتصاد الليبي، وعن الصناعة التي ترغب ليبيا في تطويرها، وعلاقة ليبيا مع جيرانها وخاصة مصر.
كان رد الأمير مختصرًا ومتحفظًا ويدل على عدم إلمام بتفاصيل المسائل التي أثارها المسئولون البريطانيين معه. وذكر في جوابه عن الصناعات التي ترغب ليبيا في تطويرها، أنها تشمل الصناعات الخاصة بالمنتوجات الزراعية والاهتمام بالريف ومجال البترول، وبادل رئيس الوزراء البريطاني الشكر والإشادة بالعلاقة بين بريطانيا وليبيا. وفي رده عن السؤال حول الشخصيات الليبية شدد على السيد مصطفى بن حليم كشخصية أساسية في النظام، ثم ذكر السيد محمود المنتصر والسيد محمد عثمان الصيد وآخرين، وبأنهم جميعًا يتمتعون بثقة الملك.






المستر هارولد ماكميلان السيد الحسن الرضا المستر سلوين لويد

أما حديث وزير الخارجية سلوين لويد مع الأمير فركز على السياسة الخارجية وعلاقات بريطانيا بليبيا، ولم يخرج عن الإطار الذي تكلم فيه رئيس الوزراء، وكأنهما استعرضا سويًا نقاط البحث مع الأمير قبل القدوم إلى الحفلة. تعرض المستر سلوين لويد بالتفصيل إلى العلاقات الخاصة بين بريطانيا والملك ومخاوف ليبيا من جيرانها، وخاصة مصر والجزائر ومساعدة بريطانيا في حالة مواجهة أي اعتداء عليها، وكذلك الموقف في الشرق الأوسط ومشكلة فلسطين والعلاقات العربية البريطانية والسياسة الإسرائيلية والوضع في العراق بعد زوال الحكم الملكي فيه، والمعاملة الخاصة للشركات والصادرات البريطانية إلى ليبيا وهي المواضيع التي تهم بريطانيا بشكل خاص. ومن المحتمل أن هذه المواضيع أثيرت بالتفصيل مع الأمير أثناء مقابلاته السابقة لرئيس الوزراء ووزير الخارجية في مكتبيهما أثناء المباحثات الرسمية.










1959م- زيارة الأمير الحسن الرضا ولي العهد إلى لندن. الواقفون من اليمين السادة: عبدالله إسماعيل بن لامين، الزبير لنقي (القنصل)، محمود البشتي، عبدالغني دريبيكة، -، شمس الدين محسن، - ، - ، السفير عبدالسلام البوصيري، بشير السني المنتصر، الأمير الحسن الرضا، العقيد راسم النايلي (ياور الأمير)، السفير (القاهرة) خليل القلال، فتحي الخوجة (كبير التشريفات الملكية) وفتحي العابدية (مستشار). الجالسون من اليمين السادة: يوسف البوصيري، أحمد عسكر، - ، - ، أحمد محمود المنتصر (طالب)، سليمان افتيتة، د. محمد محمود البشتي وعلى عسكر.

كان انطباعي أن رئيس الوزراء البريطاني ووزير الخارجية وجدا في إجابات الأمير العامة أنه غير مطلع على مجريات الأمور في ليبيا، وأن الملك لم يشركه في أمور الدولة. كما لاحظا ضعفه الثقافي واهتزاز شخصيته وعدم ثقته في نفسه، فلم يتكلم عن نفسه وطموحاته وأفكاره وآماله كملك المستقبل. وقد يكون هذا هو السبب في محاولات بريطانيا وأمريكا في السنوات الأخيرة التي تلت زيارته إلى واشنطن ولندن في التركيز على دور الأمير وإعداده للمستقبل وتدريبه ومشاركته في أمور الدولة، وشعورهما بعدم الاطمئنان لموقف الملك وبعض الشخصيات الليبية منه، ودوره غير الظاهر في مجريات الأمور في البلاد. بعد الانتهاء من الحفلة قال لي المستر هيلي وزير حكومة الظل للشئون الخارجية أني كنت الشخص الوحيد الذي استفاد من الحفلة، لأنني عرفت ما جرى بين الأمير ورئيس الوزراء ووزير الخارجية وفحوي تبادل الرأي بينهم، وهو الهدف لزيارة الأمير وهذه الحفلة.
في أواخر الفترة التي كنت فيها في بريطانيا تم نقل المستشار السيد فتحي العابدية إلى السعودية، على ما أذكر، وعين الدكتور عمر محمود المنتصر وزيرًا مفوضًا ومستشارًا مكانه. ولم تمض شهور حتى تقرر نقلي من لندن وتعييني كسكرتير أول في السفارة الليبية في القاهرة، وهكذا انتهت أسعد فترة قضيتها في حياتي أثناء عملي الحكومي. فقد استطعت في هذه الفترة مواصلة دراستي العليا، ولكنني لم أستطع دخول أي امتحان شهادة، كما كان متوقعًا، لأني لم أتمكن من مواصلة حضوري في الجامعة ومتابعة دراستي التي كنت حريص عليها لأسباب ضغط العمل واندماجي في الحياة الاجتماعية الجديدة. ولست نادمًا على ما فعلت، فقد استفدت من عملي الدبلوماسي أضعاف ما كنت سأستفيده من دراستي الجامعية. كما أن إطلاعي على مجرى الصحافة البريطانية ومتابعة ما يجري فيها ووضع تقارير كتابية يومية وأسبوعية عنها مكنني من توسيع معرفتي والاستفادة أكثر مما كنت أستطيع أن استوعبه في قاعات الدراسة والبحث.
كما مكنني عملي في لندن من التعرف بكثير من الشخصيات البريطانية ومقابلة ملكة بريطانيا والعائلة المالكة ورؤساء وزراء بريطانيا والوزراء في المناسبات التي ذكرتها، وكذلك قابلت الكثير من زعماء العالم الذين زاروا لندن في تلك الفترة وسفراء الدول وأعضاء السلك الدبلوماسي في لندن وهم خيار السلك الدبلوماسي في العالم. كما استطعت الاستفادة من الحياة الفنية في لندن ومشاهدة المسرح والأوبرا وحضور المحاضرات المتخصصة التي لا تتاح إلا للقلة من المثقفين ورجال الفكر، ومشاهدة متاحف لندن النادرة التي يقطع الناس آلاف الأميال للقدوم إلى بريطانيا لمشاهدتها. وكذلك أتاحت لي لندن فرصة العمر للالتقاء برفيقة حياتي التي أصبحت زوجتي بعد ذلك، وهي ألمانية المولد والجنسية، والتي لم أتمكن من الزواج منها في تلك الفترة لأسباب قانونية نظرًا لأن قانون السلك الدبلوماسي الليبي يمنع زواج أعضاء السلك الدبلوماسي من أجنبيات، بالإضافة لعوامل أخرى اجتماعية وسياسية، ولم يتم زواجنا إلا بعد زوال تلك العقبات وانتقالي للعمل في الأمم المتحدة بجنيف سنة 1977.

الانتقال إلى السفارة الليبية في القاهرة
في صيف 1961 استلمت برقية من وزارة الخارجية بدون سابق إنذار بنقلي إلى السفارة الليبية في القاهرة، وذلك في الوقت الذي كنت أنتظر فيه خبر ترقيتي إلى درجة سكرتير أول، التي طال انتظاري لها، بسبب تعديل الدرجات الدبلوماسية بجعل السكرتير الثاني بالدرجة الثالثة التي رقيت إليها، وأصبحت وظيفة السكرتير الأول الدرجة الثانية. وهكذا قضيت فترة درجتين الرابعة والثالثة في الخدمة المدنية تحت لقب سكرتير ثاني. وقد علمت أن سبب نقلي المفاجئ هو صدور أمر ملكي إلى رئيس الوزراء بنقل جميع موظفي السفارة الليبية في القاهرة فورًا وتغييرهم بآخرين لأسباب معينة.
وهكذا قامت وزارة الخارجية باتخاذ قرار عاجل بإجراء حركة تنقلات استثنائية بتوزيع موظفي سفارة القاهرة على عدد من السفارات ونقل موظفين من هذه السفارات ومن ديوان الوزارة إلى سفارة القاهرة. ونتيجة لذلك نقلت أنا من لندن كسكرتير ثان والسيد شمس الدين عرابي كمستشار من روما والسيد محسن عمير كسكرتير أول والسيد يحي زكريا كسكرتير ثان إلى السفارة الليبية في القاهرة دفعة واحدة. وكان السفير الليبي في القاهرة آنذاك هو السيد خليل القلال. كان نقلي من لندن قبل قضاء المدة المحددة، وهي أربع سنوات، صدمة لي لأسباب خاصة. وكنت قد قررت دخول المستشفى للعلاج وإجراء كشوفات عامة، مما اضطرني إلى طلب تأجيل نقلي إلى نهاية 1961م كفترة إجازة صحية وكذلك إجازاتي السنوية المتراكمة.
وهكذا قضيت فترة في العلاج والإجازة ولم أستطع الانتقال من لندن إلى القاهرة حتى نهاية 1961م. وقد مررت بليبيا في طريقي إلى مصر وقابلت وزير الخارجية السيد سليمان الجربي ووكيل وزارة الخارجية آنذاك الأستاذ مصطفى بعيو، الذي تربطني به علاقات قديمة، وكان أستاذي في المدرسة الثانوية وصديق لوالدي، كما أنه كان من مصراته. وكنت غاضبًا لنقلي العاجل من لندن، وكان لقاءًا عاصفًا، ولكنهما استطاعا تهدئتي وشرحا لي الظروف الاستثنائية التي فرضت هذا النقل المفاجئ، وسافرت بعدها إلى القاهرة.







في هذه الفترة عين أخي علي السني المنتصر، الذي كان في ديوان الوزارة منذ نقله من لندن سنة 1959، في الجزائر كقائم بأعمال أول سفارة ليبية فيها إثر إعلان استقلالها. وكانت تربطه روابط صداقة متينة بالرئيس بن بلة أثناء وجوده في طرابلس وزعماء ثورة الجزائر. وكانت فترة تعيينه قد تميزت بالصراع بين السيد بن يوسف بن خدة رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة وجيش التحرير بقيادة السيدين هواري بومدين وأحمد بن بلة. وكان أخي الأصغر الهادي السني المنتصر، الذي لا زال طالبًا، من العاملين النشطاء في تأييد جبهة التحرير الجزائرية وجمع المساعدات والتبرعات لها على المستوى الشعبي مع عدد من كبار أعيان طرابلس وتجارها، وكان الجزائريون يقدرونه ويعتبرونه كواحد منهم، وقد دعي بعد استقلال الجزائر مع وفد ليبي شعبي كبير لزيارة الجزائر.
وصلت القاهرة في يناير 1962م، ولم أزرها منذ تخرجي من الجامعة في يونيو 1956م، وقد وجدتها قد تغيرت في معالمها. وأقمت في شقة بالزمالك بجوار نادي الضباط مع الزميلين السيدين محسن عمير ويحيي زكريا فقد كنا جميعًا عزابًا. كان عملي بالسفارة الليبية في القاهرة ممتعًا، فقد أسندت لي مهام الشئون الصحفية، فأتيحت لي فرصة التعرف على الصحفيين المصريين ومن بينهم زكريا نيل مراسل الأهرام الذي عرفته منذ حضوره لاجتماع الجامعة العربية في بنغازي عندما كنت سكرتيرًا لرئيس الوزراء السيد عبدالمجيد كعبار، وكان كثير التردد على السفارة الليبية، كما تعرفت على آخرين من جريدة الجمهورية ودار أخبار اليوم ودار الهلال.
كان السفير الليبي في القاهرة السيد خليل القلال من الزعماء الليبيين الذين شاركوا في فترة الإعداد للاستقلال منذ الأربعينات، وكان قوي الشخصية ويرتبط بعائلتنا
بروابط الصداقة والقبيلة فهو من كوافي بنغازي التي تتفرع من كوافي مصراته. وكان على علاقات غير ودية بأبناء الشلحي، السادة البوصيري وعبدالعزيز وعمر، الذين كانوا يزورون الإسكندرية والقاهرة باستمرار، وأقام أخوهم السيد عمر في القاهرة.
وكانت زيارات السيد البوصيري الشلحي ناظر الخاصة الملكية إلى مصرتحظى باهتمام خاص من طرف السلطات المصرية، فكان حال وصوله يستقبله الرئيس عبدالناصر وتذاع المقابلة على الراديو والتلفزيون، كما يقابل السيد حسن إبراهيم وكبار المسئولين والوزراء المصريين ويناقش معهم العلاقات الليبية المصرية باسم الملك إدريس دون حضور السفير الليبي السيد خليل القلال، مما جعل هذا الأخير يشعر بالإهانة، وكانت علاقاته مع المسئولين المصريين على أسوأ حال.




السيد خليل القلال السيد البوصيري الشلحي
وأذكر أنه أثناء مرور الملك إدريس ببورسعيد على سفينة في طريقه للحج سنة 1962 ذهبنا جميعًا، السفير وأعضاء السفارة، للسلام علىه وتوديعه مع كبار المسئولين المصريين. وقد سلمنا على الملك وقدمني السفير للملك تقديمًا حارًا، وقال له هذا السيد بشير المنتصر ومن عائلة المنتصر المعروفة ودكتور في العلوم السياسية ومن أحسن موظفي السلك الدبلوماسي الليبي، وأضاف بأنه يعتمد عليّ في تسير عمل السفارة في القاهرة، وقد سر الملك بذلك ورحب بي ترحيبًا حسنًا وشد على يدي طوال حديث السفير عني.
كان السيد البوصيري الشلحي يرافق الملك ويعامل السفير بمنتهى العداء حتى في حضور الملك. وعندما انتهى الجميع من السلام على الملك اختلى السفير القلال بالملك للتشاور دون أخذ إذن من السيد البوصيري الشلحي، وقد رتب المقابلة للسفير السيد فتحي الخوجة كبير التشريفات الملكية. وعندما علم السيد البوصري الشلحي بالمقابلة الخاصة أسرع إلى الغرفة التي يستقبل الملك فيها ضيوفه وطلب من السيد فتحي الخوجة إنهاء المقابلة حالًا، وعندما تردد هذا الأخير، دخل السيد البوصيري على الملك وطرق الباب بشدة معلنًا انتهاء المقابلة على مسمع الملك، الذي أنهى المقابلة دون اعتراض وعلى مسمع من جميع الحاضرين.
وكان السفير السيد خليل القلال قد تلقى رسالة من وزارة الخارجية في ذلك اليوم تعلمه بنقله من القاهرة إلى وزارة الخارجية في البيضاء كسفير تحت الطلب. وقد استغل السفير هذه الفرصة وطلب من الملك نقله إلى الرباط بدلًا من وضعه دون عمل في الوزارة، وقد وعده الملك بذلك، وفعلًا تم تعيينه في الرباط حال رجوع الملك إلى ليبيا. وكان السيد البوصيري الشلحي السبب في نقل السيد خليل القلال من مصر، لأنه كان يرفض استقباله في المطار عند قدومه إلى مصر ولا يهتم بزياراته، وهذا يحرج وضع السيد البوصيري أمام المسئولين المصريين. كما أن السيد خليل القلال رفض حضور جنازة السيد الأخضر العيساوي صديق الملك ورفيق جهاده الذي توفي في لندن عندما كان فيها للعلاج على حساب الحكومة الليبية ودفن في القاهرة.
كلف الملك السيد البوصيري الشلحي لحضور جنازة السيد العيساوي نيابة عنه، مما اعتبره السيد خليل القلال إهانة له، لأنه يعتبر نفسه هو الممثل الشخصي للملك في مصر. وهذا الاعتذار لعدم حضور السيد القلال الجنازة أتاح الفرصة للسيد البوصيري الشلحي أن يقترح على الملك نقله من القاهرة إلى وزارة الخارجية، وهو يعني في ليبيا بالنسبة للسفراء إحالة على التقاعد، لأن السفراء الليبيين كانوا من السياسيين ولا يتولون وظائف دبلوماسية في ديوان وزارة الخارجية، ولهذا كان السيد البوصيري الشلحي يريد عدم إعطاء السيد خليل القلال فرصة للاختلاء بالملك وطلب نقله إلى سفارة أخرى بدلًا من الخارجية. هكذا كان الملك يعامل وزراءه وسفراءه، يستمع من هذا وذاك ويرضي هذا وذاك، كالوالد الحنون يغضب أحيانًا على بعض أولاده ولا يعادي أحدًا منهم من أجل إرضاء الآخر، ولا يهمل أحدًا.









23 يونيو 1955م - السفير خليل القلال يسلم الرئيس جمال عبدالناصر قلادة إدريس الأول

كانت علاقتي مع السفير خليل القلال علاقة ممتازة. وقد لاحظ في ذلك اليوم على سفينة الملك أني كنت أجلس باستمرار إلى جانب السيد عمر الشلحي الذي جاء بدوره للسلام على الملك، لأنه كان مقيمًا في القاهرة، فلامني السفير وديًا قائلًا لقد لاحظت أن أعضاء السفارة بما فيهم أنا يحيطون بالسيد عمر الشلحي تاركين سفيرهم بمفرده (ويقصد نفسه).
كما ذكرت أسندت إلي في السفارة الشئون الصحفية، ولكن ما أن تقرر نقل السيد خليل القلال حتى رجع السيد مبروك الجيباني لتولي منصبه كملحق صحافي، وكان قد نقل إلى ليبيا ضمن الموظفين السابقين للسفارة الذين نقلوا جميعًا دفعة واحدة كما ذكرت أعلاه، ولم يتمكن من العودة بسبب معارضة السيد خليل القلال. ولما تقرر نقل السفير القلال من مصر سعى السيد الجيباني لدى الملك عن طريق أصدقائه أبناء السيد إبراهيم الشلحي للرجوع إلى وظيفته في القاهرة التي استمر يتولاها منذ أن أنشئت السفارة الليبية في القاهرة، وقد استقبله السفير القلال عند عودته ببرود. وبقدوم السيد مبروك الجيباني لتولي مهام الملحق الصحفي تفرغت أنا لشئون الجامعة العربية التي كنت أقوم بها مع السيد محسن عمير والتي تشمل حضور جلسات مجلس الجامعة ولجانها العديدة، وقد أتيحت لي الفرصة لدراسة الجامعة العربية ومشاكلها المختلفة المزمنة.
لم تطل فترة عملي بالسفارة الليبية في القاهرة فقد تقرر نقلي إلى ديوان الوزارة في أواخر سنة 1962م. وقبل أن أباشر عملي في وزارة الخارجية في البيضاء أخذت إجازتي السنوية وقضيتها في لندن لإعادة ذكرياتي الجميلة بها. وطبعا لم أكن راضيًا عن نقلي المتكرر، وقد أدت اعتراضاتي المتكررة إلى سوء العلاقات بيني وبين المسئولين في وزارة الخارجية في ليبيا. وقد حاولت أثناء مروري بالبيضاء من لندن إلى القاهرة عند نقلي إليها مقابلة السيد محمد عثمان الصيد رئيس الوزراء آنذاك للشكوى من سوء معاملتي من طرف المسئولين كما كنت أعتقد خاطئًا.
كنت أعرف السيد محمد عثمان الصيد جيدًا لما كان وزيرًا للصحة أثناء عملي مع السيد عبدالمجيد كعبار رئيس الوزراء السابق، ولكن يظهر أنه كان يعرف مشكلتي وسبب طلبي للمقابلة ولهذا حاول الصديق السيد حسن أبوخريص، الذي رشحت انتدابه من وزارة الخارجية لوظيفة السكرتير الخاص مع السيد عبدالمجيد كعبار واستمر مع السيد محمد عثمان الصيد، أن يقنعني بلطف بانشغال رئيس الوزراء ونصحني بعدم انتظار مقابلته لأن ذلك قد يأخذ وقتا طويلًا، وفهمت من ذلك أن طلبي للمقابلة قد رفض. ورغم ذلك أخبرني السيد حسن أبوخريص أنه يسعى للخروج إلى إحدى السفارات في الخارج، وأن رئيس الوزراء السيد محمد عثمان الصيد يفكر في تعييني لأحل محله. ولكن هذا لم يحدث، والحمد لله، لاستقالة حكومة السيد محمد عثمان الصيد بعد رجوعي إلى البيضاء مباشرة.

الانتقال إلى وزارة الخارجية في مدينة البيضاء
بعد نقلي من القاهرة إلى وزارة الخارجية في مدينة البيضاء أسندت لي مهمة رئاسة قسم الشئون العربية وجهاز فلسطين وكان أكبر الأقسام في الوزارة، وكان يضم السيدة الوحيدة فاطمة عاشور والسيد محمد هويسة وعددًا من الزملاء الجدد. وكنت أعتقد أن إقامتي بالبيضاء سوف تكون لفترة قصيرة لأنقل بعدها من جديد إلى إحدى السفارات الليبية، ولم أعرف ما يخبئه لي القدر بأن إقامتي في مدينة البيضاء ستستمر حتى الفاتح من سبتمبر 1969.







زملاء العمل بوزارة الخارجية الجالسون من الشمال الإخوة محسن عمير، بشير المنتصر، على المبروك ثم الدكتور محمد عزوز وآخرون
كان وزير الخارجية آنذاك هو السيد ونيس القدافي، وكان معروفًا بطيبة قلبه وإخلاصه للعمل وملازمته للمكتب ليل نهار، وسأتعرض للحديث عنه عندما أكتب عن الفترة التي كان فيها رئيسا للوزراء. كان الأستاذ مصطفى بعيو وكيلًا للوزارة وكانت علاقتي به جيدة منذ كان أستاذي في مدرسة طرابلس الثانوية، ورغم بعض المشاكل التي أثرتها معه بشأن نقلي المتكرر من السفارات، إلا أنني كنت على خطأ، فالموظف الدبلوماسي معرض للنقل وهى إحدى شروط الوظيفة.
أثناء تولي الشئون العربية سافرت عدة مرات إلى القاهرة لحضور اجتماعات الجامعة العربية. وبعد رجوعي في أواخر سنة 1962 من السفارة الليبية في مصر سافرت إلى جنيف سويسرا ضمن الوفد الليبي الذي ترأسه السيد خليفة موسى مدير عام الجمارك لحضور اجتماع "الغات". وكان السيد خليفة موسى ومنذ 1959، وبالرغم من وجودي في السفارة الليبية في لندن، يصر على ضمي للوفد الليبي لحضور هذا الاجتماع ويطلب ذلك رسميًا عن طريق رئيس مجلس الوزراء، رغم معارضة وزارة الخارجية التي ترى أن سفري لهذه المهمة قد يعطل بعض العمل الذي أقوم به في السفارة أو في وزارة الخارجية. والهدف من حضور ليبيا لهذا الاجتماع، كما بينت سابقًا، هو تقديم تقرير سنوي عن الإعفاءات الجمركية التي تتمتع بها صادرات ليبيا إلى إيطاليا، ويستدعي موافقة منظمة "الغات" وتجديد الإعفاء سنويًا للتأكد من حاجة ليبيا لمثل هذه المساعدة.
وكانت إيطاليا تعرف أن معظم المزارعين الكبار في ليبيا في ذلك الوقت كانوا من الرعايا الإيطاليين المقيمين في ليبيا، ولهذا تحرص إيطاليا على الموافقة على الإعفاء، كما أن ليبيا تصر عليه لأن صادرات منتوجاتها الزراعية إلى إيطاليا لا تستطيع منافسة الدول الأخرى في السوق الإيطالية، وكانت دول المغرب العربي الأخرى تتمتع أيضًا صادراتها الزراعية إلى فرنسا بالإعفاء لنفس السبب، وقد اضطرت ليبيا للتنازل عن هذا الإعفاء بعد بدء صادرات ليبيا من البترول.
كانت واجبات رئيس قسم الشئون العربية كثيرة، وكان بريد الجامعة العربية يصل في أكياس كبيرة يقوم القسم بإحالتها على الوزارات المختصة ويدرس معها جداول أعمال اللجان المختلفة، هذا بالإضافة إلى العلاقات الثنائية مع الدول العربية. كنت في نفس الوقت رئيسًا لجهاز فلسطين، وهو جهاز أسس في وزارات خارجية جميع الدول العربية مستقلًا عن الإدارات الأخرى بقرار من الجامعة العربية لضمان متابعة القضية الفلسطينية والقرارات الخاصة بها وإعطائها الأولوية. ومن مهامي حضور اجتماعات الجامعة العربية ولجانها العديدة بما فيه اجتماع أجهزة فلسطين.
ولما كنت في القاهرة حضرت أول اجتماع للجنة الدائمة للإعلام التابعة للجامعة العربية في الكويت بعد استقلالها سنة 1961. وقد استُقبلنا في الكويت استقبالًا رسميًا من طرف الشيوخ والوزراء وأمير الكويت نفسه الشيخ عبدالله السالم الصباح، وكذلك من طرف وزير الخارجية وولي العهد آنذاك الشيخ صباح السالم الصباح. وأذكر عندما قدمت نفسي للشيخ صباح السالم في الحفلة التى أقامها للوفود، بأني من ليبيا تهلل وجهه وقال إن ليبيا دولة ملكية كالكويت وظروفنا واحدة ونريد بناء علاقات متينه معها، وأصر على الإمساك بيدي وإبقائي واقفًا إلى جواره وهو يستقبل المندوبين العرب للاجتماع وكبار رجال السلك الدبلوماسي والمسئولين الكويتيين الذين قدمني إليهم. وبعد ذلك أصر على جلوسي إلى جانبه على الكنبة التي كان يجلس عليها، مما أحرجني، لأنه كان من بين الحاضرين وزراء ووكلاء وزارات من الدول العربية وأمين الجامعة العربية أولى مني بالجلوس إلى جانب ولي العهد.







وبعد انتهاء حفلة الاستقبال استدعى الشيخ صباح السالم أحد الشخصيات الكويتية وقدمني إليه، وقال لي هذا هو السفير الذي عينته في ليبيا وتونس والمغرب، وأريده أن يجتمع بك وبمندوب تونس ومندوب المغرب لتبادل الحديث عن دول المغرب وأفق التعاون مع الكويت. وفعلًا دعانا السفير الكويتي، أنا ومندوبي تونس والمغرب، إلى بيته وكان صالونه غاصًا بأمراء وأعيان الكويت. وبعد أن انتهت حفلة الاستقبال أبقانا أنا ومندوبي تونس (السيد الشاذلي زوكار) والمغرب حتى خرج الكويتيون، وبعدها دعانا للدخول لصالون آخر وقدمنا لزوجته وبناته المتخرجات من الجامعات الأمريكية، وكأنه يريد أن يرينا أنه رغم أن المرأة الكويتية محافظة في مجتمعها إلا أنها على درجة عالية من التقدم الاجتماعي والعلمي، خاصة أنه يعرف ويسمع أن المرأة في دول المغرب العربي أكثر تقدمًا واختلاطًا وتأثرًا بالحضارة الغربية.








1962م- بشير المنتصر يلقي كلمة ليبيا في اجتماع اللجنة الدائمة للإعلام التابعة للجامعة العربية بالكويت
وفي فترة عملي في وزارة الخارجية رجع السيد فتحي العابدية من السعودية ليكون مديرًا للإدارة السياسية بالوزارة ثم وكيلًا لها. وأود هنا أن أذكر أن علاقتي بالسيد العابدية كانت وطيدة منذ كنا معًا في السفارة الليبية في لندن ولهذا كان تعاوننا في الوزارة جيدًا، فالسيد العابدية وطني غيور وقومي مخلص لعروبته، ودراسة ومعالجة الشئون العربية معه كانت منتجة ومشجعة.
وفي أواخر فترة حكومة السيد محمد عثمان الصيد حصل تغيير وزاري تم بمقتضاه تعيين الدكتور عمر محمود المنتصر وزيرًا للخارجية والسيد الطاهر باكير سفيرًا لليبيا في القاهرة بدلًا من السيد خليل القلال الذي عين سفيرًا في الرباط كما أوضحت. وكان الجو السياسي يضيق الخناق على حكومة السيد محمد عثمان الصيد، فقد زادت الإشاعات حول فساد الوزراء وسوء الإدارة المتزايد، ولم تدم حكومة السيد محمد عثمان الصيد بعد التعديل إلا أسابيع معدودة، وحان الوقت للسيد محمد عثمان الصيد لتقديم استقالته.
لم يكن أحد يعرف ما يدور في رأس الملك في تلك الفترة، فدعوة الدكتور عمر محمود المنتصر الوزير المفوض في لندن وتعيينه وزيرًا للخارجية في حكومة السيد محمد عثمان الصيد، التي كانت في أيامها الأخيرة، أثار إشاعات عن استقالة حكومة السيد محمد عثمان الصيد وإحلال الدكتور عمر محمود المنتصر مكانه. وفعلًا تمت استقالة السيد محمد عثمان الصيد في مارس 1963، ولكن الملك اختار الدكتور محي الدين فكيني ليكون رئيسًا للحكومة خلفًا له، وذلك بدعم من السيد البوصيري الشلحي صديق الدكتور فكيني. وقد أبقى الدكتور محي الدين فكيني الدكتور عمر محمود المنتصر وزيرًا للعدل في حكومته.

فترة حكومة الدكتور محي الدين فكيني
بعد تجربته مع الساسة المخضرمين لرئاسة الحكومة فكر الملك في تجربة الشباب المتعلم، ولهذا لم يكن إجراء نقل الدكتور عمر محمود المنتصر من لندن وتعيينه وزيرًا للخارجية في أواخر حكومة بن عثمان سوى مؤشرًا لاحتمال تعيينه خليفة للسيد محمد عثمان الصيد. إلا أن الحاشية الملكية وعلى الأخص السيد البوصيري الشلحي، باستثناء الملكة، لم تكن تؤيد تعيين الدكتور عمر محمود المنتصر رئيسًا للحكومة. ولهذا فكر الملك في اختيار شاب آخر متعلم، فاستدعي الدكتور محي الدين فكيني من واشنطن، وهو صديق البوصيري الشلحي، وكلفه يوم 19 مارس 1963 بتأليف الحكومة بعد قبول استقالة السيد محمد عثمان الصيد. وعلى إثر ذلك نقل الأستاذ مصطفى بعيو وكيل وزارة الخارجية إلى الجامعة الليبية وعين بدله السيد فتحي العابدية وكيلًا للخارجية، وعين السيد شمس الدين عرابي مديرًا للإدارة السياسية.
كانت الحكومة الجديدة تضم معظم الوجوه القديمة مع بعض التغييرات وهو ما جرى العمل به منذ الاستقلال، فقد كان الملك يحرص دائمًا على عدم إحداث تغيير شامل فجأة، بل كان يجري التغيير تدريجيًا، حتى رؤساء الحكومات السابقين كانوا دائمًا وزراء في الحكومات المستقيلة السابقة، باستثناء الدكتور محي الدين فكيني وبعده السيد محمود المنتصر الذي اختير رئيسًا للوزراء بعد الدكتور محي الدين فكيني من خارج الحكومة المستقيلة.







الدكتور محي الدين فكيني شخصية معروفة وسمعته جيدة وهو يحمل أرقى الشهادات في القانون من فرنسا وهو من عائلة معروفة منذ أيام الجهاد الليبي، وقد قوبل تعيينه بالترحيب، وخاصة في ولاية طرابلس، ولكنه لم يكن معروفًا في برقة، مما جعله موضع شك وحذر. كانت سنة 1963 مليئة بالأحداث العربية، وكان الدكتور محي الدين فكيني يعطي الشئون العربية اهتمامًا خاصًا، ولهذا كان السيد فتحي العابدية كثيرًا ما يأخذني معه بصفتي رئيسًا لقسم الشئون العربية في مقابلاته لرئيس الوزراء عندما يدرس معه الشئون العربية لثقته فيّ وتقديره للجهود التي أبذلها في عملي.
أثناء هذه الفترة بين استقالة السيد محمد عثمان الصيد وتعيين الدكتور محي الدين فكيني رئيسًا للوزراء سافرت إلى القاهرة لحضور اجتماعات مجلس الجامعة العربية. وكان سفير ليبيا في القاهرة السيد الطاهر باكير رئيس الوفد الليبي، وكان من الرعيل الأول ومن المثقفين في العلوم الدينية واللغة العربية، وهو من بيت علم في مدينة طرابلس ومن الساسة المحترمين شعبيًا، فوالده الشيخ إبراهيم وعمه الشيخ محمد كانا من كبار العلماء.
كان الشيخ إبراهيم باكير (1856-1942م) فقيهًا وعالمًا وشاعرًا فلقِّب بـ (شيخ مشايخ القطر الطرابلسي)، ولد وتوفي بطرابلس. أثناء الحكم التركي ترأس محكمة الاستئناف، وفي سنة 1906م عين مفتيًا لطرابلس. ولما احتل الإيطاليون طرابلس هاجر إلى سوريا سنة 1912م وبقي بها نحو ثماني سنوات، ولما عاد إلى طرابلس عين عضوًا بالمحكمة العليا الشرعية ثم رئيسًا لها، كما كان في نفس الوقت إمامًا لمسجد درغوت باشا بطرابلس. ومن مؤلفاته: (رسالة في علم المنطق) و(رسالة في علم البيان) و(منظومة في الحكمة والأدب) و(فتاوى على المذهب الحنفي)، وله ديوان شعر لا يزال مخطوطًا عند الأديب علي مصطفى المصراتي ولم يطبع بعد. وللشيخ إبراهيم باكير أبيات شعر مشهورة في البازين الأكلة الشعبية الأولي في ليبيا تقول:
خير الموائد عندنا البازين .. واللحم حوله ناضج وسمين
فاقطع بكفك قطعة من أصله .. ثم أدلكنها جيدًا فــتلين
حتى إذا ما أشبعت مرقًا فكل .. بالخمس من يمناك فهي تعين
هذا هو الأكل اللذيذ وإنه .. ذو لذة للآكلين تبين
وبعد ذا كاسات شاي أخضر .. ورقيلة صوت لها ورنين



كان السيد الطاهر باكير لا يتفق في الرأي مع الساسة المصريين بسبب سياستهم الليبرالية وطموح الرئيس عبدالناصر للسيطرة والهيمنة على العالم العربي. وكان يشكو من كثرة وثائق اجتماع مجلس الجامعة العربية، ولهذا كان يرجع إليّ عند مناقشة هذه الوثائق على أساس أني قادم من ليبيا وقد درست مع المسئولين في وزارة الخارجية جدول أعمال مجلس الجامعة في ضوء السياسة الليبية. وكان دائمًا يتجنب الاصطدام مع الوفد المصري، فسياسة مصر ليبرالية وسياسة ليبيا محافظة، وكانت قضية الاعتراف بالانقلاب في اليمن على قائمة جدول الأعمال مجلس الجامعة العربية الذي جئت لحضوره.







بشير المنتصر والسيد الطاهر باكير السفير الليبي في القاهرة يحضران اجتماعا لمجلس الجامعة العربية

كانت ليبيا الدولة الثانية بعد السعودية التي لم تعترف بالانقلاب في اليمن حتى ذلك الحين. وكان السيد محمد عثمان الصيد يحاول قبل استقالته الحصول على موافقة الملك للاعتراف بالوضع الجديد في اليمن لكنه لم ينجح في ذلك، فموقف الملك من الانقلابات العسكرية ضد الأنظمة الملكية معروف منذ موقفه من انقلاب العراق. وقد غادرت البيضاء دون تعليمات محددة في هذا الموضوع لأننا لم نحصل في وزارة الخارجية على توجيهات الملك ورئيس الوزراء بعد استقالة السيد محمد عثمان وتولي الدكتور محي فكيني مهمة تأليف حكومته. وقد أدي الوضع الجديد إلى تأخري في السفر إلى القاهرة وقد وصلت بعد جلسة مجلس الجامعة الأولى. وأذكر أن السفير وأعضاء السفارة الليبية كانوا ينتظروني على أحر من الجمر لمعرفة تعليمات الحكومة في موضوع الاعتراف بالوضع في اليمن.
علمت من الوفد الليبي أنه فعلًا تم عرض موضوع الاعتراف بالنظام الجمهوري في اليمن في أول الجلسة الافتتاحية لمجلس الجامعة العربية. ورغم اقتراح عضو الوفد الليبي السيد شمس الدين عرابي على السفير طلب تأجيل الموضوع حتى تصل تعليمات الحكومة الليبية، إلا أن السفير، وهو رئيس الوفد، تردد ولم يأخذ الكلمة، وكان يخشى رد الفعل في الإعلام المصري وإذاعة صوت العرب، ولهذا اتخذ موقف الصمت. لم يطلب رئيس مجلس الجامعة العربية التصويت على القرار وأعلن موافقة جميع أعضاء المجلس باستثناء المملكة السعودية، التى تحفظت، على الاعتراف بالنظام الجديد في اليمن. ولم يعلق السفير الليبي، ولكنه في نهاية الجلسة أسر للأمين العام للجامعة العربية بأن وفده لم يعلن رأيه في القرار منعًا لأي خلاف بين أعضاء الجامعة رغم وصول تعليمات من حكومته، وكان رد الأمين العام عبدالخالق حسونة باشا دبلوماسيًا، وقال للسفير نعم ما فعلت يا سعادة السفير.
وما أن انتهت جلسة المجلس في ذلك اليوم حتى بادرت الصحف المسائية المصرية في اليوم نفسه والصحافة المصرية في صباح اليوم التالي، معلنة في صفحاتها الأولى بالخطوط العريضة الحمراء خبر اعتراف ليبيا بجمهورية اليمن، وخصصت الإذاعات المصرية والعربية حيزًا كبيرًا للخبر. وعندما عرف السفير السيد الطاهر باكير أني لا أحمل تعليمات الحكومة في الموضوع أصيب بانزعاج كبير تحسبًا من ردة فعل الملك عندما يسمع الأخبار بالاعتراف باليمن دون موافقته، وهو دائما يتابع أخبار الإذاعة المصرية ولندن. وأذكر أننا بقينا في السفارة ساعات طويلة لإعداد برقية مطولة إلى وزارة الخارجية في ليبيا، نشرح فيها ما جرى في مجلس الجامعة، وعدم إعطاء رئيس مجلس الجامعة الفرصة للسفير الليبي إبداء رأيه، واستغلال الإعلام المصري لهذا الموقف.
وفي صباح اليوم التالي وصلت برقية من وزارة الخارجية الليبية بموافقة الحكومة الليبية على الاعتراف بالنظام الجمهوري الجديد في اليمن، وكان هذا أول قرار لحكومة الدكتور محي الدين فكيني الذي استطاع الحصول على موافقة الملك عليه أثناء حلف اليمين، إذ لم يكن من عادة الملك رفض اقتراحات رؤساء حكوماته في أيامهم الأولى في الحكم، مهما كانت خطورتها. وهكذا تهلل وجه السفير باكير بشرًا وفرحًا، واعتبره نصرًا شخصيًا، وأن موقفه في مجلس الجامعة كان نصرًا لليبيا، وتحسينًا لسمعتها، والإشادة بدورها الفعال في السياسة والقضايا العربية.
تأخر اعتراف ليبيا بالنظام الجمهوري في اليمن يعطي دليلًا آخر على كراهيه الملك للحكومات العربية الليبرالية والثورات العسكرية، ومناصرته للأنظمة الملكية والأسرة الهاشمية وأهل البيت بالذات. كما يدل على إيمان الملك بدوره في حكم البلاد بما يراه هو، ولا عبرة لرأي الآخرين، وأن القرارات الهامة في الشئون الداخلية والخرجية تجب موافقته عليها قبل صدورها، مما يجرح شعور رؤساء حكوماته المسئولين دستوريًا على هذه القرارات أمام مجلس الأمة، وخاصة أن الملك كثيرًا ما يصدر تعليماته شفويًا أو عن طريق سكرتيره الخاص دون مناقشتها مع رئيس الوزراء مقدمًا.
كانت سنة 1963م مثيرة بالقرارات الوطنية الشجاعة لحكومة الدكتور محي الدين فكيني الذي كان متواضعًا في تسييره لأمور الدولة، وكان يستعين برأي كبار الموظفين الذين لم يتعودوا على هذه المعاملة على هذا المستوى. وأذكر أنني اقترحـت بصفتي رئيس قسم الشئون العربية وفلسطين أكثر من مرة على وكيل الوزارة السيد فتحي العابدية أن يقترح على رئيس الوزراء استدعاء السفراء الأجانب للاحتجاج على أي إجراء تعسفي إسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني أو مساس بالقضايا العربية، وإذاعة مثل هذه المقابلات عبر وسائل الإعلام لإظهار مشاركة الحكومة الليبية لشعور الشعب الليبي والرأي العام العربي بما يجري فى المنطقة العربية، وهو ما كان يشكو منه الشعب الليبي في عهد الحكومات السابقة، حيث كان مغيبًا عما يجري من أحداث عربية هامة، تجنبًا لأية مظاهرات وما يتخللها من حوادث الشغب، ويعتمد الشعب الليبي في معرفة ما يجرى على بعض الإذاعات العربية الليبرالية التى كانت تثير الشعوب العربية ضد حكامها، وتستعمل القضية الفلسطينية وسيلة لهذا الهدف.
وأود هنا أن أذكر بأننا كنا كموظفين في مجالاتنا الدبلوماسية نتجاوب مع ما يحدث في فلسطين والعالم العربي والعالم الإسلامي، وكنا نصارح الدبلوماسيين الغربيين ممثلي الدول الصديقة لإسرائيل بخطورة مثل هذه الأعمال التعسفية التي تقترفها إسرائيل في فلسطين على العلاقات بين بلادهم وليبيا التي هي جزء من الوطن العربي، ونطلب منهم بإلحاح نقل ذلك إلى حكوماتهم ولفت نظرها إلى الأثار السيئة التي تحدثها مثل هذه الأعمال الإسرائيلية على مصالحها في المنطقة العربية، وضرورة عدم ترك إسرائيل تتمادى في عدوانها على الشعب الفلسطيني. وللتاريخ أقول، كان هؤلاء السفراء والدبلوماسيون يتجاوبون معنا في نقل كل ذلك إلى حكوماتهم، وكانوا يصارحوننا بالصعوبات والضغوط التي تتعرض لها حكوماتهم وبرلماناتهم ووسائل الإعلام من اللوبي (lobby) الصهيوني المؤيد لإسرائيل في العواصم الغربية، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان الدبلوماسيون الأجانب دائمًا ينقلون صورة حية وحقيقية لما يجري في البلاد التي يمثلون بلادهم فيها. وكنا في وزارة الخارجية تنقصنا المعلومات الدقيقة عما يجري في العواصم العربية والغربية نتيجة لضعف الجهاز الدبلوماسي الليبي في الخارج. وكان الدبلوماسيون الأجانب مصدر معلومات بالنسبة لنا، لأنهم كانوا يوفرون لنا المعلومات عما يجري في المنطقة العربية والعالم، التي تصلهم تباعًا من حكوماتهم وسفاراتهم في دول العالم، وخاصة في الدول العربية، وما ينشر في صحف بلدانهم اليومية والمتخصصة.
حاولت أثناء عملي كرئيس لقسم الشئون العربية تنظيم وثائق القسم، وهي كثيرة، وكان يساعدني موظفون أكفاء وعلى رأسهم السيدة فاطمة عاشور، أول دبلوماسية في السلك الدبلوماسي الليبي، والسيد محمد هويسة. وفي هذه الفترة، وبطلب من وكيل وزارة الخارجية، اشتركت مع المستشار السيد العارف بن موسى ولفيف من الزملاء في الوزارة للإعداد لمؤتمر القمة الإفريقي الأول الذي عقد في أديس أبابا في مايو 1963 والذي شاركت ليبيا فيه بوفد يرأسه الأمير الحسن الرضا ولي العهد، وكنت من ضمن أعضائه. وكان المستشار السيد العارف بن موسى مشهورًا بحرصه الشديد على إنجاز ما يسند إليه من مهام بكل إخلاص واتقان مبالغ فيهما. فقد أعددنا بإرشاداته أرشيفًا كاملًا لجميع قرارات المؤتمرات الإفريقية السابقة وقرارات الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة المتعلقة بالقارة الإفريقية، وقمنا بإجراء الدراسات الوافية على جدول أعمال القمة الإفريقية والمشاكل الإفريقية، كما أعددنا التوصيات عن مجالات التعاون الإفريقي، التي سيقترحها الوفد الليبي على مؤتمر القمة.
تألف الوفد الليبي برئاسة الأمير الحسن الرضا ولي العهد نيابة عن الملك الذي اعتذر لظروفه الصحية وتعذر سفره جوًا، لأنه لم يركب الطائرة طوال حياته. وكان الدكتور وهبي البوري وزير الخارجية رئيسًا للوفد الليبي إلى مؤتمر وزراء الخارجية الذي كلف بإعداد جدول أعمال وتوصيات مؤتمر القمة. وقد شارك الوفد الليبي مشاركة فعالة، رغم الخلاف بين الدكتور وهبي البوري والسيد العارف بن موسى حول محتوى كلمة ولي العهد في المؤتمر. فقد أصر السيد بن موسى على أن تكون الكلمة بالصيغة التي أعدت في البيضاء وأطلع عليها مجلس الوزراء، بينما رأى الدكتور وهبي البوري تعديلها حسب المستجدات في المؤتمر، وفعلًا تم ذلك. لكن السيد العارف بن موسى أصر على تقديم التوصيات الكثيرة التي أعدها الوفد الليبي إلى القمة مباشرة، بعد تعذر دراستها من طرف وزراء الخارجية.








بشير السني المنتصر ضمن الوفد الليبي برئاسة الأمير الحسن الرضا ولي العهد في مؤتمر القمة الإفريقي الأول الذي عقد في أديس أبابا في مايو 1963م برئاسة أمبرطور أثيوبيا هيلا سيلاسي والذي أقر فيه ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية
كانت القرارات أمام القمة تقتصر على الموافقة على ميثاق المنظمة وملاحقه، وترك بقية القرارات في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى دورة قادمة، بعد التصديق على ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية من السلطات التشريعية للدول الأعضاء وبعد تأليف اللجان المتخصصة في المجالات المختلفة. ولم يعجب هذا السيد العارف بن موسى، وأصر على تقديم توصيات الوفد الليبي العديدة كاملة في اجتماع القمة النهائي بدون موافقة وزراء الخارجية الأفارقة والدكتور وهبي البوري. ورغم عدم إدراجها في جدول الجلسة الختامية للقمة، إلا أن السيد العارف بن موسى طلب الكلمة في الاجتماع الختامي وأثار موضوع توصيات الوفد الليبي، مما أحرج السكراتيرية. وبعد مداولات جانبية اقترح رئيس المؤتمر الموافقة على أن تلحق التوصيات الليبية في المسائل الاقتصادية والثقافية على اللجان المختصة بعد إنشائها، واقتصر قرار المؤتمر على الموافقة على الميثاق كما كان مقررًا. وقد أعتبر السيد العارف بن موسى هذا نجاحًا خاصًا للوفد الليبي.








الرئيس الجزائري أحمد بن بلة (الأول من اليمين) والسيد الحسن الرضا ولي العهد في استقبال الرئيس جمال عبدالناصر

وقد كان المؤتمر عظيمًا ومهرجانًا أفريقيًا تاريخيًا تصالح فيه الخصوم، وضم الأباء المؤسسين لأفريقا الحرة أمثال كوامي نكروما وهيلا سيلاسي والحبيب بورقيبة وجمال عبدالناصر وباتريس لومومبا وأبوبكر طفاوة بن عليوة وغيرهم. وكانت آمال وطموحات الإفريقيين في أوج ذروتها. وقد حقق المؤتمر نجاحًا بالموافقة على ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية. وكان المؤتمر فرصة لنا جميعًا لحضور هذه المناسبة التاريخية العظيمة، وأن نستلم ميدالية المؤسسين للمنظمة التي وزعت على جميع أعضاء الوفود التي حضرت المؤتمر.










الزعماء الأفارقة في طريقهم إلى صالة الاجتماعات

ومن أهم الأحداث التي عايشتها في هذه الفترة أن بعض زعماء الدول الإفريفية كانوا مهتمين بالاشتباك المسلح بين الجزائر والمغرب نتيجة نزاع على الحدود بينهما، ولهذا قرر ستة من زعماء أفريقيا، كان من بينهم الرئيس عبدالناصر إمبراطور الحبشة، عقد اجتماع لبحث هذا النزاع في مدينة طرابلس لموقعها الجغرافي المتوسط، وموقف ليبيا المحايد، دون الرجوع إلى الحكومة الليبية وأخذ رأيها مسبقًا في الموضوع على أساس أن هذا الموضوع يهم الجميع. وأذيع الخبر في الإذاعات العالمية، ويظهر أن الملك كان يستمع إلى إذاعة لندن التي أذاعت هذا الخبر، فاتصل برئيس الوزراء مستفسرًا عن صحة الخبر وعما كان قد وافق على مثل هذا المؤتمر. وطبعًا نفى رئيس الوزراء علمه بالموضوع، وحتى لا تفاجأ ليبيا بالأمر الواقع ووصول الزعماء، طلب الملك من رئيس الوزراء إبلاغ الرؤساء المعنيين بعدم إمكانية عقد هذا المؤتمر في طرابلس لعدم توفر الإمكانيات.
والحقيقة أن الملك خشي أن يتم هذا الاجتماع في طرابلس ويحضره الرئيس جمال عبدالناصر، وما قد يؤدي إليه حضوره من قيام الشعب الليبي بالترحيب به بشكل قد يؤدي إلى عدم السيطرة على الأمن في البلاد وقيام مظاهرات يصعب السيطرة عليها، وقد تؤدي إلى نتائج وخيمة. وسرعان ما اتصل رئيس الوزراء بوكيل وزارة الخارجية السيد فتحي العابدية الذي بدوره اتصل بي والسيد محسن عمير، وكان آنذاك مديرًا للإدارة السياسية، وطلب منا الحضور إلى مكتبه في ساعة متأخرة من الليل لدراسة الموضوع وتنفيذ تعليمات الملك.
ورغم أن السيد العابدية كان قوميًا متعصبًا للعروبة والرئيس عبدالناصر، إلا أنه كان ينفذ تعليمات الملك ورئيس الوزراء دون اعتراض، لذلك قام بالاتصال بالسفارات الليبية في العواصم المعنية وطلب منها الاتصال بالجهات المختصة والإعراب عن الأسف بعدم إمكانية عقد مؤتمر القمة المقترح في طرابلس. وكان السيد فتحي العابدية قد طلب مني والسيد محسن عمير رأينا في الموضوع، فأعرب السيد محسن عمير عن رأيه بصراحة قائلًا إن عقد مثل هذا الاجتماع في ليبيا شرف لها ويدعم حيادها في النزاعات القائمة ودورها الإفريقي والإسلامي. فأوضح له السيد فتحي العابدية بأن الأوامر صدرت بالاعتذار، لكن إذا أصر السيد محسن عمير على رأيه فيمكن رفعه إلى الملك، ولكن السيد محسن عمير سحب تعليقه بحجة أن هذا من مهام رئيس الوزراء لا من موظف في الخارجية. وفعلًا قمت أنا والسيد عمير بالاتصال بالسفراء المعنيين في ليبيا وإبلاغهم الاعتذار عن عقد المؤتمر المقترح في ليبيا، وكان السفراء الذين اتصلنا بهم لا يعرفون شيئا عن الموضوع. وكان هذا الحدث صدمة لنا جميعًا وللدكتور فكيني الذي كان يأمل في انتهاز سياسة عربية متحررة لحكومته الجديدة.
كان الدكتور فكيني متحمسًا وكان يأمل في إصلاح الوضع السياسي في ليبيا وتحسين الظروف التي كانت تعيشها البلاد. وفعلًا توحدت البلاد وانتهى النظام الاتحادي، وحاول الوقوف في وجه الضغوط الخارجية والداخلية وتدخل الحاشية الملكية في شئون الحكومة. وكان يأمل أن يساعده صديقه السيد البوصيري الشلحي، ولكن هذا الأخير كان بدوره يواجه صعوبات مع المسئولين في برقة ويتجنب الاصطدام بهم لنفوذهم لدى الملك ويأمل من أن يتمكن رئيس الحكومة من السيطرة على البلاد وإضعاف نفوذهم، مما يزيد من نفوذه هو أيضًا. وهكذا وجد الدكتور محي الدين فكيني معارضة متزايدة من زعماء برقة يتزعمهم الفريق محمود أبوقويطين قائد قوة دفاع برقة والمدير العام للأمن في ليبيا وهو من أقوى الشخصيات التي كان لها نفوذ عند الملك.
كان رئيس الحكومة يأمل الإقلال من مشاريع البناء الضخمة في البيضاء ويفكر في تحويلها إلى مدينة جامعية، وقد أصدر أوامره فعلًا بتحويل بعض المباني لهذا الغرض، مما زاد من قوة معارضة زعماء برقة له. لا أستطيع أن أتعرض لمزيد من التفاصيل عن سياسة الدكتور محي الدين فكيني لأنني لم أكن قريبًا منه. ويقال عنه إنه كان واقعًا تحت تأثير أخيه السيد علي فكيني الذي كانت له طموحات كبيرة في حكم البلاد والحصول على تعويضات مادية من الحكومة عن أملاك عائلته التي صادرتها إيطاليا في الحرب الليبية الإيطالية، ومنها بيتهم الكبير في شارع ميزران بطرابلس الذي شيدته إيطاليا وجعلته بيتًا لكبار موظفيها والذي أرجعه السيد محمد عثمان الصيد لهم عندما كان رئيسًا للوزراء.
من مصادفات القدر أني سافرت في نهاية 1963م في إجازة إلى لندن وكانت عادتي أن لا أعطي عنواني لأحد حتى لا أستدعى من الإجازة لأي سبب من الأسباب. وكانت التحضيرات تجري لحضور ليبيا لمؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة الذي خصص لدراسة قضية فلسطين والقيادة العربية المشتركة وتنسيق جهود الدول العربية لمواجهة الصراع العربي الإسرائيلي في المرحلة القادمة. كانت فترة تتميز بغليان الشارع العربي لموقف حكوماته المتخادل والسلبي من القضية الفلسطينية منذ الاعتداء الثلاثي على مصر سنة 1956م. كنت أنوي أخذ قسط من الراحة قبل عقد المؤتمر، ولكن لظروف طارئة لم أكن أعرفها تم تقديم تاريخ موعد عقد المؤتمر ولم تتمكن وزارة الخارجية من معرفة عنواني لدعوتي للعودة، فقد كنت رئيس قسم الشئون العربية وقسم جهاز فلسطين ودوري كان هامًا للإعداد والمشاركة في مؤتمر القمة.
وهكذا لم أحضر المؤتمر الذي كان الرأي العام العربي يتابعه باهتمام، وكان الشعب الليبي من أكثر الشعوب العربية تحمسًا واهتمامًا بالمؤتمر. وأثار اعتذار الملك عن الحضور وإنابة ولي عهده غضبًا شعبيًا كبيرًا في ليبيا وقامت المظاهرات الصاخبة في مدينة بنغازي واصطدم الطلاب مع قوات الأمن، مما أدى إلى سقوط ضحايا من الطلاب، واتهمت فيها قوة دفاع برقة باستخدام العنف المبالغ فيه إلى حد دخول المدرسة الثانوية في بنغازي تعقبًا للطلاب.
وقد أثارت هذه الحوادث غضبًا شعبيًا كبيرًا في بنغازي وتجاوب الشعب والطلاب في طرابلس وبقية المدن الليبية مع إخوانهم في بنغازي وقامت مظاهرات عارمة لم تعرفها البلاد في الماضي. وكان رئيس الحكومة في هذه الفترة في القاهرة لحضور مؤتمر القمة، وحال رجوعه ألقى خطابًا هامًا في إحدى المظاهرات في مدينة طرابلس مؤكدًا بأن التحقيق سيأخذ مجراه ضد ضباط الأمن المسئولين عن استعمال العنف في بنغازي، وأصدر قرارا بإيقاف كبار ضباط القوة المتحركة في برقة، مما أدى إلى اصطدامه مع مدير الأمن العام الفريق محمود أبوقويطن الذي وقف مؤيدًا لضباطه.
وفي طرابلس رفض ضباط الأمن تنفيذ الأوامر الصادرة لهم من الفريق أبوقويطين بفض المظاهرات باستعمال القوة خوفًا من ملاقاة نفس مصير إخوانهم الضباط في برقة، مما اضطر الفريق أبوقويطين للتدخل وأمرهم على مسئوليته الخاصة، لأنه هو المسئول عن أمن البلاد، وليست الحكومة. بل أكثر من هذا اتهم رئيس الوزراء بمحاولة بلبلة الرأي العام وتعريض الأمن للخطر، وكذلك لإصدار أوامره إلى قوات الأمن برفع الحراسة عن المسئولين السابقين، ووقف كل المرتبات والهبات التي كانت تدفع لبعض المسئولين ومشايخ القبائل في برقة.
وأمام هذا التحدي لسلطاته وجد رئيس الوزراء نفسه مضطرًا إلى أن يطلب من الملك الموافقة على مرسوم بإعفاء الفريق محمود أبوقويطين من منصبه. ووجد الملك نفسه في موقف حرج بين رئيس وزرائه الدكتور فكيني والفريق محمود أبوقويطين أخلص إنسان إليه. فالفريق محمود أبوقويطين يعتبر من أقرب الناس إلى الملك وخدمه طوال حياته في المهجر وبعد الاستقلال. وهكذا طلب من الدكتور محي الدين فكيني تقديم استقالته وتكليف السيد محمود المنتصر برئاسة الحكومة الجديدة. وقد سمعت من السيد إدريس بوسيف سكرتير الملك الخاص بعد ذلك أن الملك قضى أيامًا عصيبة ولم يغمض له جفن أثناء هذه الأزمة وكان يصلي طوال ليله مستخيرًا إلى الله أن يهديه القرار السديد. وفي صباح أحد الأيام بعد صلاته للصبح أبلغه بأنه بعد تفكير عميق وجد أن البلاد في خطر وفي حاجة إلى رئيس وزراء حازم لينقذها مما هي فيه كما أنقذها في السنوات الأولى للاستقلال وأن هذا الشخص في نظره هو السيد محمود المنتصر.













مارس 1957م: من اليمين إلى اليسار السيد الفريق محمود أبوقويطين قائد عام قوة دفاع برقة، السيد وهبي البوري وزير الخارجية، السيد فتحي الكيخيا نائب رئيس مجلس الوزراء، المستر ريتشارد نيكسون نائب الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، السيد أبوسيف ياسين ناظر الداخلية بولاية برقة

من الأحداث التي أذكرها عندما كنت في الخارجية زيارة المستر ريتشارد نيكسون نائب الرئيس الأمريكي إلى ليبيا سنة 1957، أثناء حكومة السيد مصطفى بن حليم، وكنت ضمن بعض موظفي وزارة الخارجية الذين قدموا إليه من طرف السيد سليمان الجربي وكيل وزير الخارجية آنذاك. وكان اللقاء على ما أذكر في فندق الودان بطرابلس، وقد كان نيكسون محاطًا بحرس في داخل الحجرة التي استُقبلنا فيها، إلا أني لا أذكر تفاصيل عن زيارته ومقابلاته لأنني كنت حديث التعيين في الخارجية.

مواقف طريفة من البيضاء
رغم أني عشت في مدينة البيضاء حوالي سبع سنوات، ورغم مضي السنوات الطويلة لا زالت هذه المدينة الجبلية على لساني تذكرني بالحياة غير الطبيعية التي كان يعيشها الوزراء والموظفون الليبيين في هذه المدينة الجبلية الصغيرة، فقد فرضت عليهم الحياة في البيضاء دون عائلاتهم وبعيدًا عن أعمالهم ومسئولياتهم وأصدقائهم ومجتمعاتهم. وكما هي العادة عندما لا يستطيع الإنسان إبداء رأيه وإعلان معارضته يلجأ إلى النكتة. ومدينة البيضاء كانت موضع سخرية ونكت المقيمين فيها من وزراء وموظفين جاء معظمهم من طرابلس وبنغازي حيث يستقر معظم السكان.
وأذكر في سنة 1958 في أيام السيد عبدالمجيد كعبار رئيس الوزراء تقرر نقل الحكومة إلى البيضاء في فترة الصيف، ولم يكن في البيضاء استعداد لمكاتب وبيوت الوزراء وكبار الموظفين. وخصص المكتب القديم للمتصرفية أو المديرية لرئاسة الحكومة ومجلس الوزراء، وخصصت بعض الفيلات القديمة التي كانت لموظفي الحكومة الإيطالية لإقامة الوزراء العزاب. وخصص لكل وزيرين فيلا واحدة صغيرة مكونة من حجرتين، وكان الحاج إسماعيل بن لامين وزير المالية والشيخ عبدالحميد الديباني وزير العدل يقيمان في فيلا واحدة.
وأذكر أن الحاج إسماعيل بن لامين، وهو مشهور بالنكتة الليبية البسيطة، علق على رفيقه في الفيلا الشيخ الديباني، فقال إن الشيخ عبدالحميد يقوم الساعة الخامسة صباحًا ويستحم في الحمام ويصلي الفجر ثم ينام، ويقوم بعد ذلك الساعة الثامنة ويستحم من جديد ليكون طاهرًا لأوقات الصلاة الأخرى. ولما كان سخان المياه يحتاج إلى ساعتين أو أكثر لتسخين الماء فإن الحاج إسماعيل بن لامين عندما يصحى في الساعة التاسعة يجد المياه باردة يتعذر معها أخذ حمام، فسأل زميله في الفيلا الشيخ عبدالحميد الديباني لماذا يستحم مرتين كل صباح في الساعة الخامسة وفي الساعة الثامنة، فكان جواب الشيخ عبدالحميد بسيطًا وفي كلمتين: "أضغاث أحلام يا إسماعيل بي".
ويحكي الحاج إسماعيل بن لامين نكتة أخرى عن الشيخ الطاهر باكير وزير المعارف آنذاك، ويقول إن الشيخ الطاهر باكير الرجل الأرستقراطي ابن المدينة مل حياة البيضاء، وكان ينتقد انتقال الحكومة إليها بشدة، وقال إنه سيشرح للملك في أول اجتماع له معه الظروف الصعبة التي يعيشها الوزراء والموظفون في مدينة البيضاء ويطلب منه نقل الحكومة من البيضاء إلى طرابلس العاصمة. وعندما اجتمع الملك بالوزراء بعد ذلك بدأ الشيخ الطاهر باكير الكلام قائلا: "البيضاء يا مولاي.."، وقبل ان يستمر في الكلام قاطعه الملك بشدة ناهرًا: "مالها البيضاء؟" فعرف الشيخ باكير أنه يخوض مياهًا عميقة فأكمل قوله البيضاء: "يا مولاي مدينة عظيمة هواؤها عليل وموقعها في الجبال جميل، خضراء تسر الناظرين، وجوها صحي والوزراء والموظفون فيها سعداء، وشكرًا لمولاي على اختياره لها مقرًا للحكومة". وعندما خرج الوزراء من اجتماع الملك سألوا الشيخ الطاهر باكير عن سبب تحوله من الشكوى إلى الإشادة بالبيضاء في حضرة الملك فقال: "أردت أن أشكو من الحياة في مدينة البيضاء ولكن لساني نطق بما يريده مولاي الملك!"
وفي سنة 1966م رجع أخي علي من سفارة ليبيا في روما إلى وزارة الخارجية التي كان مقرها البيضاء في تلك الفترة وأقام معي في بيتي، وكان بيتي مجاورًا لبيت الشيخ سالم لطفي القاضي وزير المالية. وكان الوزراء والموظفون عزّابًا وعائلاتهم في طرابلس وبنغازي ويقضون سهرات الليل مع بعضهم البعض يلعبون لعبة الورق ويطبخ سائقوا سياراتهم لهم طعامهم. وكان بيت الشيخ سالم لطفي القاضي قبلة كثير من الوزراء وكبار الموظفين، فقد عرف بكرمه، وكان بابه مفتوحًا للجميع. وكنت أنا وأخي علي نذهب بدورنا لقضاء السهرة معه تحت إصراره وكان يلعب الورق مع بعض ضيوفه.









منظر من البيضاء
وأذكر مرة كان الشيخ سالم القاضي منسجمًا في لعبة الورق فسأله أخي علي قائلًا: "أنتم الوزراء تقابلون الملك فلماذا لا تطلعوه وتقولون له الحقيقة وإننا نعيش في البيضاء حياة مهينة كالسجناء وكأننا في ثكنات من غير عائلات بعيدًا عن أهلنا وأصدقائنا". وكرر هذا السؤال عدة مرات، فما كان من الشيخ سالم القاضي إلا أن قال له بعنف: "توا نقولوله يا سيد علي!" (سوف نقول له يا سيد علي) تهكمًا بمعنى من يجرؤ أن يقول للملك إن البيضاء غير لائقة كعاصمة، واستمر الشيخ سالم في لعبة الورق (لاص اسكمبيل).
وبعد أيام أقيم احتفال واستعراض عسكري في مدينة البيضاء بمناسبة عيد 9 أغسطس وكان الشيخ سالم القاضي رئيسًا للوزراء بالوكالة نظرًا لتغيب السيد حسين مازق رئيس الوزراء الأصيل في إجازة في إيطاليا. وكان أخي علي السني مديرًا لإدارة المراسم بوزارة الخارجية وكان يستقبل السفراء المدعويين الذين جاءوا من طرابلس وبنغازي، وكبار المسئولين أثناء وصولهم للاحتفال. وكان مكان الاحتفال رغم الاستعدادات غير لائق، فالغبار والتراب الأحمر من الطرقات غير المعبدة التي رشت بالمياه حولته إلى بقعة من الوحل تغوص فيها سيارات المدعوين وسيارات الجيش والشرطة، كما أن عمليات البناء التي كانت تجري في كل مكان حولت المكان إلى ركام من الأحجار والرمال تعبث فيها الرياح وتملأ الجو غبارًا. وعندما وصل موكب الشيخ سالم القاضي رئيس الوزراء بالوكالة إلى مكان الاحتفال استقبله الأخ علي طبعًا وهو يحاول تجنب الوحل وسط الغبار الذي يعكر الجو ويملأ المكان، وما أن رآه الشيخ سالم لطفي القاضي فى هذه الحالة المزرية حتى انفجر ضاحكًا وقال له بصوت جهوري مسموع للحاضرين:" توا نقولوله يا سيد علي!" وهو نفس الجواب الذي قاله للأخ علي في بيته كما تقدم ذكره. وقد تساءل بعض الحاضرين عن معنى ( توا نقولوله) ولكن اللبيب منهم قد فهم بالإشارة. وإذا كان رئيس الوزراء التي توفرت له كل الخدمات والإمكانيات يقول هذا وينكت ويشكو من البيضاء علنًا فما بالك بالموظف العادي!







الفصل الثالث

حكومة السيد محمود المنتصر

السيد محمود المنتصر من الشخصيات الليبية التي لعبت دورًا هامًا في استقلال ليبيا، فقد تركزت عليه الأنظار لوقوفه على الحياد بين الأحزاب والشخصيات السياسية المتصارعة. فرغم أنه كان عضوًا مع السيد بشير السعداوي في هيئة تحرير ليبيا، إلا أنه لم ينضم إلى حزب المؤتمر الوطني الذي ترأسه السعداوي، كما أنه لم ينضم إلى حزب الاستقلال الذي كان يرأسه عمه السيد سالم عمر المنتصر. وقد وجد فيه الملك (الأمير) إدريس والإدارة العسكرية البريطانية والمستر أدريان بيلت المندوب السامي للأمم المتحدة الشخص المناسب الذي يمكنه الحصول على ثقة الأطراف المختلفة، والتي كان التوفيق بينها مستحيلًا.
وبالإضافة إلى مكانته ونفوذ عائلته في طرابلس، كان مقبولًا من ساسة برقة ومن عائلاتها السياسية التقليدية، وحتى من قبائل برقة التي تعرف أن عائلة المنتصر من الإخوان السنوسيين منذ أمد بعيد، عندما حل السيد محمد بن علي السنوسي الكبير ضيفًا على عائلة المنتصر في مصراته وهو في طريقة من الجزائر إلى برقة والأراضي المقدسة وبعد ذلك نشر دعوته وأقام الزوايا السنوسية في جميع أنحاء ليبيا. وكثيرًا ما أشاد مشايخ ومستشارو قبائل برقة بهذه العلاقة التاريخية بين السنوسية وعائلة المنتصر كلما اجتمعت بهم أثناء إقامتي في مدينة البيضاء. ويجمع هذه الفئات السياسية الملتفة حول السيد محمود المنتصر الخوف من البديل، السيد بشير السعداوي، نظرًا لشعبيته الواسعة في إقليم طرابلس والذي قد يتحول إلى حاكم مطلق في ليبيا إذا تولى الحكم.


علاقات السيد محمود المنتصر
كانت ثقة الملك القوية بمحمود المنتصر موضع حذر وشك في برقة، فإصراره على استقرار الحكومة في طرابلس يساعد على تقوية سلطات الحكومة المركزية الاتحادية وتهميش اختصاصات الولايات، كما فعل أثناء فترة حكومته الأولى، ومحاولاته لنقل الحكومة من البيضاء إلى طرابلس في فترة حكمه الثانية. وكان على علاقة غير ودية مع والي فزان السيد أحمد سيف النصر بحجة علاقه السيد محمود المنتصر السابقة مع إيطاليا. لكن السبب الحقيقي تاريخي يرجع إلى خلاف عائلي قديم بين السيد عمر باشا المنتصر قائمقام سرت في العهد العثماني وعائلة سيف النصر، لأن السيد عمر باشا المنتصر عارض محاولات آل سيف النصر ضم سرت إلى إقليم فزان كميناء بحري للإقليم وساند قبائل البدو ضدهم.
والسيد محمود المنتصر لم يكن موضع ثقة مصر لعلاقته الوطيدة ببريطانيا، إلا أنه كان يحظى بثقة الدول الملكية العربية المحافظة، ولم يكن موضع ثقة الأمريكيين أيضًا لكونه من الساسة التقلديين من أنصار البريطانيين. وهو ليس زعيمًا جماهيريًا، وخاصة في مدينة طرابلس، لهذا ترى فيه أمريكا خطرًا، لأنه لن يستطيع السيطرة على القوى المعارضة ويعرض البلاد لانقلاب شيوعي. وهو غير معروف من كثير من الشباب المثقف ويرون فيه شخصية تقليدية قديمة ومن أسرة محافظة لا تشارك جماهير الشعب مشاعرها ومشاكلها، وغير مقبول من رجال الأعمال، لأنه معروف بنزاهته المتناهية ولا يقبل مساومة أو واسطة لخدمة مصالحهم. وهو أيضا غير محبوب من ولي العهد الأمير الحسن الرضا، لأنه يعتقد أنه غير مخلص له وضد ولايته للعرش، وأنه يساند عائلة السيد أحمد الشريف السنوسي التي تعتقد أنها أحق بالعرش بعد وفاة الملك، وتدعي بأن الملك إدريس عندما استلم رئاسة العائلة والحركة السنوسية من السيد أحمد الشريف وعده بأن تكون خلافته لأبناء هذا الأخير، إلا أن الملك إدريس اعتبر أن ذلك العهد يختص برئاسة الحركة السنوسية وليس بولاية العهد لملك ليبيا.
بالإضافة إلى هذا كله، فإن السيد محمود المنتصر لا ينال رضا بعض أفراد عائلته الذين يعتقدون أنه تولى منصب رئاسة الوزارة بسبب انتمائه إلى العائلة، وخاصة عمه السيد سالم عمر المنتصر، الذي كان رئيسًا للجبهة الوطنية المتحدة، وكانت أكبر تجمع لزعماء طرابلس، ثم رئيسًا لحزب الاستقلال حتى حلت الأحزاب بعد أول انتخابات برلمانية سنة 1952م. وكان السيد سالم المنتصر يعتقد بأن ابن أخيه السيد محمود تولى رئاسة الحكومة بفضل دعم حزب الاستقلال له، وكان عليه اختيار معظم أعضاء وزارته وكبار المسئولين من أعضاء حزب الاستقلال وأنصار عائلة المنتصر بدلًا من تعيين معظم وزرائه وكبار موظفيه من أعضاء حزب المؤتمر المنشقين عن السيد بشير السعداوي.
وأهم من ذلك كله كانت علاقة السيد محمود المنتصر مع الحاشية الملكية وبالأخص إبراهيم الشلحي في وزارته الأولى (1951-1954م) على أسوأ حال، وقد عمل هذا الأخير على التدخل في شئون الحكومة الاتحادية وخلق مشاكل لها عن طريق الإيعاز إلى الملك بتعيين شخصيات معارضة في الولايات. وفعلًا عين الملك في طرابلس بإيعاز من إبراهيم الشلحي، السيد إبراهيم سالم المنتصر وكيلًا للديوان الملكي في طرابلس والسيد الصديق المنتصر واليًا على طرابلس دون موافقة رئيس الوزراء.
ورغم أن السيد الصديق المنتصر ليس ضد السيد محمود المنتصر، إلا أنه كان يعتقد أنه جدير بالولاية، وأصبح يتصرف كأنه رئيس دولة مستقلة في إقليم طرابلس وزعيم شعبي، مما أدى إلى صراعه مع الحكومة الاتحادية في سلسلة من الخلافات الدستورية وصلت إلى تحدي أحكام المحكمة العليا، وقد أدت في النهاية إلى استقالة السيد محمود المنتصر من رئاسة الحكومة. كما أن أنصار عائلة المنتصر في مصراته وأنصار حزب الاستقلال في جميع أنحاء إقليم طرابلس شعروا بخيبة أمل عندما شغلت وظائف الدولة بعد الاستقلال بخصومهم السياسيين من أعضاء المؤتمر الوطني المنشقين عن السعداوي، وكان بعضهم يتولى مناصب هامة في الإدارة البريطانية وأصحاب المصالح التجارية والذين قاسوا على أياديهم الأمرين، الاضطهاد والمضايقة، لمجرد انضمامهم لحزب الاستقلال أو مناصرة عائلة المنتصر ومعارضة المؤتمر الوطني.
السيد محمود المنتصر ينتمي إلى عائلة كان لها نفوذ كبير في مناطق مصراته وسرت منذ العهد العثماني. وهو حفيد عمر باشا المنتصر الذي كان قائمقامًا على سرت في العهد العثماني وله نفوذ كبير في مناطق مصراته من الخمس غربًا وحتى سرت شرقًا بما فيها القبائل البدوية المعروفة، وكانت اتصالاته تتم مع السلطان العثماني في الأستانة أو الوالي التركي في طرابلس. وكان والد السيد محمود المنتصر السيد أحمد ضياء الدين المنتصر يتولى عدة مناصب هامة وله نفوذ في العهدين التركي والإيطالي بالإضافة إلى كونه شاعرًا وأديبًا ومؤرخًا.







السيد محمود المنتصر من مواليد العجيلات سنة 1903. عاش حياة محافظة وقد درس الجامعة في إيطاليا. كانت نزاهته تمثل دور المحافظين في خدمة المجتمع والطبقة الفقيرة والطبقة المتوسطة والوقوف ضد طبقة كبار التجار التي تحاول بمالها منافسة الطبقة المحافظة بهدف تولي مناصب السلطة التي كانت تحتكرها الطبقة المحافظة. كان السيد محمود المنتصر يساند أبناء العائلات العريقة، ورغم أنه لم يستعن بأبناء عائلته في الحكومة، إلا أنه كان يستعين ببعض العائلات القديمة مثل عائلات السنوسي والقرامانلي وكعبار والخوجة والمريض ولنقي والكيخيا وميزران، ورغم أنه يرتبط بهذه العائلات برباط المصاهرة، وهو لا يرى في ذلك محسوبية، لأنهم في رأيه مؤهلون لمثل هذه الوظائف والمناصب العامة نظرًا لمراكزهم الاجتماعية والسياسية بين المواطنين، إلا أن هذا الأمر عرضه للانتقاد من خصومه السياسيين.
وهذا الوضع ليس غريباً في عالم السياسة، فالعائلات المحافظة القديمة كانت ترتبط بالمصاهرة حتى في المجتمعات الديمقراطية الغربية. وأذكر أنه لما ألف المستر هارولد ماكميلان وزارته لحزب المحافظين بعد استقالة المستر أنطوني إيدن في يناير 1957 أدخل 35 عضواً من عائلته في حكومته، سبعة منهم أعضاء في مجلس الوزراء. وقد وصف اللورد أندرو كافنديش ( دوق ديفونشاير ) إجراء عمه ماكملان هذا بأنه أكبر محسوبية عرفت في التاريخ. ولما سألت أنا بعض الإنجليز عن سبب ذلك قيل لي إن ذلك ليس غريباً أو مقصوداً، فحزب المحافظين البريطاني يتألف من عائلات محافظة، وهذه العائلات ترتبط بالمصاهرة لأنهم يعيشون في مجتمع واحد ويرتادون نفس النوادي الخاصة. وليس غريبًا أن معظم زعماء ورؤساء حكومات بريطانيا من حزب المحافظين، ومنهم ونستون تشرشل وأنطوني إيدن وهارولد ماكميلان وأليك دوجلاس هيوم، يرتبطون بعلاقات المصاهرة والانتماء أى نفس العائلات الأرستقراطية. وكان زعيم المحافظين عندما يستقيل أو يتقاعد يعين خلفه لزعامة الحزب من عائلته أو طبقته الأرستقراطية دون الرجوع إلى أعضاء الحزب. وكان أول زعيم لحزب المحافظين انتخب من طرف أعضاء الحزب هو المستر إدوارد هيث واتبع هذا الأسلوب مع باقي رؤساء الوزارات من حزب المحافظين منذ ذلك الوقت.
سياسة السيد محمود المنتصر
كان السيد محمود المنتصر يعتمد في الحكم على تقديره الشخصي للأمور والتشاور مع زملائه وثقة الملك إدريس فيه، ويحترمه كل السياسيين بما فيهم خصومه. ولم يحاول أن يستغل مركزه في السلطة لبناء شعبية كما يفعل الساسة المحترفين. فلم يقم بزيارات داخلية حتى لمدينته مصراته، أو لقاء جماهير الشعب والاختلاط بهم والسؤال عن أحوالهم والاستماع إلى شكواهم ومطالبهم كما يفعل الساسة. كما أنه يكره المديح والتطبيل له في وسائل الإعلام، ولم يفتح مكتبه أمام زوار الدعم والتأييد كما يفعل من يسعى إلى النفوذ والحظوة الشعبية. وأذكر أن نواب منطقة مصراته الثلاثة قابلوه بعد توليه الحكومة لتهنئته ولما خرجوا سألني عن أسمائهم، فلم يكن يعرف أحدًا منهم بمن فيهم السيد عبداللطيف المنتصر عضو مجلس النواب وهو من عائلته.
كما أنه لم يفتح مكتبه أمام الصحفيين أو يصدر بيانات صحفية دورية عن سياسته ومناقشتها معهم، ولم يخاطب الجماهير الشعبية مباشرة أو عن طريق وسائل الإعلام. كما يكره المناقشة في البرلمان ويتجنبها، ويكتفى بإصدار بيانات مفصلة عما تقوم به حكومته في خطب العرش وفي الردود على الأسئلة التي تثار في جلسات مجلس الأمة، وكان بذلك يخالف أسلوب السياسيين المحترفين الذين يقولون ما لا يفعلون لكسب ثقة المجالس النيابية والشعب. لهذا فهو لم يكن معروفًا لدى جماهير الشعب وصفاته الفريدة لا يقدرها إلا من كان يعرفه عن قرب، كنزاهته إلى حد المبالغة، وحكمته النادرة، وحنكته السياسية الثاقبة، وخبرته الطويلة في الشئون العامة، وإخلاصه الأصيل للوطن، وحبه للناس، وصراحته الصادقة.










فبراير 1952م: السيد محمود المنتصر يلقي خطاب العرش في افتتاح أول دورة برلمانية وبجانبه عمر باشا الكيخيا رئيس مجلس الشيوخ وخلفه من اليمين السادة منصور بن قدارة وزير المالية وعلى الجربي وزير الأشغال وفتحي الكيخيا وزير العدل، والوقوف من اليمين السادة فتحي العابدية سكرتير الملك وعبدالعزيز جبريل
كانت نزاهة السيد محمود المنتصر النادرة مضرب الأمثال، فلم تبهره السلطة وحافظ على حياته العادية. فلم يشيد قصرًا لسكناه، كما عمل غيره من رؤساء الحكومات، وبقى في بيته القديم الذي يعيش فيه ولم يغير أثاثه القديم، وهو نفس البيت الذي نزل به الملك محمد إدريس السنوسي (الأمير آنذاك) ضيفًا في أول زيارة له إلى طرابلس في يوليو 1949 وهو في طريقه إلى لندن لإجراء مباحثات مع الحكومة البريطانية حول استقلال برقة، والتي وعد فيها جماهير الشعب في طرابلس بإبلاغ رغباتهم في الاستقلال والوحدة إلى الحكومة البريطانية. وكان زوار السيد محمود المنتصر من الدبلوماسيين وكبار الزوار العرب والأجانب يستغربون من بساطة حياته، فلم يوظف الخدم والحراس ولم يشتر السيارات الفاخرة، رغم أنه كان من أوائل الليبيين الذين اقتنوا سيارة في العهد الإيطالي. كان إنسانًا ذا قلب كبير يحب الخير للناس ويثق في كل الناس. لم يعرف الاستغلال في حياته، ولم يسع إلى اغتنام الفرص لاقتناء المال والثروة. كان الجاه يسعى إليه ولم يكن يسعى هو إلى الجاه.
تعلمت منه أن من يمد يده بغير حق إلى الأشياء الصغيرة لا يتردد إلى مد يده إلى الأشياء الكبيرة. كان يرفض أية مستحقات أو علاوات كان يرى أنه لا يستحقها، مع أنها كانت مقررة واستمرت تصرف لرؤساء الحكومات. كان رئيس الوزراء الوحيد الذي يتحمل مصاريف الضيافة في بيته في البيضاء من جيبه الخاص، بينما غيره من رؤساء الحكومات يرون أنها مصاريف عامة يجب أن تتحملها الدولة، وهذا لا يخالف القانون. كان شهمًا بعيد النظر يعمل بما يؤمن به رغم اختلاف الكثيرين معه. كان يطلب الكمال من الجميع في دولة لم يصل فيها الوعي درجة النضج. وكان خصومه يعرفون فيه هذه الصفات فيهاجمونه ويحترمونه، لأنهم لا يفكرون مثله، فمعظمهم كانوا من أصحاب المصالح الشخصية والقبلية والإقليمية. كان سلوكه الشخصي بعيدًا عن الأقاويل، وكان صادقًا في إبداء رأيه.
لاحظت عليه وسمعت من كثير من الشخصيات السياسية، عربية وأجنبية، عن مزاياه وقدراته واحترام الساسة الأجانب الذين تعامل معهم. وأذكر في إحدى جلسات مجلس الجامعة العربية علق السيد عبد الخالق حسونة باشا أمين عام الجامعة العربية على زيارته للعواصم الأوروبية فذكر السيد محمود المنتصر السفير الليبي في روما آنذاك وقال ما معناه: في روما سفير عربي يجب أن نفتخر به يحتل مكانة في إحدى العواصم الكبرى، وأضاف بأنه أثناء مروره بروما طلب مقابلة رئيس الوزراء الإيطالي عن طريق مكتب الجامعة العربية في روما فذكر له بأن رئيس الوزراء مشغول ويستعد للسفر في اليوم التالي. فلجأ إلى السفراء العرب للمساعدة في تحديد المقابلة، فأجمع السفراء العرب بأن الشخص الوحيد الذي لا يرد له رئيس الوزراء الإيطالي طلبًا هو سفير ليبيا السيد محمود المنتصر.
وأضاف أمين عام الجامعة العربية: "فاتصلت بالسيد محمود المنتصر فوعدني بالمحاولة، وعلمت بعد ذلك من غيره بأنه اتصل شخصيًا برئيس الوزراء الإيطالي، الذي أوضح له هذا الأخير، أنه مسافر إلى الخارج غدًا ومشغول مع الوزراء والبرلمان طوال اليوم، وقد خصص الليلة لقضائها مع عائلته خارج روما التي لم يرها منذ أيام قبل مغادرته إيطاليا في اليوم التالي، ولكن ما دام محمود المنتصر هو الذي طلب هذه المقابلة الهامة فإنه مستعد للإعتذار لعائلته وتناول العشاء مع السفير الليبي في بيته، ودعوة الأمين العام والسفراء العرب للاجتماع بهم جميعًا على العشاء". وأضاف السيد عبد الخالق حسونة: "وهكذا قضينا الليلة حتى ساعة متأخرة أنا والسفراء العرب في حديث مطول مع رئيس وزراء إيطاليا، واستطعنا أن نخرج بنتائج طيبة للقضايا العربية وموقف الحكومة الإيطالية منها، والفضل في ذلك يرجع إلى السيد محمود المنتصر". هذه شهادة سمعتها بأذني وسجلت في محضر اجتماع الجامعة العربية.
أما بالنسبة لنزاهة السيد محمود المنتصر، فأذكر أن أحد الوزراء في حكومته عندما عاد من زيارته إلى القاهرة أحضر لي طردًا صغيرًا وطلب مني تسليمه إلى السيد محمود المنتصر رئيس مجلس الوزراء. وفعلًا أخذت الطرد وسلمته إليه في بيته، فلما فتحه وجد فيه قلادة ذهبية مرصعة بالمجوهرات فظهر عليه الغضب، وقال لي خذ هذا الطرد بما فيه إلى هذا الوزير وقل له إني أشكره لكني لا أستطيع قبول الهدية. وعندما ذكرته بأن هذا فيه إحراج والوزير صديقه القديم ويقصد تقديم هدية لا رشوة فقال: "يا ابنى، الهدايا بين الأصدقاء يجب أن لا تزيد عن بضعة جنيهات مثل مذكرة جيب.. قلم حبر عادي.. كرفاته عادية أو منديل عادي، أما إذا زادت عن ذلك فلابد أن وراء الهدية مصلحة ولهذا فهي رشوة".
وفعلًا أخذت الهدية وذهبت إلى الوزير في بيته في البيضاء وبلغته رسالة رئيس الوزراء فخجل الرجل وأقسم بالأيمان أنه لا يعتبر هذه رشوة بل إنه اشترى لزوجته مثل هذه القلادة فقلت اشتري مثلها لزوجة صديقي محمود المنتصر، ورفض الوزير تسلمها ورفضت أنا أخذها معي مرة ثانية لأني أعرف أن رئيس الوزراء لن يرجع عن قرار اتخذه. فأصر الوزير إلى المجئ معي إلى بيت رئيس الوزراء، فوجدناه قد دخل حجرة نومه ورفض مقابلتنا، فاضطر الوزير إلى أخذ هديته معه. وكانت نتيجة هذه الحادثة أن أخرج محمود المنتصر هذا الوزير في أول تعديل وزاري له.











تزوج السيد محمود أحمد المنتصر من ابنة السيد حسونة باشا القرمانلي وأنجب منها خمسة أولاد وخمس بنات، ولما كان سفيرًا في لندن وروما سمي السفير الأب لعشرة أبناء. كان يحب أولاده حبًا عظيمًا. وأذكر لما كنا في المعتقل في أوائل أيام الثورة لم يكن يفكر في نفسه وهو وراء القضبان بل كان يفكر في ابنه الأكبر الدكتور عمر المنتصر الذي كان سفيرًا في لندن، وقد علمنا ونحن في المعتقل أنه استدعى إلى ليبيا على عجل وعرف والده يوم وصوله فلم يغمض له جفن حتى سمح له بالتحدث إلى بيته وابنه هاتفيًا. ولما علم أن ابنه عمر رجع إلى بيته آمنًا ارتاح ونام راضي البال ولم يعد يهمه شيئًا في ما قد يحصل له هو شخصيًا. والدكتور عمر محمود المنتصر كان وزيرًا وسفيرًا في العهد الملكي، وفي سنة 1978م رشح من طرف ليبيا وعين سفيرًا لمنظمة الوحدة الإفريقية وممثلها لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف وتوفي في سنة 1999م.
وأبناء السيد محمود المنتصر هم الدكتور عمر المذكور تزوج من ابنة الحاج مصطفى ميزران، وأحمد وتزوج من ابنة السيد الطاهر القرامانلي، والمهدي وتزوج من ابنة الأستاذ فؤاد الكعبازي، وبلقاسم وتزوج من ابنة السيد محمود الخوجة، وعبدالسلام وقد تزوج من ابنة السيد محمد المرابط (هو أب لاعب الكرة المحترف المشهور جهاد) وقد توفي عبدالسلام في حادث سيارة في طرابلس. أما بناته الخمس فتزوجن السادة عبداللطيف رشيد الكيخيا وعبدالمولى عوض لنقي وفتحي الخوجة وأحمد محي الدين السنوسي والزبير يوسف لنقي. وقد أشرف السيد محمود المنتصر على تعليم أبنائه تعليمًا عاليًا وعاش رجلًا عائليًا متواضعًا يحب أسرته ويرعاها بالود والحب والعطف وتوفي رحمه الله سنة 1970م.

محمود المنتصر والمعاهدة البريطانية
قوبل تعيين السيد محمود المنتصر رئيسًا للوزراء للمرة الثانية في أوائل 1964 بعدم الرضا من معظم طبقات الشعب، واعتبرت الجماهير تعيينه تحديًا لإرادتها من طرف الملك، خاصة أنه جاء بعد حكومة الدكتور محي الدين فكيني الذي وقف في صف الشعب ضد الشرطة وسياسة العنف. كان الاعتقاد أن محمود المنتصر جاء لتجديد المعاهدة البريطانية وإنهاء الانتفاضة الشعبية، بل حتى البريطانيين والأمريكيين لم يلق هذا التعيين ترحيبًا لديهم. ورغم أنهم لم يتوقعوا منه شرًا على مصالحهم في ليبيا، إلا أنهم كانوا يتخوفون بأن يتهموا من طرف الشعب الليبي بأنهم أوصوا به الملك وأتوا به خدمة لمصالحهم وللقضاء على الجو الوطني الذي نشره الدكتور محي الدين فكيني، مما يزيد من نقمة الشعب على البريطانيين والأمريكيين. ولهذا كانوا غير راضين على الملك بإعادة تعيينه رئيسًا للوزراء بعد حكومة الدكتور محي الدين فكيني، الذي كانوا يعتبرونه الرجل المناسب للمرحلة التى تمر بها ليبيا والأوضاع في العالم العربي والتفاعل مع الجماهير الشعبية، وكانوا يؤيدون خطوات الدكتور محي الدين فكيني التي اتخذها في الأزمة التي قامت أثناء انعقاد مؤتمر القمة العربي الأول لكبح تصرفات الشرطة.
ولهذا عندما استقال الدكتور فكيني كانت بريطانيا وأمريكا تتوقعان تعيين رئيس حكومة بديل من الشباب وشعبي حتى يسير على خطوات الدكتور فكيني ويقوم بإصلاح الوضع الداخلي الذي بدأ يتدهور ويعرض المصالح الغربية للخطر، ووقف الفساد الذي بدأ ينتشر ويهدد مصالحهم التجارية التي أصبحت تنمو بعد ازدياد دخل ليبيا من البترول، خاصة أن بريطانيا لم تعد في حاجة ماسة إلى قواعدها العسكرية في ليبيا بعد حرب السويس وانتهاء سيطرتها السياسية في منطقة الشرق الأوسط وهيمنة أمريكا على المنطقة، وأصبحت قواعدها في ليبيا التزاما ماليًا وعسكريًا لا مقابل منه ولا تخدم مصالحها الاستراتيجية كما كان عليه الحال في سنة 1952م.
كان عدم ترحيب بريطانيا وأمريكا بحكومة السيد محمود المنتصر لا يرجع إلى الشك في حرصه على المحافظة على علاقات الصداقة المتينة بين ليبيا، وبريطانيا وأمريكا، بل بالعكس، فقد كانت بريطانيا وأمريكا تعتقدان أن هذه السياسة التي عرف بها لدى الشعب الليبي وبأنه حليف وصديق لبريطانيا لا تجعله الشخص الذي يخدم المصالح البريطانية والأمريكية في الظروف الجديدة التي يمر بها الشرق الأوسط وليبيا. وفي هذه الظروف قبل السيد محمود المنتصر تأليف حكومته الثانية على مضض. فالظروف لم تكن عادية والشعب في انتفاضة يتفاعل مع الأحداث العربية والرئيس عبدالناصر اتخذ من مهاجمة الاستعمار والصهيونية سلاحًا لتوسيع نفوذه للسيطرة على المنطقة العربية. كما أن صحة السيد محمود المنتصر لم تكن على ما يرام، فقد كان يشكو من مرض ضغط الدم وأمراض السكر.
كان السيد محمود المنتصر من الساسة القدامى الذين يؤمنون بالتعاون مع الدول الغربية، خاصة بريطانيا. ورغم أنه كان يعمل على أن تكون علاقات ليبيا مع أشقائها العرب قوية وفعالة ويحرص على التزام ليبيا بالقرارات العربية والمساهمة في النشاط السياسي العربي، إلا أنه كان غير مؤمن بقدرة العرب على مساعدة ليبيا اقتصاديًا أو فنيًا، فالعرب جميعًا يعانون من التخلف والفقر والجهل والمرض وهم بدورهم في حاجة للمساعدة، وكان يتوق إلى فرصة لتصحيح سمعته لدى الشعب الليبي التى ساءت بعد توقيعه المعاهدة البريطانية الليبية في حكومته الأولى، ويرى أن فرصة عودته إلى الحكم من جديد قد تمكنه من إلغاء المعاهدتين البريطانية والأمريكية أو تعديلهما وإنهاء وجود القواعد العسكرية في ليبيا، خاصة أن الأسباب التي فرضت المعاهدة البريطانية في سنة 1953م كانت هى حاجة ليبيا الماسة والضرورية إلى المساعدة المالية لتمويل ميزانية الخدمات الأساسية للبلاد.
ورغم ذلك كان يرى في قرارة نفسه أن إلغاء المعاهدات والاتفاقيات البريطانية والأمريكية قد يعرض ليبيا لأخطار إقليمية عسكرية وهيمنة من دول الجوار، وخاصة بعد أن أصبحت ليبيا دولة بترولية، ولكنه كان مصرًا على إلغاء المعاهدات وتحقيق الجلاء تلبية للرغبة الشعبية العارمة. والشئ الذي كان يخشاه هو مدى استطاعته إقناع الملك باتخاذ مثل هذا الإجراء الخطير، فهو يعرف تمسك الملك بالعلاقات الليبية الغربية وتحالف ليبيا مع بريطانيا وأخذ الحيطة من نفوذ مصر على ليبيا.
ومن حسن حظ السيد محمود المنتصر أن بادر الرئيس جمال عبدالناصر بالمطالبة بجلاء القوات البريطانية عن ليبيا، مما ساعده على اتخاذ قراره حال توليه الحكم. وقد سارع السيد محمود المنتصر حال توليه الحكم إلى إعادة الأمن إلى نصابه في البلاد وتلطيف الجو الشعبي الملتهب في بنغازي ضد قوات الأمن، وقد ساعدته على ذلك علاقاته القوية مع زعماء برقة وصداقته لمدير عام الأمن الفريق محمود أبوقويطين، الذي يرى في السيد محمود المنتصر الشخص الوحيد الأمثل من إقليم طرابلس المخلص للملك وحماية عرشه، كما يرى أن سياسته تختلف كثيرًا عن سياسة الدكتور محي الدين فكيني الرامية إلى إضعاف النظام الملكي وسلطات الملك، وخلافه الوحيد مع السيد محمود المنتصر كان حول نقل الحكومة الاتحادية من البيضاء إلى طرابلس.
الفريق أبوقويطين من قبيلة البراعصة التي تقطن البيضاء وبها يوجد مكتبه. كان يرى أن البيضاء مدينة صغيرة ونقل الحكومة منها سيؤثر في اقتصادها ونفوذها ومصالح قبيلته، ومع هذا قبل التعاون مع السيد محمود المنتصر، خاصة أنه أتى بزعيم برعصي هو السيد حسين مازق إلى حكومته كوزير للخارجية بعد غيابه عن السلطة لفترة غير قصيرة، مما يبعث الأمل في صعوده من جديد وتوليه رئاسة الحكومة الأمر الذي يضمن إعادة الحكومة إلى البيضاء مستقبلًا. وقد تم ذلك فعلًا.

انـتدابي برئاسة مجلس الـوزراء
رجعت من إجازتي في بريطانيا حوالي منتصف يناير 1964م وعلمت بالأحداث التي وقعت في عهد حكومة الدكتور فكيني أثناء وجودي في الإجازة، فقد قامت مظاهرات صاخبة في بنغازي وحدث تصادم بين الجماهير وقوات الأمن وسقوط قتلى. وتجاوبت جماهير طرابلس وبقية المدن الليبية في التظاهر تضامنا مع بنغازي وكان الحماس على أشده لمؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة. بقيت في طرابلس لأقضي أسبوعًا مع العائلة قبل سفري إلى البيضاء وكان ذلك في شهر رمضان المبارك. وفي هذا الأسبوع استقال الدكتور محي الدين فكيني من رئاسة الحكومة وكلف السيد محمود المنتصر بتأليف الحكومة ولم أعرف بذلك ولم يكن هذا يعنيني كثيرًا.
وفي يوم 22 يناير وبينما كنت أستعد للسفر إلى البيضاء جاءني المهدي، أحد أبناء السيد محمود المنتصر، وأبلغني بأن والده يرغب في رؤيتي بصفة مستعجلة، فاستغربت ذلك، لأن السيد محمود المنتصر مبتعد عن الحكم منذ فترة وهو في حكم المتقاعد، فما هو الداعي يا ترى لاستدعائي بهذه الصفة المستعجلة قبل موعد الإفطار بدقائق؟ وحال ما ركبت السيارة مع المهدي أخبرني باستقالة الدكتور فكيني وتكليف والده بتأليف الحكومة الجديدة وقد أذيع الخبر في الإذاعة. وعندما سمعت ذلك جالت في خاطري تساؤلات: هل يريد السيد محمود المنتصر تعييني في وظيفة؟ هل سأعود إلى وظيفة السكرتير الخاص التي تركتها قبل سفري إلى لندن؟.. إلى غيرها من الاحتمالات حتى وصلنا إلى منزله، فوجدنا معه بعض الضيوف الذين جاءوا للتهنئة.
وأول سؤال فاتحني به السيد محمود المنتصر بعد أن أعطاني قائمة وزراء حكومته ما رأيي فيهم، وكان يمزح، لأنه يعرف أني شاب ولا يعجبني تشكيل الحكومة من شيوخ السياسة المتقاعدين. وأقول الحقيقة فقد ذهلت عندما اطلعت على القائمة، وعندما سألته: لماذا هؤلاء؟ قال إنه لا يعرف غيرهم وقد حاول إقناع الملك بإعفائه ثلاث مرات ولم ينجح، وذكر أنه مريض ولا تسمح حالته بهذه المسئوليات العظيمة في مثل هذه الظروف لكنه دائمًا في خدمة الملك والوطن ولو كان على فراش الموت، ولهذا قبل بعد إصرار الملك. وأضاف أن الظروف السياسية خطيرة للغاية والأمور تسير من سئ إلى أسوأ والحكومة السابقة لم تعمل شيئًا لاستتباب الأمن بل زادته غليانًا ومن الله وحده أرجو التوفيق. وكان أولاده غير راضين عن قبوله الحكم خاصة ابنه الأكبر الدكتور عمر الذي كان وزير العدل في حكومة الدكتور محي الدين فكيني المستقيلة. وأخيرًا فاجأني وطلب مني القدوم اليوم التالي إلى مكتب رئيس الوزراء واستلام المكتب من السيد علي أبوسرويل سكرتير خاص الدكتور فكيني، وكنت أعرف الأخ علي فهو زميل لي في الخارجية، وكان طلب السيد رئيس الوزراء صدمة لي.
فأنا كما بينت سابقًا لا أريد هذه الوظيفة ولا أريد ترك عملي الدبلوماسي بالخارجية، وقد صارحته بذلك وأصر بأنه لا يعرف أحدًا غيري لهذه الوظيفة ويريد شخصًا موثوقًا به وأنه يمكنني تعيين مساعد لي لشئون التشريفات والمقابلات. وقد بينت له وجود وكيل وزارة للرئاسة هو السيد علي المسلاتي ومن واجباته مساعدة رئيس الوزراء في كل ما يحال عليه من مراسلات وهو شخصية قوية ويمكنه الاعتماد عليه، كما أن تعيين السيد عمر الباروني وزير دولة لشئون الرئاسة في حكومته سيمكنه من المساعدة في هذا الشأن. قال لي إنه يعرف السيد علي المسلاتي وليس عنده شئ ضده ولكنه كان من المقربين للرئيس السابق الدكتور محي الدين فكيني وهناك كثيرون لا يثقون به ولهذا يريدني إلى جانبه.
ورغم أني لم أعمل مع السيد محمود المنتصر في الماضي في الحكومة أو السفارات، إلا أنه ذكر لي أن كل الذين عملت معهم في الحكومة أكدوا له أني أتمتع بصفات الأمانة والكفاءة والإخلاص.. أخيرًا شكرته وغادرت بيته. ولم يلق قبولي لهذه المهمة رضا إخوتي بسبب الأحوال السياسية السيئة التي تمر بها البلاد وغضب الناس على الحكومة، بل إن أخي الهادي الذي كان يدرس في جامعة دمشق عندما سمع بخبر قبولي العمل مع رئيس الوزراء أرسل إليّ برقية مفتوحة يعرب فيها عن أسفه لقبولي الوظيفة.
وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى مكتب رئيس الوزراء وتعجب الموظفون من قدومي وكان موقفي من الأخ علي أبوسرويل محرجًا، خاصة أنه ذكر لي علاقات القرابة التي تربط عائلته أبوسرويل بالسيد محمود المنتصر. وكنت أرغب الاحتفاظ به كمساعد إن قبل هو ووافق رئيس الوزراء، لكنه نظرًا لعمله مع الرئيس السابق أصبح بقاؤه في الرئاسة غير مستحسن. وبعد ذلك قابلت السيد علي المسلاتي وكيل الوزارة لشئون الرئاسة الذي رحب بي، إلا أنه كان غير مطمئن لوجودي. وبعد ذلك طلبت من السيد أحمد أبوشاقور عن طريق وكيل وزارة الخارجية أن يتولى مهام مساعدي لشئون المقابلات بمكتب رئيس الوزراء.
كان السيد علي المسلاتي في عهد الرئيس الدكتور فكيني قد قام بإجراء تعديلات جوهرية في جهاز رئاسة مجلس الوزراء ونقل سكرتير مجلس الوزراء ووكيل الوزارة المخضرم السيد مصطفى بن سعود إلى وزارة الشئون الاجتماعية وضم شئون مجلس الوزراء إلى مكتب وكيل الوزارة لشئون الرئاسة، وأوجد إثنتي عشرة وظيفة بدرجة مدير عام في رئاسة مجلس الوزراء وجعل كل مدير مسئولًا عن نشاط وزارة أو وزارات معينة، وعين السيد سليمان الإسكندراني مديرًا لشئون مجلس الوزراء. وكان العمل جاريًا على شغل وظائف بقية المدراء، وكان الهدف إشرافهم على كل شئون الدولة وإخضاع الوزراء إلى رقابة رئاسة الحكومة وتزويدهم بتوصيات باسم رئيس الوزراء.
ومن المؤكد أن قرار التعديل هذا لم يعرض على مجلس الوزراء، لأن الوزراء لن يقبلوا بإشراف جهاز عليهم في رئاسة مجلس الوزراء، فهم مسئولون عن وزاراتهم أمام رئيس الوزراء ومجلس الأمة مباشرة، ولكن يظهر أن رئيس الوزراء وقعه كقرار للمجلس دون عرضه على مجلس الوزراء، كما يجري عادة في المسائل التي لا يريد رئيس الوزراء فتح نقاش فيها. وكذلك بالنسبة للقرارات التي تتعلق بالشئون الإدارية، ولو تم تنفيذ هذا القرار بالكامل وجرى العمل به لأصبح وكيل الوزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء الرجل الثالث في الدولة بعد الملك ورئيس الوزراء.





السيد على المسلاتي السيد مصطفى بن سعود

وقد أدى طموح السيد علي المسلاتي هذا إلى خلق جفاء له مع جميع الوزراء وكبار موظفي الدولة وفي البرلمان. ورغم أني كنت أشاركه الرأي بشأن ضرورة مشاركة رئاسة الوزراء في نشاط شئون التخطيط والتنمية والأمن العام والمخابرات بجميع أنواعها والخارجية عن طريق جهاز مزود بالخبراء يلحق برئاسة مجلس الوزراء، يتولى التنسيق مع الوزارات المختصة ومساعدة رئيس الوزراء في الإطلاع على تفاصيل ما يجري في هذه المجالات الحيوية وتمكينه من اقتراح ما يراه هو مناسبًا وعدم الاعتماد كليًا على الوزراء المختصين. وفعلًا تقدمت بمثل هذا الاقتراح عندما أصبحت وكيلًا لرئاسة مجلس الوزراء، ولكن كل رؤساء الحكومات الذين عرضت عليهم هذه الفكرة رفضوها، وسيأتي الكلام عن هذا في موضعه.
أقسمت حكومة السيد محمود المنتصر اليمين أمام الملك وعقدت اجتماعها الأول بعد تكامل أعضائها الذين كان بعضهم في الخارج مثل السيد عمر الباروني الذي عين وزيرًا للدولة لشئون الرئاسة وهو منصب وزاري مستحدث لأول مرة. وتم في هذا الاجتماع إعادة السيد مصطفى بن سعود إلى منصب وكيل الوزارة لشئون مجلس الوزراء، مما زاد من قلق علي المسلاتي وخلق تصادمًا بين الوكيلين، وتم أيضًا إلغاء وظائف المدراء الإثنى عشر في رئاسة مجلس الوزراء، وتعيين السيد سليمان الإسكندراني مساعدًا لمصطفى بن سعود. ورفض وزير الدولة لشئون الرئاسة الجديد السيد عمر الباروني التدخل في اختصاصات وكيل شئون المجلس ووكيل شئون الرئاسة بحجة أنه وزير دولة ومسئوليته تتحدد بما يسنده له رئيس الوزراء أو مجلس الوزراء من مهام.
وبعد نقل السيد علي أبوسرويل إلى وزارة الخارجية وتعيين السيد أحمد أبو شاقور مساعدًا لي لشئون التشريفات، بقيت حائرًا بين الوكيلين على المسلاتي ومصطفى بن سعود حول اختصاصاتي، فهما لا يعترفان بمسئوليتي سوى كسكرتير لرئيس الوزراء. ولما كان معظم الوزراء في حكومة السيد محمود المنتصر ضد توجهات وأفكار السيد علي المسلاتي أثاروا ذلك في مجلس الوزراء، وتقرر على إثر ذلك نقله إلى وزارة العدل وتعييني وكيلًا لشئون رئاسة مجلس الوزراء بالوكالة بشكل انتداب من وزارة الخارجية.
وبعد فترة قصيرة عينت رسميًا في منصب وكيل وزارة قبل تنفيذ القانون الجديد للخدمة المدنية للحصول على الدرجة الخاصة ( أ ) باقتراح من وزير الخدمة المدنية السيد عبدالله سكته، الذي أقنعني وأقنع رئيس الوزراء بأن بقائي كوكيل وزارة بالوكالة سوف لا يتمشى مع القانون الجديد، لأن درجتي الأصلية في الخارجية هي درجة أولى لا تسمح لي بأن أتولى مهام وكيل وزارة ( أ ) بالوكالة، واقترح تعييني رسميًا في الوظيفة لأستفيد من القانون الجديد الذي يعطي الدرجات الجديدة لحاملي ألقاب الوظائف الحالية. ورغم أني لم أسع لهذا القرار لأن هذا معناه خروجي بمقتضاه من كادر وزارة الخارجية، ولم يعد في استطاعتي العودة إليها إلا بمرسوم ملكي بدرجة سفير أو وزير مفوض وهي المقابلة للدرجة الخاصة المدنية ( أ )، كما لا يجيز القانون نقلي بدرجة أقل من درجتي، وكانت وظائف السفراء في تلك الفترة لا زالت حكرًا على السياسيين والوزراء السابقين فقط.

تعييني وكيل وزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء
حال صدور قرار مجلس الوزراء بتعييني وكيلًا للوزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء قمت بدراسة التنظيم الإداري للرئاسة الذي أعده السيد علي المسلاتي والذي ألغي بعد استقالة الدكتور محي الدين فكيني وتعيين وكيلين، أحدهما لشئون الرئاسة ليحل محل مدير مكتب رئيس الوزراء سابقًا، والآخر لشئون مجلس الوزراء ليحل محل سكرتير عام مجلس الوزراء سابقًا، ورغم اختلاف الألقاب فإن الاختصاصات بقيت على ما هي عليه. وكما ذكرت لم يقبل السيد عمر الباروني وزير الدولة لشئون الرئاسة التدخل في الشئون الإدارية وجهاز رئاسة مجلس الوزراء والتفرغ لما يسنده له رئيس الوزراء أو مجلس الوزراء من مهام.
في ضوء هذا الوضع درست مع وكيل شئون مجلس الوزراء ضرورة التعاون بين المكتبين ولم أكن طموحًا للسيطرة كالوكيل السابق السيد علي المسلاتي. وطلبت من وكيل شئون مجلس الوزراء التعاون مع رئاسة مجلس الوزراء وتحويل صور من مذكرات الوزراء قبل عرضها على مجلس الوزراء لدراستها مع مستشاري إدارة الفتوى والتشريع والمستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، الذي عين حديثًا برغبة من السيد محمود المنتصر وهو المستر (بيت هارديكر)، الذي كان سابقًا مسئولًا ماليًا منتدبًا من الحكومة البريطانية بمقتضى الاتفاقية المالية بين بريطانيا وليبيا، وقد انتهت مهمته هذه وعاش متقاعدًا في النمسا، وتم تعيينه في منصب المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء بالتعاقد معه مباشرة كموظف ليبي ولا دخل للحكومة البريطانية في هذا التعيين. وكان هدفي من هذا الاقتراح هو التمكن من دراسة مذكرات مجلس الوزراء قبل عرضها على المجلس لإطلاع رئيس الوزراء برأي الخبراء والتأكد أنها لا تتعارض مع قرارات سابقة أو مع سياسة الحكومة المعلنة في مجلس الأمة، وكذلك طلبت استلام نسخ من قرارات مجلس الوزراء ليتولى مكتبه متابعة تنفيذها مع الوزراء المختصين.
وبعد محاولات وتدخل رئيس الوزراء وافق السيد مصطفى بن سعود على مقترحاتي إلا أنه لم ينفذها، فقد كان معروفًا عنه الحرص على سرية شئون مجلس الوزراء ويعتبرها حكرًا عليه بينه وبين رئيس الوزراء والوزراء المختصين وهو المسئول عن الرجوع إلى المستشارين بشأنها، وهكذا تعذر التنسيق. ولم يكن رئيس الوزراء براغب في فرض المقترحات على وكيل الوزارة لشئون مجلس الوزراء، الذي يتمتع بثقة جميع الوزراء ويساندونه الرأي، بأن شئون مجلس الوزراء يجب أن تكون مستقلة عن رئاسة مجلس الوزراء.
كما رفض الوزراء إرسال نسخ من مذكراتهم المقدمة إلى مجلس الوزراء إلى وكيل شئون الرئاسة مباشرة لأنهم، كما ذكرت سابقًا، لا يريدون تدخل جهات معينة في الرئاسة بينهم وبين رئيس الوزراء في ما يقدمون من مشاريع وقرارات وقوانين إلى المجلس خوفًا من تعرضها للتعديل أو معارضة رئيس الوزراء بناء على نصيحة مستشاريه في جهاز رئاسة مجلس الوزراء. وهذا الخلاف حول الاختصاصات يعتبر عاديًا بين الدوائر الحكومية ليس في ليبيا فقط بل في كل الأجهزة التابعة لرؤساء الوزارت أو رؤساء الجمهورية في أي بلد في العالم التي تتعرض لمثل هذه الصعوبات والمنافسات من طرف الأجهزة البيروقراطية المختلفة.







لندن 1964 ـ بشير السني المنتصر (وكيل وزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء) وعلى يمينه السيد الدكتور عبدالسلام البوصيري السفير الليبي في لندن ثم السيد محمود المنتصر رئيس الوزراء فالسيد المستشار فتحي العابدية

ومن حسن حظ ليبيا أن الملك فصل مسئولية ديوانه في الفترة الأخيرة عن مسئولية الحكومة ولم تكن للديوان الملكي أية سلطة رسمية وقانونية مباشرة على جهاز الدولة بعد وفاة السيد إبراهيم الشلحي. وفي ضوء هذه الظروف وعدم إمكانية التعاون المباشر بين رئاسة مجلس الوزراء وشئون المجلس قررت التركيز على علاقات الرئاسة رأسًا مع الوزراء وما يرسل لرئيس الوزراء من تقارير ومقترحات في مرحلة الدراسة قبل تحولها إلى مشاريع قرارات ترسل إلى وكيل شئون مجلس الوزراء لعرضها على المجلس. كما قررت الاكتفاء بإنشاء ثلاث إدارات بشئون الرئاسة تهتم الأولى بشكاوى أفراد الشعب والهيئات المدنية ودراستها وإحالتها على جهات الاختصاص والطلب بموافاة الرئاسة بما يتخذ بشأنها مع إعلام أصحابها بالجهة التي أحيلت إليها شكواهم لمراجعتها.
وقد لاقى هذا الإجراء احتجاج الوزراء لأن هذه الشكاوى المحولة من الرئاسة أصبحت لها صفة رسمية وتأخد وقتًا كبيرًا من الوزراء والمسئولين في الوزارات المختصة، وكذلك إصرار أصحابها على مقابلة الوزير أو الوكيل بحجة استلامهم رسائل من رئاسة الحكومة تطلب منهم مراجعة شكواهم مع المسئولين في الوزارة. وقد ألحق بنفس الإدارة قسم يختص بالإعلام ومتابعة ما ينشر محليًا ودوليًا في وسائل الإعلام والتقارير الإعلامية التي تصل من وزارة الإعلام والسفارات الليبية في الخارج وتقديم ملخصات لوكيل الوزارة ولرئيس الوزراء ولفت نظر الجهات المختصة في الحكومة إلى ما يثار في الإعلام وأية انتقادات لأنشطتهم المختلفة، وقد عين السيد سليمان قرادة مديرًا لها.
والإدارة الثانية تختص بالشئون المالية والإدارية للوزراء ولموظفي الرئاسة وشئون المجلس. وقد اقترحت ضم إدارة الخدمة المدنية سابقًا إليها، إلا أن إنشاء وزارة دولة مستقلة للخدمة المدنية في أول تعديل وزاري قد ألغى هذه الفكرة، وقد أسندت هذه الإدارة إلى السيد جمعة سعيد. أما الإدارة الثالثة فتختص بالمسائل المتعلقة بشئون الوزارات المختلفة ومتابعتها مع الوزارات والهيئات الأخرى المستقلة، والهدف منها دراسة مشاريع مذكرات الوزراء إلى المجلس ومتابعة قراراته بشأنها. وكما ذكرت، تعذر تنفيذ ذلك لمعارضة وكيل المجلس والوزراء، واقتصر العمل في هذه الإدارة على دراسة تقارير الوزراء والسفراء والمحافظين ومدراء الأمن، وما يبعث به الوزراء وكبار المسئولين من آراء ومقترحات ومشاريع قوانين وقرارات لأخذ رأي رئيس الوزراء فيها مسبقًا قبل إعداد مذكرات بشأنها إلى المجلس، وقد عين السيد محمد خليفة جميل مديرًا لها.










1964م- السيد منصور كعبار يلقى خطاب افتتاح الدورة الرابعة لمعرض طرابلس الدولي باعتباره وزيرًا للاقتصاد، أمام رئيس الحكومة السيد محمود المنتصر، وعلى يساره، الأديب والإذاعى، ووزير المالية الأسبق، السيد أحمد الحصائرى مدير عام المعرض

وقد لاحظت أنه رغم وضع هذا التنظيم موضع التنفيذ فإن الوزراء كانوا يفضلون دراسة شئون وزاراتهم مع رئيس الوزراء شفويًا أثناء مقابلاتهم معه، الشئ الذي لا يسمح به غالبًا وقت رئيس الوزراء، مما يترتب عليه إضاعة وقته وعدم تمكنه من إبداء رأي مدروس بشأن المقترحات والآراء التي يتقدم بها الوزراء شفويًا. كما أن نقل شئون الخدمة المدنية لوزارة مستقلة، وكذلك شئون أمن الدولة والجنسية ومراقبة الأجانب إلى وزارة الداخلية، وشئون مجلس الإعمار والتنمية إلى وزارة مستقلة التي استحدثت بعد إقرار الوحدة وإلغاء النظام الفيدرالي سنة 1963.. كل هذا أدى إلى تقليل اختصاصات رئاسة مجلس الوزراء، فحتى المستشار الاقتصادي لم تعد له حاجة في الرئاسة، وأصبح يقضي معظم وقته منتدبًا في اللجان ومع وزراء التخطيط والبترول والمالية. بالإضافة إلى المدراء الثلاثة عين السيد علي الفرجاني مساعد وكيل وزارة لشئون الرئاسة. وأثناء إجرائي لهذه التعيينات لم آخذ في الاعتبار التوزيع الجغرافي بين برقة وطرابلس، وقد اكتشفت أن المدراء الثلاثة ومساعد الوكيل كلهم من منطقة طرابلس، مما أثار لي بعض الصعوبات بعد ذلك أثناء عملي مع رؤساء وزارات من برقة، وسيأتي ذكر هذا في الفصول القادمة.

اضطراب الأمن في البلاد وخطاب عبدالناصر حول القواعد الأجنبية
بتولي حكومة السيد محمود المنتصر السلطة استمرت المظاهرات في طرابلس، وقد نتج عنها سقوط بعض الضحايا في الزاوية الغربية، وقد غضب رئيس الوزراء بسبب استعمال العنف المبالغ فيه. وأذكر أنه استدعى محافظ الزاوية السيد منصور كعبار بحضوري ولامه على أعمال العنف وتصرف الشرطة التي أدت إلى مقتل مواطن وجرح آخرين، فأخبره السيد كعبار بأن رجال الشرطة حاولوا تجنب الاصطدام مع المتظاهرين فانسحبوا من السوق بعد عجزهم عن فض المظاهرات سلميًا، ولكن المتظاهرين أصروا على مطاردة رجال الشرطة الذين انسحبوا حتى لجأوا إلى مبنى مركز الشرطة طلبًا للحماية، فلحق بهم المتظاهرون وأرادوا اقتحام المركز والاعتداء عليهم، فاضطر رجال الشرطة إلى إطلاق النار دفاعًا عن النفس ولم يكن أمامهم خيار. وهذا عذر رجال الشرطة كلما سئلوا عن المبالغة في استعمال العنف في مثل هذه الحالات، والشرطة عادة لا يمكن لومها على الدفاع عن النفس أمام جماهير غاضبة تريد الفتك بهم أو اقتحام مكاتبهم الرسمية.
بعد عودة الهدوء النسبي إلى مدن المملكة ورجوع الطلاب إلى مدارسهم، التي أغلقت أثناء أحداث الشغب، فاجأ الرئيس جمال عبدالناصر الحكومة الليبية بخطاب قوي هاجم فيه القواعد الأجنبية في ليبيا مطالبًا بجلاء القوات الأجنبية عن التراب الليبي. وخوفًا من تجدد المظاهرات وأعمال العنف اضطرت الحكومة إلى إصدار بيان أعلنت فيه عدم رغبتها في تجديد المعاهدة البريطانية والاتفاقية الأمريكية بعد انتهاء مدتهما التي كانت تقارب النهاية. ورغم رغبة السيد محمود المنتصر في المضي إلى أكثر من هذا وقراره مع نفسه بإلغاء المعاهدة والاتفاقية وجلاء القوات الأجنبية كما بينت، إلا أنه كان غير واثق من رد فعل الملك إذا أشار إلى موضوع الإلغاء. وقد فوجئ الملك بتصريح الحكومة، إلا إنه لم يأخذه بمحمل الجد واعتبره للاستهلاك المحلي لتجنب رد فعل شعبي لخطاب الرئيس عبدالناصر.
بعد ذلك أثير الموضوع في البرلمان الذي طلب من الحكومة إلغاء المعاهدات والاتفاقيات العسكرية وجلاء القوات الأجنبية وإعطاء الحكومة فرصة لإبلاغ ذلك إلى بريطانيا وأمريكا. وبذلك طلبت الحكومة الليبية من الحكومتين الأمريكية والبريطانية الدخول في مفاوضات للنظر في إنهاء المعاهدة البريطانية والاتفاقية الأمريكية. وفي مارس 1964 أعلن السيد محمود المنتصر بدء المفاوضات في البرلمان، ثم أعقبه بتصريح يوضح فيه بأن الهدف من المفاوضات هو إنهاء المعاهدة البريطانية والاتفاقية الأمريكية وتصفية القواعد العسكرية وتحديد موعد لجلاء كل القوات الأجنبية عن ليبيا.
وكما يظهر من تصريحات السيد محمود المنتصر فإنه لم يفصح عن قرار الحكومة دفعة واحدة، بل واصل إصدار عدد من التصريحات تتفاوت مداها، تجنبًا لرد فعل الملك، الذي كان يتابع تطورات الموضوع دون تدخل لمعرفة ماذا يستقر عليه رأي البرلمان والحكومة. ولكن تصريح رئيس الوزراء الأخير وتمشيه مع كل ما يطالب به البرلمان أثار شكوك البريطانيين والأمريكيين، لأنه يتعدى ما طلب منهم رسميًا في المفاوضات التي بدأت فعلًا على أساس التصريحات الأولية لرئيس الوزراء. وهكذا اتصل السفيران البريطاني والأمريكي بالملك لمعرفة رأيه، ويظهر أنه أخبرهما في أول الأمر بأن الأمر متروك للحكومه والبرلمان ولا يريد التدخل، ولكنه بعد ذلك صارحهما برأيه ومعارضة ما توصلت إليه الحكومة والبرلمان في هذا الشأن كما سنرى في الأحداث التالية.

المطالبة بإنهاء المعاهدتين البريطانية والأمريكية
كما ذكرت سابقًا قبل محمود المنتصر الرجوع إلى الحكم للمرة الثانية بحجة أن النظام الملكي كان في خطر وأن مهمته الأولى يجب أن تتركز على استتباب الأمن في البلاد. ومن هذا المنطلق بدأ في تنفيذ سياسة حكومته، إلا أن تاريخه المرتبط بالمعاهدة البريطانية وسياسته الرامية إلى التعاون مع الغرب كانت وراء شرارة إثارة موضوع جلاء القوات الأجنبية حال استلامه للحكم. وكان هذا مصدر خوف السفيرين البريطاني والأمريكي إثر تعيينه من جديد رئيسًا للوزراء، لأن رؤساء الحكومات السابقون استطاعوا عدم إثارة موضوع المعاهدات والاتفاقيات والخوض فيها علنًا في مجلس الأمة أو على المستوى الإعلامي لفترة طويلة حتى أصبحت أمرًا منسيًا، خاصة أن الظروف السائدة في الشرق الأوسط كانت هادئة.
ولكن ماضي السيد محمود المنتصر وتطور الأوضاع العربية بعد مؤتمر القمة العربي الأول وخطاب الرئيس عبدالناصر ضد القواعد العسكرية جعل من الصعب على السيد محمود المنتصر تجاهل هذه الأحداث، وكان من الصعب عليه الانتظار، واضطر إلى اتخاذ القرار الحاسم بشأن إلغاء المعاهدات والاتفاقيات وجلاء القوات الأجنبية مع بداية توليه الحكم. وكما ذكرت كان هذا في الحقيقة أحد أهدافه، بينه وبين نفسه، في قبول العودة إلى الحكم، ولكنه كان يأمل أن يتم ذلك في هدوء وتدريجيًا وبموافقة الملك ومباركته.
بعد تصريحات رئيس الوزراء وموقف البرلمان المتشدد شعر الملك بأن الموقف أخذ يخرج من سيطرته وأصبح قرار الإلغاء وتحقيق الجلاء واردًا لا محالة، بعد أن سارع رئيس حكومته الأمين والمخلص والمفضل عنده إلى الاستجابة لجميع مطالب مجلس الأمة وتصريحاته الصريحة بإنهاء المعاهدة البريطانية والاتفاقيات العسكرية وجلاء جميع القوات الأجنبية، وأنه أي رئيس الوزراء الوفي، قد قرر السير مع التيار لتحسين سمعته لدى الرئيس عبدالناصر ومجاراة التيار القومي، وأن شجاعته التي عرف بها أثناء حكومته الأولى قد خانته هذه المرة.
ولم يصدق الملك في أول الأمر السفيرين البريطاني والأمريكي اللذين أوضحا له بأن السيد محمود المنتصر ليس هو الشخص الذي يعرفونه في أوائل الخمسينات، وأن سياسته الجديدة هي التخلص من المعاهدات والقوات الأجنبية بكونه هو الذي وقعها وذلك لكسب تأييد الشعب الليبي ومباركة سياسة عبدالناصر، وتجلى ذلك في تشجيعه للحملة الإعلامية الرامية إلى إلغاء المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية في أقصر وقت، مما يعرض ليبيا وأمنها للخطر. وأمام تطورات الأحداث اتخذ الملك قرارًا حاسمًا في قرارة نفسه للوقوف ضد محاولات حكومته ومجلس الأمة ووضعهم في موقف لا خيار فيه، ولم

4:56 AM  
Blogger Bashir Muntasser said...

الملك إدريس يـقرر الاستقالة
فوجئ رئيس الوزراء ورئيسا مجلس الشيوخ والنواب باستدعاء الملك لهم في بيته
بمدينة البيضاء وإبلاغهم بأنه قرر الاستقالة، وأنه سبق له وأن قدمها إلى السيد مصطفى بن حليم والسيد محمد عثمان الصيد عندما كانا في الحكومة، وأنه قرر أن يستريح
ولم يبد سببًا للاستقالة. وطبعًا رفض الحاضرون حتى مجرد التفكير في ما قاله الملك لهم، وبينوا له بأن البلاد لن تستقر بدونه وإنها أحوج إلى زعامته في هذه الظروف، وألحوا
عليه بإعادة النظر في الموضوع. ولكنه في نهاية المقابلة سلم إلى رئيس الوزراء الاستقالة مكتوبة وموقعة منه ليؤكد إصراره. وأذكر أن رئيس الوزراء السيد محمود المنتصر رجع إلى مكتبه مصفر الوجه وقد ارتفع ضغط الدم عنده وكان يرتعش من هول ما سمعه من الملك، وطلب مني مساعدته على وضع الاستقالة في خزانة رئاسة الوزراء. وبعد أقل من ساعة من وصوله إلى مكتبه سمع بأن الملك سافر إلى طبرق حال انتهاء مقابلة الرؤساء الثلاثة له وقد طلب من حرسه عدم مرافقته، كما أنه رفض وضع علمه على السيارة.
كان من المقرر أن يبقى رئيس الوزراء فترة أطول في البيضاء لمتابعة مداولات مجلس النواب حول المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية، ولكن ما أن وصل الملك إلى طبرق حتى رن جرس الهاتف في بيت رئيس الوزراء وكنت معه ورأيت علامات الانزعاج تظهر على وجهه وهو يستمع في التلفون إلى الملك، ولم تستغرق المحادثة ثوان. ولما انتهى أخبرني بأن الملك طلب منه تنفيذ استقالته حالًا. كان المعتقد أن الملك سيسحب استقالته كالعادة لأن الرؤساء الثلاثة (الوزراء والشيوخ والنواب) أثناء مقابلتهم له في البيضاء رفضوا الاستقالة وهو ليس بالشئ الجديد فقد رجع عن الاستقالة مرارًا. كما أن الاستقالة بشكلها الذي قدم لا معنى لها فهي لم تكن تنازلًا عن العرش لولي عهده، الوريث الشرعي حسب الدستور، وهي في رأيهم لا تعدو أن تكون إلا احتجاجًا غير معلن على تمادي وتسرع الحكومة والبرلمان في إعلان إلغاء المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية، رغم أن رئيس الحكومة أحاطه علمًا بهذا قبل إصدار تصريحاته بشأنها.
ولكن الملك كعادته لا يصارح رئيس حكومته برأيه وقت الأزمة أو ينتقده
صراحة، بل يعبر عن ذلك بالتصرف بما يراه هو بعد ذلك. كان الملك يتوقع على الأقل من الحكومة والبرلمان في هذه الحالة أن لا يتسرعا لأن رأيه معروف لديهم وخاصة فيما
يتعلق ببريطانيا، فالمعاهدة البريطانية هي تحالف تاريخي بينه وبين بريطانيا قبل أن تكون بين ليبيا وبريطانيا.
طلب مني رئيس الوزراء بعد استلامه لمكالمة الملك إبلاغ رؤساء الشيوخ والنواب والمحكمة العليا والجامعة الإسلامية ورئيس أركان الجيش ومدير عام الأمن والوزراء القدوم حالًا إلى البيضاء لاجتماع عاجل لأمر هام جدًا وعدم ذكر موضوع الاستقالة. كان الوقت بعد الظهر، ورغم أن مثل هذه الدعوة المستعجلة تحدث كثيرًا، إلا أن كل الوزراء وبعض المطلوب حضورهم كانوا جميعًا في طرابلس على مسافة تزيد على 1300 كم، وقد طلب بعض الوزراء إعداد طائرة خاصة لهم للحضور. ولما تعذر حضور الجميع إلى البيضاء طلب رئيس الوزراء ممّن لا يستطيع القدوم إلى البيضاء في ذلك اليوم الحضور إلى طبرق في صباح اليوم التالي مبكرًا. كان موضوع الاستقالة لا زال سرًا لا يعرفه إلا الرؤساء الثلاثة، أو هكذا كنا نعتقد، والشعب لا يعرف شيئًا بما حدث، ولا يمكن إذاعة مثل هذا الخبر حتى ولو أصبح نهائيًا دون إعلان الإجراءات الأمنية اللازمة.
وفي فجر اليوم التالي غادر البيضاء رتل السيارات الذي كان يحمل رئيس الوزراء ورئيسي مجلسي الشيوخ والنواب ومن كان موجودًا في البيضاء من الوزراء. وقد لاحظنا أن الطريق إلى طبرق كان مزدحمًا بسيارات الجيش والشرطة والسيارات المدنية. وما أن وصلنا ضواحي مدينة طبرق حتى وجدناها تعج بضباط وأفراد الجيش والأمن ورجال قبائل برقة عن بكرة أبيهم، وبعض أعضاء مجلس الأمة من المنطقة الشرقية، وكثير من جماهير الشعب من برقة. ويظهر أن رجال القصر والحاشية الذين عرفوا الموضوع سارعوا بمعرفة من الملك أو بإيعاز منه أو بدون علمه بنشر خبر استقالته في جميع أنحاء برقة وطلبوا من الجميع القدوم حالًا إلى طبرق وإعلام الآخرين للتواجد للطلب من الملك الرجوع عن استقالته.
كنت في السيارة مع السيد عمر الباروني وزير شئون الرئاسة وكنا واثقين بأن كل شئ مرتب مسبقًا وأن الملك سيسحب استقالته. وتأكد هذا بعد وصولنا إلى طبرق ووجود هذا الكم من المشايخ ورجال القبائل الذين كانوا يهددون الحكومة والنواب في مظاهرات عارمة ويتهمونهم بأنهم السبب في غضب الملك واستقالته بإصرارهم على قرار إنهاء المعاهدة البريطانية وجلاء القوات الأجنبية، وكانوا يلوحون بالسلاح في أياديهم ويهددون بأنهم لن يتركوا أعضاء الحكومة ومجلس الأمة الخروج من طبرق أحياء إلا اذا تراجع الملك عن استقالته. وكانت هتافات الجماهير بهذه المطالب غريبة، خاصة أن الملك لم يعلن سببًا لاستقالته سوى حالته الصحية، ولهذا تأكد لنا أن رجال القصر والحاشية وراء هذه الاحتجاجات.
كان الملك قد غادر قصره الرسمي بعد وصوله من البيضاء وطلب من حراسه ورجال حاشيته وسائقي سياراته أن لا يرافقوه وأن يبقوا في القصر تحت تصرف الحكومة، وأمر بإنزال علمه الخاص من على القصر وذهب إلى بيته خارج طبرق. ولكن جماهير القبائل والشعب الذين وصلوا طبرق في ذلك اليوم ساروا إليه في مظاهرة كبيرة وأحاطوا بالبيت الذي كان فيه وأصروا على عدم مغادرة المكان حتى يجتمع بهم. واضطر الملك بعد ذلك إلى إرسال سبحته لهم، وهي عادة عربية قديمة حسب ما أعتقد للتعبير عن صدق وعده، ووعدهم بالاجتماع بهم في صباح اليوم التالي في قصره الرسمي بطبرق وطلب منهم الذهاب للراحة والنوم. وهكذا نامت مدينة طبرق تعج بالآلاف من الناس الذين افترشوا الأرض بعد أن ضاقت بيوت سكان طبرق بهم، وقام سكان المدينة باستضافتهم ونحروا الذبائح وأكرموهم.

الملك إدريـس يتراجع عن الاستقالة
بعد رجوعهم من الملك ذهبت حشود القبائل إلى مقر رئيس الوزراء بطبرق وطلبوا منه إعطاءهم ورقة استقالة الملك لتمزيقها لعدم اعترافهم بها، كما هاجموا بعض النواب الذين جاءوا من بنغازي بعد سماعهم خبر استقالة الملك. وقد حاول النواب الدفاع عن أنفسهم بأن طلبهم لجلاء القوات الأجنبية لا يمس إخلاصهم للملك أو النظام الملكي وأنهم مع الجماهير لإقناع الملك بالرجوع عن استقالته والبقاء في الملك مدى الحياة. وخرج لهم رئيس الوزراء في شرفة البيت الذي يقيم فيه وألقى فيهم كلمة مؤكدًا لهم رفضه لاستقالة الملك، وأنه أعد استقالة حكومته لتقديمها إلى الملك إذا أصر على رأيه، وقال إن ورقة استقالة الملك لا يمزقها إلا الملك نفسه وقد أحضرها معه لإعادتها إليه، ووعدهم بأنه سيذهب معهم صباح اليوم التالي في مظاهرة إلى القصر الملكي.
وغادرت الجماهير مكان إقامة رئيس الوزراء بعد اقتناعها بصدقه، فإخلاصه للملك يعرفه القاصي والداني، وخاصة في برقة. وعاشت طبرق ليلة ليلاء في هرج ومرج والكل لا يصدق أن الإدريس سيتركهم. كل هذا كان يحدث في طبرق دون صدور أي بيان حكومي في الإذاعة، مما جعل جماهير طرابلس وبنغازي ومدن ليبيا وقراها لا تعرف شيئًا عما كان يجري في طبرق من أمر مهم وخطير.
وفي صباح اليوم التالي تجمعت جماهير القبائل وضباط وأفراد الجيش والشرطة يتقدمهم رئيس الوزراء ورئيسا الشيوخ والنواب ورئيس المحكمة العليا ورئيس أركان الجيش ومدير عام الأمن العام والوزراء والنواب وكبار رجال الدولة، وساروا في مظاهرة إلى القصر الذي كان قد سبقهم إليه الملك، وكان محاطًا برجال حاشيته وعلى رأسهم السيد البوصيري الشلحي. واخترقت الجماهير سياج القصر وأحاطت بالقصر وتعالت الهتافات مطالبة الملك أن يطل عليهم وأن يتراجع عن الاستقالة. وكان بعض رجال الحرس الملكي مع المتظاهرين يتسلقون جدران القصر ليصلوا إلى الشرفة لتعليق العلم الملكي عليها بعد ما أنزل بأمر من الملك، وبقي كبار رجال الدولة مع الجماهير ولم يسمح لهم بالدخول إلى القصر.
وكان رئيس الوزراء قبل تحركه إلى القصر قد أملى عليّ استقالته وأخذها معه لتقديمها حال ما تحين فرصة الاجتماع بالملك إذا أصر على استقالته، ولكن رئيس الوزراء والوزراء والنواب وبقية المسئولين كانوا واثقين أنها مجرد احتجاج وأنها ستنتهي بسحب الملك لاستقالته وفرض شروطه المعروفة. وبعد ساعات من الوقوف والهتاف في حر الظهيرة الذي كان صعبًا على كبار المسئولين من كبار السن والمرضى، سمح الملك لرئيس الوزراء ورؤساء مجلسي الشيوخ والنواب والمحكمة العليا والوزراء وبعض كبار المسئولين بالدخول إلى القصر، وتحدث معهم عن ظروفه الصحية التي دفعته إلى الاستقالة. وبعد سماع وجهة نظرهم وحاجة البلاد إليه في هذه الظروف وافق على سحب استقالته وأمر حرسه برفع علمه على القصر في الشرفة المطلة على الجماهير.
تعالت هتافات الجماهير المحتشدة في طبرق بالتأييد والدعاء له بطول العمر بعد أن عرفت أن الملك تراجع عن استقالته. وخرج الملك إلى شرفة القصر محاطًا بكبار رجال الدولة وأعلن أنه استقال لأسباب صحية وليس لأي سبب آخر وأن الحكومة تقوم بمهمتها على ما يرام، ونزولًا عند رغباتهم قرر الرجوع عن الاستقالة رغم ما يعانيه من مرض وضعف، ووعدهم بأنه لن يموت إلا بينهم. وفي هذه الأثناء سلمه رئيس الوزراء ورقة استقالته فأخذها منه وقطعها إربًا إربًا صغيرة لا تقرأ. وبعدها فتحت أبواب القصر ودخلت الجماهير بمن فيهم الأطفال للسلام على الملك وتقبيل يديه والدعاء له بطول العمر، وقد وقف الملك يصافح الجميع دون كلل. وبعدها اجتمع الملك برئيس الوزراء ثم رجعنا مع رئيس الوزراء إلى البيضاء في نفس اليوم ولم يكن الشعب، باستثناء من كان في طبرق، يعرف شيئًا عما حدث.
وفي اليوم التالي جاء رئيس الوزراء إلى المكتب ومعه ورقة مكتوبة بخط يده وبدون عنوان يظهر أنها ملخص لما جرى بينه وبين الملك بعد عدوله عن الاستقالة، وطلب مني كتابة نسخة نظيفة من مسودته فكتبتها بخط جميل وسلمتها لرئيس الوزراء الذي وضعها في خزنته في المكتب لأهميتها، وكانت تتلخص على ما أذكر فيما يلي:
"تستمر المحادثات مع البريطانيين لإلغاء المعاهدة الليبية البريطانية مع الإبقاء على التحالف الليبي البريطاني، ويتم جلاء كل القوات البريطانية من طرابلس وبنغازي في الوقت المناسب، والإبقاء على القاعدة البريطانية في مطار العدم، والسماح للجيش البريطاني بإجراء تدريبات الربيع والخريف في صحراء برقة. أما الاتفاقية الأمريكية فهي متروكة للحكومة والبرلمان مع التمهل في المفاوضات مع بريطانيا وأمريكا، وبعدم الانسياق وراء نواب المعارضة بالإسراع، وعدم الاهتمام بضغوط الدول مثل مصر وغيرها. كما طلب الملك تقسيم قوات الأمن التي وحدت بعد إعلان الوحدة إلى ثلاث مديريات عامة مستقلة تتبع وزير الداخلية وبتسليح قوات الأمن، وخاصة القوة المتحركة وقوات أمن برقة بالأسلحة الحديثة والدبابات، ثم حل مجلس النواب وعدم السماح لنواب المعارضة بالعودة إلى المجلس بأي حال من الأحوال".
بعد ذلك عقد مجلس الوزراء جلسة قرر فيها إذاعة بيان على الشعب قرأ على الملك بالهاتف للموافقة عليه، وكان الهدف من البيان هو إطلاع الشعب على ما جرى في طبرق ذلك اليوم. ورغم تسرب الأخبار، إلا أن معظم الناس لم تسمع شيئًا، وخاصة في طرابلس ومدن ليبيا الأخرى، وهكذا عرف الناس باستقالة الملك وفهموا ما وراءها والهدف منها. كان الشعب يعرف تفكير زعمائه وما يدور في الكواليس ولم يكن راضيًا عما يحدث.
وهكذا وقع السيد محمود المنتصر في المحظور وأصبح استمراره في الحكم الآن ملزمًا، لأن استقالته في هذه الظروف تعني أنه يسعى لبناء شعبية على حساب الملك، الأمر الذي لم يفكر فيه السيد محمود المنتصر طول حياته، فإخلاصه للملك كان فوق كل اعتبار، ولهذا لم يجد مفرًا من تنفيذ أوامر الملك. أجرى السيد محمود المنتصر بعد ذلك تعديلًا وزاريًا أدخل بموجبه عددًا من الشباب، مما ساعد على الاهتمام بالمرافق العامة وخطط التنمية، كما عين عددًا من الشباب كوكلاء وزارات من بينهم الدكتور علي عتيقة الذي عين وكيلًا لوزارة التخطيط والتنمية.
استؤنفت المفاوضات الليبية البريطانية والأمريكية في مدينة البيضاء لتحديد مواعيد الجلاء وكأن شيئا لم يحدث، رغم أن بريطانيا وأمريكا كانتا على علم بما جرى بين الملك ورئيس الوزراء عن طريق سفيريهما الذين كانا يجتمعان بالملك باستمرار، وكان الملك يصارحهما برأيه في سياسة الحكومة. بعدها أصدرت الحكومة بيانًا بنتائج المفاوضات الأولية وفاءًا لوعدها بإعلام مجلس الأمة بها في مدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر، واكتفت الحكومة بهذا الإعلان دون دعوة مجلس الأمة للانعقاد تحسبًا من تجدد المناقشات بين الحكومة والنواب. وفي اليوم التالي لصدور بيان الحكومة صدر مرسوم بحل مجلس النواب وإجراء انتخابات في موعد لا يتجاوز ثلاثة أشهر.
ورغم أن المفاوضات لم تغلق مع بريطانيا وأمريكا، إلا أنها أخذت نهجًا بطيئًا وغير حاسم للأسباب التي استعرضتها. واستمرت المفاوضات وقبلت بريطانيا وأمريكا مبدأ الجلاء، ووافقت بريطانيا بعد ذلك على تحديد موعد الجلاء من طرابلس وبنغازي، وقبلت أمريكا مبدأ جلاء قواتها لكنها ماطلت في تحديد موعد لها قبل انتهاء مدة الاتفاقية، وقدمت اقتراحات مؤقتة بإعطاء قسم من مطار الملاحة إلى القوات الجوية الليبية ورفع العلم الليبي إلى جانب علم الولايات المتحدة الأمريكية فوق مطار الملاحة. وأوفت بريطانيا بوعدها بعد ذلك وأجلت قواتها عن مدينتي طرابلس وبنغازي وأبقتها في مطار العدم، كما سمح للقوات البريطانية بإجراء تدريباتها في برقة. واستمرت الحكومات المتتالية في الإعلان في تصريحاتها وخطب العرش عن استمرار مفاوضات الجلاء وإنهاء وجود القوات الأجنبية في ليبيا، وهذا لم يقنع الرأي العام الليبي، واستمر في موقفه السلبي مع الحكومات المتعاقبة.

مؤتمر القمة العربي الثاني في الإسكندرية (5-11 سبتمبر 1964م)
بعد أخذ العبرة من مؤتمر القمة العربي الأول (13-17 يناير 1964) وما نتج عنه من مظاهرات واحتجاجات شعبية، قرر الملك حضور المؤتمر الثاني للقمة العربية وبوفد كبير يشمل رئيس الوزراء. وقد سافر الملك برًا مرورًا بمنطقة الحمامات شرقي الإسكندرية حيث كان يقيم في المهجر. وسافرت مع رئيس الوزراء بالطائرة ونزلنا بفندق فلسطين في الإسكندرية الذي أعد لإقامة الملوك والأمراء ورؤساء الدول، وكان الملك قد أعد له قصر خاص في الإسكندرية وقصر الطاهرة بالقاهرة للإقامة فيهما أثناء المؤتمر.
وحال وصولنا استلمت مكالمة هاتفية من السيد عبدالمجيد فريد من قصر رئيس الجمهورية ليبلغ السيد محمود المنتصر بأن الرئيس عبدالناصر سيستقبله الساعة الثالثة بعد الظهر في قصر التين بالإسكندرية. وكان عبدالناصر مشغولًا باستقبال الرؤساء والملوك الذين كانوا يصلون تباعًا، وكانت تلك لفتة كريمة منه، فالسيد محمود المنتصر لم يكن رئيس الوفد الليبي وكان الملك قد وصل فعلًا منذ أيام واستُقبل رسميًا. كان السيد محمود المنتصر يتوق إلى مقابلة الرئيس عبدالناصر، فقد قاسى من خطبة عبدالناصر حال تأليفه للحكومة الثانية وانتقاد عبد الناصر للقواعد العسكرية في ليبيا وما خلفته من جو قاتم ورد فعل من الشعب الليبي والمظاهرات التي تبعته، كما أن موقف الثورة المصرية من حكومته الأولى لم يكن على أحسن حال. وقد استغرب بدوره من تحديد موعد له بهذه السرعة مع عبدالناصر في وقت ينشغل فيه بوصول الرؤساء.











وبعد رجوعه من المقابلة أخبرني السيد محمود المنتصر بما تم فيها وأملى علي ملخصًا لها للاحتفاظ بمحضرها معه، ويتلخص على ما أذكر، بأن الرئيس عبدالناصر استقبله منفردًا بترحيب خاص مستفسرًا عن صحته، وقال له لقد حرصت على مقابلتك حال وصولك لأني أريد توضيح بعض الأمور، لقد سمعت أن البعض أساء تفسير الخطبة التي ألقيتها بعد تأليفك لحكومتك الثانية ومهاجمتي للقواعد العسكرية البريطانية بأنها موجهة ضدك شخصيًا وهذا ليس صحيحًا على الإطلاق، فأنا لم أتمكن بالاجتماع بك في الماضي ولا أحمل أي شئ ضدك، بل أقدر جهودك وعملك في بناء الدولة الليبية.
وأضاف الرئيس عبدالناصر بأنه كان في تلك الخطبة يرد على تصريحات ضده في مجلس العموم البريطاني بأنه يعمل ضد بريطانيا ويثير القلاقل في الدول العربية، وكانت القواعد العسكرية البريطانية في ليبيا وقبرص إحدى النقاط التي أثارها لانتقاد السياسة البريطانية في المنطقة، ولم يخطر بباله بأنه يتعرض لمسألة قد تثير المشاكل للحكومة الليبية في ظرف صعب كما سمعت بعد ذلك، فهو يعرف الظروف التي وقعت فيها المعاهدة البريطانية الليبية ووضع ليبيا المالي الضعيف آنذاك.








السادة محمود المنتصر رئيس الوزراء الليبي وعبدالعزيز بوتفليقة وزير خارجية الجزائر (الأول من اليمين) ومحمود رياض وزير خارجية مصر وحسين مازق وزير خارجية ليبيا وبشير المنتصر وآخرون أثناء حضورهم لمؤتمر القمة الثاني في الإسكندرية سنة 1964م.

وقد سر الرئيس عبدالناصر بأن الحكومة الليبية بدأت أخيرًا المفاوضات مع البريطانيين تصفية القواعد العسكرية، وقال إن بريطانيا لا تستحق عطف العرب، فهي مصدر المشاكل في المنطقة العربية، ولهذا فجلاؤها عن ليبيا خطوة لتحرير المنطقة من تدخلاتها المستمرة في شئونها واستغلالها لمواردها ونشر الفتنة بين دولها. أما بخصوص القواعد الأمريكية فإن تصفيتها يجب أن تتم كذلك، ولكني لا أريد من الحكومة الليبية أن تضغط على الحكومة الأمريكية للجلاء حالًا، بل أعطوها الوقت اللازم الذي تطلبه لإيجاد مكان آخر لقاعدتها، فأمريكا دولة عظمى، والكل في حاجة إلى مساعداتها في صراعنا مع إسرائيل وحل المشكلة الفلسطينية الإسرائيلية، ولا نريد إجبارها على نقل قاعدتها الكبيرة في طرابلس إلى إسرائيل مثلًا، وهي تستطيع خلق مصاعب لنا كلما زاد ضغطنا عليها، ثم تناول بعد ذلك المشاكل العربية وجدول أعمال مؤتمر القمة. وكان خلال المقابلة بشوشًا ومرحبًا، كما رحب بحضور الملك للمؤتمر الذي خصص له قصرًا خاصًا لإقامته، لأنه أكثر راحة من الفندق المزدحم مع جميع الرؤساء العرب.












سبتمبر 1964م - الرئيس عبدالناصر في استقبال الملك إدريس في الإسكندرية ويرى بشير المنتصر خلف الملك إدريس

حضر الملك افتتاح المؤتمر، وكان عبدالناصر يرحب بالملوك والرؤساء بشوشًا. وأعطى الملك إدريس والوفد الليبي اهتمامًا خاصًا. ولم أشاهد في حياتي بشاشة الملك إدريس وابتسامته العريضة، إلا عندما التقى بالملك حسين وأخيه حسن بن طلال في القاعة قبل بدء المؤتمر، وقد سارع الاثنان إلى تقبيل يده احترامًا لكبير أهل البيت. وقد كان المؤتمر ناجحًا ولعب عبدالناصر فيه دور الراعى والمضيف.

زيارة السيد محمود المنتصر للسعودية
قام السيد محمود المنتصر بزيارة السعودية لتهنئة الملك فيصل باسم الملك إدريس باعتلائه العرش على رأس وفد كبير ضم رئيسا مجلس الشيوخ والنواب ورئيس أركان الجيش وبعض الوزراء، وتأخر مفتي ليبيا الشيخ عبدالرحمن القلهود عن الوصول إلى مطار طرابلس في الموعد المحدد فسافر الوفد بدونه، وكنت أنا وياور رئيس الوزراء الخاص الملازم أول محمد أبو مرداس ضمن الوفد.
وقد استُقبل الوفد استقبالًا عظيمًا، وأذكر أن الملك فيصل استقبل الوفد في مكتبه الخاص بمفرده. بدأ الملك فيصل بشكر الملك إدريس على إرساله للوفد للتهنئة، ثم تعرض بإسهاب عن العلاقات العربية وتساءل عن دوافع الرئيس عبدالناصر في التهجم على المملكة السعودية، وكانت العلاقات في تلك الفترة متأزمة بين البلدين إلى درجة استضافة عبدالناصر للملك السابق سعود في مصر بعد عزله، وكانت الحملات الإعلامية في إذاعة صوت العرب ضد السعودية على أشدها.
قضى الملك أكثر من ساعة مركزًا كلامه على مصر ودورها العربي وتدخلها في الشئون الداخلية للدول العربية، وتساءل ماذا يريدون منا؟ وأضاف أن الموقف العربي يستدعي التضامن والتكتل لا إثارة شعوب المنطقة ضد حكوماتها. وألقى السيد محمود المنتصر كلمة معدة مسبقًا مختصرة أكد فيها أن ليبيا تدعو إلى عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية، وقد قاست بدورها فعلًا من تدخل بعض الدول المجاورة، ولم يتعرض لمصر أو عبدالناصر بالاسم. وأثناء المقابلة دخل فجأة شخص طويل القامة في ملابس الأمراء دون استئذان فقام الملك فيصل له مرحبًا وقمنا جميعًا معه، وقدمه الملك بأنه الأمير محمد بن عبدالعزيز (على ما أذكر) وجلس الجميع، واستمر الملك في الكلام. وفجأة نهض الأمير وودعه الملك والحاضرون، وخرج كما دخل دون استئذان. وفي المساء أقام الملك مأدبة عشاء على شرف الوفد حضرها عدد كبير من الأمراء السعوديين، وفي صباح اليوم التالي سافر الوفد إلى مكة لأداء العمرة ومنها سافر عائدًا إلى طرابلس.









الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية (1) يتوسط الوفد الليبي برئاسة السيد محمود المنتصر رئيس وزراء ليبيا (2) الذي جاء لتهنئته بتولي الملك ويظهر في الصورة إلى جانب الملك السعودي ورئيس الوزراء الليبي السادة عبدالحميد العبار رئيس مجلس الشيوخ (3) وسالم القاضي رئيس مجلس النواب (4) والوزراء عبدالقادر البدري (5) وعبدالمولى لنقي (6) ومنير البعباع (8) والسفير الليبي في السعودية حسين بلعون (9) ورئيس أركان الجيش الليبي اللواء نوري الصديق (7) وبشير السني المنتصر وكيل الوزارة لرئاسة مجلس الوزراء (10) الملازم أول محمد أبو مرداس ياور خاص رئيس الوزراء (11)

زيارة السيد محمود المنتصر إلى دول المغرب العربي
في أول ديسمبر 1964 قام السيد محمود المنتصر بزيارة رسمية إلى تونس والمغرب والجزائر على رأس وفد كبير ضم عددًا كبيرًا من الوزراء في أول زيارة رسمية لوفد ليبي على هذا المستوى. ففي تونس كان في استقبال الوفد في المطار رئيس الوزراء السيد الباهي الأدغم والوزراء التونسيين وكبار المسئولين فيها. واستقبل الرئيس بورقيبة الوفد في منزله في قرطاج، وكان بشوشًا كعادته وصريحًا، منتقدًا للسياسة العربية والرؤساء العرب فردًا فردًا، ورحب بالوفد الليبي وأشاد بالعلاقات المتينة بين البلدين. ولبورقيبة تاريخ طويل مع ليبيا، فقد قضي فيها فترة أثناء كفاحه من أجل استقلال تونس ويعرف كثيرًا من البيوت الليبية، وقد سبق لي أن قابلته على مائدة السيد سالم المنتصر عندما كنت طالبًا في طرابلس في الأربعينات.








بشير السني المنتصر (الأول من اليمين) والسادة حسين مازق (الأول من الشمال) وعبدالله سكتة (في وسط الصورة) وبينهما السيد المنجي سليم على مائدة الرئيس الحبيب بورقيبة تكريمًا لرئيس وزراء ليبيا السيد محمود المنتصر الذي كان يزور تونس في زيارة رسمية على رأس وفد كبير

هذا وبعد المقابلة أدخل الوفد إلى مكتبه الخاص وأطلعهم على صور والده الذي هاجر من مدينة مصراته من ليبيا، وقال إنه تونسي ليبي الأصل، وكذلك السيد الباهي الأدغم رئيس الوزراء، فهو من عائلة باشاغة بمدينة مصراته الليبية، ومن الصدف أن محمود المنتصر هو أيضًا من مصراته، وتلفت الرئيس بورقيبه إلى الوزراء التونسيين حولة، وقال أرجو أن لا تأخذكم الغيرة، فنحن والليبيون أسرة واحدة، ولتونس فضلها عليّ شخصيًا، وحبها لا يدانيه حب. ثم أشار إلى علاقته مع الملك إدريس منذ كانا معًا في المهجر في مصر وإلى الفترة التي قضاها في ليبيا، رغم أن الملك في الفترة الأخيرة لم يكن يشعر نحوه بود قوي بعد استقلال تونس، وقد يكون ذلك لانقلاب بورقيبة على النظام الملكي وطرده للباي من عرش تونس.
كما تعرض الرئيس بورقيبة أثناء مقابلته للوفد الليبي بالنقد للرئيس عبدالناصر وموقفه من بعض البلاد العربية، ومنها ليبيا. وقد أعطى الوشاح الأكبر لرئيس الوزراء الليبي وهدايا من المصنوعات التونسية إلى رئيس وأعضاء الوفد، وأقام مأدبة غذاء فخمة على شرف الوفد، حضرها رئيس وزراء تونس ووزير خارجيتها ورئيس البرلمان التونسي. انتهت الزيارة بعقد اتفاقيات ثقافية وتجارية كالعادة وإصدار بيان مشترك.
ومن تونس سافر الوفد الليبي إلى المغرب، وكان في استقباله رئيس الوزراء المغربي السيد أحمد بحنيني والوزراء. أقام ولي العهد الأمير عبدالله مأدبة عشاء صغيرة على شرف رئيس الوزراء الليبي، كما أقام رئيس الوزراء المغربي مأدبة غذاء على شرف الوفد الليبي. وفي الليل ذهبنا إلى إحدى القصور الملكية لمقابلة الملك، وقد قضينا فترة من الوقت في الانتظار قبل التشرف بالمقابلة، وبعد أن صافح الملك رئيس الوزراء الليبي قام هذا الأخير بتقديم أعضاء الوفد المرافقين له. وبعد أن جلس الملك بضع دقائق مع رئيس الوزراء بمفردهما غادر بعدها القصر، وكانت المقابلة قصيرة عابرة. لم تكن العلاقات بين الملك إدريس ووالد الملك الحسن محمد الخامس على أحسن ما يرام بسبب مرور الملك قبل استقلال ليبيا في رحلته إلى بريطانيا بالمغرب، ومقابلته لمحمد بن عرفه الذي عينته فرنسا على العرش أثناء سجن الملك محمد الخامس ونفيه خارج المغرب.
ورغم أن العلاقات الليبية المغربية بعد الاستقلال لم تكن على ما يرام للأسباب التي ذكرتها، إلا أن العلاقات تحسنت بعد ذلك. وقد استُقبل الملك الحسن أثناء زيارته لليبيا استقبالًا رسميًا وشعبيًا لم يكن يتوقعه، وفي خضم جماهير طرابلس ترك سيارته وترجل في شارع عمر المختار بطرابلس وسار مع عشرات الألوف من الليبيين المتحمسين له، مما أوقع الأمير حسن الرضا ولي عهد ليبيا، الذي كان يرافقه، وكذلك رجال الأمن الليبيين في حيرة.








السيد محمود المنتصر رئيس وزراء ليبيا أثناء وصوله إلى المغرب في زيارة رسمية واستُقبل من طرف رئيس وزراء المغرب السيد أحمد بحنيني والسيد محمد بن هيمة وزير خارجية المغرب ويظهران معه في الصورة كما يظهر معهم بشير المنتصر والقائم بأعمال السفارة الليبية في الرباط السيد محمد هويسة

كان وزير الخارجية المغربي السيد محمد بن هيمة متحمسًا لزيارة الوفد الليبي، وحاول انجاح الزيارة بكل السبل، وشدد في كلامه على التأكيد على الحاجة إلى تقوية العلاقات بين ليبيا والمغرب، خاصة أن كلا منهما دولة ملكية ولهما ظروفًا سياسية مشتركة. وانتهت الزيارة ببيان مشترك يشيد بالعلاقات بين البلدين وتأكيد رغبتهما في عقد اتفاقيات تتناول المجالات التجارية والاقتصادية والثقافية وتبادل الزيارات وتنسيق مواقفهما السياسية، وحاجة ليبيا إلى الاستعانة بالعمال المغاربة في مشاريعها التنموية. وقد صادف موعد سفر الوفد الليبي سفر الملك إلى الخارج، لهذا أخر موعد سفر الوفد الليبي حتى يسافر الملك نتيجة لغلق المطار أمام الطيران لمدة ساعات.
حضر رئيس الوزراء الليبي والوفد المرافق له حفل توديع الملك في المطار وتلطف الملك وأخذ معه رئيس الوزراء الليبي وأخيه الأمير عبدالله للتفتيش على حرس الشرف المعد للملك. وبعد سفر الملك جرت مراسيم توديع الوفد الليبي وشارك في التوديع رئيس الوزراء المغربي والوزراء، وقد تأخر سفر الوفد الليبي إلى الجزائر حتى بعد الغروب. وعلمنا بعد ذلك أن المسئولين الجزائريين قضوا ساعات طويلة في المطار في انتظار الوفد الليبي، وقالوا لنا إن تأخيرنا كان مقصودًا من طرف المسئولين في الحكومة المغربية عندما علموا أن الجزائر أعدت استقبالًا شعبيًا ورسميًا كبيرين وذلك حتى يصل الوفد الليبي الجزائر ليلًا.







بشير السني المنتصر وهو يصافح الملك المغربي الحسن الثاني أثناء زيارة الوفد الليبي برئاسة السيد محمود المنتصر رئيس الوزراء إلى المغرب سنة 1964م

ورغم ما جرى في الرباط من تأخير لسفر الوفد الليبي فقد كان الاستقبال الجزائري منقطع النظير. وكان على رأس المستقبلين الرئيس أحمد بن بلة ونائباه هواري بومدين ومحمد السعيد، وكانت الجماهير على طول الطريق من المطار إلى قصر الشعب تستقبل الوفد الليبي بالزهور والزغاريد. كانت الزيارة أول زيارة يقوم بها وفد ليبي على هذا المستوى والحجم بعد استقلال الجزائر.







الرئيس الجزائري السيد أحمد بن بلة والسيد محمود المنتصر رئيس وزراء ليبيا وأعضاء الوفد الليبي الذي يزور الجزائر زيارة رسمية

كان موقف الشعب الليبي والحكومة الليبية والملك عظيمًا مع الشعب الجزائري
في ثورته ضد الاستعمار الفرنسي. وكانت الأسلحة تمر بيسر برًا وجوًا عن طريق ليبيا
من مصر إلى المجاهدين الجزائريين، كما كانت مساعدات الشعب الليبي، رغم
ضيق إمكانياته، غير محدودة. لهذا كان من المتوقع أن تكون العلاقات بين البلدين على
أعلى مستوى من القوة والترابط، إلا أن عوامل غير معروفة دفعت السيد محمد عثمان الصيد عندما كان رئيسًا للحكومة إلى عدم التعاطف مع الحكومة الجزائرية الجديدة. ويظهر أنه حاول إقناع الملك بأن الرئيس بن بلة يتعاون مع الرئيس عبدالناصر لإثارة القلاقل في ليبيا وتشجيع المعارضة الليبية من أجل السيطرة علي ليبيا وتقاسمها. وقد سانده في هذا الرأي البريطانيون والأمريكيون الذين كانوا غير راضين عن بن بلة وعبدالناصر، فالحكم الاشتراكي الذي قام في الجزائر شبيه بنظام عبدالناصر الذي يناصبونه العداء.
حاول الرئيس بن بلة ونائبيه هواري بومدين ومحمد السعيد استغلال زيارة الوفد الليبي على هذا المستوى لتحسين العلاقات. وقد رافق نائبا الرئيس، السيدان هواري بومدين ومحمد السعيد، الوفد الليبي طوال إقامته في الجزائر وزيارة كل المرافق والمناطق الجزائرية، وأقيمت العديد من الحفلات والمآدب على شرفه. وكان السيدان عبدالعزيز شوشان وعبدالرحمن الشريف، لعلاقاتهما الوثيقة بليبيا في الماضي، يسهران على راحة الوفد، وأذكر أنهما كانا على اتصال بي دائمًا لمعرفة فيما إذا كان لرئيس الوزراء أية طلبات أو خدمات أو إذا كان في حاجة إلى أطباء، لأنهما يعرفان أن حالته الصحية غير مرضية، وهما من أصدقاء أخي الأصغر الهادي السني المنتصر الذي كان عضوًا في لجنة نصرة الثورة الجزائرية خلال حرب الاستقلال.








السيد محمود المنتصر رئيس مجلس الوزراء مع مجموعة من الوزراء والمرافقين أمام قصر الشعب بالجزائر العاصمة
عند بدء المباحثات بين الوفدين الليبي والجزائري تقدم الجزائريون بمشاريع اتفاقيات عديدة لدمج البلدين في تعاون وتقارب وتكامل في جميع المجالات السياسية والعسكرية والأمنية، بالإضافة إلى المجالات الاقتصادية والتجارية والثقافية، مما كان مفاجأة لأعضاء الوفد الليبي الغير مستعدين لهذا الكم الهائل من مشاريع الاتفاقيات ومستوى التعاون المقترح، وكانوا مترددين في قبول كل هذه المقترحات. كان رأي الوفد الليبي أن وقت الزيارة قصير جدًا ولا يستوعب دراسة كل ما تقدم به الوفد الجزائري من اقتراحات، ولهذا اقترح الوفد الليبي أن تحال جميع المقترحات إلى الحكومتين الليبية والجزائرية لإحالتها إلى الجهات المختصة في البلدين لدراستها قبل تناولها في مباحثات قادمة.
وقد أدى هذا الاختلاف في وجهات النظر إلى تدخل الرئيس بن بلة الذي ألقى كلمة في الوفدين المتفاوضين، قائلًا إن الجزائر على استعداد للتوقيع على بياض، وعلى الليبيين وضع ما يريدون من الاتفاقيات وبلا حدود لأنني أعتبر البلدين بلدي، فأنا ليبي كما أني جزائري، وحاضر البلدين واحد ومستقبلهما واحد باتفافيات أو دون اتفاقيات، وطلب من الوفد الجزائري قبول مقترحات الوفد الليبي برمتها دون إضافة من الجانب الجزائري.
وهكذا انتهت المفاوضات بالشكل الدبلوماسي التقليدي وصدر بيان رسمي يرسم الخطوط العريضة للتعاون بين البلدين، كما وقعت معاهدة صداقة بين البلدين. وفي نهاية الزيارة قدمت لأعضاء الوفد الليبي هدايا رمزية من المصنوعات الجزائرية الوطنية اليدوية والبدوية. وغادر الوفد الليبي الجزائر بعظيم الحفاوة، وكان الرئيس بن بلة ونائباه على رأس المودعين، ولا أذكر أن الرئيس بن بلة دعي لزيارة ليبيا كما دعي الملك الحسن.

الدعم الشعبي لثورة الجزائر
وهنا لابد من الإشارة إلى المجهودات التي بذلها الليبيون في دعم ثورة الجزائر في الفترة ما بين 1954 و1962 وعلى رأسهم الشيخ محمود صبحي رئيس لجنة نصرة الثورة الجزائرية، وكذلك السادة الهادي المشيرقي وسعد علي الشريف وأحمد راسم باكير وجميل المبروك ويوسف مادي وسعيد السراج ومحمد بن طاهر، ومختار ناصف، وانضم إليهم عشرات المتطوعين من كافة أنحاء ليبيا، الذين أخذوا على عاتقهم جمع المساعدات المالية والعينية لصالح الثورة الجزائرية.







لقد أفني السيد الهادي المشيرقي، الرحالة ورجل الأعمال المشهور وأحد مؤسسي الحزب الوطني سنة 1944، عمره في خدمة القضايا الوطنية والعربية والإسلامية. وكانت قضية الجزائر قمة عطائه اللامحدود، حتى أنه تعرض لمحاولة اغتيال في ألمانيا في صيف 1960م من قبل منظمة "اليد الحمراء" الفرنسية الإرهابية أثناء مهمة له لصالح الثوار الجزائريين وذلك خلال حرب التحرير الجزائرية، وقد قامت الحكومة الجزائرية بعد الاستقلال بتكريمه عدة مرات. توفي السيد الهادي المشيرقي بطرابلس يوم الأحد 14 أكتوبر 2007م ودفن بالجزائر يوم الخميس 18 أكتوبر 2007 حسب وصيته.






في يونيو 1956 اختير الشيخ أحمد راسم باكير من قبل أهالي مدينة طرابلس لرئاسة لجنة جمع التبرعات للجزائر. وقد قام عدة مرات بمهمة توصيل التبرعات بنفسه إلى المجاهدين الجزائريين، كما زار معسكرات جيش التحرير الوطني الجزائري بتونس. وتقديرًا لمجهوداته قامت الحكومة الجزائرية بعد الاستقلال بتكريمه وتسمية أحد شوارع مدينة الجزائر باسمه. والشيخ باكير والدته جزائرية من عائلة شيخي وهو ابن عم الشيخ الطاهر باكير والي طرابلس السابق ومن كبار المربين الذي اشتغل مدرسًا في مرزق ومصراته وطرابلس منذ أن امتهن التدريس سنة 1933م. وفي سنة 1944م عين إمامًا وخطيبًا بجامع محمد باشا المشهور بشايب العين بسوق الترك بطرابلس، وفي نفس الوقت كان إمامًا لمحلة الظهرة. وفي سنة 1945م بدأ في مزاولة مهنة المحاماة الشرعية وتوفي بطرابلس في 25 نوفمبر 1963م.
ومن الذين ساهموا بقسط وفير السيد أبوبكر محمد البدري الذي قام باحتضان العشرات من أبناء شهداء الثورة الجزائرية والإشراف على تعليمهم وتربيتهم في ليبيا. كما أنه أوصى بثلث تركته من الأملاك إلى أربعة من الأيتام الجزائريين (ثلاث بنات وولد) الذين احتضنهم معه في بيته في طرابلس، وحسب معلوماتي لا زال هؤلاء مقيمين في ليبيا، وقد توفيت منذ فترة إحدى البنات. هذا وقد تبنت السيدة فاطمة أحمد الشريف السنوسي ملكة ليبيا السابقة ابنتها سليمة، وهي يتيمة جزائرية، وذلك تضامنًا منها والملك إدريس مع المجاهدين الجزائريين.

انـتخابـات أكتوبر 1964م
بعد الإعلان عن إجراء الانتخابات واستعداد المعارضة لها، سافر السيد محمود المنتصر للعلاج في لندن، مما تعذر عليه حضور الانتخابات البرلمانية، وعين السيد إبراهيم بن شعبان وزير المواصلات رئيسًا للوزارة بالوكالة، وكان الأستاذ محمود البشتي وزيرًا للداخلية. وكان رئيس الوزراء يتابع الانتخابات من لندن إلى حد ما، وكنت معه في لندن لمساعدته في اتصالاته ومراسلاته المشفرة مع الملك والتي تصل بشكل دوري ويومي. وكان يتصل هاتفيًا بالمسئولين في ليبيا لمعرفة ما يجري، وكان يستلم عشرات من برقيات الاحتجاج يوميًا يشكو فيها مرسلوها من تدخلات في الانتخابات ويطلبون عودته للإشراف بنفسه على الانتخابات.
استدعى رئيس الوزراء وزير الدولة لشئون الرئاسة السيد عمر الباروني، الذي يحظى بثقته، لمعرفة سير الانتخابات عن كثب، وقد أكد السيد الباروني لرئيس الوزراء بأن تصرفات رئيس الوزراء بالوكالة ووزير الداخلية أثارت تساؤلات وشبهات كثيرة، وساعدت على انتشار الإشاعات بتزوير الانتخابات بشكل كبير. وعندئذ استأذن رئيس الوزراء أطبائه في السفر إلى ليبيا ولكن الأطباء أعطوه إنذارًا بعدم السفر، ولهذا حرر رسالة أملاها عليّ شخصيًا شديدة اللهجة إلى السيد إبراهيم بن شعبان رئيس الوزراء بالوكالة، وكان من أقرب أصدقائه، وإلى وزير الداخلية الأستاذ محمود البشتي طالبًا منهما عدم التدخل في الانتخابات وترك المنافسة حرة بين المرشحين وعدم مساندة أحد على الآخر.





السيد إبراهيم بن شعبان الأستاذ محمود البشتي

كان رئيس الوزراء يعرف جيدًا قبل سفره أن الملك كان قد أمر بعدم السماح لنواب المعارضة، الذين أثاروا موضوع إلغاء المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية دخول البرلمان الجديد بأي حال من الأحوال، ولكنه كان يخشى أن يكون رئيس الوزراء بالوكالة ووزير الداخلية قد استعملا هذا التفويض من الملك للتدخل في مزيد من الحالات لمساندة مرشحين آخرين من أنصارهما وأصدقائهما. عاد السيد عمر الباروني بتعليمات رئيس الوزراء إلى طرابلس واستلم رئيس الوزراء ردًا مستعجلًا موقعًا من السيد إبراهيم بن شعبان رئيس الوزراء بالوكالة والأستاذ محمود البشتي وزير الداخلية عن طريق السيد عمر الباروني وزير شئون الرئاسة يؤكدان فيه حرص الحكومة على التقيد بتعليماته متمنين له الشفاء العاجل.
ورغم هذا توالى سيل برقيات الاحتجاج على تدخلات الحكومة من المرشحين، ثم توالت أخبار عن اعتقالات كثيرة وتجاوزات. واضطر رئيس الحكومة إلى الاتصال بالملك هاتفيًا ذاكرًا له عما يسمعه من تدخلات، راجيًا منه أن يصدر تعليماته إلى رئيس الوزراء بالوكالة لوقف مثل هذه التدخلات، كما طلب منه أن يقبل استقالته نظرًا لعدم سماح الأطباء له بالسفر للعودة إلى الوطن نظرًا لظروفه الصحية السيئة. كان رد الملك عليه صدمة لرئيس الوزراء فقد قال له، وأكده بعد ذلك في برقية مشفرة، بأن لا يستمع إلى ما يصله من إشاعات كاذبة أو شكاوى فردية غير صحيحة، وأن الانتخابات تجري بصورة جيدة ومرضية، وأن على رئيس الوزراء الاهتمام بصحته وعدم التفكير في أمور أخرى، وهو، أي الملك، يتابع مجرى الانتخابات عن كثب طوال فترة غيابه، وطلب منه عدم التفكير في الاستقالة الآن، فهذا موضوع يجب أن يبحث بعد عودته.
وأذكر أن السيد محمود المنتصر قال لي بعد ذلك بصفة خاصة أنه يظهر أن الملك يؤيد ما يجري وراض عن ما يتخذ من إجراءات من طرف الحكومة. وكانت علاقتي مع رئيس الوزراء تسمح لي في معظم الأحيان تحليل أوامر الملك وإبداء رأيي فيها بصراحة وانتقاد إجراءات الحكومة، وكان يرى في رأيي انعكاسًا لأراء الشباب المثقف في البلد ويأخذ به أحيانًا. وقد سألته في الأيام الأولى لحكومته سؤالًا مباشرًا عما إذا كان يعني حقًا بما يصرح به من رغبته في إنهاء المعاهدات الأجنبية وجلاء القوات الأجنبية أو أن ما يقوله هو سياسة لإرضاء الشعب وللاستهلاك الداخلي فقال لي:
اسمع يا ابني، أنا لا أكذب عليك ولا على الشعب الليبي. فعندما قبلت تأليف الحكومة للمرة الثانية وأنا في حالة من المرض لا تسمح لي بهذه المسئولية، كنت آمل وأريد إلغاء المعاهدة البريطانية التي وقعتها عن إيمان بحاجة ليبيا إليها، لأن ليبيا كانت أفقر دولة في القارة الإفريقية وغير قادرة على تغطية مصاريفها الإدارية العادية ودفع مرتبات الموظفين والشرطة، ولهذا فحاجتنا المالية أجبرتنا على تأجير القواعد العسكرية لبريطانيا ثم لأمريكا، والآن أشعر بأننا لسنا في حاجة لمد يدنا إلى بضعة ملايين وعندنا عشرات الملايين تنهال علينا من البترول، ولهذا أدعو الله أن يساعدني الملك في التخلص من المعاهدة البريطانية والاتفاقية الأمريكية وجلاء القوات الأجنبية من جميع أنحاء ليبيا، وذلك راحة لضميري أمام الشعب الليبي، وحماية لأبنائي لأن يعيشوا حياتهم دون الشعور بين مواطنيهم بعقدة أن والدهم مهد للأجانب احتلال البلد. هذا رغم أني في قرارة نفسي أعتقد أن بقاء القواعد العسكرية البريطانية والأمريكية في ليبيا فيه حماية لها من جيرانها وممن يتربص بها، حتى تتمكن من إنشاء جيش قوي رادع لمن يعتدي عليها، وأن الإسراع في جلاء القوات الأجنبية قد يعرضها للخطر، ولكنه لا يريد فرض رأيه على الشعب الليبي الذي يصبو إلى الجلاء، ومن واجب الحكومة الديمقراطية تلبية رغبات الشعب مهما كانت مخاطرها، ولهذا فإنه كان مصممًا على اتخاذ هذا القرار مهما كلفه من تضحيات، وكان يدعو الله أن يمكنه الملك من ذلك.
هذا كان رأي محمود المنتصر وموقفه من موضوع الاتفاقيات العسكرية والمعاهدات وجلاء القوات الأجنبية قبل خطاب الرئيس عبدالناصر، لكن الملك لم يسانده إلى النهاية. ونظرًا لثقة الملك في إخلاصه ورغبة في إرضائه وافق على جلاء القوات البريطانية من مدينتي بنغازي وطرابلس، ولكنه أصر على بقاء الحلف مع بريطانيا وبقاء القوات البريطانية في مطار العدم بطبرق وإجراء التدريبات في صحراء برقة وترك الحكومة حرة في التعامل مع أمريكا، فهو يعرف أن الأمريكيين لن يحموه من أي خطر. ذكرت هذا لأن الموضوع مرتبط بمجرى الانتخابات البرلمانية، وقد سألته عما يجري فيها صراحة، فأنا أعرف أنه قبل شروط الملك بعد رجوعه عن الاستقالة بعدم السماح للنواب المعارضين للمعاهدة البريطانية بالعودة للبرلمان بعد حله.
وسؤالي للسيد محمود المنتصر كان هل أصدر أوامره لرئيس الوزراء بالوكالة لتنفيذ ذلك قبل سفره، لأن هذا ما كان يردده السيد إبراهيم بن شعبان رئيس الوزراء بالوكالة، الذي كنت احترمه لأنه صريح دائمًا في آرائه، وهو يكن للسيد محمود المنتصر الاحترام والتقدير. كان جواب السيد محمود المنتصر أن الحالات التي أوصى عليها الملك معروفة وتتناول بعض نواب طرابلس وبنغازي المعروفين ومنعهم من دخول الانتخابات، وكان ذلك يجب أن يتم بطريقة سلمية بالإقناع والترغيب لا بوضعهم في السجن ويمكن مراجعة الملك إذا تعذر ذلك لإعادة النظر في قراره، وليست هذه المرة الأولى التي يقبل فيها الملك تغيير رأيه في أي قرار يتخذه في حالات الغضب.
عاد رئيس الحكومة إلى ليبيا بعد انتهاء علاجه بعد انتهاء الانتخابات وسمع أخبارًا كثيرة عن التدخلات أثناء الانتخابات والاعتقالات، والكل كان يلوم رئيس الوزراء فهو المسئول الأول. وكان رئيس الوزراء مصممًا على حل مجلس النواب المنتخب الذي ضم مجموعة من أصحاب النفوذ ومجموعة قوية على رأسها السيد محمد عثمان الصيد رئيس الوزراء السابق، الذي كان صديقًا للسكرتير الخاص للملك ورجال القصر، ولهذا لما طلب رئيس الوزراء من الملك حل مجلس النواب رفض الملك طلبه ووافقه على تعديل الوزارة وخروج السيدين إبراهيم بن شعبان ومحمود البشتي من الحكومة. وقد طلب السيد محمود المنتصر من الوزيرين تقديم استقالتهما، ونقل وكيل وزارة الداخلية السيد أبوبكر الزليطني إلى الخدمة المدنية وأجرى تنقلات في رجال الأمن. وقد أوضح السيد أبوبكر الزليطني لرئيس الوزراء أنه ليست له أي علاقة بما جرى ولا يريد أن يكون ضحية لما يشاع عن اعتقال المرشحين وتزوير الانتخابات. ويؤخذ على السيد محمود المنتصر إبقاءه على مدير الأمن للمحافظات الغربية الزعيم عبدالحميد بك درنه رغم الإشاعات المتداولة لتدخله في الانتخابات.
بعد التعديل الوزراي واجه السيد محمود المنتصر معارضة قوية في المجلس الجديد، لأن النواب الجدد وقفوا إلى جانب الوزيرين المقالين لما قدماه لهم من مساعدات أثناء الانتخابات، واتهموا رئيس الوزراء بالتهرب من المسئولية ووضعها على غيره، وتعريض سمعة المجلس الجديد للتشويه أمام الشعب. وتزعم هذه المعارضة النائب يونس بلخير وبعض الأعضاء من مجموعة السيد محمد عثمان الصيد وأعضاء وزارته السابقين. وهكذا أخرجت المعارضة الوطنية من مجلس النواب لتحل محلها معارضة مصلحية. وقد أدى ذلك إلى سوء الحالة الصحية لرئيس الوزراء حتى أصبح لا يأتي إلى مكتبه إلا نادرًا، تاركًا العمل لنائبه السيد حسين مازق، الذي كانت ترشحه الإشاعات لرئاسة الحكومة بعده.
وسافر السيد محمود المنتصر بعد تعديل الوزارة للعلاج ونزل في فندق الجراند هوتيل في روما، وقد لاحظت وجود المستر أدريان بيلت مع فريق من الخبراء القانونيين المعروفين، وقد اجتمع بهم رئيس الوزراء ودرس معهم تعديلات دستورية بأمر الملك. وكان الموضوع سريًا، ولم أكن أعرف فحواه، ولكن فهمت هدفه من المراسلات البرقية السرية المشفرة المتبادلة بين الملك ورئيس الحكومة والتي كنت أفتحها وأعدها له، وسأتعرض لهذا الموضوع في الصفحات التالية بالتفصيل.
وخلال إقامتنا في فندق جراند هوتيل بروما اتصل بنا شخص مجهول الهوية وقال إنه يرغب في مقابلة رئيس الوزراء أو أحد مساعديه، ويظهر من لهجته أنه من اليهود المهاجرين من ليبيا، ورفض إعطاء سبب للمقابلة. وبعد التشاور مع رئيس الوزراء وافق على تحديد موعد معه على أن أقابله أنا نيابة عنه. وحددت له موعدًا في نفس اليوم في إحدى المقاهي التي اقترحها. وخلال المقابلة أسر إليّ بأنه علم من مصادر موثوقة بوجود ترتيبات من بعض الليبيين والمرتزقة ودعم السلطات المصرية للقيام بانقلاب على النظام الليبي، وسيصل هؤلاء المرتزقة إلي طرابلس وبنغازي في سفن عن طريق البحر خلال أسابيع، وذكر بعض أسماء وزراء وكبار ضباط جيش سابقين من ضمن المنظمين للحركة. وقد أخبرت رئيس الوزراء بذلك، ولكن اتضح بعد ذلك أنه لا أساس لقصته، وفسرنا ذلك بأنه قد يكون هذا الشخص اليهودي من الموساد جهاز المخابرات الإسرائيلي للفت نظر السلطات الليبية إلى أخطار قيام حركة في ليبيا لصالح مصر الناصرية التي قد تهدد أمن وسلام إسرائيل. وهذه ليست المرة الأولى التي تصلنا مثل هذه الإنذارات باحتمال قيام حركة انقلابية، ولكن يتضح بعد ذلك لدى المخابرات الليبية البدائية البسيطة أنه لا أساس لها من الصحة.
بعد رجوع رئيس الوزراء إلى طرابلس من العلاج وجد مجلس النواب في حالة تحدي لحكومته وله شخصيًا. وأشاع النواب أن رئيس الوزراء استدعى شركة إيطالية لدراسة مشروع الطريق الساحلي وشككوا في الهدف من وراء ذلك، واتهموه بالاتفاق معها لخدمة مصالح إيطاليا في ليبيا. وقد حول عليه الملك برقية شكوى أرسلت إليه من عدد كبير من النواب تتضمن شكوى ضده حول الطريق الساحلي، وقد طلب مني رئيس الوزراء تسليمها إلى السيد حسين مازق الذي كان يقوم بأعمال رئاسة الحكومة خلال غيابه خارج ليبيا من أجل المرض الذي كان يعانيه في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها.
وما أن سمع السيد السنوسي الأطيوش وزير المواصلات آنذاك الإشاعات وفحوى برقية النواب حتى انبرى مدافعًا عن الشركة الإيطالية وموضحًا بأنه لا علاقة لرئيس الوزراء بها. وأنا بدوري لم أكن أعرف شيئا عن تفاصيل الموضوع ولا حتى اسم الشركة، ولم تجر أية اتصالات معها عن طريقي سواء في ليبيا أو أثناء إقامة رئيس الوزراء في روما، رغم أن الإشاعات كانت قوية على مختلف المستويات الرسمية والشعبية. كانت برقية النواب الموجهة للملك ضد رئيس الوزراء هي القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون، إذ اعتبرها رئيس الوزراء مقدمة لسحب الثقة من حكومته، بالإضافة إلى تقدم عدد كبير من النواب بأسئلة واستجوابات عديدة عن سياسة الحكومة العامة وسياستها الزراعية والمشاريع التي فتحت للعطاءات، وطالب البعض منهم بإنشاء لجنة تحقيق مع الحكومة في هذه المواضيع.
وكان السيد سالم القاضي رئيس مجلس النواب المخلص لرئيس الوزراء عاجزًا عن السيطرة على المجلس وإيجاد تفاهم بين الحكومة والمجلس. وكان النائب يونس بلخير يقود حملة المعارضة لأنه ضد السيد علي تامر، الذي له علاقات قوية مع رئيس الوزراء سياسيًا منذ قيام الاستقلال، بينما كان السيد محمد عثمان الصيد يدّعي الوقوف كوسيط بين رئيس الحكومة والنواب، ولكنه في الحقيقة كان المحرك الرئيسي للمعارضة ليضغط على رئيس الوزراء لإدخال بعض أنصاره من النواب في الحكومة. وحتى النواب المعتدلين كانوا يؤيدون المعارضة من وراء ستار لعدم حصولهم على مناصب وزارية أو مزايا مالية، ولهذا قدموا اقتراحات بتعديل لائحة العطاءات المركزية بحيث يسمح لأعضاء مجلس الأمة الاشتراك في العطاءات والمناقصات العامة، الأمر الذي تحرمة اللائحة المعمول بها.
ولكن حكومة محمود المنتصر رفضت هذا الأمر، واشتكى السيد عمر الباروني وزير المالية آنذاك من النواب الذين يتربصون به أمام منزله وفي مكتبه يطلبون قروضًا وسلفيات، وكانوا يتوعدون بتقديم أسئلة واستجوابات له إذا رفض إجابة طلبهم. ولما لم تفد هذه الضغوط على الحكومة حول الشئون المالية لجأ النواب إلى موضوع القواعد العسكرية وجلاء القوات الأجنبية، الموضوع الذي تتحاشاه الحكومة تجنبًا لإثارة الجماهير الشعبية. ولكن النواب أخطأوا في حكمهم هذا لأن تعرضهم لهذا الموضوع الحساس للملك أضعف ثقة الملك فيهم وأصبح في صف رئيس الوزراء ضدهم.
بدأ رئيس الوزراء يفقد الأمل في التعاون مع مجلس النواب، وكانت ترد إليه تقارير أمن الدولة عن تحركات النواب وعن اجتماعات تعقد في بيت السيد محمد عثمان الصيد لتنسيق مواقف المعارضة في المجلس، رغم أن السيد الصيد نفسه يحاول عبثًا الاجتماع برئيس الوزراء بدعوى إزالة الخلاف القائم في مجلس النواب، وهو يدعي دائمًا صداقته لمحمود المنتصر منذ بدء الاستقلال، فقد كان دائمًا وزيرًا للصحة في حكومته الأولى وكان يؤيده علنا في مجلس النواب، إلا أن مساعيه لم تنجح، لأن بعض الوزراء المقربين من رئيس الوزراء كانوا معارضين للسيد محمد عثمان الصيد ومن بينهم السيد عبدالمولى لنقي وكانوا يحرضون رئيس الوزراء عليه.
كان مدير أمن الدولة العقيد عبدالسلام الكتاف كذلك بدوره لا يحمل ودًا للسيد الصيد، وكان يبعث بتقارير باستمرار عن تحركات واتصالات السيد الصيد العديدة بالسكرتير الخاص للملك السيد إدريس بوسيف، الذي يرتبط بالسيد الصيد بصلات قوية منذ كان هذا الأخير رئيسًا للوزراء. وكان السيد إدريس بوسيف ينقل للملك تفاصيل الخلاف بين الحكومة ومجلس النواب وما تصله من أخبار عن تدخلات الحكومة في نشاط النواب وما يتعرضون له من رقابة ومضايقة.
وقد تعرض السيد محمد عثمان الصيد نفسه للرقابة البوليسية وصلت إلى حد دخول بيته ليلًا وتفتيشه من طرف بوليس أمن الدولة وبعثرة محتويات بيته وأوراقه بحثًا عن دليل يثبت تآمره مع النواب ضد الحكومة. ورغم أني لا أعرف مدى صحة هذا الإجراء إلا أني أعرف أن جهاز أمن الدولة كان يتابع نشاط السيد الصيد عن كثب. وأذكر أنه في الأيام الأخيرة لمجلس النواب طلب السيد محمد عثمان الصيد موعدًا مع رئيس الوزراء كالعادة، وقد استطعت الحصول له على موافقة رئيس الوزراء على الموعد، إلا أن رئيس الوزراء طلب مني إلغاء المقابلة بعد مقابلته للنائب عبدالمولى لنقي الذي كان له تأثير كبير عليه ويتقبل نصيحته واقتراحاته.
أما السيد إبراهيم بن شعبان الذي كان عضوًا في مجلس النواب، فرغم إقالته من الحكومة، بقي مخلصًا لمحمود المنتصر، وكان يحاول زيارته باستمرار ويأتى إلى المطار لتوديعه والترحيب به، وكان دائمًا يمر على مكتبي ويقضي وقتًا يمزح معي على صاحبه السيد محمود المنتصر، غير أن رئيس الوزراء غير رأيه في صديقه السيد إبراهيم بن شعبان بعد أن كان من أقرب أصدقائه ولم يعد يتحمل زيارته أو رؤيته على الإطلاق. وكان السيد بن شعبان يردد باستمرار بأنه لم يخن الأمانة، وأنه نفذ تعليمات رئيس الوزراء والملك بكل دقة في الانتخابات التي أجراها في غياب رئيس الوزراء، وكان دائمًا يقول إن مشكلة السيد محمود المنتصر تكمن في صهره السيد عبدالمولى لنقي الذي يستغله ضد خصومه السياسيين.

علاقات السيد محمود المنتصر
حاول السيد محمود المنتصر في أول عهده تعيين الدكتور محي الدين فكيني سفيرًا، وأذكر أنه طلب مني الاتصال به في بيته هاتفيًا وإبلاغه دعوة رئيس الوزراء لمقابلته في مكتبه. وعندما اتصلت بالدكتور فكيني طلب مني أن أعطيه بضع دقائق للرد على دعوة رئيس الوزراء، ويظهر أنه كان يرغب في استشارة أخيه السيد علي فكيني الذي كان له تأثير كبير عليه. وبعد أن اتصلت به ثانية أبلغني بأنه مريض ولا يستطيع الخروج وهو يرحب برئيس الوزراء إذا أراد زيارته في بيته. واعتبر السيد محمود المنتصر رد الدكتور فكيني رفضًا للتعاون معه، ورغم ذلك رشحه ليكون ممثلًا لليبيا في الأمم المتحدة، إلا أن الملك رفض هذا الاقتراح بقوة. وأعتقد أن هذه المحاولات للتقارب مع الدكتور محي الدين فكيني كانت بناء على نصيحة السيد عبدالمولى لنقي لأني أذكر أنه كان مع رئيس الوزراء لما طلب مني الاتصال به للمقابلة.






السيد محمود الخوجة السيد محمد بك درنة الدكتور مصطفى بن زكري

يأخذ خصوم السيد محمود المنتصر عليه تعيين عدد من أصهاره، ففي مجلس الشيوخ عين السيدين محمد علي لنقي والحاج رشيد الكيخيا، وفي الحكومة عين السادة عبدالمولى لنقي ومحمد بك درنة وفؤاد الكعبازي ومنصور كعبار والدكتور مصطفى بن زكري وزراء فيها، كما عين ابنه الدكتور عمر محمود المنتصر سفيرًا لليبيا في بريطانيا والسيد الطاهر القرامانلي سفيرًا لليبيا في اليونان والسيد محمود الخوجة سفيرًا في القاهرة، والعقيد عبدالحميد بك درنة مديرًا للأمن في المحافظات الغربية. وكما قلت فإن كل هؤلاء من عائلات سياسية معروفة ولهم مكانة اجتماعية وسياسية بين المواطنين، وترشيحهم لمناصب سياسية سواء من طرف السيد محمود المنتصر أو من أي رئيس وزراء آخر أمر وارد - وبعضهم كانوا وزراء في حكومات سابقة - لا علاقة له بالمحسوبية كما يدّعي خصوم السيد محمود المنتصر.
يقول البعض إن السيد محمود المنتصر متحيز لفرع السيد أحمد الشريف في العائلة السنوسية، فهو صهر السيد أحمد محي الدين السنوسي، زوج ابنته وابن عم الملكة فاطمة. وأفراد فرع أحمد الشريف كانوا جميعًا في الاعتقال وتحت التحفظ المنزلي منذ أن غضب الملك على عائلته بعد مقتل ناظر خاصته وصديق العمر السيد إبراهيم الشلحي سنة 1954م، أي منذ عشر سنوات. وقد سعى السيد محمود المنتصر مع الملك لرفع هذا التحفظ عليهم والسماح للشباب منهم بالعمل وتعويض بعضهم عما خسروه وإعادة لقب الملكة إلى زوجته فاطمة، وهي ابنة السيد أحمد الشريف، الذي سحبه الملك منها بعد زواجه من السيدة عالية لملوم سنة 1955م والتي طلقت منه بعد زواج دام قرابة تسعة أشهر. كل هذا نسب إلى نفوذ السيد محمود المنتصر عند الملك. وقد أثارت هذه الأعمال غضب ولي العهد الأمير الحسن الرضا اعتقادًا منه أنه يساند أبناء السيد أحمد الشريف لوراثة العرش بعد وفاة الملك.







وقد زاد الطين بله تنحية الملك للسيد الطاهر باكير صهر الأمير من منصبه كسفير ليبيا في القاهرة في عهد حكومة السيد محمود المنتصر وتعيينه سفيرًا تحت الطلب بوزارة الخارجية، وذلك بعد تصريحاته في القاهرة حول القواعد العسكرية الأجنبية في ليبيا التي ذكر فيها أن الملك وولي عهده ضد الاتفاقيات العسكرية مع بريطانيا وأمريكا وضد بقاء القوات العسكرية الأجنبية في ليبيا.
وقد نشرت تصريحات السيد باكير كل وسائل الإعلام المصرية على نطاق واسع ونقلته عنها وسائل الإعلام العربية والعالمية، مما أثار غضب الملك وأمر بسحب السفير باكير من القاهرة دون مراعاة لكونه والد زوجة ولي العهد. وقد جاءت تلك التصريحات عقب تصريحات عبدالناصر حول القواعد العسكرية في ليبيا. وحاول السيد محمود المنتصر إيجاد أعذار للسيد الطاهر باكير عند الملك بأنه أخذ على غرة وهو معروف بالصراحة والاسترسال في التفاصيل، مما جعله يدخل في حديث طويل مع مراسل جريدة الأهرام السيد زكريا نيل وجره هذا إلى الكلام. وقد زادت الصحافة المصرية على ما قاله ولم يكن من المستطاع تعديل ما نشر أو تكذيبه لأن ذلك سيكون له أثر ضار.
لم يستطع السيد محمود المنتصر إقناع الملك لإبقاء السيد الطاهر باكير صهر ولي العهد سفيرًا في القاهرة، فأصدر قرارًا بنقله إلى وزارة الخارجية كسفير تحت الطلب. ورغم ما قام به السيد محمود المنتصر من الدفاع عن السيد الطاهر باكير، إلا أن ولي العهد اعتبر إجراء نقل صهره من تدبير السيد محمود المنتصر ضده ومن ضمن محاولات هذا الأخير لنقل وراثة العرش لعائلة السيد أحمد الشريف أو بإعلان النظام الجمهوري وتوليه هو رئاسة الجمهورية. وكانت هناك أسباب وقرائن لتهم ولي العهد هذه لمحمود المنتصر لما كان يجري في الخفاء بشأن رغبة الملك في تعديل الدستور وإلغاء النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري، وسأتعرض لذلك بالتفصيل في الصفحات التالية.

خلاف الملك إدريس مع عائلته
لقد كان الملك منذ عهد حكومة السيد مصطفى بن حليم (1954-1957م) يفكر في موضوع نظام الحكم في ليبيا بعده. ورغم تعيين ابن أخيه الأصغر الأمير الحسن الرضا وليًا للعهد، إلا أنه كان غير مؤمن بصلاحيته وغير متحمس لفكرة ولايته للعهد، لأنه يعتقد بأنه سيعيد العائلة السنوسية إذا تولى الملك إلى مكانتها في الدولة، والملك يحمل لهم جميعًا بغضًا دفينًا. ورغم وجود أسباب ترجع إلى خلاف حول من هو صاحب الحق في
تولي زعامة الحركة السنوسية بعد وفاة الملك إدريس، إلا أن وصول الخلاف إلى درجة حرمان العائلة السنوسية بكاملها من زعامتها التاريخية للحركة السنوسية التي أسسها جدهم الأكبر السيد محمد بن علي السنوسي الكبير منذ أكثر من قرن كان شيئًا يصعب تفسيره.
ويرجع الخلاف إلى أيام الكفاح ضد إيطاليا. فبعد وفاة السيد المهدي الشريف السنوسي سنة 1902، والد السيد إدريس السنوسي، كان عمر هذا الأخير لا يزيد على 12 سنة، ولهذا قرر الإخوان السنوسيون، كما كانوا يسمون، أن يتولى السيد أحمد الشريف السنوسي ابن عم إدريس رئاسة الإخوان بصفة وكالة عنه حتى يبلغ السيد إدريس سن الرشد، وتولى السيد إدريس رئاسة الإخوان سنة 1916 وسافر ابن عمه السيد أحمد الشريف إلى تركيا سنة 1918 بعد خلاف بينهما حول توسيع الحرب ضد البريطانيين في مصر الأمر الذي عارضه السيد إدريس.
وقد اقترح السيد أحمد الشريف على السيد إدريس تعيين ابنه السيد العربي خليفة له بعد وفاته أو تنحيه عن منصبه. وعد السيد إدريس هذا، تمسك به أبناء السيد أحمد الشريف حتى بعد استقلال ليبيا، ولكن الملك عندما تولى العرش عين أخاه السيد محمد الرضا وليًا للعهد بحجة أن وعده للسيد أحمد الشريف كان على زعامة السنوسيين فهو لم يكن ملكًا في ذلك الحين وصفته كملك صفة جديدة. وبعد وفاة أخيه اختار الملك السيد الحسن الرضا ابن أخيه الأصغر وليًا للعهد. وازدادت العداوة بين الملك وعائلته بعد إقدام محمد محي الدين السنوسي حفيد أحمد الشريف على اغتيال السيد إبراهيم الشلحي ناظر الخاصة الملكية وصديق الملك إدريس منذ الطفولة في بنغازي سنة 1954م.

خيارات الملك إدريس بين النظام الملكي والجمهوري
بدأ الملك يفكر في ولاية عهده، فهو يخاف أن تنتقل رئاسة ليبيا إلى طرابلس إذا ألغى النظام الملكي وأعلن نظامًا جمهوريًا منتخبًا، وهو حريص على أن يكون دور برقة مساويًا على الأقل لدور طرابلس في حكم ليبيا، رغم الفرق الشاسع في عدد السكان. وفي نفس الوقت لم يكن مقتنعًا بابن أخيه السيد الحسن الرضا، الذى قد لا يستطيع السيطرة على الوضع، وقد يقع تحت نفوذ العائلة إذا تولى الملك، ويخاف على مستقبل أبناء الشلحي بعد وفاته، فالعداوة بينهم وبين العائلة السنوسية أصبحت تحصيل حاصل.
وكان أولاد الشلحي لا يتعاملون مع الملكة وولي العهد، رغم أنهم كانوا يدخلون القصر الملكي دون استئذان، ويتمتعون بالنفوذ والسلطة في القصر ومع الحكومة. وزاد هذا الوضع تعقيدًا بعد وفاة السيد البوصيري الشلحي، الذي خلف والده في منصب ناظر الخاصة الملكية، في حادث سيارة مريع في أبريل 1964م. ولا أحد يصدق كيف استطاع الملك أن يجمع الأعداء حوله. وقد خلق أبناء الشلحي مشاكل لمعظم رؤساء الحكومات، فالعقيد عبدالعزيز الشلحي كان له نفوذ كبير في الجيش الليبي، وكان أخوه السيد عمر مستشار الملك المقرب، وحتى أرملة إبراهيم الشلحي وبناتها وأزواجهن كانوا يتمتعون بامتيازات ومكانة خاصة ولا يرد لهم طلب عند الملك.
هذا التناقض في علاقة الملك إدريس مع عائلته وحاشيته انعكس في تصرفاته في الحكم. وكان يؤمن بالأسلوب القديم في الحكم (فرق تسد). فلم يجعل حدًا للخلاف بين رؤساء حكومته والخاصة الملكية وتحديدًا في عهد السيد إبراهيم الشلحي رئيس خاصته الملكية ومن بعده ابنه البوصيري. وكان كثيًرا ما يحاول تعيين مسئولين لا يتفقون مع رؤساء حكوماته في بعض الوظائف الهامة للحد من سلطاتهم وخلق بعض المشاكل لهم، وقد يهملهم بعد عزلهم أو استقالتهم ويأتي بخصومهم إلى الحكم. ولو كان النظام ديمقراطيًا ويتم هذا التغيير في المناصب بتغير الحكومات نتيجة انتخابات حرة لكان الأمر مقبولًا. ولم يعد أحد يعرف من هو صديق النظام ومن هو عدوه، وهذا ينطبق على الوزراء والسفراء وكبار الموظفين وكبار ضباط الأمن والجيش. وهذا الوضع على ما أعتقد جعل كل هؤلاء غير مهتمين بالتمسك بالنظام الملكي أو الدفاع عنه والكل تفرغ لشئونه وحياته وعائلته وكان الكل ينتقد ما يجري. وكان نقد النظام في المكاتب الحكومية يتم على أعلى مستوى في الدولة، بما في ذلك انتقاد الملك وسياسة الحكومة بكل صراحة ودون خوف، مما يجعل زوار كبار المسئولين يستغربون ولا يصدقون ما يسمعون.

تـعديـل الدسـتور
أشرت في الصفحات السابقة عن فتور العلاقة بين السيد محمود المنتصر وولي العهد، والقرائن المصاحبة لها التي عززت من مخاوف ولي العهد. وأذكر أن الملك طلب من المستر أدريان بيلت عن طريق السيد محمود المنتصر عندما كان رئيسًا للحكومة في سنة 1964 إعداد دراسة قانونية عن تعديل الدستور الليبي. وقد سافر فعلًا رئيس الوزراء إلى روما واجتمع في الجراند هوتيل بالمستر بيلت والمستر زولفيجر وبآخرين لدراسة الموضوع. كما أن المستر بيلت جاء إلى طبرق ومعه بعض المستشاريين للتشاور مع الملك والحصول على محاضر الجمعية الوطنية التأسيسية (لجنة الستين) التي ترجمت إلى اللغة الإنجليزية بواسطة اثنين من أساتذة اللغة العربية بجامعة كمبريدج البريطانية هما فرانك ستيوارت وديفيد جاكسون.
وفي سنة 1965م بعد تعيين السيد محمود المنتصر رئيسًا للديوان، وعندما كنت في إجازة في لندن، وصلتني برقية منه وطلب مني المرور في طريق عودتي بجنيف والاتصال بالمستر أدريان بيلت وإحضار مظروف هام وسري منه. وفعلًا غادرت لندن إلى جنيف واتصلت بالمستر أدريان بيلت ودعاني إلى غذاء في مطعم جميل على بحيرة جنيف "الليمان"، وسلمني بعد الغذاء مظروفًا مغلقًا بالشمع الأحمر ومختومًا حرصًا على سريته وموجهًا للسيد محمود المنتصر.
كانت مقابلتي للمستر بيلت فرصة لي للتحدث معه حول ليبيا والملك، فقد كان من أعلم الناس بتطورات الدستور الليبي وإجراءات نقل السلطات من الإدارتين البريطانية والفرنسية إلى الحكومة الليبية، وتصرفات الملك في تلك الفترة، وعدم استقرار البلاد في الفترة الأخيرة. وأذكر أنه وثق بي جدًا وتكلم معي بصراحة العالم المجرد المحايد قائلًا إن مشكلة ليبيا الحقيقية هي أن الملك ليس على دراية بعلم وفن إدارة الحكم الحديثة وليست له خبرة في هذا المجال، وهو يحكم بعقلية قديمة، ويظهر أنه قرأها في كتب التاريخ العربي ويريد تطبيقها في القرن العشرين. ولهذا يعتقد الملك أن الوزراء يستطيعون تسيير أمور الدولة من مكاتبهم بمدينة البيضاء عن طريق الهاتف دون وجود مستشاريهم وموظفيهم واللجان المتخصصة التي تقوم بالدراسات حولهم في مراحل اتخاذ القرار كما تقتضي الإدارة الحديثة، فالوزير لم يعد ذلك الشخص الذي ينفذ أوامر الملك بدون مناقشة كما كان عليه الحال في الماضي.
كما أن الملك لم يؤمن بالحكم الديمقراطي وصلاحيات البرلمان ومدى أهمية قراراته في شئون الدولة وسلطاته التي تعلو السلطات الدستورية للملك والحكوم،. كما أنه لا يؤمن بمبدأ توزيع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكان يجب أن يتم تعيينه للحكومة بعد استشارته لمجلس النواب والكتل النيابية، ويجب على الحكومة الحصول على ثقة البرلمان قبل مباشرة مهامها. كل هذه المتطلبات موجودة في الدستور الليبي الحالي الذي يعتبر من أحدث الدساتير في العالم، وأضاف المستر بيلت، أن أي تعديل للدستور الحالي لن يخرج عن هذا الإطار الدستوري.
وفي نهاية محاضرته لي أعرب عن سروره باستعانة الساسة القدامى بالشباب المتعلم لتسيير أمور الإدارة والاستفادة منهم في الأمور الفنية التي تحتاج إلى علم ودراية يفتقدها الجيل القديم. هذا وقد شكرته على ضيافته والغذاء في هذا المطعم الجميل، وعلى معلوماته القيمة وتحليلاته الدقيقة للأوضاع في ليبيا، وعلى نصائحه الثمينة التي استمعت إليها بكل اهتمام، وودعته وعدت إلى طرابلس وسلمت المظروف إلى السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي. كنت أنوي قضاء يومين مع العائلة قبل السفر إلى البيضاء لمباشرة عملي، ولكن السيد محمود المنتصر طلب مني البقاء في طرابلس لمهمة أخرى وأخبر السيد حسين مازق الذي وافق على ذلك، وهذا موضوع آخر سأتعرض له في غير هذا المكان.

استقالة حكومة السيد محمود المنتصر الثانية
استدعى الملك رئيس وزرائه السيد محمود المنتصر لتأليف حكومتة الثانية بعد مواجهته لأصعب أزمة داخلية في عهد الدكتور محي الدين فكيني اعتقادًا منه أنه الشخص الوحيد الذي يمكن أن يرجع الأمور إلى نصابها، إلا أن ثقته به أخذت تضعف مع مرور الوقت، فلم يعد السيد محمود المنتصر في رأيه السياسي القوي الصارم الشجاع الذي قاد البلاد في سنواتها الأولى للاستقلال ووطد دعائم الحكم والعرش في ليبيا بيد من حديد. فقد أصبح مترددًا بين أصدقائه الساسة القدامى الذين جاء بهم عندما ألف الوزارة والوزراء الشباب الذين أتى بهم لتسيير شئون الحكم التي زادت تعقيدًا فنيًا وعمليًا.
كما أن سياسة محمود المنتصر القديمة وصداقته وعلاقاته مع البريطانيين أصبحت موضع شك وأصبح ميالًا إلى مجاراة الموجة الوطنية العربية التي يتزعمها الرئيس عبدالناصر وما في ذلك من خطورة على استقلال ليبيا. كما أن البريطانيين والأمريكيين توقعوا ذلك حال قدومه إلى الحكم في سنة 1964م، وقد تجلى ذلك في تقارير السفير البريطاني التي نشرت أخيرًا، وفي ما يلي أورد ملخصًا لما كتبه السفير البريطاني في هذه التقارير.
لقد أوضح السفير البريطاني السير رودريك ساريل في تقاريره العديدة حول هذا الموضوع شكه في حكمة الملك وراء اختياره لمحمود المنتصر رئيسًا للحكومة في تلك الفترة العصيبة التي تمر بها البلاد. وازداد هذا الشك عندما جاء السيد محمود المنتصر بتلك التشكيلة الوزارية من كبار السن الذين فاتهم القطار بعد تطور شئون الحكم في ليبيا، وقد نصح السفير البريطاني حكومته قائلا: "إن الصديق القديم السيد محمود المنتصر الذي تعرفه بريطانيا سنة 1952م ليس هو السيد محمود المنتصر اليوم سنة 1964م، ولهذا يجب أن تكون الحكومة البريطانية حذرة ومدعوة إلى تفكير جديد حول سياسة بريطانيا نحو ليبيا في المستقبل، ورغم أن قدوم المنتصر إلى الحكم يمثل نصرًا للمحافظين في ليبيا، إلا أن انتشار الشعور القومي بين الشعب وتدخل الرئيس عبدالناصر ضد القواعد العسكرية حوّل ميزان القوى في صالح التيار الناصري في البلاد. وقد واجه المنتصر خيارًا صعبًا بين السير مع التيار الناصري أو استعمال القوة، ويظهر أنه اختار الطريق الأول، مما جعله يندفع إلى الدخول في مفاوضات مع بريطانيا ومع الأمريكيين لتصفية جميع القواعد العسكرية الأجنبية والجلاء الكامل للقوات البريطانية من جميع ليبيا، بما فيها مطار العدم بطبرق والقوات الأمريكية من مطار الملاحة، رغم ما في ذلك من خطورة على أمن ليبيا من جيرانها مصر والجزائر، واستطاع أن يقنع الملك باتخاذ هذه السياسة".
ورغم أن الملك كما أكد للسفير البريطاني وللسفير الأمريكي لم يكن منزعجًا مما يفكر فيه السيد المنتصر، بل كان يرى سياسته نهجًا لتهدئة الرأي العام الليبي، وأنها لن تمس التحالف الليبي البريطاني أو الأمريكي وستقتصر على إعادة توزيع القوات الأجنبية وإبعادها عن المدن الكبيرة المزدحمة بالسكان كطرابلس وبنغازي. إلا أن السفير البريطاني واصل انتقاده لسياسة المنتصر في نهاية سنة 1964م في تقاريره العديدة قائلًا: "إذا استعرضت أحداث سنة 1964م فيمكن الجزم بأن تصرفات محمود المنتصر وحسين مازق لم تكن سليمة أو مخلصة". لقد وردت في تقارير السفير العديدة السابقة عن مقابلاته مع محمود المنتصر بالذات بأنه لم يتخذ أي إجراء لكبح القدر الهائل من الحملة الصحفية ضد القواعد والمعاهدات العسكرية، ولم يقتصر عمله بعدم اتخاذ إجراء في هذا الشأن، بل سعى سرًا إلى تشجيع الحملة الإعلامية لإضعاف أية معارضة من الملك لتغيير سياسته المعروفة.
كان السفير البريطاني يعتقد جازمًا أن دوافع المنتصر التي يصعب فهمها هي حرصه على سمعته وسمعة عائلته المنتشرة في كل فروع الحكومة، وقراره أن الوقت قد حان لإزالة ما يعتقده أنها وصمة عار لتوقيعه المعاهدة البريطانية والسماح بالقواعد العسكرية في ليبيا، وذلك تمهيدًا للسير في ركاب الخط القومي المصري الذي يتزعمه عبدالناصر ضد النفوذ البريطاني والغربي في المنطقة العربية، وأصبح متأكدًا من عدم قدرة بريطانيا حماية ليبيا من أية محاولة قد يقوم بها أنصار الرئيس عبدالناصر للسيطرة على ليبيا قبل أو
بعد وفاة الملك، ولهذا أخذ يبالغ للملك خطورة مظاهرات الطلبة رغم قلة عددها وتأثيرها الشعبي.
وفي موقف الملك من سياسة المنتصر هذه يرى السفير البريطاني: "بناء على مقابلاته العديدة هو والسفير الأمريكي للملك، أن الملك رغم قبوله للخطوات التي ترمي إلى جلاء القوات الأجنبية من المدن الرئيسية كطرابلس وبنغازي تمشيًا مع رغبات جماهير الشعب، إلا أنه كان غير موافق على إلغاء الحلف الليبي البريطاني الوارد في المعاهدة أو جلاء القوات البريطانية عن مطار العدم في طبرق حيث يقيم إقامة دائمة. وقد أيقن أخيرًا أن الأمور أصبحت تتطور وأن مجلس الأمة تمادى في قراراته ضد السياسة المعتدلة التي يرى السير فيها، كما أن الحكومة سارت على طول الخط مع المجلس، مما جعله يشعر بالخطر على فقدان السيطرة على الوضع وقرر في قرارة نفسه السيطرة على الوضع، وقراره الأخير بالاستقالة يعتبر بداية ضغطه على الحكومة لتغيير سياستها بشأن القواعد والمعاهدات، رغم أنه لم يعلن ذلك صراحة تمشيًا مع سياسته في عدم إظهار معارضة علنية لحكوماته".

المنتصر يترك الحكومة إلى الديوان الملكي
بهذا العرض المبسط لمجرى الأمور في أواخر عهد حكومة السيد محمود المنتصر وبعد حل مجلس النواب واشتداد حملة الساسة المعارضين له، والتي كان يصل صداها إلى الملك عن طريق سكرتيره الخاص، وتكرر شكوى زعماء برقة وقبائل البيضاء بنقل السيد محمود المنتصر للحكومة من البيضاء واستقرارها في طرابلس، مما أثر في الحالة الاقتصادية وساعد على نقص مشاريع الإنشاء والتعمير في المنطقة الشرقية. وفي آخر مقابلة للسيد محمود المنتصر للملك في 20 مارس 1965م ذكره هذا الأخير بظروفه الصحية وكثرة المشاكل التي سيواجهها وحاجته إلى الراحة، واقترح عليه تقديم استقالته وتكليف حسين مازق بتأليف الحكومة الجديدة بدون تغيير في أعضائها، وتعيينه هو، أي السيد محمود المنتصر، رئيسًا للديوان الملكي ليكون إلى جانب الملك ويتفرغ للعناية بصحته.
وأذكر أن محمود المنتصر لم يأت إلى طبرق لمقابلة الملك من أجل الاستقالة، بل كان يحمل تعديلًا لحكومته وإدخال المزيد من الوزراء الشباب، والبحث مع الملك في شئون التنمية وتحسين المرافق العامة في البلاد للإعلان عن سياسة الحكومة استعدادًا للانتخابات القادمة، وتبادل الرأي مع الملك حول السياسة التي ستتبع في هذه الانتخابات. وبعد أن خرج السيد محمود المنتصر من الملك بعد تناول الغذاء معه كالعادة قال لي بأنه سينام وبعد ذلك يريدني لأمر هام، وقد شعرت بأن أمرًا هامًا قد حصل وأن رئيس الوزراء كان يشعر بعدم الاكتراث بما جاء من أجله.
وجدت السيد محمود المنتصر بعد الظهر مستريح البال لا تظهر عليه الحالة العصبية التي تلازمه طوال انشغاله بالأحداث ونظر إلي مبتسمًا يريد أن يعرف ماذا يجول بخاطري. ثم قال لي: "تعرف حالتي الصحية ليست على ما يرام والبلاد تمر بمرحلة انتخابات نيابية ثانية والظروف لا زالت هي الظروف التي جرت فيها الانتخابات الأولى، وقد درست كل ذلك مع الملك اليوم بصراحة، وقد تفضل واقترح عليّ تقديم استقالتي محافظة على صحتي وتكليف السيد حسين مازق بتأليف الحكومة الجديدة لإجراء الانتخابات على أن تتألف من نفس الوزراء الحاليين، وأن الملك يريدني إلى جانبه في طبرق وسيعينني رئيسًا للديوان الملكي بدلًا من الدكتور علي الساحلي، وأريد الآن أن أكتب استقالتي لتقديمها إلى الملك رسميًا الساعة السادسة". ثم أملى عليّ استقالته التى تشير إلى حالته الصحية والظروف الصعبة التي مرت بها البلاد خلال فترة حكومته، شاكرًا للملك دعمه ومساندته له للتغلب على كل الصعاب، راجيًا منه إعفاءه من رئاسة الحكومة وقبول استقالته وداعيًا له بطول العمر والسداد في رعاية شعبه وتحقيق أمانيه في الأمن والرفاهية والسعادة.
هذا وقد كتبت نسخة نظيفة بخط يدي وقعها رئيس الوزراء ووضعها في ظرف وأخذها معه لمقابلة الملك وتناول شاي المساء معه كالعادة عندما يكون في طبرق. وبعد حوالي ساعة من الزمن عاد وقال لي: "الاستقالة قبلت وقد اتصلت بالسيد حسين مازق وأبلغته بالقرار بحضور الملك، وقد دعي للحضور إلى طبرق غدًا صباحًا لحلف اليمين". وهكذا أخذنا السيارة من طبرق إلي البيضاء، حيث قضى السيد محمود المنتصر فيها ليلته وجمع فيها أوراقه الخاصة من مكتبه وبيته وسافر إلى طرابلس صباح اليوم التالي وقد ودعته في البيضاء. وقد أثار معي وضعي الوظيفي بعد استقالته وأكد لي بأنه سيعمل مع السيد حسين مازق إلى إرجاعي إلى وزارة الخارجية إذا أراد تعيين شخص آخر في منصبي، وأنه يعتقد بأن السيد حسين مازق لن يتأخر، فقد أسدى له خدمة كبيرة وأقنع الملك بإرجاعه إلى الحكومة بعد أن كان مغضوبًا عليه، كما عينه نائبًا للرئيس ليخلفه في رئاسة الحكومة، وهذا ما تم فعلًا.
ورغم أني كنت أعرف السيد حسين مازق منذ كان واليًا على برقة عن طريق اتصالاته المستمرة برؤساء الحكومات، إلا أني لا أعرفه معرفة شخصية تجعلني محل ثقته والمشرف على شئون مكتبه كوكيل شئون رئاسة مجلس الوزراء، ولكنني ذكرته بقصة حصلت في بنغازي سنة 1958م عندما كنت سكرتيرًا خاصًا لرئيس الوزراء السيد عبدالمجيد كعبار، وكان السيد حسين مازق آنذاك واليًا على برقة. فقد كنا نحضر محاضرة لعميد كلية الاقتصاد في الجامعة الليبية، وهو مصري، عن الصناعة البترولية، وتعرض المحاضر إلى عوامل الإنتاج وذكر أنها تنحصر في العمل والمصادر الأولية فقط وليبيا تملكها وهي وجهة نظر شيوعية التي لا تعترف بأي دور لرأسمال كعامل للإنتاج. كنت حديث التخرج من الجامعة في كلية التجارة والاقتصاد وعلقت على المحاضر قائلًا بأن المحاضر أغفل عاملًا هامًا للإنتاج وهو الرأسمال، وخاصة في بلد فقير مثل ليبيا، كما يوجد عامل آخر للإنتاج مهم جدًا لا تملكه ليبيا وهو عامل التكنولوجيا والإدارة التي لا بد من توفرها للإنتاج.
لاقى تعليقي إعجاب الحاضرين الليبيين وساد هرج ومرج، ولم يلق تعليقي ترحيب هيئة التدريس المصرية، ولكن الليبيين شعروا بالفخر لوجود ليبي متعلم يستطيع مناقشة الأساتذة المصريين وأقبلوا عليّ يهنئوني على تعليقي، وكان من بينهم السيد حسين مازق والي برقة قبل أن أعرفه. وهذه المناسبة جعلت عميد كلية الاقتصاد بالجامعة الليبية آنذاك يعرض عليّ الانتساب إلى هيئة التدريس في الجامعة الليبية بعد أن عرف أني كنت أول دفعتي في كلية التجارة جامعة القاهرة لإرسالي إلى بريطانيا للحصول على درجة الماجستير والدكتوراه أعود بعدها للتدريس في الجامعة الليبية. ولكنني رفضت لأني كنت أسعى للذهاب إلى بريطانيا للعمل في السفارة الليبية هناك والانتساب إلى الجامعة في لندن في نفس الوقت، وهذا ما تم فعلًا كما ذكرت في الفصل الأول.
في اليوم التالي صدر المرسوم الملكي باستقالة السيد محمود المنتصر وتعيين السيد حسين مازق رئيسًا للحكومة التي بقيت بدون تغيير سوى تعيين الدكتور وهبي البوري وزيرًا للخارجية ليخلف السيد حسين مازق. وعلمت من السيد محمود المنتصر بعد ذلك أن السيد حسين مازق اقترح تعيين ابنه الدكتور عمر المنتصر السفير الليبي في لندن وزيرًا للخارجية، إلا أن الملك كان يعرف أن الدكتور عمر كان مرتاحًا في لندن ولا يرغب في العودة للوزارة، ولهذا رفض اقتراح مازق الذي اقترح السيد وهبي البوري بدلًا منه. وأعتقد أن السيد حسين مازق كان يريد نقل الدكتور عمر المنتصر من سفارة لندن الهامة لتعيين شخص يثق به لا ينقل أسرار اتصالاته مع الحكومة البريطانية إلى أحد غيره. وكان السيد محمد عبدالسلام الغماري وهو صديق للسيد حسين مازق يسعى إلى منصب السفير في لندن ولم يستطع إقناع الملك برغبتة هذه رغم جهود عائلة الشلحي، وهو أحد أعضائها، لأن الملكة فاطمة كانت تدعم الدكتور عمر المنتصر وتريد بقاءه في لندن، وقد سمعت هذا من السيد محمد عبدالسلام الغماري شخصيًا في مكتبي محتجًا.
وهكذا لازم السيد محمود المنتصر بيته بعد استقالته، واحتفل خصومه السياسيون بخروجه من الحكومة. ورجع السيد حسين مازق إلى البيضاء وطلب مني ومن الجميع بمن فيهم الياور الخاص وسائق رئيس الوزراء السابق، وكانا من شرطة أمن الدولة بطرابلس، البقاء في مناصبهم والاستمرار في العمل كما كان في عهد حكومة السيد محمود المنتصر. وأذكر أني كنت بعد أسبوع أو أكثر أتكلم مع السيد محمود المنتصر على الهاتف وخطر لي أن أسأله عما تم في اقتراح الملك بتعيينه رئيسا للديوان الملكي، فقال لي إنه لم يسمع من الملك شيئًا منذ يوم استقالته وربما يكون قد غير رأيه، لأنه كان من المفروض أن يصدر أمر التعيين مع مراسيم الوزارة الجديدة ولكن ذلك لم يحصل. وبعد أيام معدودة صدر الأمر بتعيينه رئيسًا للديوان الملكي وجاء إلى طبرق وتسلم منصبه، وكان خصومه السياسيين يتمنون إبعاده وبقاءه في التقاعد بعيدًا عن السلطة والملك.
وفاجأني السيد محمود المنتصر بعد ذلك بأنه استأذن الملك ووافق على انتدابي إلى الديوان لأكون رئيس مكتب رئيس الديوان بدرجة وكيل وزارة وهي في مستوى وكيل الديوان الملكي ورئيس التشريفات الملكية، وأنه كلم رئيس الوزراء السيد حسين مازق في الموضوع فوافق على انتدابي. ترددت في الموضوع وطلبت من رئيس الديوان إعطائي فرصة للتفكير، فطلب مني أخذ إذن من السيد حسين مازق والقدوم إلى طبرق لبحث الموضوع معًا. وعندما تكلمت مع السيد حسين مازق وجدته مرحبًا بالفكرة وشجعني على قبول عرض رئيس الديوان لأنه يحتاج إليّ لمساعدته ومن واجب الجميع مساعدته كما قال فهو أب للجميع وقدم خدمات لليبيا تستحق التقدير.
وفعلًا سافرت إلى طبرق وسرعان ما انتشر الخبر. وحال وصولي استُقبلت ببرود من السكرتير الخاص ورجال القصر، فدرجتي تعطيني مكانًا هامًا بينهم ولم يكن مثل هذا المنصب موجودًا في القصر، وكان عدد رجال الحاشية محدودًا وكلهم من برقة. وقد أمر رئيس الديوان بتخصيص بيت الدكتور علي الساحلي رئيس الديوان السابق لي، لأن الملك أعطاه هو أحد القصور للإقامة فيه، وقد زاد هذا من حسد الحاسدين. ومن اليوم الأول شعرت بجو غير عادي ورقابة وتنصّت على اجتماعاتي برئيس الديوان، كما أني لم أكن راغبًا في العمل في الديوان الملكي لأن الوظيفة ليست فيها مسئولية، ومجال العمل فيها محدودًا لا يتمشى ومؤهلاتي وطموحاتي الأكاديمية. ولم يكن لي أي طموح سياسي لاستغلال القرب من الملك للحصول على مكاسب سياسية، بل كنت أتوق للرجوع إلى عملي في وزارة الخارجية والعمل في السفارات بالخارج.
وبعد تفكير طويل صارحت السيد محمود المنتصر رئيس الديوان بأني لا أستطيع العمل في هذا الجو الخانق لأن حياة القصور تحتاج إلى نوعية من البشر لست منهم وليس هناك ما يشجعني على العمل فيها. وقد حاول رئيس الديوان إقناعي بأن وجودي في القصر مهم جدًا، ورغم عدم وجود اختصاصات مكتوبة للوظيفة، إلا أني أستطيع خلق اختصاصات لها، فسأكون قريبًا من الملك والملكة وسيكلفانني بمهام كثيرة داخل وخارج ليبيا، خاصة أنهما كانا يكلفان بها الأجانب من عمال القصر والأصدقاء الأجانب، لأنه ليس هناك من له خبرة في الديوان الملكي في طبرق للقيام بمثل هذه الأعمال، ولهذا فسيعتمدان عليّ وعلى خبرتي في السفر والعمل في الخارج وقد تسند لي مهام أخرى، وهذا صحيح، ولكنني كنت مصممًا على رفض العرض، رغم هذا الترغيب ورغم خطورة رفضي للعمل في الديوان وإحراجي للسيد محمود المنتصر الذي اقترح انتدابي وشاور الملك في هذا الأمر وحصل على موافقته، وليس من عادة الملك قبول رفض من يكلفه بمهمة رسمية.
وبعد نقاش طويل قبل رئيس الديوان اعتذاري لما يعرفه عني من تقدير للأمور
ولا يريد فرض واقع عليّ لا أرتضيه، وطلب مني ترشيح شخص لمساعدته في الديوان كرئيس مكتب أو سكرتير. فرشحت له السيد الشيخ عبدالغني وهو سوداني الجنسية، وقد عين في رئاسة مجلس الوزراء كمترجم ومحرر وأثق به كثيرًا. وقلت له لأنه أجنبي فلن يثير حسد أو معارضة من رجال الحاشية، ولن يزاحمهم على حظوة عند الملك، وهو قدير في تحرير المراسلات والترجمة والاتصالات برجال الدولة ويعتبر عندنا كليبي نظرًا لأخلاقه العالية وللمدة الطويلة التي قضاها في ليبيا. وفعلًا أخذت سيارتي وعدت إلى البيضاء وكنت في غاية الإحراج لرفضي عرض السيد محمود المنتصر وما يترتب عن هذا من إحراج له.
وعندما أخبرت السيد حسين مازق بما تم استغرب قراري برفض الانتداب، ويظهر أنه وجد انتدابي فرصة لتعيين وكيل وزارة لشئون الرئاسة يعرفه ويثق به، وأعتقد أنه كان يفكر في السيد حسين الغناي، إلا أنه كان مترددًا، لأن وجود السيد حسين الغناي كوكيل لوزارة الخارجية قد يكون أكثر فائدة له لمعرفة ما يجري في الخارجية، ولكن الوضع تغير بعد رفضي الانتقال إلى الديوان. وقد صارحت السيد مازق حال رجوعي بأن العرف جرى على تغيير جهاز الرئاسة بعد تغيير رئيس الوزراء، وأني لن أشعر بعدم الرضا إذا تقرر نقلي إلى أية جهة أخرى في الدولة، وذكرته بأني جئت لرئاسة الوزراء على أساس انتداب مؤقت من وزارة الخارجية لأعود بعد ذلك إلى وزارة الخارجية.
وقد تطورت الأمور ورقيت إلى وظيفة وكيل وزارة في الخدمة المدنية وهي وظيفة تعادل سفير في وزارة الخارجية، ولكنني كنت مستعدًا لقبول درجتي العادية في الخارجية وهي وظيفة مستشار أو وزير مفوض. وقد كنت عميد المستشارين الذين انضموا إلى الخارجية بعد التخرج من الجامعة، وقد قضى زملائي في وظيفة المستشار سنوات عديدة دون ترقية، لأن مناصب السفراء والوزراء المفوضين كانت حكرًا على السياسيين ورؤساء الوزارات والوزراء السابقين.
كان السيد حسين مازق ذكيًا ودبلوماسيًا يتكلم مع رجال القبائل بلغتهم ومع المتعلمين بلغة أخرى، وقال لي رغم إنه يأسف لعدم قبولي الانتداب إلى الديوان الملكي، إلا أنه لا يريد إحداث أي تغيير في جهاز رئاسة مجلس الوزراء، وطلب مني الاستمرار في عملي، كما وعدني بدوره بدراسة إمكانية إعادتي إلى وزارة الخارجية مع وزير الخارجية، كما وافق على انتداب الشيخ عبدالغني الموظف بالرئاسة إلى الديوان الملكي.
وقد كان اعتذاري عن قبول النقل إلى الديوان محل إشاعات حول الأسباب. وأذكر إن العقيد راسم النايلي، ياور الأمير ولي العهد، زارني في مكتبي مستفسرًا عن أسباب رفضي النقل إلى الديوان وعما كنت أسعى إلى تعييني في سفارة في الخارج بدلًا من ذلك، ويظهر أن ولي العهد علم بالموضوع الذي انتشر في دوائر القصر وأراد أن يعرف الأسباب، فقد كان غير مطمئن من وجود السيد محمود المنتصر في الديوان الملكي إلى جانب عمه الملك. وقد ذكر لي السيد محمود المنتصر أن الملك يعرف أنني كنت في مصر ومن المتحمسين لعبدالناصر وأنه دافع عني، وذكر للملك أن أسباب رفضي للانتقال إلى الديوان ترجع إلى أسباب خاصة بمواصلة العمل في اختصاصى العلمي وليس لأسباب أخرى. وكانت مخابرات الأمن في قوة دفاع برقة تبعث بتقاريرها حول تصرفاتي في عملي برئاسة مجلس الوزراء في البيضاء، وسأتعرض لهذا في الصفحات التالية، وتلك قصة أخرى.
وفعلًا وعدني السيد حسين مازق بنقلي إلى الخارجية بدرجة وزير مفوض لأن منصب السفير كان مقصورًا على الرؤساء والوزراء السابقين ومن في درجتهم، وأعددت له مرسومًا ملكيًا بذلك أعده رئيس إدارة الفتوى والتشريع السيد أحمد عباس وسلمته له بحضور وزير الخارجية الدكتور وهبي البوري، ولم يتخذ في الأمر إجراءًا يذكر حتى انتهاء فترة حكم السيد حسين مازق ولم أعرف السبب وهل رفض من طرف الملك أو لم يرسل لتوقيع الملك إطلاقًا وهذا هو الأرجح
مدينة البيضاء وانتقال الحكومة إليـها
كانت البيضاء مقرًا صيفيًا لرئيس الوزراء والوزراء ثم أصبحت مقرًا دائمًا
لرئاسة مجلس الوزراء ووزارة الخارجية وبعض المصالح من باقي الوزارات. ولما جاء السيد محمود المنتصر إلى الحكم كان من أهدافه غير المعلنة لسياسته نقل رئاسة
مجلس الوزراء ووزارة الخارجية إلى طرابلس. وبعد انتهائه من معالجة قضية القواعد العسكرية والجلاء بالشكل الذي توصل به مع الملك حصل على موافقة الملك لنقل الحكومة إلى طرابلس إرضاءً للرأي العام الطرابلسي الذي كان متحمسًا للجلاء وإلغاء المعاهدة البريطانية.
وقد حاول الدكتور محي الدين فكيني نفس الشئ قبله وحول بعض المباني الحكومية التي أنشئت في عهد حكومة السيد محمد عثمان الصيد إلى معاهد دراسية في البيضاء لكن الوقت لم يمهله لإتمام نقل الحكومة. وقد أثار نقل السيد محمود المنتصر لمقر الحكومة إلى طرابلس غضب المسئولين من قبائل برقة وعلى رأسهم الفريق محمود أبو قويطين، الذي كان يكن للسيد محمود المنتصر احترامًا خاصًا، لأنه في رأيه مخلص للملك، ولكنه غضب من نقله للحكومة من البيضاء، ويقال إنه سافر إلى طبرق لإقناع الملك برفض النقل، وقيل إن ذلك النقل أثر في صحته واشتداد مرضه الذي أدى إلى وفاته في سبتمبر 1964م.
كما لاقى نقل الحكومة إلى طرابلس عدم رضا سكان بنغازي وزعمائها لأن وجود الحكومة في البيضاء كان مصدرًا هامًا لانتعاش التجارة ومشاريع التنمية والحركة الاقتصادية في بنغازي. ورغم أن بنغازي كانت العاصمة الثانية دستوريًا وكانت الحكومة تتبادل الإقامة بين العاصمتين، إلا أن مقتل السيد إبراهيم الشلحي فيها حرمها من نقل الحكومة إليها، ومنذ حكومة السيد عبدالمجيد كعبار لم تعد بنغازي مقرًا محتملًا للحكومة. ورغم موافقة الملك على نقل الحكومة إلى طرابلس أمر في آخر لحظة بقاء وزارة الدفاع وقيادة أركان الجيش في البيضاء، وعدم شغل المباني الحكومية التي تغادرها الوزارات ويعني هذا حفظها لعودة الحكومة إليها مستقبلًا. كما تأخر نقل وزارة الخارجية بسبب تردد وزيرها السيد حسين مازق ووكيلها السيد حسين الغناي في النقل رغم تعليمات رئيس الوزراء.
وأذكر أني كنت مع الدكتور علي الساحلي رئيس الديوان في مكتبه في طبرق أثناء استلامه لمكالمة هاتفية من السيد حسين الغناي وكيل وزارة الخارجية، وفهمت من مجرى المكالمة أن السيد الغناي كان يريد تأجيل نقل وزارة الخارجية ويطلب من رئيس الديوان الملكي التدخل لمنع النقل العاجل كما طلب السيد محمود المنتصر. وقد نقلت هذا الخبر إلى رئيس الوزراء الذي اتصل بوزير الخارجية وحثه على نقل الوزارة بالسرعة الممكنه، لأنه اتفق مع الملك على هذا النقل على أن يرجع الوزراء إلى البيضاء في فصل الصيف دون أجهزة وزاراتهم.
ورغم اضطرار وسفر السيد محود المنتصر للعلاج، إلا أنه كان يتابع إجراءات نقل الحكومة من البيضاء إلى طرابلس، كما كان يتابع الانتخابات وهو في لندن للعلاج، ولكن قرار النقل كان محل اختلاف. وعندما تولى حسين مازق رئاسة الحكومة سنة 1965 قرر عودة الحكومة إلى البيضاء بصفة نهائية. وعادت وزارة الخارجية بعد نقلها لفترة لا تزيد على شهرين بشكل أحدث ارتباكًا وفوضى وحير رجال السلك الدبلوماسي الأجنبي.

إنجازات حكومة السيد محمود المنتصر
من المواضيع التى أنجزتها حكومة محمود المنتصر هي تعديل قانون الخدمة المدنية ويرجع الفضل فيه إلى السيد عبدالله سكتة الذي عين وزيرًا للخدمة المدنية. وقد أدى هذا التعديل إلى رفع مرتبات الموظفين وخاصة صغارهم، إلا أنه ألغى الكثير من العلاوات التي كان يتمتع بها كبار الموظفين، مما جعل ما يستلمونه أقل من مستحقاتهم القديمة رغم زيادة مرتباتهم الأساسية. وقسمت الدرجة الخاصة إلى ثلاث درجات ( أ ) وكيل وزارة و(ب) وكيل وزارة مساعد و(ج) مدير عام بعد أن كانت كل هذه الوظائف في مستوى واحد. وقد أثار ذلك غضب كبار الموظفين، ففي تاريخ واحد معين أصبح حاملوا الدرجة القديمة الخاصة ثلاث درجات بحسب الوظائف التي كانوا يشغلونها.
كما أثار موضوع جعل توقيت العمل صباحًا ومساءًا غضب كل الموظفين الذين تعودوا العمل في الصباح وحتى الثانية ظهرًا ليتفرغوا لشراء حاجياتهم وقضاء مصالحهم بعد الظهر، خاصة وأن المرأة في ليبيا لا تخرج لشراء حاجيات البيت وتنتظر من الرجل ليقوم بذلك، كما أن صغار الموظفين كانوا يزاولون أعمالًا أخرى مسائية لتحسين دخلهم لمواجهة غلاء المعيشة، وقد أدى تذمر الموظفين هذا في عهد حكومة السيد حسين مازق إلى إلغاء نظام الفترتين والرجوع إلى نظام الفترة الواحدة.
من نقاط الضعف التي تؤخد على السيد محمود المنتصر إلغاؤه لرخص إصدار بعض الصحف التي تحاملت على الحكومة خلال مفاوضات الجلاء، إلا أن تعيينه للسيد خليفة التليسي وزيرًا للأنباء والإرشاد أحدث تحسنًا في علاقات الحكومة مع الصحافة نظرًا لعلاقة السيد التليسي برجال الصحف ورجال الفكر وفتح قنوات تعاون وتفاهم معهم للمصلحة العامة وعدم استخدام الإثارة الصحفية للجماهير. أدخل السيد محمود المنتصر عددًا كبيرًا من الشباب في حكومته مثل السادة خليفة التليسي وعبدالحميد البكوش ومنصور كعبار ومصطفى بن زكري وعبدالمولى لنقي ومحمد المنصوري وفؤاد الكعبازي وغيرهم، كما أقنع الدكتور علي عتيقة بقبول منصب وكيل وزارة التخطيط، وعين عددًا كبيرًا من الشباب في منصب وكيل وزارة وأسند لغيرهم مسئوليات هامة، وأبعد عددًا من الموظفين التقليديين من كبار السن والموظفين المعينين سياسيًا غير الأكفاء وغير المؤهلين. وأذكر أنه اقترح على الملك تعيين السيد منصور الكيخيا وزيرًا للاقتصاد فاعترض عليه الملك واستبدله رئيس الوزراء بعد ذلك بالسيد منصور كعبار.
وكان محمود المنتصر يقول إن شئون الحكم تغيرت عما كانت عليه في السنوات الأولى للاستقلال ومهام الوزارات أصبحت فنية تحتاج إلى متعلمين لتسييرها، وقد أغضبت هذه السياسة الموظفين القدامى، وكان معظمهم قد عينوا سياسيًا، وكذلك أعضاء مجلس الأمة الذين كانوا يعتقدون أنهم أولى وأحق بالمناصب الوزارية والسياسية العليا.
كما حاول السيد محمود المنتصر الوقوف في وجه تدخل كبار رجال الأعمال مثل السيد عبدالله عابد السنوسي، وتبادل معه رسائل قاسية ووقف أمام محاولاته للضغط على الوزراء للحصول على امتيازات وخدمات غير مشروعة. وكذلك رفض دفع تعويضات للسيد علي فكيني عن أملاك والده التي صادرتها إيطاليا لأن التعويضات كانت قضية عامة لكثير من المواطنين ولا يجوز إعطاء البعض وحرمان الآخرين. وكان السيد علي فكيني قد تحصل على منزل كبير في طرابلس وبعض الأموال أثناء حكومة السيد محمد عثمان الصيد وبهذا فهو أحسن حالًا من غيره، وقد نقل السيد علي فكيني كسفير لليبيا من تونس بطلب من الحكومة التونسية لتدخله في مسائل داخلية، وكان السيد فكيني من المهاجرين الليبيين إلى تونس أثناء الاحتلال الإيطالي لليبيا.

مشروع تغيير نظام الحكم في ليبيا
كما ذكرت سابقًا طلب مني السيد محمود المنتصر البقاء في طرابلس بعد موافقة السيد حسين مازق رئيس الوزراء بعد إحضاري للمظروف من المستر بيلت في جنيف. وقد استدعاني بعد بضعة أيام في بيته وقال لي إنه استشار الملك ويريد مني ترجمة الدراسة القانونية التي أعدها المستر بيلت وفريق الخبراء الذين كانوا معه من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية لأن الملك لا يريد أي أجنبي القيام بترجمتها، وكان معظم مترجمي الحكومة والديوان الملكي من الأجانب، وأضاف بأن الموضوع سري للغاية ولا يعرف تفاصيله أحد حتى الآن وأن الملك وافق على قيامي بهذه المهمة.
وقد تردد الملك في أول الأمر ويظهر أنه كان يريد مزيدًا من المعلومات لأسباب أمنية من جهات أخرى لكنه وافق في النهاية على قيامي بالمهمة، وسلمني السيد محمود المنتصر المظروف الذي أحضرته من المستر بيلت في جنيف كما أشرت سابقًا بعد أن فتح من طرف الملك. وقد توكلت على الله وتسلمت محتويات المظروف الذي أحضرته من المستر بيلت، وطلب مني رئيس الديوان استعمال مكتبه في البيت وأن لا آخذ الأوراق معي خارج المكتب بأي حال من الأحوال زيادة في الحيطة.
وعندما قرأت الأوراق لم أصدق، فالموضوع في غاية الأهمية. والوثائق كانت تضم مشروعين لتعديل الدستور الليبي، أحدهما لنظام ملكي ديمقراطي مقيد يحد من سلطات الملك ويجعل كل السلطات في أيدي البرلمان ومجلس النواب بالخصوص، والمشروع الثاني لنظام جمهوري (أي والله نظام جمهوري)، شيء غريب أن تعد مثل الدراسة بأمر الملك. مشروع الدستور الملكي لا يزيد عن تعديل للدستور المعمول به آنذاك، يعطي مجلس الأمة رقابة أكثر على الحكومة وتلغي سلطات الملك في تعيين الحكومة وإقالتها قبل التشاور مع مجلس النواب وإلغاء مشروعية حل مجلس الأمة من طرف الملك دون موافقة البرلمان نفسه.
يقضي مشروع الدستور أخذ رأي مجلس النواب قبل تسمية رئيس الوزراء وعلى الحكومة الحصول على ثقة المجلس قبل مباشرة مهامها، وللمجلس وحده سحب الثقة من الحكومة. وينص المشروع أيضًا على أن يكون ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ بالانتخاب، وتقوم الحكومة بالتشاور مع مجلس النواب لتعيين الثلث الباقي بمرسوم ملكي، كما يقضي المشروع بأن تعين الحكومة رئيس الديوان الملكي وكبار موظفي الديوان بمراسيم ملكية وليس بأوامر ملكية، وحدد حالات قليلة يجوز فيها حل مجلس النواب بطلب من الحكومة، وإجراء انتخابات عامة في فترة لا تزيد عن ثلاثة أشهر تكون فيها الكلمة النهائية للمجلس الجديد في المواضيع التي أدت إلى حل المجلس القديم، ولا يجوز حل المجلس الجديد لنفس الأسباب.
كما حد المشروع من سلطات الملك في تعيين ولي العهد أو تعديل نظام وراثة العرش وجعلها من سلطات مجلس الأمة بمجلسيه الشيوخ والنواب، بما في ذلك عزل الملك أو تكليف ولي العهد ليحل محله في حالة عجزه مؤقتًا عن مباشرة عمله أو سفره للخارج. وينطبق الشئ نفسه على تعديل الدستور بطلب أغلبية أحد المجلسين الشيوخ أو النواب، وضرورة الحصول على أغلبية ثلثي المجلسين لإقرار أي تعديل دستوري. وكان المشروع لا يختلف عن الدستور المعمول به سوى غلق كل الثغرات الموجودة في الدستور القديم وتحديد سلطة الملك وجعله يملك ولا يحكم كملوك أوروبا اليوم. وكان هدف الملك تطبيق هذا الدستور على من يخلفه ولا يعتقد أحد بأنه كان يريد تطبيقه على نفسه أثناء حياته. أما بقية فقرات المشروع فتقر نفس الحريات والحقوق التي أقرها الدستور القائم آنذاك بما في ذلك حق تأليف الأحزاب والجمعيات والنقابات والتظاهر والحريات الأساسية وميثاق حقوق الإنسان.
أما المشروع الثاني للدستور فهو الدستور الجمهوري، وينص على أن نظام الحكم في ليبيا يكون جمهوريًا ينتخب فيه الرئيس ونائبه لمدة أربع سنوات من طرف مجلس الأمة بمجلسيه أو في انتخاب عام، ويتولى نائب الرئيس الرئاسة بعد انتهاء مدة الرئيس أو في حالة وفاته أو استقالته، ويجري انتخاب نائب للرئيس الجديد بنفس الطريقة المشار إليها أعلاه. كما اشترط المشروع أن يكون الرئيس ونائب الرئيس أحدهما من برقة والآخر من طرابلس باستمرار. أما سلطات الرئيس فهي محدودة، وهي نفس السلطات التي نص عليها مشروع الدستور الملكي المذكور أعلاه للملك، وتكون الحكومة مسئولة بالكامل أمام مجلس النواب في بعض الحالات. ويوجد نص استثنائي مؤقت بجواز اختيار الملك إدريس رئيسًا مدى الحياة ويختار هو بدوره نائبه الذي سيخلفه، ولم ينص المشروع على أن هذا النائب يجب أن يكون من برقة أو من طرابلس. وقمت بإعداد الترجمة إلى العربية بخط يدي لأنني لم أكن أتقن الطباعة على الآلة الكاتبة في ذلك الوقت.
وكما ذكرت لم يمكنني السيد محمود المنتصر من أخذ نسخة منها وكان يحرص كل يوم عندما انتهي من العمل والذهاب إلى البيت ألا أحمل أي ورقة معي. ولا أذكر المزيد من التفاصيل عن المشروعين لمضي فترة على ترجمتي لهما. وأخذ السيد محمود المنتصر النص الإنجليزي الأصلي والترجمة العربية معه إلى الملك ولم أسمع عن الموضوع بعد ذلك سوى أن الملك استدعى المستر بيلت ورفيقيه المستشارين القانونيين وعقد معهم اجتماعًا بحضور السيد حسين مازق رئيس الحكومة آنذاك، ولم أعرف عن هذا الاجتماع شيئًا سوى أن الملك سلم نسخة من مشروع الدستور الملكي إلى السيد حسين مازق لبحثه مع الخبراء. أما مشروع الدستور الجمهوري فلا أعرف هل بحثه الملك مع السيد حسين مازق أو لا، وقد استفسرت من السيد محمود المنتصر عما تم فيه فأكد لي بأنه لا يعرف عنه شيئًا منذ سلمه للملك.
وفي سنة 1966م انتشرت الإشاعات بسرعة انتشار النار في الهشيم بأن الملك يريد تعديل الدستور ويرغب في ترك العرش. وأذكر أن السيد محمود المنتصر قال لي إن الملك لا يعرف مصدر الإشاعة ويرشح أن يكون السيد حسين مازق، المعروف بأنه ضد مثل هذا التعديل، هو مصدر الإشاعات، وقد وصلت هذه الإشاعات إلى أعضاء مجلس الأمة الذين اجتمعوا وأعلنوا رفضهم لأي تعديل للنظام الملكي، وانهالت برقيات الاحتجاج على القصر الملكي والديوان وعلى رئاسة الحكومة. وكان الملك يعتقد أن السيد حسين مازق أخبر رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب بمشروعي التعديل للدستور، كما أوعز إلى وزير الداخلية بأن يطلب من المجالس البلدية والمحافظين والمتصرفين والمديرين ومستشاري وشيوخ القبائل بإرسال برقيات الاحتجاج، وكانت هذه التعليمات تصدر شفويًا حتى لا يعرف مصدرها، وقيل إن الملك طلب التحقيق في مصدر الخبر وعن وسائل نشره بهذه السرعة.
وترافق مع هذه الإشاعات اتهام السيد محمود المنتصر بأنه يحاول من وراء ستار مع الملك لتغيير النظام الملكي وإزاحة ولي العهد وإعلان النظام الجمهوري برئاسته، وأن السيد حسين مازق كان ضد مثل هذا النظام لأنه لا يخدم مصالح برقة، وهو المعروف عنه بالمدافع عنها والمحافظ على مكاسبها الدستورية في الدستور القائم واستمرار العرش في أيدي العائلة السنوسية، فرئاسة الدولة في ليبيا يجب أن تكون في أيادي برقاوية حتى يمكن حفظ التوازن مع أغلبية طرابلس السكانية. كان السيد محمود المنتصر متألمًا من هذه الإشاعات التي كان يقول عنها بأنها غير صحيحة، وأنه سبق وأن أبدى للملك عدم موافقته ومعارضته لأي نظام جمهوري، وأن الملك لم يطلعه على ما تم في الاجتماع بينه والمستر بيلت ورفيقيه والسيد حسين مازق، وأن الملك لن يغفر للسيد حسين مازق إذاعة هذا السر.
وقد أعقب هذا الحدث أن عين الملك مجلسًا استشاريًا من أربعة أعضاء من رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب وشيخ الجامعة الإسلامية ومفتي ليبيا. وقد زاد هذا الحدث من حساسية العلاقة بين ولي العهد والسيد محمود المنتصر، وأصبح ولي العهد فعلًا قلقًا على مستقبله، ولكن الأمور هدأت حول الموضوع حتى سنة 1969 عندما سافر الملك إلى تركيا واليونان وعادت إشاعة أن الملك قرر اعتزال الحكم، وسيأتي الكلام عن هذا في الصفحات التالية في عهد حكومة السيد ونيس القذافي.











السيد محمود المنتصر في شبابه








حكومة السيد حسين مازق

بعد استقالة السيد محمود المنتصر في مارس 1965م ورفضي الانتقال إلى الديوان الملكي طلبت من السيد حسين مازق أن ينقلني إلى وزارة الخارجية، ولكنه رغم وعده بالاستجابة لرغبتي، إلا أنه طلب مني الاستمرار في عملي كوكيل وزارة لشئون الرئاسة. وقد كان يعاملني باحترام وتقدير، إلا أنه لم يكن يعرفني معرفة جيدة لعدم عملي معه في الماضي. ولاحظت في الأيام الأولى أن السيد حسين مازق بدأ يكلف السيد حسين الغناي وكيل وزارة الخارجية، والذي كان قد عمل معه في السابق ويعرفه معرفة جيدة، ببعض المسئوليات التي لها علاقة بعمل رئاسة مجلس الوزراء كإعداد خطب رئيس الوزراء في المناسبات الوطنية العامة وبعض المراسلات الهامة. وهذا ليس غريبًا، فالسيد حسين الغناي يعتبر نفسه كاتبًا كبيرًا، وقد يكون قد تطوع ليكتب كلمات وخطب رئيس الوزراء.
كما طلب مني السيد مازق بأن أعرض عليه بريد رئاسة مجلس الوزراء جميعه، وهو كم هائل، ويتجاوز يوميًا مئات الرسائل والشكاوى والعرائض والطلبات وتقارير مدراء الأمن والمحافظين والسفراء، وأن أحول إليه البريد السري دون فتحه. وقد أثارت إعجابي قدرته على قراءة كل البريد الذي يحال إليه وخاصة شكاوى المواطنين وطلباتهم، وكان يعلق عليها بخط يده ويكتب عليها تعليماته بإحالتها للجهات المختصة لإجراء اللازم، وأحيانًا الطلب من الوزير المختص تلبية الطلبات التي يتقدم بها أصحاب العرائض. ولما كان معظم العرائض والشكاوي والطلبات تأتي من مواطنين من برقة فإنه كان يعرف مقدميها وقبائلهم، أما تعليقاته على تقارير السفراء فكانت تدل على مدى إلمامه بالأحداث العربية والشئون الدولية.






وفي المناسبات الدولية كانت وزارة الخارجية ترسل للرئاسة مسودة كلمة لتصدر عن رئيس الوزراء بالمناسبة، وأذكر أنه كان يتعجب من بساطة وحتى من تفاهة بعض الكلمات التي كانت معدة من طرف خبراء الخارجية، وكان في غالب الأحيان يعدلها بحضوري للتأكد من بعض الأحداث وتواريخها والمصطلحات الدبلوماسية المستعملة، كما كانت تعليقاته على تقارير المحافظين تتميز بالمعرفة لما يجري داخل البلاد. وكان أحيانًا يسهر حتى الصباح على قراءة البريد. كما طلب مني عدم تغيير أي موظف بما فيهم سكرتيره الخاص السيد أحمد كعوان وياوره وسائقه الخاصين، الملازم محمد أبو مرداس والسيد محمد الشريف، وجميعهم من قوة أمن طرابلس.
والشئ الذي لفت نظري لأول مرة وأحرجني مع السيد حسين مازق أني وجدت أن نسبة كبيرة من موظفي رئاسة مجلس الوزراء من طرابلس، رغم أن فرع رئاسة مجلس الوزراء الذي يرأسه السيد مصطفى بن سعود وكيل الوزارة لشئون مجلس الوزراء، وهو من برقة، يضم عددًا من الموظفين من برقة، ومع هذا شعرت بأني كنت مقصرًا في عدم تعيين موظفين من برقة، نظرًا لطول الفترة التي كنت فيها مسئولًا عن الشئون الإدارية لرئاسة مجلس الوزراء.
والحقيقة التي قد تغيب عن الكثيرين أن ذلك الوضع نتج عن وجود الحكومة في طرابلس معظم الوقت منذ السنوات الأولى للاستقلال في عهود السيد محمود المنتصر والدكتور محي الدين فكيني والسيد مصطفى بن حليم، وكان من عادة الموظفين تفضيل العمل في مدنهم الأصلية، مما لم يشجع الموظفين من برقة وخاصة صغارهم على طلب العمل في الحكومة الاتحادية في طرابلس. كما أن الموظفين الجدد الذين عينوا من طرابلس أخيرًا كانوا من الحاصلين على شهادات جامعية ومن موظفي الرئاسة، ولم يتقدم أحد لهذه الوظائف من برقة لشغلها عند إنشاء الوظائف الجديدة والإعلان عنها. هذا الوضع لم يكن مقصودًا، ولكن انتقال الحكومة إلى مدينة البيضاء نهائيًا لفت نظر كثيرين من سكان برقة ومدينة البيضاء بالذات ومن ضباط قوة دفاع برقة ومستشاري قبائلها الذين أصبحوا يترددون على مكاتب رئاسة مجلس الوزراء، خاصة عندما تولى السيد حسين مازق رئاسة مجلس الوزراء،وقد استغل ذلك بعض أصحاب النوايا السيئة من ضباط قوة الأمن في البيضاء لاتهامي بالتعصب لطرابلس.

وضع موظفي رئاسة مجلس الوزراء تحت المراقبة
كان ياور رئيس الوزراء الملازم أول محمد أبو مرداس مساعدًا للياور السابق لرئيس الوزراء العقيد عبدالسلام الكتاف، وقد حل محله بعد أن عين هذا الأخير رئيسًا لجهاز أمن الدولة في طرابلس في عهد رئيس الحكومة السابق السيد محمود المنتصر. وكان الملازم أبو مرداس يعتبر من ضمن جهاز حراسة رئاسة مجلس الوزراء التابعين لقوة دفاع برقة ويشاركهم مكاتبهم. وقد جاءني يومًا غاضبًا وأعلمني بأن الضابط المسئول من أمن الدولة التابع لقوة دفاع برقة، والمشرف على حراسة رئاسة مجلس الوزراء، يتجسس ويكتب تقارير سرية مضللة عنه وعن جميع موظفي الرئاسة بما فيهم أنا، فطلبت منه أن يحاول في غفلة منه أخذ ملف تقاريره من مكتبه واحضاره لي واعتبار القيام بذلك بأمر مني.
وفعلًا جاءني في اليوم التالي بالملف وكان يحتوي على التقارير السرية لذلك الضابط إلى مديره، وكانت تحرياته تتناول جميع موظفي الرئاسة بما فيهم الياور الخاص الملازم أول أبو مرداس نفسه والسكرتير الخاص السيد أحمد كعوان وسائق الرئيس الخاص السيد محمد الشريف، ويضيف الضابط في تقريره بأن وجود هؤلاء، ويعني الياور والسائق، حول الرئيس خطر على سلامته وأمنه وإنهما يرسلان بتقارير عن تحركات السيد حسين مازق إلى العقيد عبدالسلام الكتاف رئيس جهاز أمن الدولة بطرابلس ومنه إلى السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي.
كما تعرضت تقارير هذا الضابط لي ووصفني بأنني متعصب لطرابلس وكل موظفي الرئاسة من طرابلس وكلهم طابور خامس، وادعى بأني أشيع بأن هناك تغييرًا وزاريًا سيجري قريبًا يخرج فيه السيد حسين مازق ليحل محله رئيس من طرابلس. ويضيف بأني على اتصال دائم بالسيد محمود المنتصر رئيس الديوان وأوافيه بتقارير عن نشاط السيد حسين مازق وعمل الرئاسة، وأني ناصري وضد النظام الملكي، وقد درست في مصر وأنتقد الحكومة ونشاطها ووجودها في البيضاء، وأقطن أحد البيوت المخصصة للوزراء رغم أني أعزب واستخدمه للسهرات واجتماعات أنصاري من الموظفين في البيضاء.
لقد صدمت بأن أكتشف أني كنت مراقبًا من قوات الأمن مع جميع موظفي الرئاسة دون معرفتي وأنا المسئول الأول عن مكاتب الرئاسة وموظفيها وأمين سر رئيس الوزراء. وكانت تقارير هذا الضابط وزملائه مليئة بتهم ملفقة لجميع موظفي رئاسة مجلس الوزراء فردًا فردًا ولا أساس لها من الصحة وتدل على سذاجة وتفاهة كاتب تلك التقارير. كان موظفوا الرئاسة من طرابلس يعانون وضعًا صعبًا في مدينة البيضاء، حيث كانوا يعيشون عزابًا دون عائلاتهم، ولم أسمح لهم بالانتقال إلى إدارات حكومية أخرى في طرابلس إلى جانب عائلاتهم حرصًا على سير عمل رئاسة مجلس الوزراء على الوجه المطلوب.
ولذلك قررت وفي الحال رفع الموضوع إلى رئيس الوزراء نفسه، وأخذت الملف وذهبت إلى بيته كالعادة لأعرض عليه بريد الرئاسة وكان ذلك في الصباح الباكر. وبعد أن فرغت من عرض البريد استأذنته في إثارة موضوع خاص. وبعد إذنه بدأت كلامي بتذكيره بما سبق وأن قلته له عندما ألف الحكومة، ورفضي الانتقال إلى الديوان الملكي بأن العرف جرى في ليبيا، وكما في معظم أنحاء العالم، أن كل رئيس حكومة جديد يتولى الحكم يختار مساعديه وموظفي مكتبه وخاصة السكرتير الخاص والياور الخاص وسائقه الخاص ومدير مكتبه من أشخاص يعرفهم ويتمتعون بثقته. ولهذا فقد أوضحت له أنني وموظفي رئاسة مجلس الوزراء مستعدون للانتقال إلى أية إدارة حكومية أخرى في حالة رغبته تغيير جهاز مكتبه ولن نعتبر مثل هذا الإجراء عدم ثقة، بل هو إجراء عادي متعارف عليه اتخده معظم رؤساء ليبيا السابقين، أما بالنسبة لي فقد طلبت منه إرجاعي إلى وزارة الخارجية بأي درجة كانت.
كان رد السيد مازق حاسمًا، وقال إنه يعرف وضع موظفي رئاسة مجلس الوزراء ولم يفرض أحد عليه أي موظف، واستفسر عن سبب إثارتي للموضوع معه من جديد. فقمت بإعطائه فكرة عن سبب ذلك وسلمته الملف الذي يحتوي تقارير ضابط الأمن في الرئاسة وشرحت له ظروف سحبه من الضابط المختص. وبعد أن ألقى نظرة سريعة على محتويات التقرير ظهر عليه الغضب واحمر وجهه وهو رجل دبلوماسي ومتزن وخجول ولا يعرف الإنسان ما يجول في خاطره. هل غضبه راجع إلى استنكاره لإقدام ضباط الأمن على التجسس على موظفي مكتبه، أو أن غضبه كان منصبًا على إهمال ضابط الأمن الذي ترك ملفه السري في متناول الآخرين؟
وتوجه رئيس الوزراء إليّ بالكلام قائلا إنه لم يطلب من مدير عام قوة الأمن ولا من أي ضابط أو شخص مراقبة أي موظف برئاسة مجلس الوزراء، لأنه إذا كان لا يثق في بعض موظفي الرئاسة فمن يستطيع أن يمنعه من نقلهم إلى مصالح حكومية أخرى، وأعرب عن رضائه عن خدماتي وثقته في إخلاصي للعمل. وأراد أن يخفف من وقع الموضوع بالقول إن مثل هذا العمل المشين لا يصدر إلا عن ضباط أمن جهلة يفتقرون إلى المعرفة والخبرة، وهم يعتقدون بأن واجبهم هو مراقبة الآخرين، وغالبًا ما يعتمدون على استنباطات خاطئة أو معلومات لا أساس لها نتيجة جهل أو غاية في نفوسهم، وأبدى أسفه وأنه سيعالج الأمور مع مدير الأمن العام اللواء مفتاح بوشاح، وفعلًا اتصل به أثناء وجودي معه وطلب منه حضوره حالًا إلى بيته.
واللواء مفتاح بوشاح تربطني به علاقة عمل وصداقة منذ تعيينه في عهد حكومة السيد محمود المنتصر، وكان في تلك الفترة يأتي إلى مكتبي كل صباح ويسلمني مظروفًا يحتوي تقارير إدارة أمن الدولة التابعة له لتسليمها إلى رئيس الوزراء، وكان يرسلها أحيانًا مع مساعده السيد يونس بلقاسم. ونظرًا لأني كنت أحيانًا أطلع على بعض هذه التقارير، فقد لفت نظر اللواء بوشاح إلى أن بعض تعليقات مساعديه على ما ينشر في الصحافة الوطنية والأجنبية وبعض الكتب المدرسية تدل على عدم خبرة محرريها، فما يكتب عن الانقلابات العسكرية والثورات ضد الأنظمة الملكية في الكتب التاريخية والصحف ليس معناه دعوة إلى الثورة، ولا يستدعي اقتراح وقف أو إلغاء رخصة جريدة أو مجلة سواء كانت وطنية أو أجنبية أو منع كتاب من التوزيع لمجرد نشره مثل هذه الأمور التي تتعرض إلى مواضيع تاريخية لا تعرّض أمن البلاد للخطر. واللواء مفتاح بوشاح رجل قبلي شهم ومخلص لكن تعليمه بسيط ويتأثر بمن حوله من الضباط وأكثرهم في مستواه العلمي، وهو مخلص للملك ومن ضباط جيش التحرير السنوسي الذى أسسه الملك في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية.
غادرت منزل رئيس الوزراء في ذلك اليوم إلى مكتبي لأواصل عملي كالعادة. وفي غضون ساعة أو أقل دق جرس الهاتف في مكتبي وكان اللواء مفتاح بوشاح على الهاتف، وأخبرني بأنه في الطريق إليّ ودخل مكتبي وعانقني وكان ينطق اسمي "بشير" باللهجة المصرية، وهو اسم لا يستعمل في مصر إلا لسكان النوبة. وذكر لي بأنه لم يأمر بفرض رقابة على موظفي الرئاسة ولم يطلب من رئيس ضباط حراسة رئاسة مجلس الوزراء القيام بذلك وأشاد بعلاقاتنا. وأضاف بأنه يعرفني ولا أحد يشك في إخلاصي للوطن والملك ووجودي في هذا المكتب دليل على ثقة رؤساء الوزارات المتعاقبين، وأن تصرف ضابط الحراسة سيحاسب عليه، وأنه قرر وأبلغ رئيس الوزراء بتغيير ونقل كل ضباط وجنود الحراسة في رئاسة مجلس الوزراء بالبيضاء واستبدالهم بأفراد متعلمين ولهم خبرة ومعرفة برجال الدولة حتى يمكن ضمان عدم تكرار مثل هذا العمل. كما زارني بعد ذلك حكمدار البيضاء وأبلغني أسفه بدوره وأنه نفذ تعليمات المدير العام وغير فريق الحراسة برئاسة مجلس الوزراء.
وهكذا أسدل الستار على هذه القصة، إلا أن الموضوع لم يغب عن ذهن رئيس الوزراء وكبار ضباط الأمن في البيضاء، لأنه اعتبر اختراقًا لسرية قوة الأمن، حتى إذا سلموا بعدم صحة المعلومات الواردة في التقارير. وبعد أسابيع قليلة قام رئيس الوزراء بتغيير ياوره وسائقه الخاصين المشار إليهما أعلاه بأشخاص يعرفهم من قوة دفاع برقة عندما كان واليًا على برقة، وتقرر نقل السيدين أبومرداس والشريف إلى مقر عملهما بطرابلس. وقد جعلني هذا القرار أشك في مصداقية عدم تكليف ضباط الحراسة بمراقبة موظفي الرئاسة. ورغم أني كنت أعتبر أن مثل هذا العمل بما فيه الرقابة على الموظفين قد تقتضيه المصلحة العامة لكن هذا في رأيي ليس معناه السماح لرجال المخابرات والأمن بتلفيق الأكاذيب ضد أشخاص وموظفين يتولون وظائف هامة وحساسة ولا يشك أحد في إخلاصهم للعمل والوطن.










من اليمين: اللواء نورى الصديق رئيس الأركان، السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي، الملك محمد إدريس السنوسي، السيد حسين مازق رئيس مجلس الوزراء، الفريق مفتاح بوشاح مدير الأمن العام

ورغم استمراري في العمل برئاسة مجلس الوزراء ورغم المعاملة الممتازة التي كنت ألقاها من السيد حسين مازق، إلا أنه بدأ واضحًا لدى كبار الموظفين والوزراء والنواب وضباط الأمن ورجال الأعمال، أنني لست من رجال السيد حسين مازق لكوني من طرابلس وعلاقتي قوية بالسيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي. وقد جعل هذا الانطباع لدى هؤلاء الاعتقاد بأني لست قناة آمنة أو مجدية للاتصال بالسيد حسين مازق كما كنت في عهد السيد محمود المنتصر، وبدأوا يتصلون به عن طريق من كان على صلة به. كما لاحظت بأن وكيل الوزارة لشئون مجلس الوزراء السيد مصطفى بن سعود لم يعد يتعاون معي كما كان عليه في عهد الحكومة السابقة.










7 مارس 1964م- الرئيس جمال عبدالناصر في استقبال وزير الخارجية الليبي السيد حسين مازق والسيد الطاهر باكير سفير ليبيا بالقاهرة

كما لاحظت أيضًا أن وزارتي الخارجية والدفاع ومدراء الأمن ورئيس أركان الجيش والمحافظون أصبحوا يتصلون برئيس الوزراء رأسًا في الغالب. والسيد حسين مازق يتمتع بصحة ممتازة وفكر صاف وحيوية ونشاط تجعله يتعامل مع كل هؤلاء بمفرده رأسًا. كما حاولت الجهات التي تريد الاتصال برئيس الوزراء، بما في ذلك أصحاب الشكاوى والطلبات من مستشاري ورجال قبائل برقة، البحث عن أشخاص ذوى صلة بالسيد حسين مازق لنقل طلباتهم وشكواهم إليه. وقد اقتصر عملي والإدارات التابعة لي في رئاسة مجلس الوزراء على الإجراءات والمراسلات الرسمية العادية، ودراسة التقارير التي تصل إلى الرئاسة وتزويد رئيس الوزراء بتعليقاتنا بشأنها وما ينشر في الصحافة المحلية والأجنبية وتنفيذ تعليمات رئيس الوزراء وإعداد مراسلاته الرسمية.

علاقة الديوان الملكي برئاسة مجلس الوزراء
شعرت بعد فترة أن علاقة السيد حسين مازق مع السيد محمود المنتصر لم تعد كما كانت عليه في الماضي، فقد كان هناك تبادل للرأي بينهما حول المسائل الهامة بما في ذلك موضوع جلاء القوات الأجنبية والعلاقات الليبية البريطانية والأمريكية والانتخابات، ولكن الوضع تغير بعد تعديل السيد حسين مازق لوزارته وخروج معظم وزراء الحكومة السابقة، ولم يعد يتصل هاتفيًا بالسيد محمود المنتصر كالعادة، كما أنه أصبح يقتصر في اتصاله بالقصر الملكي بالسكرتير الخاص للملك رأسًا بما في ذلك إرسال المراسيم الملكية للتوقيع.
وكان السيد محمود المنتصر يرغب بأن تحول المراسيم الملكية ومشاريع القوانين على الديوان الملكي ليتولى الديوان دراستها ورفعها إلى الملك بعد ذلك، غير أن هذا الأسلوب لم يتبعه السيد محمود المنتصر إبان حكومته الأولى التي استقالت بسبب تدخل الديوان الملكي وناظر الخاصة الملكية في شئون الدولة. وهكذا أصبح السيد حسين مازق يسعى لكسب تأييد الجميع بما فيهم خصوم حكومة السيد محمود المنتصر السابقة وفتح صفحة جديدة في حكمه للبلاد.
ورغم أن السيد محمود المنتصر بقى رئيسًا للديوان الملكي حتى الفاتح من سبتمبر سنة 1969م، إلا أن دوره السياسي في سياسات وشئون الدولة أصبح اسميًا منذ استقالته من رئاسة الحكومة. فهو لا يستشار من طرف رؤساء الحكومات ولا من طرف الملك فيما يجري من أحداث، بل سمعت منه أن الملك طلب منه أن يراعي صحته وأن يستريح ويلازم بيته وأنه، أي الملك، سيتصل به أو يدعوه لزيارته في طبرق كلما احتاج إليه. ورغم أن الملك والملكة واصلا الاتصال به للسؤال عن صحته ودعوته إلى طبرق من

5:36 AM  
Blogger Bashir Muntasser said...

ولم يعلن رأيه هذا صراحة وعلنًا ضد الإلغاء والجلاء، لأنه ملك دستوري لا يحكم، وأن القرار في شئون الدولة هو في أيدي الحكومة ومجلس الأمة.

الملك إدريس يـقرر الاستقالة
فوجئ رئيس الوزراء ورئيسا مجلس الشيوخ والنواب باستدعاء الملك لهم في بيته
بمدينة البيضاء وإبلاغهم بأنه قرر الاستقالة، وأنه سبق له وأن قدمها إلى السيد مصطفى بن حليم والسيد محمد عثمان الصيد عندما كانا في الحكومة، وأنه قرر أن يستريح
ولم يبد سببًا للاستقالة. وطبعًا رفض الحاضرون حتى مجرد التفكير في ما قاله الملك لهم، وبينوا له بأن البلاد لن تستقر بدونه وإنها أحوج إلى زعامته في هذه الظروف، وألحوا
عليه بإعادة النظر في الموضوع. ولكنه في نهاية المقابلة سلم إلى رئيس الوزراء الاستقالة مكتوبة وموقعة منه ليؤكد إصراره. وأذكر أن رئيس الوزراء السيد محمود المنتصر رجع إلى مكتبه مصفر الوجه وقد ارتفع ضغط الدم عنده وكان يرتعش من هول ما سمعه من الملك، وطلب مني مساعدته على وضع الاستقالة في خزانة رئاسة الوزراء. وبعد أقل من ساعة من وصوله إلى مكتبه سمع بأن الملك سافر إلى طبرق حال انتهاء مقابلة الرؤساء الثلاثة له وقد طلب من حرسه عدم مرافقته، كما أنه رفض وضع علمه على السيارة.
كان من المقرر أن يبقى رئيس الوزراء فترة أطول في البيضاء لمتابعة مداولات مجلس النواب حول المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية، ولكن ما أن وصل الملك إلى طبرق حتى رن جرس الهاتف في بيت رئيس الوزراء وكنت معه ورأيت علامات الانزعاج تظهر على وجهه وهو يستمع في التلفون إلى الملك، ولم تستغرق المحادثة ثوان. ولما انتهى أخبرني بأن الملك طلب منه تنفيذ استقالته حالًا. كان المعتقد أن الملك سيسحب استقالته كالعادة لأن الرؤساء الثلاثة (الوزراء والشيوخ والنواب) أثناء مقابلتهم له في البيضاء رفضوا الاستقالة وهو ليس بالشئ الجديد فقد رجع عن الاستقالة مرارًا. كما أن الاستقالة بشكلها الذي قدم لا معنى لها فهي لم تكن تنازلًا عن العرش لولي عهده، الوريث الشرعي حسب الدستور، وهي في رأيهم لا تعدو أن تكون إلا احتجاجًا غير معلن على تمادي وتسرع الحكومة والبرلمان في إعلان إلغاء المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية، رغم أن رئيس الحكومة أحاطه علمًا بهذا قبل إصدار تصريحاته بشأنها.
ولكن الملك كعادته لا يصارح رئيس حكومته برأيه وقت الأزمة أو ينتقده
صراحة، بل يعبر عن ذلك بالتصرف بما يراه هو بعد ذلك. كان الملك يتوقع على الأقل من الحكومة والبرلمان في هذه الحالة أن لا يتسرعا لأن رأيه معروف لديهم وخاصة فيما
يتعلق ببريطانيا، فالمعاهدة البريطانية هي تحالف تاريخي بينه وبين بريطانيا قبل أن تكون بين ليبيا وبريطانيا.
طلب مني رئيس الوزراء بعد استلامه لمكالمة الملك إبلاغ رؤساء الشيوخ والنواب والمحكمة العليا والجامعة الإسلامية ورئيس أركان الجيش ومدير عام الأمن والوزراء القدوم حالًا إلى البيضاء لاجتماع عاجل لأمر هام جدًا وعدم ذكر موضوع الاستقالة. كان الوقت بعد الظهر، ورغم أن مثل هذه الدعوة المستعجلة تحدث كثيرًا، إلا أن كل الوزراء وبعض المطلوب حضورهم كانوا جميعًا في طرابلس على مسافة تزيد على 1300 كم، وقد طلب بعض الوزراء إعداد طائرة خاصة لهم للحضور. ولما تعذر حضور الجميع إلى البيضاء طلب رئيس الوزراء ممّن لا يستطيع القدوم إلى البيضاء في ذلك اليوم الحضور إلى طبرق في صباح اليوم التالي مبكرًا. كان موضوع الاستقالة لا زال سرًا لا يعرفه إلا الرؤساء الثلاثة، أو هكذا كنا نعتقد، والشعب لا يعرف شيئًا بما حدث، ولا يمكن إذاعة مثل هذا الخبر حتى ولو أصبح نهائيًا دون إعلان الإجراءات الأمنية اللازمة.
وفي فجر اليوم التالي غادر البيضاء رتل السيارات الذي كان يحمل رئيس الوزراء ورئيسي مجلسي الشيوخ والنواب ومن كان موجودًا في البيضاء من الوزراء. وقد لاحظنا أن الطريق إلى طبرق كان مزدحمًا بسيارات الجيش والشرطة والسيارات المدنية. وما أن وصلنا ضواحي مدينة طبرق حتى وجدناها تعج بضباط وأفراد الجيش والأمن ورجال قبائل برقة عن بكرة أبيهم، وبعض أعضاء مجلس الأمة من المنطقة الشرقية، وكثير من جماهير الشعب من برقة. ويظهر أن رجال القصر والحاشية الذين عرفوا الموضوع سارعوا بمعرفة من الملك أو بإيعاز منه أو بدون علمه بنشر خبر استقالته في جميع أنحاء برقة وطلبوا من الجميع القدوم حالًا إلى طبرق وإعلام الآخرين للتواجد للطلب من الملك الرجوع عن استقالته.
كنت في السيارة مع السيد عمر الباروني وزير شئون الرئاسة وكنا واثقين بأن كل شئ مرتب مسبقًا وأن الملك سيسحب استقالته. وتأكد هذا بعد وصولنا إلى طبرق ووجود هذا الكم من المشايخ ورجال القبائل الذين كانوا يهددون الحكومة والنواب في مظاهرات عارمة ويتهمونهم بأنهم السبب في غضب الملك واستقالته بإصرارهم على قرار إنهاء المعاهدة البريطانية وجلاء القوات الأجنبية، وكانوا يلوحون بالسلاح في أياديهم ويهددون بأنهم لن يتركوا أعضاء الحكومة ومجلس الأمة الخروج من طبرق أحياء إلا اذا تراجع الملك عن استقالته. وكانت هتافات الجماهير بهذه المطالب غريبة، خاصة أن الملك لم يعلن سببًا لاستقالته سوى حالته الصحية، ولهذا تأكد لنا أن رجال القصر والحاشية وراء هذه الاحتجاجات.
كان الملك قد غادر قصره الرسمي بعد وصوله من البيضاء وطلب من حراسه ورجال حاشيته وسائقي سياراته أن لا يرافقوه وأن يبقوا في القصر تحت تصرف الحكومة، وأمر بإنزال علمه الخاص من على القصر وذهب إلى بيته خارج طبرق. ولكن جماهير القبائل والشعب الذين وصلوا طبرق في ذلك اليوم ساروا إليه في مظاهرة كبيرة وأحاطوا بالبيت الذي كان فيه وأصروا على عدم مغادرة المكان حتى يجتمع بهم. واضطر الملك بعد ذلك إلى إرسال سبحته لهم، وهي عادة عربية قديمة حسب ما أعتقد للتعبير عن صدق وعده، ووعدهم بالاجتماع بهم في صباح اليوم التالي في قصره الرسمي بطبرق وطلب منهم الذهاب للراحة والنوم. وهكذا نامت مدينة طبرق تعج بالآلاف من الناس الذين افترشوا الأرض بعد أن ضاقت بيوت سكان طبرق بهم، وقام سكان المدينة باستضافتهم ونحروا الذبائح وأكرموهم.

الملك إدريـس يتراجع عن الاستقالة
بعد رجوعهم من الملك ذهبت حشود القبائل إلى مقر رئيس الوزراء بطبرق وطلبوا منه إعطاءهم ورقة استقالة الملك لتمزيقها لعدم اعترافهم بها، كما هاجموا بعض النواب الذين جاءوا من بنغازي بعد سماعهم خبر استقالة الملك. وقد حاول النواب الدفاع عن أنفسهم بأن طلبهم لجلاء القوات الأجنبية لا يمس إخلاصهم للملك أو النظام الملكي وأنهم مع الجماهير لإقناع الملك بالرجوع عن استقالته والبقاء في الملك مدى الحياة. وخرج لهم رئيس الوزراء في شرفة البيت الذي يقيم فيه وألقى فيهم كلمة مؤكدًا لهم رفضه لاستقالة الملك، وأنه أعد استقالة حكومته لتقديمها إلى الملك إذا أصر على رأيه، وقال إن ورقة استقالة الملك لا يمزقها إلا الملك نفسه وقد أحضرها معه لإعادتها إليه، ووعدهم بأنه سيذهب معهم صباح اليوم التالي في مظاهرة إلى القصر الملكي.
وغادرت الجماهير مكان إقامة رئيس الوزراء بعد اقتناعها بصدقه، فإخلاصه للملك يعرفه القاصي والداني، وخاصة في برقة. وعاشت طبرق ليلة ليلاء في هرج ومرج والكل لا يصدق أن الإدريس سيتركهم. كل هذا كان يحدث في طبرق دون صدور أي بيان حكومي في الإذاعة، مما جعل جماهير طرابلس وبنغازي ومدن ليبيا وقراها لا تعرف شيئًا عما كان يجري في طبرق من أمر مهم وخطير.
وفي صباح اليوم التالي تجمعت جماهير القبائل وضباط وأفراد الجيش والشرطة يتقدمهم رئيس الوزراء ورئيسا الشيوخ والنواب ورئيس المحكمة العليا ورئيس أركان الجيش ومدير عام الأمن العام والوزراء والنواب وكبار رجال الدولة، وساروا في مظاهرة إلى القصر الذي كان قد سبقهم إليه الملك، وكان محاطًا برجال حاشيته وعلى رأسهم السيد البوصيري الشلحي. واخترقت الجماهير سياج القصر وأحاطت بالقصر وتعالت الهتافات مطالبة الملك أن يطل عليهم وأن يتراجع عن الاستقالة. وكان بعض رجال الحرس الملكي مع المتظاهرين يتسلقون جدران القصر ليصلوا إلى الشرفة لتعليق العلم الملكي عليها بعد ما أنزل بأمر من الملك، وبقي كبار رجال الدولة مع الجماهير ولم يسمح لهم بالدخول إلى القصر.
وكان رئيس الوزراء قبل تحركه إلى القصر قد أملى عليّ استقالته وأخذها معه لتقديمها حال ما تحين فرصة الاجتماع بالملك إذا أصر على استقالته، ولكن رئيس الوزراء والوزراء والنواب وبقية المسئولين كانوا واثقين أنها مجرد احتجاج وأنها ستنتهي بسحب الملك لاستقالته وفرض شروطه المعروفة. وبعد ساعات من الوقوف والهتاف في حر الظهيرة الذي كان صعبًا على كبار المسئولين من كبار السن والمرضى، سمح الملك لرئيس الوزراء ورؤساء مجلسي الشيوخ والنواب والمحكمة العليا والوزراء وبعض كبار المسئولين بالدخول إلى القصر، وتحدث معهم عن ظروفه الصحية التي دفعته إلى الاستقالة. وبعد سماع وجهة نظرهم وحاجة البلاد إليه في هذه الظروف وافق على سحب استقالته وأمر حرسه برفع علمه على القصر في الشرفة المطلة على الجماهير.
تعالت هتافات الجماهير المحتشدة في طبرق بالتأييد والدعاء له بطول العمر بعد أن عرفت أن الملك تراجع عن استقالته. وخرج الملك إلى شرفة القصر محاطًا بكبار رجال الدولة وأعلن أنه استقال لأسباب صحية وليس لأي سبب آخر وأن الحكومة تقوم بمهمتها على ما يرام، ونزولًا عند رغباتهم قرر الرجوع عن الاستقالة رغم ما يعانيه من مرض وضعف، ووعدهم بأنه لن يموت إلا بينهم. وفي هذه الأثناء سلمه رئيس الوزراء ورقة استقالته فأخذها منه وقطعها إربًا إربًا صغيرة لا تقرأ. وبعدها فتحت أبواب القصر ودخلت الجماهير بمن فيهم الأطفال للسلام على الملك وتقبيل يديه والدعاء له بطول العمر، وقد وقف الملك يصافح الجميع دون كلل. وبعدها اجتمع الملك برئيس الوزراء ثم رجعنا مع رئيس الوزراء إلى البيضاء في نفس اليوم ولم يكن الشعب، باستثناء من كان في طبرق، يعرف شيئًا عما حدث.
وفي اليوم التالي جاء رئيس الوزراء إلى المكتب ومعه ورقة مكتوبة بخط يده وبدون عنوان يظهر أنها ملخص لما جرى بينه وبين الملك بعد عدوله عن الاستقالة، وطلب مني كتابة نسخة نظيفة من مسودته فكتبتها بخط جميل وسلمتها لرئيس الوزراء الذي وضعها في خزنته في المكتب لأهميتها، وكانت تتلخص على ما أذكر فيما يلي:
"تستمر المحادثات مع البريطانيين لإلغاء المعاهدة الليبية البريطانية مع الإبقاء على التحالف الليبي البريطاني، ويتم جلاء كل القوات البريطانية من طرابلس وبنغازي في الوقت المناسب، والإبقاء على القاعدة البريطانية في مطار العدم، والسماح للجيش البريطاني بإجراء تدريبات الربيع والخريف في صحراء برقة. أما الاتفاقية الأمريكية فهي متروكة للحكومة والبرلمان مع التمهل في المفاوضات مع بريطانيا وأمريكا، وبعدم الانسياق وراء نواب المعارضة بالإسراع، وعدم الاهتمام بضغوط الدول مثل مصر وغيرها. كما طلب الملك تقسيم قوات الأمن التي وحدت بعد إعلان الوحدة إلى ثلاث مديريات عامة مستقلة تتبع وزير الداخلية وبتسليح قوات الأمن، وخاصة القوة المتحركة وقوات أمن برقة بالأسلحة الحديثة والدبابات، ثم حل مجلس النواب وعدم السماح لنواب المعارضة بالعودة إلى المجلس بأي حال من الأحوال".
بعد ذلك عقد مجلس الوزراء جلسة قرر فيها إذاعة بيان على الشعب قرأ على الملك بالهاتف للموافقة عليه، وكان الهدف من البيان هو إطلاع الشعب على ما جرى في طبرق ذلك اليوم. ورغم تسرب الأخبار، إلا أن معظم الناس لم تسمع شيئًا، وخاصة في طرابلس ومدن ليبيا الأخرى، وهكذا عرف الناس باستقالة الملك وفهموا ما وراءها والهدف منها. كان الشعب يعرف تفكير زعمائه وما يدور في الكواليس ولم يكن راضيًا عما يحدث.
وهكذا وقع السيد محمود المنتصر في المحظور وأصبح استمراره في الحكم الآن ملزمًا، لأن استقالته في هذه الظروف تعني أنه يسعى لبناء شعبية على حساب الملك، الأمر الذي لم يفكر فيه السيد محمود المنتصر طول حياته، فإخلاصه للملك كان فوق كل اعتبار، ولهذا لم يجد مفرًا من تنفيذ أوامر الملك. أجرى السيد محمود المنتصر بعد ذلك تعديلًا وزاريًا أدخل بموجبه عددًا من الشباب، مما ساعد على الاهتمام بالمرافق العامة وخطط التنمية، كما عين عددًا من الشباب كوكلاء وزارات من بينهم الدكتور علي عتيقة الذي عين وكيلًا لوزارة التخطيط والتنمية.
استؤنفت المفاوضات الليبية البريطانية والأمريكية في مدينة البيضاء لتحديد مواعيد الجلاء وكأن شيئا لم يحدث، رغم أن بريطانيا وأمريكا كانتا على علم بما جرى بين الملك ورئيس الوزراء عن طريق سفيريهما الذين كانا يجتمعان بالملك باستمرار، وكان الملك يصارحهما برأيه في سياسة الحكومة. بعدها أصدرت الحكومة بيانًا بنتائج المفاوضات الأولية وفاءًا لوعدها بإعلام مجلس الأمة بها في مدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر، واكتفت الحكومة بهذا الإعلان دون دعوة مجلس الأمة للانعقاد تحسبًا من تجدد المناقشات بين الحكومة والنواب. وفي اليوم التالي لصدور بيان الحكومة صدر مرسوم بحل مجلس النواب وإجراء انتخابات في موعد لا يتجاوز ثلاثة أشهر.
ورغم أن المفاوضات لم تغلق مع بريطانيا وأمريكا، إلا أنها أخذت نهجًا بطيئًا وغير حاسم للأسباب التي استعرضتها. واستمرت المفاوضات وقبلت بريطانيا وأمريكا مبدأ الجلاء، ووافقت بريطانيا بعد ذلك على تحديد موعد الجلاء من طرابلس وبنغازي، وقبلت أمريكا مبدأ جلاء قواتها لكنها ماطلت في تحديد موعد لها قبل انتهاء مدة الاتفاقية، وقدمت اقتراحات مؤقتة بإعطاء قسم من مطار الملاحة إلى القوات الجوية الليبية ورفع العلم الليبي إلى جانب علم الولايات المتحدة الأمريكية فوق مطار الملاحة. وأوفت بريطانيا بوعدها بعد ذلك وأجلت قواتها عن مدينتي طرابلس وبنغازي وأبقتها في مطار العدم، كما سمح للقوات البريطانية بإجراء تدريباتها في برقة. واستمرت الحكومات المتتالية في الإعلان في تصريحاتها وخطب العرش عن استمرار مفاوضات الجلاء وإنهاء وجود القوات الأجنبية في ليبيا، وهذا لم يقنع الرأي العام الليبي، واستمر في موقفه السلبي مع الحكومات المتعاقبة.

مؤتمر القمة العربي الثاني في الإسكندرية (5-11 سبتمبر 1964م)
بعد أخذ العبرة من مؤتمر القمة العربي الأول (13-17 يناير 1964) وما نتج عنه من مظاهرات واحتجاجات شعبية، قرر الملك حضور المؤتمر الثاني للقمة العربية وبوفد كبير يشمل رئيس الوزراء. وقد سافر الملك برًا مرورًا بمنطقة الحمامات شرقي الإسكندرية حيث كان يقيم في المهجر. وسافرت مع رئيس الوزراء بالطائرة ونزلنا بفندق فلسطين في الإسكندرية الذي أعد لإقامة الملوك والأمراء ورؤساء الدول، وكان الملك قد أعد له قصر خاص في الإسكندرية وقصر الطاهرة بالقاهرة للإقامة فيهما أثناء المؤتمر.
وحال وصولنا استلمت مكالمة هاتفية من السيد عبدالمجيد فريد من قصر رئيس الجمهورية ليبلغ السيد محمود المنتصر بأن الرئيس عبدالناصر سيستقبله الساعة الثالثة بعد الظهر في قصر التين بالإسكندرية. وكان عبدالناصر مشغولًا باستقبال الرؤساء والملوك الذين كانوا يصلون تباعًا، وكانت تلك لفتة كريمة منه، فالسيد محمود المنتصر لم يكن رئيس الوفد الليبي وكان الملك قد وصل فعلًا منذ أيام واستُقبل رسميًا. كان السيد محمود المنتصر يتوق إلى مقابلة الرئيس عبدالناصر، فقد قاسى من خطبة عبدالناصر حال تأليفه للحكومة الثانية وانتقاد عبد الناصر للقواعد العسكرية في ليبيا وما خلفته من جو قاتم ورد فعل من الشعب الليبي والمظاهرات التي تبعته، كما أن موقف الثورة المصرية من حكومته الأولى لم يكن على أحسن حال. وقد استغرب بدوره من تحديد موعد له بهذه السرعة مع عبدالناصر في وقت ينشغل فيه بوصول الرؤساء.











وبعد رجوعه من المقابلة أخبرني السيد محمود المنتصر بما تم فيها وأملى علي ملخصًا لها للاحتفاظ بمحضرها معه، ويتلخص على ما أذكر، بأن الرئيس عبدالناصر استقبله منفردًا بترحيب خاص مستفسرًا عن صحته، وقال له لقد حرصت على مقابلتك حال وصولك لأني أريد توضيح بعض الأمور، لقد سمعت أن البعض أساء تفسير الخطبة التي ألقيتها بعد تأليفك لحكومتك الثانية ومهاجمتي للقواعد العسكرية البريطانية بأنها موجهة ضدك شخصيًا وهذا ليس صحيحًا على الإطلاق، فأنا لم أتمكن بالاجتماع بك في الماضي ولا أحمل أي شئ ضدك، بل أقدر جهودك وعملك في بناء الدولة الليبية.
وأضاف الرئيس عبدالناصر بأنه كان في تلك الخطبة يرد على تصريحات ضده في مجلس العموم البريطاني بأنه يعمل ضد بريطانيا ويثير القلاقل في الدول العربية، وكانت القواعد العسكرية البريطانية في ليبيا وقبرص إحدى النقاط التي أثارها لانتقاد السياسة البريطانية في المنطقة، ولم يخطر بباله بأنه يتعرض لمسألة قد تثير المشاكل للحكومة الليبية في ظرف صعب كما سمعت بعد ذلك، فهو يعرف الظروف التي وقعت فيها المعاهدة البريطانية الليبية ووضع ليبيا المالي الضعيف آنذاك.








السادة محمود المنتصر رئيس الوزراء الليبي وعبدالعزيز بوتفليقة وزير خارجية الجزائر (الأول من اليمين) ومحمود رياض وزير خارجية مصر وحسين مازق وزير خارجية ليبيا وبشير المنتصر وآخرون أثناء حضورهم لمؤتمر القمة الثاني في الإسكندرية سنة 1964م.

وقد سر الرئيس عبدالناصر بأن الحكومة الليبية بدأت أخيرًا المفاوضات مع البريطانيين تصفية القواعد العسكرية، وقال إن بريطانيا لا تستحق عطف العرب، فهي مصدر المشاكل في المنطقة العربية، ولهذا فجلاؤها عن ليبيا خطوة لتحرير المنطقة من تدخلاتها المستمرة في شئونها واستغلالها لمواردها ونشر الفتنة بين دولها. أما بخصوص القواعد الأمريكية فإن تصفيتها يجب أن تتم كذلك، ولكني لا أريد من الحكومة الليبية أن تضغط على الحكومة الأمريكية للجلاء حالًا، بل أعطوها الوقت اللازم الذي تطلبه لإيجاد مكان آخر لقاعدتها، فأمريكا دولة عظمى، والكل في حاجة إلى مساعداتها في صراعنا مع إسرائيل وحل المشكلة الفلسطينية الإسرائيلية، ولا نريد إجبارها على نقل قاعدتها الكبيرة في طرابلس إلى إسرائيل مثلًا، وهي تستطيع خلق مصاعب لنا كلما زاد ضغطنا عليها، ثم تناول بعد ذلك المشاكل العربية وجدول أعمال مؤتمر القمة. وكان خلال المقابلة بشوشًا ومرحبًا، كما رحب بحضور الملك للمؤتمر الذي خصص له قصرًا خاصًا لإقامته، لأنه أكثر راحة من الفندق المزدحم مع جميع الرؤساء العرب.












سبتمبر 1964م - الرئيس عبدالناصر في استقبال الملك إدريس في الإسكندرية ويرى بشير المنتصر خلف الملك إدريس

حضر الملك افتتاح المؤتمر، وكان عبدالناصر يرحب بالملوك والرؤساء بشوشًا. وأعطى الملك إدريس والوفد الليبي اهتمامًا خاصًا. ولم أشاهد في حياتي بشاشة الملك إدريس وابتسامته العريضة، إلا عندما التقى بالملك حسين وأخيه حسن بن طلال في القاعة قبل بدء المؤتمر، وقد سارع الاثنان إلى تقبيل يده احترامًا لكبير أهل البيت. وقد كان المؤتمر ناجحًا ولعب عبدالناصر فيه دور الراعى والمضيف.

زيارة السيد محمود المنتصر للسعودية
قام السيد محمود المنتصر بزيارة السعودية لتهنئة الملك فيصل باسم الملك إدريس باعتلائه العرش على رأس وفد كبير ضم رئيسا مجلس الشيوخ والنواب ورئيس أركان الجيش وبعض الوزراء، وتأخر مفتي ليبيا الشيخ عبدالرحمن القلهود عن الوصول إلى مطار طرابلس في الموعد المحدد فسافر الوفد بدونه، وكنت أنا وياور رئيس الوزراء الخاص الملازم أول محمد أبو مرداس ضمن الوفد.
وقد استُقبل الوفد استقبالًا عظيمًا، وأذكر أن الملك فيصل استقبل الوفد في مكتبه الخاص بمفرده. بدأ الملك فيصل بشكر الملك إدريس على إرساله للوفد للتهنئة، ثم تعرض بإسهاب عن العلاقات العربية وتساءل عن دوافع الرئيس عبدالناصر في التهجم على المملكة السعودية، وكانت العلاقات في تلك الفترة متأزمة بين البلدين إلى درجة استضافة عبدالناصر للملك السابق سعود في مصر بعد عزله، وكانت الحملات الإعلامية في إذاعة صوت العرب ضد السعودية على أشدها.
قضى الملك أكثر من ساعة مركزًا كلامه على مصر ودورها العربي وتدخلها في الشئون الداخلية للدول العربية، وتساءل ماذا يريدون منا؟ وأضاف أن الموقف العربي يستدعي التضامن والتكتل لا إثارة شعوب المنطقة ضد حكوماتها. وألقى السيد محمود المنتصر كلمة معدة مسبقًا مختصرة أكد فيها أن ليبيا تدعو إلى عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية، وقد قاست بدورها فعلًا من تدخل بعض الدول المجاورة، ولم يتعرض لمصر أو عبدالناصر بالاسم. وأثناء المقابلة دخل فجأة شخص طويل القامة في ملابس الأمراء دون استئذان فقام الملك فيصل له مرحبًا وقمنا جميعًا معه، وقدمه الملك بأنه الأمير محمد بن عبدالعزيز (على ما أذكر) وجلس الجميع، واستمر الملك في الكلام. وفجأة نهض الأمير وودعه الملك والحاضرون، وخرج كما دخل دون استئذان. وفي المساء أقام الملك مأدبة عشاء على شرف الوفد حضرها عدد كبير من الأمراء السعوديين، وفي صباح اليوم التالي سافر الوفد إلى مكة لأداء العمرة ومنها سافر عائدًا إلى طرابلس.









الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية (1) يتوسط الوفد الليبي برئاسة السيد محمود المنتصر رئيس وزراء ليبيا (2) الذي جاء لتهنئته بتولي الملك ويظهر في الصورة إلى جانب الملك السعودي ورئيس الوزراء الليبي السادة عبدالحميد العبار رئيس مجلس الشيوخ (3) وسالم القاضي رئيس مجلس النواب (4) والوزراء عبدالقادر البدري (5) وعبدالمولى لنقي (6) ومنير البعباع (8) والسفير الليبي في السعودية حسين بلعون (9) ورئيس أركان الجيش الليبي اللواء نوري الصديق (7) وبشير السني المنتصر وكيل الوزارة لرئاسة مجلس الوزراء (10) الملازم أول محمد أبو مرداس ياور خاص رئيس الوزراء (11)

زيارة السيد محمود المنتصر إلى دول المغرب العربي
في أول ديسمبر 1964 قام السيد محمود المنتصر بزيارة رسمية إلى تونس والمغرب والجزائر على رأس وفد كبير ضم عددًا كبيرًا من الوزراء في أول زيارة رسمية لوفد ليبي على هذا المستوى. ففي تونس كان في استقبال الوفد في المطار رئيس الوزراء السيد الباهي الأدغم والوزراء التونسيين وكبار المسئولين فيها. واستقبل الرئيس بورقيبة الوفد في منزله في قرطاج، وكان بشوشًا كعادته وصريحًا، منتقدًا للسياسة العربية والرؤساء العرب فردًا فردًا، ورح

1:14 PM  
Blogger Bashir Muntasser said...

ورحب بالوفد الليبي وأشاد بالعلاقات المتينة بين البلدين. ولبورقيبة تاريخ طويل مع ليبيا، فقد قضي فيها فترة أثناء كفاحه من أجل استقلال تونس ويعرف كثيرًا من البيوت الليبية، وقد سبق لي أن قابلته على مائدة السيد سالم المنتصر عندما كنت طالبًا في طرابلس في الأربعينات.








بشير السني المنتصر (الأول من اليمين) والسادة حسين مازق (الأول من الشمال) وعبدالله سكتة (في وسط الصورة) وبينهما السيد المنجي سليم على مائدة الرئيس الحبيب بورقيبة تكريمًا لرئيس وزراء ليبيا السيد محمود المنتصر الذي كان يزور تونس في زيارة رسمية على رأس وفد كبير

هذا وبعد المقابلة أدخل الوفد إلى مكتبه الخاص وأطلعهم على صور والده الذي هاجر من مدينة مصراته من ليبيا، وقال إنه تونسي ليبي الأصل، وكذلك السيد الباهي الأدغم رئيس الوزراء، فهو من عائلة باشاغة بمدينة مصراته الليبية، ومن الصدف أن محمود المنتصر هو أيضًا من مصراته، وتلفت الرئيس بورقيبه إلى الوزراء التونسيين حولة، وقال أرجو أن لا تأخذكم الغيرة، فنحن والليبيون أسرة واحدة، ولتونس فضلها عليّ شخصيًا، وحبها لا يدانيه حب. ثم أشار إلى علاقته مع الملك إدريس منذ كانا معًا في المهجر في مصر وإلى الفترة التي قضاها في ليبيا، رغم أن الملك في الفترة الأخيرة لم يكن يشعر نحوه بود قوي بعد استقلال تونس، وقد يكون ذلك لانقلاب بورقيبة على النظام الملكي وطرده للباي من عرش تونس.
كما تعرض الرئيس بورقيبة أثناء مقابلته للوفد الليبي بالنقد للرئيس عبدالناصر وموقفه من بعض البلاد العربية، ومنها ليبيا. وقد أعطى الوشاح الأكبر لرئيس الوزراء الليبي وهدايا من المصنوعات التونسية إلى رئيس وأعضاء الوفد، وأقام مأدبة غذاء فخمة على شرف الوفد، حضرها رئيس وزراء تونس ووزير خارجيتها ورئيس البرلمان التونسي. انتهت الزيارة بعقد اتفاقيات ثقافية وتجارية كالعادة وإصدار بيان مشترك.
ومن تونس سافر الوفد الليبي إلى المغرب، وكان في استقباله رئيس الوزراء المغربي السيد أحمد بحنيني والوزراء. أقام ولي العهد الأمير عبدالله مأدبة عشاء صغيرة على شرف رئيس الوزراء الليبي، كما أقام رئيس الوزراء المغربي مأدبة غذاء على شرف الوفد الليبي. وفي الليل ذهبنا إلى إحدى القصور الملكية لمقابلة الملك، وقد قضينا فترة من الوقت في الانتظار قبل التشرف بالمقابلة، وبعد أن صافح الملك رئيس الوزراء الليبي قام هذا الأخير بتقديم أعضاء الوفد المرافقين له. وبعد أن جلس الملك بضع دقائق مع رئيس الوزراء بمفردهما غادر بعدها القصر، وكانت المقابلة قصيرة عابرة. لم تكن العلاقات بين الملك إدريس ووالد الملك الحسن محمد الخامس على أحسن ما يرام بسبب مرور الملك قبل استقلال ليبيا في رحلته إلى بريطانيا بالمغرب، ومقابلته لمحمد بن عرفه الذي عينته فرنسا على العرش أثناء سجن الملك محمد الخامس ونفيه خارج المغرب.
ورغم أن العلاقات الليبية المغربية بعد الاستقلال لم تكن على ما يرام للأسباب التي ذكرتها، إلا أن العلاقات تحسنت بعد ذلك. وقد استُقبل الملك الحسن أثناء زيارته لليبيا استقبالًا رسميًا وشعبيًا لم يكن يتوقعه، وفي خضم جماهير طرابلس ترك سيارته وترجل في شارع عمر المختار بطرابلس وسار مع عشرات الألوف من الليبيين المتحمسين له، مما أوقع الأمير حسن الرضا ولي عهد ليبيا، الذي كان يرافقه، وكذلك رجال الأمن الليبيين في حيرة.








السيد محمود المنتصر رئيس وزراء ليبيا أثناء وصوله إلى المغرب في زيارة رسمية واستُقبل من طرف رئيس وزراء المغرب السيد أحمد بحنيني والسيد محمد بن هيمة وزير خارجية المغرب ويظهران معه في الصورة كما يظهر معهم بشير المنتصر والقائم بأعمال السفارة الليبية في الرباط السيد محمد هويسة

كان وزير الخارجية المغربي السيد محمد بن هيمة متحمسًا لزيارة الوفد الليبي، وحاول انجاح الزيارة بكل السبل، وشدد في كلامه على التأكيد على الحاجة إلى تقوية العلاقات بين ليبيا والمغرب، خاصة أن كلا منهما دولة ملكية ولهما ظروفًا سياسية مشتركة. وانتهت الزيارة ببيان مشترك يشيد بالعلاقات بين البلدين وتأكيد رغبتهما في عقد اتفاقيات تتناول المجالات التجارية والاقتصادية والثقافية وتبادل الزيارات وتنسيق مواقفهما السياسية، وحاجة ليبيا إلى الاستعانة بالعمال المغاربة في مشاريعها التنموية. وقد صادف موعد سفر الوفد الليبي سفر الملك إلى الخارج، لهذا أخر موعد سفر الوفد الليبي حتى يسافر الملك نتيجة لغلق المطار أمام الطيران لمدة ساعات.
حضر رئيس الوزراء الليبي والوفد المرافق له حفل توديع الملك في المطار وتلطف الملك وأخذ معه رئيس الوزراء الليبي وأخيه الأمير عبدالله للتفتيش على حرس الشرف المعد للملك. وبعد سفر الملك جرت مراسيم توديع الوفد الليبي وشارك في التوديع رئيس الوزراء المغربي والوزراء، وقد تأخر سفر الوفد الليبي إلى الجزائر حتى بعد الغروب. وعلمنا بعد ذلك أن المسئولين الجزائريين قضوا ساعات طويلة في المطار في انتظار الوفد الليبي، وقالوا لنا إن تأخيرنا كان مقصودًا من طرف المسئولين في الحكومة المغربية عندما علموا أن الجزائر أعدت استقبالًا شعبيًا ورسميًا كبيرين وذلك حتى يصل الوفد الليبي الجزائر ليلًا.







بشير السني المنتصر وهو يصافح الملك المغربي الحسن الثاني أثناء زيارة الوفد الليبي برئاسة السيد محمود المنتصر رئيس الوزراء إلى المغرب سنة 1964م

ورغم ما جرى في الرباط من تأخير لسفر الوفد الليبي فقد كان الاستقبال الجزائري منقطع النظير. وكان على رأس المستقبلين الرئيس أحمد بن بلة ونائباه هواري بومدين ومحمد السعيد، وكانت الجماهير على طول الطريق من المطار إلى قصر الشعب تستقبل الوفد الليبي بالزهور والزغاريد. كانت الزيارة أول زيارة يقوم بها وفد ليبي على هذا المستوى والحجم بعد استقلال الجزائر.







الرئيس الجزائري السيد أحمد بن بلة والسيد محمود المنتصر رئيس وزراء ليبيا وأعضاء الوفد الليبي الذي يزور الجزائر زيارة رسمية

كان موقف الشعب الليبي والحكومة الليبية والملك عظيمًا مع الشعب الجزائري
في ثورته ضد الاستعمار الفرنسي. وكانت الأسلحة تمر بيسر برًا وجوًا عن طريق ليبيا
من مصر إلى المجاهدين الجزائريين، كما كانت مساعدات الشعب الليبي، رغم
ضيق إمكانياته، غير محدودة. لهذا كان من المتوقع أن تكون العلاقات بين البلدين على
أعلى مستوى من القوة والترابط، إلا أن عوامل غير معروفة دفعت السيد محمد عثمان الصيد عندما كان رئيسًا للحكومة إلى عدم التعاطف مع الحكومة الجزائرية الجديدة. ويظهر أنه حاول إقناع الملك بأن الرئيس بن بلة يتعاون مع الرئيس عبدالناصر لإثارة القلاقل في ليبيا وتشجيع المعارضة الليبية من أجل السيطرة علي ليبيا وتقاسمها. وقد سانده في هذا الرأي البريطانيون والأمريكيون الذين كانوا غير راضين عن بن بلة وعبدالناصر، فالحكم الاشتراكي الذي قام في الجزائر شبيه بنظام عبدالناصر الذي يناصبونه العداء.
حاول الرئيس بن بلة ونائبيه هواري بومدين ومحمد السعيد استغلال زيارة الوفد الليبي على هذا المستوى لتحسين العلاقات. وقد رافق نائبا الرئيس، السيدان هواري بومدين ومحمد السعيد، الوفد الليبي طوال إقامته في الجزائر وزيارة كل المرافق والمناطق الجزائرية، وأقيمت العديد من الحفلات والمآدب على شرفه. وكان السيدان عبدالعزيز شوشان وعبدالرحمن الشريف، لعلاقاتهما الوثيقة بليبيا في الماضي، يسهران على راحة الوفد، وأذكر أنهما كانا على اتصال بي دائمًا لمعرفة فيما إذا كان لرئيس الوزراء أية طلبات أو خدمات أو إذا كان في حاجة إلى أطباء، لأنهما يعرفان أن حالته الصحية غير مرضية، وهما من أصدقاء أخي الأصغر الهادي السني المنتصر الذي كان عضوًا في لجنة نصرة الثورة الجزائرية خلال حرب الاستقلال.








السيد محمود المنتصر رئيس مجلس الوزراء مع مجموعة من الوزراء والمرافقين أمام قصر الشعب بالجزائر العاصمة
عند بدء المباحثات بين الوفدين الليبي والجزائري تقدم الجزائريون بمشاريع اتفاقيات عديدة لدمج البلدين في تعاون وتقارب وتكامل في جميع المجالات السياسية والعسكرية والأمنية، بالإضافة إلى المجالات الاقتصادية والتجارية والثقافية، مما كان مفاجأة لأعضاء الوفد الليبي الغير مستعدين لهذا الكم الهائل من مشاريع الاتفاقيات ومستوى التعاون المقترح، وكانوا مترددين في قبول كل هذه المقترحات. كان رأي الوفد الليبي أن وقت الزيارة قصير جدًا ولا يستوعب دراسة كل ما تقدم به الوفد الجزائري من اقتراحات، ولهذا اقترح الوفد الليبي أن تحال جميع المقترحات إلى الحكومتين الليبية والجزائرية لإحالتها إلى الجهات المختصة في البلدين لدراستها قبل تناولها في مباحثات قادمة.
وقد أدى هذا الاختلاف في وجهات النظر إلى تدخل الرئيس بن بلة الذي ألقى كلمة في الوفدين المتفاوضين، قائلًا إن الجزائر على استعداد للتوقيع على بياض، وعلى الليبيين وضع ما يريدون من الاتفاقيات وبلا حدود لأنني أعتبر البلدين بلدي، فأنا ليبي كما أني جزائري، وحاضر البلدين واحد ومستقبلهما واحد باتفافيات أو دون اتفاقيات، وطلب من الوفد الجزائري قبول مقترحات الوفد الليبي برمتها دون إضافة من الجانب الجزائري.
وهكذا انتهت المفاوضات بالشكل الدبلوماسي التقليدي وصدر بيان رسمي يرسم الخطوط العريضة للتعاون بين البلدين، كما وقعت معاهدة صداقة بين البلدين. وفي نهاية الزيارة قدمت لأعضاء الوفد الليبي هدايا رمزية من المصنوعات الجزائرية الوطنية اليدوية والبدوية. وغادر الوفد الليبي الجزائر بعظيم الحفاوة، وكان الرئيس بن بلة ونائباه على رأس المودعين، ولا أذكر أن الرئيس بن بلة دعي لزيارة ليبيا كما دعي الملك الحسن.

الدعم الشعبي لثورة الجزائر
وهنا لابد من الإشارة إلى المجهودات التي بذلها الليبيون في دعم ثورة الجزائر في الفترة ما بين 1954 و1962 وعلى رأسهم الشيخ محمود صبحي رئيس لجنة نصرة الثورة الجزائرية، وكذلك السادة الهادي المشيرقي وسعد علي الشريف وأحمد راسم باكير وجميل المبروك ويوسف مادي وسعيد السراج ومحمد بن طاهر، ومختار ناصف، وانضم إليهم عشرات المتطوعين من كافة أنحاء ليبيا، الذين أخذوا على عاتقهم جمع المساعدات المالية والعينية لصالح الثورة الجزائرية.







لقد أفني السيد الهادي المشيرقي، الرحالة ورجل الأعمال المشهور وأحد مؤسسي الحزب الوطني سنة 1944، عمره في خدمة القضايا الوطنية والعربية والإسلامية. وكانت قضية الجزائر قمة عطائه اللامحدود، حتى أنه تعرض لمحاولة اغتيال في ألمانيا في صيف 1960م من قبل منظمة "اليد الحمراء" الفرنسية الإرهابية أثناء مهمة له لصالح الثوار الجزائريين وذلك خلال حرب التحرير الجزائرية، وقد قامت الحكومة الجزائرية بعد الاستقلال بتكريمه عدة مرات. توفي السيد الهادي المشيرقي بطرابلس يوم الأحد 14 أكتوبر 2007م ودفن بالجزائر يوم الخميس 18 أكتوبر 2007 حسب وصيته.






في يونيو 1956 اختير الشيخ أحمد راسم باكير من قبل أهالي مدينة طرابلس لرئاسة لجنة جمع التبرعات للجزائر. وقد قام عدة مرات بمهمة توصيل التبرعات بنفسه إلى المجاهدين الجزائريين، كما زار معسكرات جيش التحرير الوطني الجزائري بتونس. وتقديرًا لمجهوداته قامت الحكومة الجزائرية بعد الاستقلال بتكريمه وتسمية أحد شوارع مدينة الجزائر باسمه. والشيخ باكير والدته جزائرية من عائلة شيخي وهو ابن عم الشيخ الطاهر باكير والي طرابلس السابق ومن كبار المربين الذي اشتغل مدرسًا في مرزق ومصراته وطرابلس منذ أن امتهن التدريس سنة 1933م. وفي سنة 1944م عين إمامًا وخطيبًا بجامع محمد باشا المشهور بشايب العين بسوق الترك بطرابلس، وفي نفس الوقت كان إمامًا لمحلة الظهرة. وفي سنة 1945م بدأ في مزاولة مهنة المحاماة الشرعية وتوفي بطرابلس في 25 نوفمبر 1963م.
ومن الذين ساهموا بقسط وفير السيد أبوبكر محمد البدري الذي قام باحتضان العشرات من أبناء شهداء الثورة الجزائرية والإشراف على تعليمهم وتربيتهم في ليبيا. كما أنه أوصى بثلث تركته من الأملاك إلى أربعة من الأيتام الجزائريين (ثلاث بنات وولد) الذين احتضنهم معه في بيته في طرابلس، وحسب معلوماتي لا زال هؤلاء مقيمين في ليبيا، وقد توفيت منذ فترة إحدى البنات. هذا وقد تبنت السيدة فاطمة أحمد الشريف السنوسي ملكة ليبيا السابقة ابنتها سليمة، وهي يتيمة جزائرية، وذلك تضامنًا منها والملك إدريس مع المجاهدين الجزائريين.

انـتخابـات أكتوبر 1964م
بعد الإعلان عن إجراء الانتخابات واستعداد المعارضة لها، سافر السيد محمود المنتصر للعلاج في لندن، مما تعذر عليه حضور الانتخابات البرلمانية، وعين السيد إبراهيم بن شعبان وزير المواصلات رئيسًا للوزارة بالوكالة، وكان الأستاذ محمود البشتي وزيرًا للداخلية. وكان رئيس الوزراء يتابع الانتخابات من لندن إلى حد ما، وكنت معه في لندن لمساعدته في اتصالاته ومراسلاته المشفرة مع الملك والتي تصل بشكل دوري ويومي. وكان يتصل هاتفيًا بالمسئولين في ليبيا لمعرفة ما يجري، وكان يستلم عشرات من برقيات الاحتجاج يوميًا يشكو فيها مرسلوها من تدخلات في الانتخابات ويطلبون عودته للإشراف بنفسه على الانتخابات.
استدعى رئيس الوزراء وزير الدولة لشئون الرئاسة السيد عمر الباروني، الذي يحظى بثقته، لمعرفة سير الانتخابات عن كثب، وقد أكد السيد الباروني لرئيس الوزراء بأن تصرفات رئيس الوزراء بالوكالة ووزير الداخلية أثارت تساؤلات وشبهات كثيرة، وساعدت على انتشار الإشاعات بتزوير الانتخابات بشكل كبير. وعندئذ استأذن رئيس الوزراء أطبائه في السفر إلى ليبيا ولكن الأطباء أعطوه إنذارًا بعدم السفر، ولهذا حرر رسالة أملاها عليّ شخصيًا شديدة اللهجة إلى السيد إبراهيم بن شعبان رئيس الوزراء بالوكالة، وكان من أقرب أصدقائه، وإلى وزير الداخلية الأستاذ محمود البشتي طالبًا منهما عدم التدخل في الانتخابات وترك المنافسة حرة بين المرشحين وعدم مساندة أحد على الآخر.





السيد إبراهيم بن شعبان الأستاذ محمود البشتي

كان رئيس الوزراء يعرف جيدًا قبل سفره أن الملك كان قد أمر بعدم السماح لنواب المعارضة، الذين أثاروا موضوع إلغاء المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية دخول البرلمان الجديد بأي حال من الأحوال، ولكنه كان يخشى أن يكون رئيس الوزراء بالوكالة ووزير الداخلية قد استعملا هذا التفويض من الملك للتدخل في مزيد من الحالات لمساندة مرشحين آخرين من أنصارهما وأصدقائهما. عاد السيد عمر الباروني بتعليمات رئيس الوزراء إلى طرابلس واستلم رئيس الوزراء ردًا مستعجلًا موقعًا من السيد إبراهيم بن شعبان رئيس الوزراء بالوكالة والأستاذ محمود البشتي وزير الداخلية عن طريق السيد عمر الباروني وزير شئون الرئاسة يؤكدان فيه حرص الحكومة على التقيد بتعليماته متمنين له الشفاء العاجل.
ورغم هذا توالى سيل برقيات الاحتجاج على تدخلات الحكومة من المرشحين، ثم توالت أخبار عن اعتقالات كثيرة وتجاوزات. واضطر رئيس الحكومة إلى الاتصال بالملك هاتفيًا ذاكرًا له عما يسمعه من تدخلات، راجيًا منه أن يصدر تعليماته إلى رئيس الوزراء بالوكالة لوقف مثل هذه التدخلات، كما طلب منه أن يقبل استقالته نظرًا لعدم سماح الأطباء له بالسفر للعودة إلى الوطن نظرًا لظروفه الصحية السيئة. كان رد الملك عليه صدمة لرئيس الوزراء فقد قال له، وأكده بعد ذلك في برقية مشفرة، بأن لا يستمع إلى ما يصله من إشاعات كاذبة أو شكاوى فردية غير صحيحة، وأن الانتخابات تجري بصورة جيدة ومرضية، وأن على رئيس الوزراء الاهتمام بصحته وعدم التفكير في أمور أخرى، وهو، أي الملك، يتابع مجرى الانتخابات عن كثب طوال فترة غيابه، وطلب منه عدم التفكير في الاستقالة الآن، فهذا موضوع يجب أن يبحث بعد عودته.
وأذكر أن السيد محمود المنتصر قال لي بعد ذلك بصفة خاصة أنه يظهر أن الملك يؤيد ما يجري وراض عن ما يتخذ من إجراءات من طرف الحكومة. وكانت علاقتي مع رئيس الوزراء تسمح لي في معظم الأحيان تحليل أوامر الملك وإبداء رأيي فيها بصراحة وانتقاد إجراءات الحكومة، وكان يرى في رأيي انعكاسًا لأراء الشباب المثقف في البلد ويأخذ به أحيانًا. وقد سألته في الأيام الأولى لحكومته سؤالًا مباشرًا عما إذا كان يعني حقًا بما يصرح به من رغبته في إنهاء المعاهدات الأجنبية وجلاء القوات الأجنبية أو أن ما يقوله هو سياسة لإرضاء الشعب وللاستهلاك الداخلي فقال لي:
اسمع يا ابني، أنا لا أكذب عليك ولا على الشعب الليبي. فعندما قبلت تأليف الحكومة للمرة الثانية وأنا في حالة من المرض لا تسمح لي بهذه المسئولية، كنت آمل وأريد إلغاء المعاهدة البريطانية التي وقعتها عن إيمان بحاجة ليبيا إليها، لأن ليبيا كانت أفقر دولة في القارة الإفريقية وغير قادرة على تغطية مصاريفها الإدارية العادية ودفع مرتبات الموظفين والشرطة، ولهذا فحاجتنا المالية أجبرتنا على تأجير القواعد العسكرية لبريطانيا ثم لأمريكا، والآن أشعر بأننا لسنا في حاجة لمد يدنا إلى بضعة ملايين وعندنا عشرات الملايين تنهال علينا من البترول، ولهذا أدعو الله أن يساعدني الملك في التخلص من المعاهدة البريطانية والاتفاقية الأمريكية وجلاء القوات الأجنبية من جميع أنحاء ليبيا، وذلك راحة لضميري أمام الشعب الليبي، وحماية لأبنائي لأن يعيشوا حياتهم دون الشعور بين مواطنيهم بعقدة أن والدهم مهد للأجانب احتلال البلد. هذا رغم أني في قرارة نفسي أعتقد أن بقاء القواعد العسكرية البريطانية والأمريكية في ليبيا فيه حماية لها من جيرانها وممن يتربص بها، حتى تتمكن من إنشاء جيش قوي رادع لمن يعتدي عليها، وأن الإسراع في جلاء القوات الأجنبية قد يعرضها للخطر، ولكنه لا يريد فرض رأيه على الشعب الليبي الذي يصبو إلى الجلاء، ومن واجب الحكومة الديمقراطية تلبية رغبات الشعب مهما كانت مخاطرها، ولهذا فإنه كان مصممًا على اتخاذ هذا القرار مهما كلفه من تضحيات، وكان يدعو الله أن يمكنه الملك من ذلك.
هذا كان رأي محمود المنتصر وموقفه من موضوع الاتفاقيات العسكرية والمعاهدات وجلاء القوات الأجنبية قبل خطاب الرئيس عبدالناصر، لكن الملك لم يسانده إلى النهاية. ونظرًا لثقة الملك في إخلاصه ورغبة في إرضائه وافق على جلاء القوات البريطانية من مدينتي بنغازي وطرابلس، ولكنه أصر على بقاء الحلف مع بريطانيا وبقاء القوات البريطانية في مطار العدم بطبرق وإجراء التدريبات في صحراء برقة وترك الحكومة حرة في التعامل مع أمريكا، فهو يعرف أن الأمريكيين لن يحموه من أي خطر. ذكرت هذا لأن الموضوع مرتبط بمجرى الانتخابات البرلمانية، وقد سألته عما يجري فيها صراحة، فأنا أعرف أنه قبل شروط الملك بعد رجوعه عن الاستقالة بعدم السماح للنواب المعارضين للمعاهدة البريطانية بالعودة للبرلمان بعد حله.
وسؤالي للسيد محمود المنتصر كان هل أصدر أوامره لرئيس الوزراء بالوكالة لتنفيذ ذلك قبل سفره، لأن هذا ما كان يردده السيد إبراهيم بن شعبان رئيس الوزراء بالوكالة، الذي كنت احترمه لأنه صريح دائمًا في آرائه، وهو يكن للسيد محمود المنتصر الاحترام والتقدير. كان جواب السيد محمود المنتصر أن الحالات التي أوصى عليها الملك معروفة وتتناول بعض نواب طرابلس وبنغازي المعروفين ومنعهم من دخول الانتخابات، وكان ذلك يجب أن يتم بطريقة سلمية بالإقناع والترغيب لا بوضعهم في السجن ويمكن مراجعة الملك إذا تعذر ذلك لإعادة النظر في قراره، وليست هذه المرة الأولى التي يقبل فيها الملك تغيير رأيه في أي قرار يتخذه في حالات الغضب.
عاد رئيس الحكومة إلى ليبيا بعد انتهاء علاجه بعد انتهاء الانتخابات وسمع أخبارًا كثيرة عن التدخلات أثناء الانتخابات والاعتقالات، والكل كان يلوم رئيس الوزراء فهو المسئول الأول. وكان رئيس الوزراء مصممًا على حل مجلس النواب المنتخب الذي ضم مجموعة من أصحاب النفوذ ومجموعة قوية على رأسها السيد محمد عثمان الصيد رئيس الوزراء السابق، الذي كان صديقًا للسكرتير الخاص للملك ورجال القصر، ولهذا لما طلب رئيس الوزراء من الملك حل مجلس النواب رفض الملك طلبه ووافقه على تعديل الوزارة وخروج السيدين إبراهيم بن شعبان ومحمود البشتي من الحكومة. وقد طلب السيد محمود المنتصر من الوزيرين تقديم استقالتهما، ونقل وكيل وزارة الداخلية السيد أبوبكر الزليطني إلى الخدمة المدنية وأجرى تنقلات في رجال الأمن. وقد أوضح السيد أبوبكر الزليطني لرئيس الوزراء أنه ليست له أي علاقة بما جرى ولا يريد أن يكون ضحية لما يشاع عن اعتقال المرشحين وتزوير الانتخابات. ويؤخذ على السيد محمود المنتصر إبقاءه على مدير الأمن للمحافظات الغربية الزعيم عبدالحميد بك درنه رغم الإشاعات المتداولة لتدخله في الانتخابات.
بعد التعديل الوزراي واجه السيد محمود المنتصر معارضة قوية في المجلس الجديد، لأن النواب الجدد وقفوا إلى جانب الوزيرين المقالين لما قدماه لهم من مساعدات أثناء الانتخابات، واتهموا رئيس الوزراء بالتهرب من المسئولية ووضعها على غيره، وتعريض سمعة المجلس الجديد للتشويه أمام الشعب. وتزعم هذه المعارضة النائب يونس بلخير وبعض الأعضاء من مجموعة السيد محمد عثمان الصيد وأعضاء وزارته السابقين. وهكذا أخرجت المعارضة الوطنية من مجلس النواب لتحل محلها معارضة مصلحية. وقد أدى ذلك إلى سوء الحالة الصحية لرئيس الوزراء حتى أصبح لا يأتي إلى مكتبه إلا نادرًا، تاركًا العمل لنائبه السيد حسين مازق، الذي كانت ترشحه الإشاعات لرئاسة الحكومة بعده.
وسافر السيد محمود المنتصر بعد تعديل الوزارة للعلاج ونزل في فندق الجراند هوتيل في روما، وقد لاحظت وجود المستر أدريان بيلت مع فريق من الخبراء القانونيين المعروفين، وقد اجتمع بهم رئيس الوزراء ودرس معهم تعديلات دستورية بأمر الملك. وكان الموضوع سريًا، ولم أكن أعرف فحواه، ولكن فهمت هدفه من المراسلات البرقية السرية المشفرة المتبادلة بين الملك ورئيس الحكومة والتي كنت أفتحها وأعدها له، وسأتعرض لهذا الموضوع في الصفحات التالية بالتفصيل.
وخلال إقامتنا في فندق جراند هوتيل بروما اتصل بنا شخص مجهول الهوية وقال إنه يرغب في مقابلة رئيس الوزراء أو أحد مساعديه، ويظهر من لهجته أنه من اليهود المهاجرين من ليبيا، ورفض إعطاء سبب للمقابلة. وبعد التشاور مع رئيس الوزراء وافق على تحديد موعد معه على أن أقابله أنا نيابة عنه. وحددت له موعدًا في نفس اليوم في إحدى المقاهي التي اقترحها. وخلال المقابلة أسر إليّ بأنه علم من مصادر موثوقة بوجود ترتيبات من بعض الليبيين والمرتزقة ودعم السلطات المصرية للقيام بانقلاب على النظام الليبي، وسيصل هؤلاء المرتزقة إلي طرابلس وبنغازي في سفن عن طريق البحر خلال أسابيع، وذكر بعض أسماء وزراء وكبار ضباط جيش سابقين من ضمن المنظمين للحركة. وقد أخبرت رئيس الوزراء بذلك، ولكن اتضح بعد ذلك أنه لا أساس لقصته، وفسرنا ذلك بأنه قد يكون هذا الشخص اليهودي من الموساد جهاز المخابرات الإسرائيلي للفت نظر السلطات الليبية إلى أخطار قيام حركة في ليبيا لصالح مصر الناصرية التي قد تهدد أمن وسلام إسرائيل. وهذه ليست المرة الأولى التي تصلنا مثل هذه الإنذارات باحتمال قيام حركة انقلابية، ولكن يتضح بعد ذلك لدى المخابرات الليبية البدائية البسيطة أنه لا أساس لها من الصحة.
بعد رجوع رئيس الوزراء إلى طرابلس من العلاج وجد مجلس النواب في حالة تحدي لحكومته وله شخصيًا. وأشاع النواب أن رئيس الوزراء استدعى شركة إيطالية لدراسة مشروع الطريق الساحلي وشككوا في الهدف من وراء ذلك، واتهموه بالاتفاق معها لخدمة مصالح إيطاليا في ليبيا. وقد حول عليه الملك برقية شكوى أرسلت إليه من عدد كبير من النواب تتضمن شكوى ضده حول الطريق الساحلي، وقد طلب مني رئيس الوزراء تسليمها إلى السيد حسين مازق الذي كان يقوم بأعمال رئاسة الحكومة خلال غيابه خارج ليبيا من أجل المرض الذي كان يعانيه في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها.
وما أن سمع السيد السنوسي الأطيوش وزير المواصلات آنذاك الإشاعات وفحوى برقية النواب حتى انبرى مدافعًا عن الشركة الإيطالية وموضحًا بأنه لا علاقة لرئيس الوزراء بها. وأنا بدوري لم أكن أعرف شيئا عن تفاصيل الموضوع ولا حتى اسم الشركة، ولم تجر أية اتصالات معها عن طريقي سواء في ليبيا أو أثناء إقامة رئيس الوزراء في روما، رغم أن الإشاعات كانت قوية على مختلف المستويات الرسمية والشعبية. كانت برقية النواب الموجهة للملك ضد رئيس الوزراء هي القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون، إذ اعتبرها رئيس الوزراء مقدمة لسحب الثقة من حكومته، بالإضافة إلى تقدم عدد كبير من النواب بأسئلة واستجوابات عديدة عن سياسة الحكومة العامة وسياستها الزراعية والمشاريع التي فتحت للعطاءات، وطالب البعض منهم بإنشاء لجنة تحقيق مع الحكومة في هذه المواضيع.
وكان السيد سالم القاضي رئيس مجلس النواب المخلص لرئيس الوزراء عاجزًا عن السيطرة على المجلس وإيجاد تفاهم بين الحكومة والمجلس. وكان النائب يونس بلخير يقود حملة المعارضة لأنه ضد السيد علي تامر، الذي له علاقات قوية مع رئيس الوزراء سياسيًا منذ قيام الاستقلال، بينما كان السيد محمد عثمان الصيد يدّعي الوقوف كوسيط بين رئيس الحكومة والنواب، ولكنه في الحقيقة كان المحرك الرئيسي للمعارضة ليضغط على رئيس الوزراء لإدخال بعض أنصاره من النواب في الحكومة. وحتى النواب المعتدلين كانوا يؤيدون المعارضة من وراء ستار لعدم حصولهم على مناصب وزارية أو مزايا مالية، ولهذا قدموا اقتراحات بتعديل لائحة العطاءات المركزية بحيث يسمح لأعضاء مجلس الأمة الاشتراك في العطاءات والمناقصات العامة، الأمر الذي تحرمة اللائحة المعمول بها.
ولكن حكومة محمود المنتصر رفضت هذا الأمر، واشتكى السيد عمر الباروني وزير المالية آنذاك من النواب الذين يتربصون به أمام منزله وفي مكتبه يطلبون قروضًا وسلفيات، وكانوا يتوعدون بتقديم أسئلة واستجوابات له إذا رفض إجابة طلبهم. ولما لم تفد هذه الضغوط على الحكومة حول الشئون المالية لجأ النواب إلى موضوع القواعد العسكرية وجلاء القوات الأجنبية، الموضوع الذي تتحاشاه الحكومة تجنبًا لإثارة الجماهير الشعبية. ولكن النواب أخطأوا في حكمهم هذا لأن تعرضهم لهذا الموضوع الحساس للملك أضعف ثقة الملك فيهم وأصبح في صف رئيس الوزراء ضدهم.
بدأ رئيس الوزراء يفقد الأمل في التعاون مع مجلس النواب، وكانت ترد إليه تقارير أمن الدولة عن تحركات النواب وعن اجتماعات تعقد في بيت السيد محمد عثمان الصيد لتنسيق مواقف المعارضة في المجلس، رغم أن السيد الصيد نفسه يحاول عبثًا الاجتماع برئيس الوزراء بدعوى إزالة الخلاف القائم في مجلس النواب، وهو يدعي دائمًا صداقته لمحمود المنتصر منذ بدء الاستقلال، فقد كان دائمًا وزيرًا للصحة في حكومته الأولى وكان يؤيده علنا في مجلس النواب، إلا أن مساعيه لم تنجح، لأن بعض الوزراء المقربين من رئيس الوزراء كانوا معارضين للسيد محمد عثمان الصيد ومن بينهم السيد عبدالمولى لنقي وكانوا يحرضون رئيس الوزراء عليه.
كان مدير أمن الدولة العقيد عبدالسلام الكتاف كذلك بدوره لا يحمل ودًا للسيد الصيد، وكان يبعث بتقارير باستمرار عن تحركات واتصالات السيد الصيد العديدة بالسكرتير الخاص للملك السيد إدريس بوسيف، الذي يرتبط بالسيد الصيد بصلات قوية منذ كان هذا الأخير رئيسًا للوزراء. وكان السيد إدريس بوسيف ينقل للملك تفاصيل الخلاف بين الحكومة ومجلس النواب وما تصله من أخبار عن تدخلات الحكومة في نشاط النواب وما يتعرضون له من رقابة ومضايقة.
وقد تعرض السيد محمد عثمان الصيد نفسه للرقابة البوليسية وصلت إلى حد دخول بيته ليلًا وتفتيشه من طرف بوليس أمن الدولة وبعثرة محتويات بيته وأوراقه بحثًا عن دليل يثبت تآمره مع النواب ضد الحكومة. ورغم أني لا أعرف مدى صحة هذا الإجراء إلا أني أعرف أن جهاز أمن الدولة كان يتابع نشاط السيد الصيد عن كثب. وأذكر أنه في الأيام الأخيرة لمجلس النواب طلب السيد محمد عثمان الصيد موعدًا مع رئيس الوزراء كالعادة، وقد استطعت الحصول له على موافقة رئيس الوزراء على الموعد، إلا أن رئيس الوزراء طلب مني إلغاء المقابلة بعد مقابلته للنائب عبدالمولى لنقي الذي كان له تأثير كبير عليه ويتقبل نصيحته واقتراحاته.
أما السيد إبراهيم بن شعبان الذي كان عضوًا في مجلس النواب، فرغم إقالته من الحكومة، بقي مخلصًا لمحمود المنتصر، وكان يحاول زيارته باستمرار ويأتى إلى المطار لتوديعه والترحيب به، وكان دائمًا يمر على مكتبي ويقضي وقتًا يمزح معي على صاحبه السيد محمود المنتصر، غير أن رئيس الوزراء غير رأيه في صديقه السيد إبراهيم بن شعبان بعد أن كان من أقرب أصدقائه ولم يعد يتحمل زيارته أو رؤيته على الإطلاق. وكان السيد بن شعبان يردد باستمرار بأنه لم يخن الأمانة، وأنه نفذ تعليمات رئيس الوزراء والملك بكل دقة في الانتخابات التي أجراها في غياب رئيس الوزراء، وكان دائمًا يقول إن مشكلة السيد محمود المنتصر تكمن في صهره السيد عبدالمولى لنقي الذي يستغله ضد خصومه السياسيين.

علاقات السيد محمود المنتصر
حاول السيد محمود المنتصر في أول عهده تعيين الدكتور محي الدين فكيني سفيرًا، وأذكر أنه طلب مني الاتصال به في بيته هاتفيًا وإبلاغه دعوة رئيس الوزراء لمقابلته في مكتبه. وعندما اتصلت بالدكتور فكيني طلب مني أن أعطيه بضع دقائق للرد على دعوة رئيس الوزراء، ويظهر أنه كان يرغب في استشارة أخيه السيد علي فكيني الذي كان له تأثير كبير عليه. وبعد أن اتصلت به ثانية أبلغني بأنه مريض ولا يستطيع الخروج وهو يرحب برئيس الوزراء إذا أراد زيارته في بيته. واعتبر السيد محمود المنتصر رد الدكتور فكيني رفضًا للتعاون معه، ورغم ذلك رشحه ليكون ممثلًا لليبيا في الأمم المتحدة، إلا أن الملك رفض هذا الاقتراح بقوة. وأعتقد أن هذه المحاولات للتقارب مع الدكتور محي الدين فكيني كانت بناء على نصيحة السيد عبدالمولى لنقي لأني أذكر أنه كان مع رئيس الوزراء لما طلب مني الاتصال به للمقابلة.






السيد محمود الخوجة السيد محمد بك درنة الدكتور مصطفى بن زكري

يأخذ خصوم السيد محمود المنتصر عليه تعيين عدد من أصهاره، ففي مجلس الشيوخ عين السيدين محمد علي لنقي والحاج رشيد الكيخيا، وفي الحكومة عين السادة عبدالمولى لنقي ومحمد بك درنة وفؤاد الكعبازي ومنصور كعبار والدكتور مصطفى بن زكري وزراء فيها، كما عين ابنه الدكتور عمر محمود المنتصر سفيرًا لليبيا في بريطانيا والسيد الطاهر القرامانلي سفيرًا لليبيا في اليونان والسيد محمود الخوجة سفيرًا في القاهرة، والعقيد عبدالحميد بك درنة مديرًا للأمن في المحافظات الغربية. وكما قلت فإن كل هؤلاء من عائلات سياسية معروفة ولهم مكانة اجتماعية وسياسية بين المواطنين، وترشيحهم لمناصب سياسية سواء من طرف السيد محمود المنتصر أو من أي رئيس وزراء آخر أمر وارد - وبعضهم كانوا وزراء في حكومات سابقة - لا علاقة له بالمحسوبية كما يدّعي خصوم السيد محمود المنتصر.
يقول البعض إن السيد محمود المنتصر متحيز لفرع السيد أحمد الشريف في العائلة السنوسية، فهو صهر السيد أحمد محي الدين السنوسي، زوج ابنته وابن عم الملكة فاطمة. وأفراد فرع أحمد الشريف كانوا جميعًا في الاعتقال وتحت التحفظ المنزلي منذ أن غضب الملك على عائلته بعد مقتل ناظر خاصته وصديق العمر السيد إبراهيم الشلحي سنة 1954م، أي منذ عشر سنوات. وقد سعى السيد محمود المنتصر مع الملك لرفع هذا التحفظ عليهم والسماح للشباب منهم بالعمل وتعويض بعضهم عما خسروه وإعادة لقب الملكة إلى زوجته فاطمة، وهي ابنة السيد أحمد الشريف، الذي سحبه الملك منها بعد زواجه من السيدة عالية لملوم سنة 1955م والتي طلقت منه بعد زواج دام قرابة تسعة أشهر. كل هذا نسب إلى نفوذ السيد محمود المنتصر عند الملك. وقد أثارت هذه الأعمال غضب ولي العهد الأمير الحسن الرضا اعتقادًا منه أنه يساند أبناء السيد أحمد الشريف لوراثة العرش بعد وفاة الملك.







وقد زاد الطين بله تنحية الملك للسيد الطاهر باكير صهر الأمير من منصبه كسفير ليبيا في القاهرة في عهد حكومة السيد محمود المنتصر وتعيينه سفيرًا تحت الطلب بوزارة الخارجية، وذلك بعد تصريحاته في القاهرة حول القواعد العسكرية الأجنبية في ليبيا التي ذكر فيها أن الملك وولي عهده ضد الاتفاقيات العسكرية مع بريطانيا وأمريكا وضد بقاء القوات العسكرية الأجنبية في ليبيا.
وقد نشرت تصريحات السيد باكير كل وسائل الإعلام المصرية على نطاق واسع ونقلته عنها وسائل الإعلام العربية والعالمية، مما أثار غضب الملك وأمر بسحب السفير باكير من القاهرة دون مراعاة لكونه والد زوجة ولي العهد. وقد جاءت تلك التصريحات عقب تصريحات عبدالناصر حول القواعد العسكرية في ليبيا. وحاول السيد محمود المنتصر إيجاد أعذار للسيد الطاهر باكير عند الملك بأنه أخذ على غرة وهو معروف بالصراحة والاسترسال في التفاصيل، مما جعله يدخل في حديث طويل مع مراسل جريدة الأهرام السيد زكريا نيل وجره هذا إلى الكلام. وقد زادت الصحافة المصرية على ما قاله ولم يكن من المستطاع تعديل ما نشر أو تكذيبه لأن ذلك سيكون له أثر ضار.
لم يستطع السيد محمود المنتصر إقناع الملك لإبقاء السيد الطاهر باكير صهر ولي العهد سفيرًا في القاهرة، فأصدر قرارًا بنقله إلى وزارة الخارجية كسفير تحت الطلب. ورغم ما قام به السيد محمود المنتصر من الدفاع عن السيد الطاهر باكير، إلا أن ولي العهد اعتبر إجراء نقل صهره من تدبير السيد محمود المنتصر ضده ومن ضمن محاولات هذا الأخير لنقل وراثة العرش لعائلة السيد أحمد الشريف أو بإعلان النظام الجمهوري وتوليه هو رئاسة الجمهورية. وكانت هناك أسباب وقرائن لتهم ولي العهد هذه لمحمود المنتصر لما كان يجري في الخفاء بشأن رغبة الملك في تعديل الدستور وإلغاء النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري، وسأتعرض لذلك بالتفصيل في الصفحات التالية.

خلاف الملك إدريس مع عائلته
لقد كان الملك منذ عهد حكومة السيد مصطفى بن حليم (1954-1957م) يفكر في موضوع نظام الحكم في ليبيا بعده. ورغم تعيين ابن أخيه الأصغر الأمير الحسن الرضا وليًا للعهد، إلا أنه كان غير مؤمن بصلاحيته وغير متحمس لفكرة ولايته للعهد، لأنه يعتقد بأنه سيعيد العائلة السنوسية إذا تولى الملك إلى مكانتها في الدولة، والملك يحمل لهم جميعًا بغضًا دفينًا. ورغم وجود أسباب ترجع إلى خلاف حول من هو صاحب الحق في
تولي زعامة الحركة السنوسية بعد وفاة الملك إدريس، إلا أن وصول الخلاف إلى درجة حرمان العائلة السنوسية بكاملها من زعامتها التاريخية للحركة السنوسية التي أسسها جدهم الأكبر السيد محمد بن علي السنوسي الكبير منذ أكثر من قرن كان شيئًا يصعب تفسيره.
ويرجع الخلاف إلى أيام الكفاح ضد إيطاليا. فبعد وفاة السيد المهدي الشريف السنوسي سنة 1902، والد السيد إدريس السنوسي، كان عمر هذا الأخير لا يزيد على 12 سنة، ولهذا قرر الإخوان السنوسيون، كما كانوا يسمون، أن يتولى السيد أحمد الشريف السنوسي ابن عم إدريس رئاسة الإخوان بصفة وكالة عنه حتى يبلغ السيد إدريس سن الرشد، وتولى السيد إدريس رئاسة الإخوان سنة 1916 وسافر ابن عمه السيد أحمد الشريف إلى تركيا سنة 1918 بعد خلاف بينهما حول توسيع الحرب ضد البريطانيين في مصر الأمر الذي عارضه السيد إدريس.
وقد اقترح السيد أحمد الشريف على السيد إدريس تعيين ابنه السيد العربي خليفة له بعد وفاته أو تنحيه عن منصبه. وعد السيد إدريس هذا، تمسك به أبناء السيد أحمد الشريف حتى بعد استقلال ليبيا، ولكن الملك عندما تولى العرش عين أخاه السيد محمد الرضا وليًا للعهد بحجة أن وعده للسيد أحمد الشريف كان على زعامة السنوسيين فهو لم يكن ملكًا في ذلك الحين وصفته كملك صفة جديدة. وبعد وفاة أخيه اختار الملك السيد الحسن الرضا ابن أخيه الأصغر وليًا للعهد. وازدادت العداوة بين الملك وعائلته بعد إقدام محمد محي الدين السنوسي حفيد أحمد الشريف على اغتيال السيد إبراهيم الشلحي ناظر الخاصة الملكية وصديق الملك إدريس منذ الطفولة في بنغازي سنة 1954م.

خيارات الملك إدريس بين النظام الملكي والجمهوري
بدأ الملك يفكر في ولاية عهده، فهو يخاف أن تنتقل رئاسة ليبيا إلى طرابلس إذا ألغى النظام الملكي وأعلن نظامًا جمهوريًا منتخبًا، وهو حريص على أن يكون دور برقة مساويًا على الأقل لدور طرابلس في حكم ليبيا، رغم الفرق الشاسع في عدد السكان. وفي نفس الوقت لم يكن مقتنعًا بابن أخيه السيد الحسن الرضا، الذى قد لا يستطيع السيطرة على الوضع، وقد يقع تحت نفوذ العائلة إذا تولى الملك، ويخاف على مستقبل أبناء الشلحي بعد وفاته، فالعداوة بينهم وبين العائلة السنوسية أصبحت تحصيل حاصل.
وكان أولاد الشلحي لا يتعاملون مع الملكة وولي العهد، رغم أنهم كانوا يدخلون القصر الملكي دون استئذان، ويتمتعون بالنفوذ والسلطة في القصر ومع الحكومة. وزاد هذا الوضع تعقيدًا بعد وفاة السيد البوصيري الشلحي، الذي خلف والده في منصب ناظر الخاصة الملكية، في حادث سيارة مريع في أبريل 1964م. ولا أحد يصدق كيف استطاع الملك أن يجمع الأعداء حوله. وقد خلق أبناء الشلحي مشاكل لمعظم رؤساء الحكومات، فالعقيد عبدالعزيز الشلحي كان له نفوذ كبير في الجيش الليبي، وكان أخوه السيد عمر مستشار الملك المقرب، وحتى أرملة إبراهيم الشلحي وبناتها وأزواجهن كانوا يتمتعون بامتيازات ومكانة خاصة ولا يرد لهم طلب عند الملك.
هذا التناقض في علاقة الملك إدريس مع عائلته وحاشيته انعكس في تصرفاته في الحكم. وكان يؤمن بالأسلوب القديم في الحكم (فرق تسد). فلم يجعل حدًا للخلاف بين رؤساء حكومته والخاصة الملكية وتحديدًا في عهد السيد إبراهيم الشلحي رئيس خاصته الملكية ومن بعده ابنه البوصيري. وكان كثيًرا ما يحاول تعيين مسئولين لا يتفقون مع رؤساء حكوماته في بعض الوظائف الهامة للحد من سلطاتهم وخلق بعض المشاكل لهم، وقد يهملهم بعد عزلهم أو استقالتهم ويأتي بخصومهم إلى الحكم. ولو كان النظام ديمقراطيًا ويتم هذا التغيير في المناصب بتغير الحكومات نتيجة انتخابات حرة لكان الأمر مقبولًا. ولم يعد أحد يعرف من هو صديق النظام ومن هو عدوه، وهذا ينطبق على الوزراء والسفراء وكبار الموظفين وكبار ضباط الأمن والجيش. وهذا الوضع على ما أعتقد جعل كل هؤلاء غير مهتمين بالتمسك بالنظام الملكي أو الدفاع عنه والكل تفرغ لشئونه وحياته وعائلته وكان الكل ينتقد ما يجري. وكان نقد النظام في المكاتب الحكومية يتم على أعلى مستوى في الدولة، بما في ذلك انتقاد الملك وسياسة الحكومة بكل صراحة ودون خوف، مما يجعل زوار كبار المسئولين يستغربون ولا يصدقون ما يسمعون.

تـعديـل الدسـتور
أشرت في الصفحات السابقة عن فتور العلاقة بين السيد محمود المنتصر وولي العهد، والقرائن المصاحبة لها التي عززت من مخاوف ولي العهد. وأذكر أن الملك طلب من المستر أدريان بيلت عن طريق السيد محمود المنتصر عندما كان رئيسًا للحكومة في سنة 1964 إعداد دراسة قانونية عن تعديل الدستور الليبي. وقد سافر فعلًا رئيس الوزراء إلى روما واجتمع في الجراند هوتيل بالمستر بيلت والمستر زولفيجر وبآخرين لدراسة الموضوع. كما أن المستر بيلت جاء إلى طبرق ومعه بعض المستشاريين للتشاور مع الملك والحصول على محاضر الجمعية الوطنية التأسيسية (لجنة الستين) التي ترجمت إلى اللغة الإنجليزية بواسطة اثنين من أساتذة اللغة العربية بجامعة كمبريدج البريطانية هما فرانك ستيوارت وديفيد جاكسون.
وفي سنة 1965م بعد تعيين السيد محمود المنتصر رئيسًا للديوان، وعندما كنت في إجازة في لندن، وصلتني برقية منه وطلب مني المرور في طريق عودتي بجنيف والاتصال بالمستر أدريان بيلت وإحضار مظروف هام وسري منه. وفعلًا غادرت لندن إلى جنيف واتصلت بالمستر أدريان بيلت ودعاني إلى غذاء في مطعم جميل على بحيرة جنيف "الليمان"، وسلمني بعد الغذاء مظروفًا مغلقًا بالشمع الأحمر ومختومًا حرصًا على سريته وموجهًا للسيد محمود المنتصر.
كانت مقابلتي للمستر بيلت فرصة لي للتحدث معه حول ليبيا والملك، فقد كان من أعلم الناس بتطورات الدستور الليبي وإجراءات نقل السلطات من الإدارتين البريطانية والفرنسية إلى الحكومة الليبية، وتصرفات الملك في تلك الفترة، وعدم استقرار البلاد في الفترة الأخيرة. وأذكر أنه وثق بي جدًا وتكلم معي بصراحة العالم المجرد المحايد قائلًا إن مشكلة ليبيا الحقيقية هي أن الملك ليس على دراية بعلم وفن إدارة الحكم الحديثة وليست له خبرة في هذا المجال، وهو يحكم بعقلية قديمة، ويظهر أنه قرأها في كتب التاريخ العربي ويريد تطبيقها في القرن العشرين. ولهذا يعتقد الملك أن الوزراء يستطيعون تسيير أمور الدولة من مكاتبهم بمدينة البيضاء عن طريق الهاتف دون وجود مستشاريهم وموظفيهم واللجان المتخصصة التي تقوم بالدراسات حولهم في مراحل اتخاذ القرار كما تقتضي الإدارة الحديثة، فالوزير لم يعد ذلك الشخص الذي ينفذ أوامر الملك بدون مناقشة كما كان عليه الحال في الماضي.
كما أن الملك لم يؤمن بالحكم الديمقراطي وصلاحيات البرلمان ومدى أهمية قراراته في شئون الدولة وسلطاته التي تعلو السلطات الدستورية للملك والحكوم،. كما أنه لا يؤمن بمبدأ توزيع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكان يجب أن يتم تعيينه للحكومة بعد استشارته لمجلس النواب والكتل النيابية، ويجب على الحكومة الحصول على ثقة البرلمان قبل مباشرة مهامها. كل هذه المتطلبات موجودة في الدستور الليبي الحالي الذي يعتبر من أحدث الدساتير في العالم، وأضاف المستر بيلت، أن أي تعديل للدستور الحالي لن يخرج عن هذا الإطار الدستوري.
وفي نهاية محاضرته لي أعرب عن سروره باستعانة الساسة القدامى بالشباب المتعلم لتسيير أمور الإدارة والاستفادة منهم في الأمور الفنية التي تحتاج إلى علم ودراية يفتقدها الجيل القديم. هذا وقد شكرته على ضيافته والغذاء في هذا المطعم الجميل، وعلى معلوماته القيمة وتحليلاته الدقيقة للأوضاع في ليبيا، وعلى نصائحه الثمينة التي استمعت إليها بكل اهتمام، وودعته وعدت إلى طرابلس وسلمت المظروف إلى السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي. كنت أنوي قضاء يومين مع العائلة قبل السفر إلى البيضاء لمباشرة عملي، ولكن السيد محمود المنتصر طلب مني البقاء في طرابلس لمهمة أخرى وأخبر السيد حسين مازق الذي وافق على ذلك، وهذا موضوع آخر سأتعرض له في غير هذا المكان.

استقالة حكومة السيد محمود المنتصر الثانية
استدعى الملك رئيس وزرائه السيد محمود المنتصر لتأليف حكومتة الثانية بعد مواجهته لأصعب أزمة داخلية في عهد الدكتور محي الدين فكيني اعتقادًا منه أنه الشخص الوحيد الذي يمكن أن يرجع الأمور إلى نصابها، إلا أن ثقته به أخذت تضعف مع مرور الوقت، فلم يعد السيد محمود المنتصر في رأيه السياسي القوي الصارم الشجاع الذي قاد البلاد في سنواتها الأولى للاستقلال ووطد دعائم الحكم والعرش في ليبيا بيد من حديد. فقد أصبح مترددًا بين أصدقائه الساسة القدامى الذين جاء بهم عندما ألف الوزارة والوزراء الشباب الذين أتى بهم لتسيير شئون الحكم التي زادت تعقيدًا فنيًا وعمليًا.
كما أن سياسة محمود المنتصر القديمة وصداقته وعلاقاته مع البريطانيين أصبحت موضع شك وأصبح ميالًا إلى مجاراة الموجة الوطنية العربية التي يتزعمها الرئيس عبدالناصر وما في ذلك من خطورة على استقلال ليبيا. كما أن البريطانيين والأمريكيين توقعوا ذلك حال قدومه إلى الحكم في سنة 1964م، وقد تجلى ذلك في تقارير السفير البريطاني التي نشرت أخيرًا، وفي ما يلي أورد ملخصًا لما كتبه السفير البريطاني في هذه التقارير.
لقد أوضح السفير البريطاني السير رودريك ساريل في تقاريره العديدة حول هذا الموضوع شكه في حكمة الملك وراء اختياره لمحمود المنتصر رئيسًا للحكومة في تلك الفترة العصيبة التي تمر بها البلاد. وازداد هذا الشك عندما جاء السيد محمود المنتصر بتلك التشكيلة الوزارية من كبار السن الذين فاتهم القطار بعد تطور شئون الحكم في ليبيا، وقد نصح السفير البريطاني حكومته قائلا: "إن الصديق القديم السيد محمود المنتصر الذي تعرفه بريطانيا سنة 1952م ليس هو السيد محمود المنتصر اليوم سنة 1964م، ولهذا يجب أن تكون الحكومة البريطانية حذرة ومدعوة إلى تفكير جديد حول سياسة بريطانيا نحو ليبيا في المستقبل، ورغم أن قدوم المنتصر إلى الحكم يمثل نصرًا للمحافظين في ليبيا، إلا أن انتشار الشعور القومي بين الشعب وتدخل الرئيس عبدالناصر ضد القواعد العسكرية حوّل ميزان القوى في صالح التيار الناصري في البلاد. وقد واجه المنتصر خيارًا صعبًا بين السير مع التيار الناصري أو استعمال القوة، ويظهر أنه اختار الطريق الأول، مما جعله يندفع إلى الدخول في مفاوضات مع بريطانيا ومع الأمريكيين لتصفية جميع القواعد العسكرية الأجنبية والجلاء الكامل للقوات البريطانية من جميع ليبيا، بما فيها مطار العدم بطبرق والقوات الأمريكية من مطار الملاحة، رغم ما في ذلك من خطورة على أمن ليبيا من جيرانها مصر والجزائر، واستطاع أن يقنع الملك باتخاذ هذه السياسة".
ورغم أن الملك كما أكد للسفير البريطاني وللسفير الأمريكي لم يكن منزعجًا مما يفكر فيه السيد المنتصر، بل كان يرى سياسته نهجًا لتهدئة الرأي العام الليبي، وأنها لن تمس التحالف الليبي البريطاني أو الأمريكي وستقتصر على إعادة توزيع القوات الأجنبية وإبعادها عن المدن الكبيرة المزدحمة بالسكان كطرابلس وبنغازي. إلا أن السفير البريطاني واصل انتقاده لسياسة المنتصر في نهاية سنة 1964م في تقاريره العديدة قائلًا: "إذا استعرضت أحداث سنة 1964م فيمكن الجزم بأن تصرفات محمود المنتصر وحسين مازق لم تكن سليمة أو مخلصة". لقد وردت في تقارير السفير العديدة السابقة عن مقابلاته مع محمود المنتصر بالذات بأنه لم يتخذ أي إجراء لكبح القدر الهائل من الحملة الصحفية ضد القواعد والمعاهدات العسكرية، ولم يقتصر عمله بعدم اتخاذ إجراء في هذا الشأن، بل سعى سرًا إلى تشجيع الحملة الإعلامية لإضعاف أية معارضة من الملك لتغيير سياسته المعروفة.
كان السفير البريطاني يعتقد جازمًا أن دوافع المنتصر التي يصعب فهمها هي حرصه على سمعته وسمعة عائلته المنتشرة في كل فروع الحكومة، وقراره أن الوقت قد حان لإزالة ما يعتقده أنها وصمة عار لتوقيعه المعاهدة البريطانية والسماح بالقواعد العسكرية في ليبيا، وذلك تمهيدًا للسير في ركاب الخط القومي المصري الذي يتزعمه عبدالناصر ضد النفوذ البريطاني والغربي في المنطقة العربية، وأصبح متأكدًا من عدم قدرة بريطانيا حماية ليبيا من أية محاولة قد يقوم بها أنصار الرئيس عبدالناصر للسيطرة على ليبيا قبل أو
بعد وفاة الملك، ولهذا أخذ يبالغ للملك خطورة مظاهرات الطلبة رغم قلة عددها وتأثيرها الشعبي.
وفي موقف الملك من سياسة المنتصر هذه يرى السفير البريطاني: "بناء على مقابلاته العديدة هو والسفير الأمريكي للملك، أن الملك رغم قبوله للخطوات التي ترمي إلى جلاء القوات الأجنبية من المدن الرئيسية كطرابلس وبنغازي تمشيًا مع رغبات جماهير الشعب، إلا أنه كان غير موافق على إلغاء الحلف الليبي البريطاني الوارد في المعاهدة أو جلاء القوات البريطانية عن مطار العدم في طبرق حيث يقيم إقامة دائمة. وقد أيقن أخيرًا أن الأمور أصبحت تتطور وأن مجلس الأمة تمادى في قراراته ضد السياسة المعتدلة التي يرى السير فيها، كما أن الحكومة سارت على طول الخط مع المجلس، مما جعله يشعر بالخطر على فقدان السيطرة على الوضع وقرر في قرارة نفسه السيطرة على الوضع، وقراره الأخير بالاستقالة يعتبر بداية ضغطه على الحكومة لتغيير سياستها بشأن القواعد والمعاهدات، رغم أنه لم يعلن ذلك صراحة تمشيًا مع سياسته في عدم إظهار معارضة علنية لحكوماته".

المنتصر يترك الحكومة إلى الديوان الملكي
بهذا العرض المبسط لمجرى الأمور في أواخر عهد حكومة السيد محمود المنتصر وبعد حل مجلس النواب واشتداد حملة الساسة المعارضين له، والتي كان يصل صداها إلى الملك عن طريق سكرتيره الخاص، وتكرر شكوى زعماء برقة وقبائل البيضاء بنقل السيد محمود المنتصر للحكومة من البيضاء واستقرارها في طرابلس، مما أثر في الحالة الاقتصادية وساعد على نقص مشاريع الإنشاء والتعمير في المنطقة الشرقية. وفي آخر مقابلة للسيد محمود المنتصر للملك في 20 مارس 1965م ذكره هذا الأخير بظروفه الصحية وكثرة المشاكل التي سيواجهها وحاجته إلى الراحة، واقترح عليه تقديم استقالته وتكليف حسين مازق بتأليف الحكومة الجديدة بدون تغيير في أعضائها، وتعيينه هو، أي السيد محمود المنتصر، رئيسًا للديوان الملكي ليكون إلى جانب الملك ويتفرغ للعناية بصحته.
وأذكر أن محمود المنتصر لم يأت إلى طبرق لمقابلة الملك من أجل الاستقالة، بل كان يحمل تعديلًا لحكومته وإدخال المزيد من الوزراء الشباب، والبحث مع الملك في شئون التنمية وتحسين المرافق العامة في البلاد للإعلان عن سياسة الحكومة استعدادًا للانتخابات القادمة، وتبادل الرأي مع الملك حول السياسة التي ستتبع في هذه الانتخابات. وبعد أن خرج السيد محمود المنتصر من الملك بعد تناول الغذاء معه كالعادة قال لي بأنه سينام وبعد ذلك يريدني لأمر هام، وقد شعرت بأن أمرًا هامًا قد حصل وأن رئيس الوزراء كان يشعر بعدم الاكتراث بما جاء من أجله.
وجدت السيد محمود المنتصر بعد الظهر مستريح البال لا تظهر عليه الحالة العصبية التي تلازمه طوال انشغاله بالأحداث ونظر إلي مبتسمًا يريد أن يعرف ماذا يجول بخاطري. ثم قال لي: "تعرف حالتي الصحية ليست على ما يرام والبلاد تمر بمرحلة انتخابات نيابية ثانية والظروف لا زالت هي الظروف التي جرت فيها الانتخابات الأولى، وقد درست كل ذلك مع الملك اليوم بصراحة، وقد تفضل واقترح عليّ تقديم استقالتي محافظة على صحتي وتكليف السيد حسين مازق بتأليف الحكومة الجديدة لإجراء الانتخابات على أن تتألف من نفس الوزراء الحاليين، وأن الملك يريدني إلى جانبه في طبرق وسيعينني رئيسًا للديوان الملكي بدلًا من الدكتور علي الساحلي، وأريد الآن أن أكتب استقالتي لتقديمها إلى الملك رسميًا الساعة السادسة". ثم أملى عليّ استقالته التى تشير إلى حالته الصحية والظروف الصعبة التي مرت بها البلاد خلال فترة حكومته، شاكرًا للملك دعمه ومساندته له للتغلب على كل الصعاب، راجيًا منه إعفاءه من رئاسة الحكومة وقبول استقالته وداعيًا له بطول العمر والسداد في رعاية شعبه وتحقيق أمانيه في الأمن والرفاهية والسعادة.
هذا وقد كتبت نسخة نظيفة بخط يدي وقعها رئيس الوزراء ووضعها في ظرف وأخذها معه لمقابلة الملك وتناول شاي المساء معه كالعادة عندما يكون في طبرق. وبعد حوالي ساعة من الزمن عاد وقال لي: "الاستقالة قبلت وقد اتصلت بالسيد حسين مازق وأبلغته بالقرار بحضور الملك، وقد دعي للحضور إلى طبرق غدًا صباحًا لحلف اليمين". وهكذا أخذنا السيارة من طبرق إلي البيضاء، حيث قضى السيد محمود المنتصر فيها ليلته وجمع فيها أوراقه الخاصة من مكتبه وبيته وسافر إلى طرابلس صباح اليوم التالي وقد ودعته في البيضاء. وقد أثار معي وضعي الوظيفي بعد استقالته وأكد لي بأنه سيعمل مع السيد حسين مازق إلى إرجاعي إلى وزارة الخارجية إذا أراد تعيين شخص آخر في منصبي، وأنه يعتقد بأن السيد حسين مازق لن يتأخر، فقد أسدى له خدمة كبيرة وأقنع الملك بإرجاعه إلى الحكومة بعد أن كان مغضوبًا عليه، كما عينه نائبًا للرئيس ليخلفه في رئاسة الحكومة، وهذا ما تم فعلًا.
ورغم أني كنت أعرف السيد حسين مازق منذ كان واليًا على برقة عن طريق اتصالاته المستمرة برؤساء الحكومات، إلا أني لا أعرفه معرفة شخصية تجعلني محل ثقته والمشرف على شئون مكتبه كوكيل شئون رئاسة مجلس الوزراء، ولكنني ذكرته بقصة حصلت في بنغازي سنة 1958م عندما كنت سكرتيرًا خاصًا لرئيس الوزراء السيد عبدالمجيد كعبار، وكان السيد حسين مازق آنذاك واليًا على برقة. فقد كنا نحضر محاضرة لعميد كلية الاقتصاد في الجامعة الليبية، وهو مصري، عن الصناعة البترولية، وتعرض المحاضر إلى عوامل الإنتاج وذكر أنها تنحصر في العمل والمصادر الأولية فقط وليبيا تملكها وهي وجهة نظر شيوعية التي لا تعترف بأي دور لرأسمال كعامل للإنتاج. كنت حديث التخرج من الجامعة في كلية التجارة والاقتصاد وعلقت على المحاضر قائلًا بأن المحاضر أغفل عاملًا هامًا للإنتاج وهو الرأسمال، وخاصة في بلد فقير مثل ليبيا، كما يوجد عامل آخر للإنتاج مهم جدًا لا تملكه ليبيا وهو عامل التكنولوجيا والإدارة التي لا بد من توفرها للإنتاج.
لاقى تعليقي إعجاب الحاضرين الليبيين وساد هرج ومرج، ولم يلق تعليقي ترحيب هيئة التدريس المصرية، ولكن الليبيين شعروا بالفخر لوجود ليبي متعلم يستطيع مناقشة الأساتذة المصريين وأقبلوا عليّ يهنئوني على تعليقي، وكان من بينهم السيد حسين مازق والي برقة قبل أن أعرفه. وهذه المناسبة جعلت عميد كلية الاقتصاد بالجامعة الليبية آنذاك يعرض عليّ الانتساب إلى هيئة التدريس في الجامعة الليبية بعد أن عرف أني كنت أول دفعتي في كلية التجارة جامعة القاهرة لإرسالي إلى بريطانيا للحصول على درجة الماجستير والدكتوراه أعود بعدها للتدريس في الجامعة الليبية. ولكنني رفضت لأني كنت أسعى للذهاب إلى بريطانيا للعمل في السفارة الليبية هناك والانتساب إلى الجامعة في لندن في نفس الوقت، وهذا ما تم فعلًا كما ذكرت في الفصل الأول.
في اليوم التالي صدر المرسوم الملكي باستقالة السيد محمود المنتصر وتعيين السيد حسين مازق رئيسًا للحكومة التي بقيت بدون تغيير سوى تعيين الدكتور وهبي البوري وزيرًا للخارجية ليخلف السيد حسين مازق. وعلمت من السيد محمود المنتصر بعد ذلك أن السيد حسين مازق اقترح تعيين ابنه الدكتور عمر المنتصر السفير الليبي في لندن وزيرًا للخارجية، إلا أن الملك كان يعرف أن الدكتور عمر كان مرتاحًا في لندن ولا يرغب في العودة للوزارة، ولهذا رفض اقتراح مازق الذي اقترح السيد وهبي البوري بدلًا منه. وأعتقد أن السيد حسين مازق كان يريد نقل الدكتور عمر المنتصر من سفارة لندن الهامة لتعيين شخص يثق به لا ينقل أسرار اتصالاته مع الحكومة البريطانية إلى أحد غيره. وكان السيد محمد عبدالسلام الغماري وهو صديق للسيد حسين مازق يسعى إلى منصب السفير في لندن ولم يستطع إقناع الملك برغبتة هذه رغم جهود عائلة الشلحي، وهو أحد أعضائها، لأن الملكة فاطمة كانت تدعم الدكتور عمر المنتصر وتريد بقاءه في لندن، وقد سمعت هذا من السيد محمد عبدالسلام الغماري شخصيًا في مكتبي محتجًا.
وهكذا لازم السيد محمود المنتصر بيته بعد استقالته، واحتفل خصومه السياسيون بخروجه من الحكومة. ورجع السيد حسين مازق إلى البيضاء وطلب مني ومن الجميع بمن فيهم الياور الخاص وسائق رئيس الوزراء السابق، وكانا من شرطة أمن الدولة بطرابلس، البقاء في مناصبهم والاستمرار في العمل كما كان في عهد حكومة السيد محمود المنتصر. وأذكر أني كنت بعد أسبوع أو أكثر أتكلم مع السيد محمود المنتصر على الهاتف وخطر لي أن أسأله عما تم في اقتراح الملك بتعيينه رئيسا للديوان الملكي، فقال لي إنه لم يسمع من الملك شيئًا منذ يوم استقالته وربما يكون قد غير رأيه، لأنه كان من المفروض أن يصدر أمر التعيين مع مراسيم الوزارة الجديدة ولكن ذلك لم يحصل. وبعد أيام معدودة صدر الأمر بتعيينه رئيسًا للديوان الملكي وجاء إلى طبرق وتسلم منصبه، وكان خصومه السياسيين يتمنون إبعاده وبقاءه في التقاعد بعيدًا عن السلطة والملك.
وفاجأني السيد محمود المنتصر بعد ذلك بأنه استأذن الملك ووافق على انتدابي إلى الديوان لأكون رئيس مكتب رئيس الديوان بدرجة وكيل وزارة وهي في مستوى وكيل الديوان الملكي ورئيس التشريفات الملكية، وأنه كلم رئيس الوزراء السيد حسين مازق في الموضوع فوافق على انتدابي. ترددت في الموضوع وطلبت من رئيس الديوان إعطائي فرصة للتفكير، فطلب مني أخذ إذن من السيد حسين مازق والقدوم إلى طبرق لبحث الموضوع معًا. وعندما تكلمت مع السيد حسين مازق وجدته مرحبًا بالفكرة وشجعني على قبول عرض رئيس الديوان لأنه يحتاج إليّ لمساعدته ومن واجب الجميع مساعدته كما قال فهو أب للجميع وقدم خدمات لليبيا تستحق التقدير.
وفعلًا سافرت إلى طبرق وسرعان ما انتشر الخبر. وحال وصولي استُقبلت ببرود من السكرتير الخاص ورجال القصر، فدرجتي تعطيني مكانًا هامًا بينهم ولم يكن مثل هذا المنصب موجودًا في القصر، وكان عدد رجال الحاشية محدودًا وكلهم من برقة. وقد أمر رئيس الديوان بتخصيص بيت الدكتور علي الساحلي رئيس الديوان السابق لي، لأن الملك أعطاه هو أحد القصور للإقامة فيه، وقد زاد هذا من حسد الحاسدين. ومن اليوم الأول شعرت بجو غير عادي ورقابة وتنصّت على اجتماعاتي برئيس الديوان، كما أني لم أكن راغبًا في العمل في الديوان الملكي لأن الوظيفة ليست فيها مسئولية، ومجال العمل فيها محدودًا لا يتمشى ومؤهلاتي وطموحاتي الأكاديمية. ولم يكن لي أي طموح سياسي لاستغلال القرب من الملك للحصول على مكاسب سياسية، بل كنت أتوق للرجوع إلى عملي في وزارة الخارجية والعمل في السفارات بالخارج.
وبعد تفكير طويل صارحت السيد محمود المنتصر رئيس الديوان بأني لا أستطيع العمل في هذا الجو الخانق لأن حياة القصور تحتاج إلى نوعية من البشر لست منهم وليس هناك ما يشجعني على العمل فيها. وقد حاول رئيس الديوان إقناعي بأن وجودي في القصر مهم جدًا، ورغم عدم وجود اختصاصات مكتوبة للوظيفة، إلا أني أستطيع خلق اختصاصات لها، فسأكون قريبًا من الملك والملكة وسيكلفانني بمهام كثيرة داخل وخارج ليبيا، خاصة أنهما كانا يكلفان بها الأجانب من عمال القصر والأصدقاء الأجانب، لأنه ليس هناك من له خبرة في الديوان الملكي في طبرق للقيام بمثل هذه الأعمال، ولهذا فسيعتمدان عليّ وعلى خبرتي في السفر والعمل في الخارج وقد تسند لي مهام أخرى، وهذا صحيح، ولكنني كنت مصممًا على رفض العرض، رغم هذا الترغيب ورغم خطورة رفضي للعمل في الديوان وإحراجي للسيد محمود المنتصر الذي اقترح انتدابي وشاور الملك في هذا الأمر وحصل على موافقته، وليس من عادة الملك قبول رفض من يكلفه بمهمة رسمية.
وبعد نقاش طويل قبل رئيس الديوان اعتذاري لما يعرفه عني من تقدير للأمور
ولا يريد فرض واقع عليّ لا أرتضيه، وطلب مني ترشيح شخص لمساعدته في الديوان كرئيس مكتب أو سكرتير. فرشحت له السيد الشيخ عبدالغني وهو سوداني الجنسية، وقد عين في رئاسة مجلس الوزراء كمترجم ومحرر وأثق به كثيرًا. وقلت له لأنه أجنبي فلن يثير حسد أو معارضة من رجال الحاشية، ولن يزاحمهم على حظوة عند الملك، وهو قدير في تحرير المراسلات والترجمة والاتصالات برجال الدولة ويعتبر عندنا كليبي نظرًا لأخلاقه العالية وللمدة الطويلة التي قضاها في ليبيا. وفعلًا أخذت سيارتي وعدت إلى البيضاء وكنت في غاية الإحراج لرفضي عرض السيد محمود المنتصر وما يترتب عن هذا من إحراج له.
وعندما أخبرت السيد حسين مازق بما تم استغرب قراري برفض الانتداب، ويظهر أنه وجد انتدابي فرصة لتعيين وكيل وزارة لشئون الرئاسة يعرفه ويثق به، وأعتقد أنه كان يفكر في السيد حسين الغناي، إلا أنه كان مترددًا، لأن وجود السيد حسين الغناي كوكيل لوزارة الخارجية قد يكون أكثر فائدة له لمعرفة ما يجري في الخارجية، ولكن الوضع تغير بعد رفضي الانتقال إلى الديوان. وقد صارحت السيد مازق حال رجوعي بأن العرف جرى على تغيير جهاز الرئاسة بعد تغيير رئيس الوزراء، وأني لن أشعر بعدم الرضا إذا تقرر نقلي إلى أية جهة أخرى في الدولة، وذكرته بأني جئت لرئاسة الوزراء على أساس انتداب مؤقت من وزارة الخارجية لأعود بعد ذلك إلى وزارة الخارجية.
وقد تطورت الأمور ورقيت إلى وظيفة وكيل وزارة في الخدمة المدنية وهي وظيفة تعادل سفير في وزارة الخارجية، ولكنني كنت مستعدًا لقبول درجتي العادية في الخارجية وهي وظيفة مستشار أو وزير مفوض. وقد كنت عميد المستشارين الذين انضموا إلى الخارجية بعد التخرج من الجامعة، وقد قضى زملائي في وظيفة المستشار سنوات عديدة دون ترقية، لأن مناصب السفراء والوزراء المفوضين كانت حكرًا على السياسيين ورؤساء الوزارات والوزراء السابقين.
كان السيد حسين مازق ذكيًا ودبلوماسيًا يتكلم مع رجال القبائل بلغتهم ومع المتعلمين بلغة أخرى، وقال لي رغم إنه يأسف لعدم قبولي الانتداب إلى الديوان الملكي، إلا أنه لا يريد إحداث أي تغيير في جهاز رئاسة مجلس الوزراء، وطلب مني الاستمرار في عملي، كما وعدني بدوره بدراسة إمكانية إعادتي إلى وزارة الخارجية مع وزير الخارجية، كما وافق على انتداب الشيخ عبدالغني الموظف بالرئاسة إلى الديوان الملكي.
وقد كان اعتذاري عن قبول النقل إلى الديوان محل إشاعات حول الأسباب. وأذكر إن العقيد راسم النايلي، ياور الأمير ولي العهد، زارني في مكتبي مستفسرًا عن أسباب رفضي النقل إلى الديوان وعما كنت أسعى إلى تعييني في سفارة في الخارج بدلًا من ذلك، ويظهر أن ولي العهد علم بالموضوع الذي انتشر في دوائر القصر وأراد أن يعرف الأسباب، فقد كان غير مطمئن من وجود السيد محمود المنتصر في الديوان الملكي إلى جانب عمه الملك. وقد ذكر لي السيد محمود المنتصر أن الملك يعرف أنني كنت في مصر ومن المتحمسين لعبدالناصر وأنه دافع عني، وذكر للملك أن أسباب رفضي للانتقال إلى الديوان ترجع إلى أسباب خاصة بمواصلة العمل في اختصاصى العلمي وليس لأسباب أخرى. وكانت مخابرات الأمن في قوة دفاع برقة تبعث بتقاريرها حول تصرفاتي في عملي برئاسة مجلس الوزراء في البيضاء، وسأتعرض لهذا في الصفحات التالية، وتلك قصة أخرى.
وفعلًا وعدني السيد حسين مازق بنقلي إلى الخارجية بدرجة وزير مفوض لأن منصب السفير كان مقصورًا على الرؤساء والوزراء السابقين ومن في درجتهم، وأعددت له مرسومًا ملكيًا بذلك أعده رئيس إدارة الفتوى والتشريع السيد أحمد عباس وسلمته له بحضور وزير الخارجية الدكتور وهبي البوري، ولم يتخذ في الأمر إجراءًا يذكر حتى انتهاء فترة حكم السيد حسين مازق ولم أعرف السبب وهل رفض من طرف الملك أو لم يرسل لتوقيع الملك إطلاقًا وهذا هو الأرجح
مدينة البيضاء وانتقال الحكومة إليـها
كانت البيضاء مقرًا صيفيًا لرئيس الوزراء والوزراء ثم أصبحت مقرًا دائمًا
لرئاسة مجلس الوزراء ووزارة الخارجية وبعض المصالح من باقي الوزارات. ولما جاء السيد محمود المنتصر إلى الحكم كان من أهدافه غير المعلنة لسياسته نقل رئاسة
مجلس الوزراء ووزارة الخارجية إلى طرابلس. وبعد انتهائه من معالجة قضية القواعد العسكرية والجلاء بالشكل الذي توصل به مع الملك حصل على موافقة الملك لنقل الحكومة إلى طرابلس إرضاءً للرأي العام الطرابلسي الذي كان متحمسًا للجلاء وإلغاء المعاهدة البريطانية.
وقد حاول الدكتور محي الدين فكيني نفس الشئ قبله وحول بعض المباني الحكومية التي أنشئت في عهد حكومة السيد محمد عثمان الصيد إلى معاهد دراسية في البيضاء لكن الوقت لم يمهله لإتمام نقل الحكومة. وقد أثار نقل السيد محمود المنتصر لمقر الحكومة إلى طرابلس غضب المسئولين من قبائل برقة وعلى رأسهم الفريق محمود أبو قويطين، الذي كان يكن للسيد محمود المنتصر احترامًا خاصًا، لأنه في رأيه مخلص للملك، ولكنه غضب من نقله للحكومة من البيضاء، ويقال إنه سافر إلى طبرق لإقناع الملك برفض النقل، وقيل إن ذلك النقل أثر في صحته واشتداد مرضه الذي أدى إلى وفاته في سبتمبر 1964م.
كما لاقى نقل الحكومة إلى طرابلس عدم رضا سكان بنغازي وزعمائها لأن وجود الحكومة في البيضاء كان مصدرًا هامًا لانتعاش التجارة ومشاريع التنمية والحركة الاقتصادية في بنغازي. ورغم أن بنغازي كانت العاصمة الثانية دستوريًا وكانت الحكومة تتبادل الإقامة بين العاصمتين، إلا أن مقتل السيد إبراهيم الشلحي فيها حرمها من نقل الحكومة إليها، ومنذ حكومة السيد عبدالمجيد كعبار لم تعد بنغازي مقرًا محتملًا للحكومة. ورغم موافقة الملك على نقل الحكومة إلى طرابلس أمر في آخر لحظة بقاء وزارة الدفاع وقيادة أركان الجيش في البيضاء، وعدم شغل المباني الحكومية التي تغادرها الوزارات ويعني هذا حفظها لعودة الحكومة إليها مستقبلًا. كما تأخر نقل وزارة الخارجية بسبب تردد وزيرها السيد حسين مازق ووكيلها السيد حسين الغناي في النقل رغم تعليمات رئيس الوزراء.
وأذكر أني كنت مع الدكتور علي الساحلي رئيس الديوان في مكتبه في طبرق أثناء استلامه لمكالمة هاتفية من السيد حسين الغناي وكيل وزارة الخارجية، وفهمت من مجرى المكالمة أن السيد الغناي كان يريد تأجيل نقل وزارة الخارجية ويطلب من رئيس الديوان الملكي التدخل لمنع النقل العاجل كما طلب السيد محمود المنتصر. وقد نقلت هذا الخبر إلى رئيس الوزراء الذي اتصل بوزير الخارجية وحثه على نقل الوزارة بالسرعة الممكنه، لأنه اتفق مع الملك على هذا النقل على أن يرجع الوزراء إلى البيضاء في فصل الصيف دون أجهزة وزاراتهم.
ورغم اضطرار وسفر السيد محود المنتصر للعلاج، إلا أنه كان يتابع إجراءات نقل الحكومة من البيضاء إلى طرابلس، كما كان يتابع الانتخابات وهو في لندن للعلاج، ولكن قرار النقل كان محل اختلاف. وعندما تولى حسين مازق رئاسة الحكومة سنة 1965 قرر عودة الحكومة إلى البيضاء بصفة نهائية. وعادت وزارة الخارجية بعد نقلها لفترة لا تزيد على شهرين بشكل أحدث ارتباكًا وفوضى وحير رجال السلك الدبلوماسي الأجنبي.

إنجازات حكومة السيد محمود المنتصر
من المواضيع التى أنجزتها حكومة محمود المنتصر هي تعديل قانون الخدمة المدنية ويرجع الفضل فيه إلى السيد عبدالله سكتة الذي عين وزيرًا للخدمة المدنية. وقد أدى هذا التعديل إلى رفع مرتبات الموظفين وخاصة صغارهم، إلا أنه ألغى الكثير من العلاوات التي كان يتمتع بها كبار الموظفين، مما جعل ما يستلمونه أقل من مستحقاتهم القديمة رغم زيادة مرتباتهم الأساسية. وقسمت الدرجة الخاصة إلى ثلاث درجات ( أ ) وكيل وزارة و(ب) وكيل وزارة مساعد و(ج) مدير عام بعد أن كانت كل هذه الوظائف في مستوى واحد. وقد أثار ذلك غضب كبار الموظفين، ففي تاريخ واحد معين أصبح حاملوا الدرجة القديمة الخاصة ثلاث درجات بحسب الوظائف التي كانوا يشغلونها.
كما أثار موضوع جعل توقيت العمل صباحًا ومساءًا غضب كل الموظفين الذين تعودوا العمل في الصباح وحتى الثانية ظهرًا ليتفرغوا لشراء حاجياتهم وقضاء مصالحهم بعد الظهر، خاصة وأن المرأة في ليبيا لا تخرج لشراء حاجيات البيت وتنتظر من الرجل ليقوم بذلك، كما أن صغار الموظفين كانوا يزاولون أعمالًا أخرى مسائية لتحسين دخلهم لمواجهة غلاء المعيشة، وقد أدى تذمر الموظفين هذا في عهد حكومة السيد حسين مازق إلى إلغاء نظام الفترتين والرجوع إلى نظام الفترة الواحدة.
من نقاط الضعف التي تؤخد على السيد محمود المنتصر إلغاؤه لرخص إصدار بعض الصحف التي تحاملت على الحكومة خلال مفاوضات الجلاء، إلا أن تعيينه للسيد خليفة التليسي وزيرًا للأنباء والإرشاد أحدث تحسنًا في علاقات الحكومة مع الصحافة نظرًا لعلاقة السيد التليسي برجال الصحف ورجال الفكر وفتح قنوات تعاون وتفاهم معهم للمصلحة العامة وعدم استخدام الإثارة الصحفية للجماهير. أدخل السيد محمود المنتصر عددًا كبيرًا من الشباب في حكومته مثل السادة خليفة التليسي وعبدالحميد البكوش ومنصور كعبار ومصطفى بن زكري وعبدالمولى لنقي ومحمد المنصوري وفؤاد الكعبازي وغيرهم، كما أقنع الدكتور علي عتيقة بقبول منصب وكيل وزارة التخطيط، وعين عددًا كبيرًا من الشباب في منصب وكيل وزارة وأسند لغيرهم مسئوليات هامة، وأبعد عددًا من الموظفين التقليديين من كبار السن والموظفين المعينين سياسيًا غير الأكفاء وغير المؤهلين. وأذكر أنه اقترح على الملك تعيين السيد منصور الكيخيا وزيرًا للاقتصاد فاعترض عليه الملك واستبدله رئيس الوزراء بعد ذلك بالسيد منصور كعبار.
وكان محمود المنتصر يقول إن شئون الحكم تغيرت عما كانت عليه في السنوات الأولى للاستقلال ومهام الوزارات أصبحت فنية تحتاج إلى متعلمين لتسييرها، وقد أغضبت هذه السياسة الموظفين القدامى، وكان معظمهم قد عينوا سياسيًا، وكذلك أعضاء مجلس الأمة الذين كانوا يعتقدون أنهم أولى وأحق بالمناصب الوزارية والسياسية العليا.
كما حاول السيد محمود المنتصر الوقوف في وجه تدخل كبار رجال الأعمال مثل السيد عبدالله عابد السنوسي، وتبادل معه رسائل قاسية ووقف أمام محاولاته للضغط على الوزراء للحصول على امتيازات وخدمات غير مشروعة. وكذلك رفض دفع تعويضات للسيد علي فكيني عن أملاك والده التي صادرتها إيطاليا لأن التعويضات كانت قضية عامة لكثير من المواطنين ولا يجوز إعطاء البعض وحرمان الآخرين. وكان السيد علي فكيني قد تحصل على منزل كبير في طرابلس وبعض الأموال أثناء حكومة السيد محمد عثمان الصيد وبهذا فهو أحسن حالًا من غيره، وقد نقل السيد علي فكيني كسفير لليبيا من تونس بطلب من الحكومة التونسية لتدخله في مسائل داخلية، وكان السيد فكيني من المهاجرين الليبيين إلى تونس أثناء الاحتلال الإيطالي لليبيا.

مشروع تغيير نظام الحكم في ليبيا
كما ذكرت سابقًا طلب مني السيد محمود المنتصر البقاء في طرابلس بعد موافقة السيد حسين مازق رئيس الوزراء بعد إحضاري للمظروف من المستر بيلت في جنيف. وقد استدعاني بعد بضعة أيام في بيته وقال لي إنه استشار الملك ويريد مني ترجمة الدراسة القانونية التي أعدها المستر بيلت وفريق الخبراء الذين كانوا معه من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية لأن الملك لا يريد أي أجنبي القيام بترجمتها، وكان معظم مترجمي الحكومة والديوان الملكي من الأجانب، وأضاف بأن الموضوع سري للغاية ولا يعرف تفاصيله أحد حتى الآن وأن الملك وافق على قيامي بهذه المهمة.
وقد تردد الملك في أول الأمر ويظهر أنه كان يريد مزيدًا من المعلومات لأسباب أمنية من جهات أخرى لكنه وافق في النهاية على قيامي بالمهمة، وسلمني السيد محمود المنتصر المظروف الذي أحضرته من المستر بيلت في جنيف كما أشرت سابقًا بعد أن فتح من طرف الملك. وقد توكلت على الله وتسلمت محتويات المظروف الذي أحضرته من المستر بيلت، وطلب مني رئيس الديوان استعمال مكتبه في البيت وأن لا آخذ الأوراق معي خارج المكتب بأي حال من الأحوال زيادة في الحيطة.
وعندما قرأت الأوراق لم أصدق، فالموضوع في غاية الأهمية. والوثائق كانت تضم مشروعين لتعديل الدستور الليبي، أحدهما لنظام ملكي ديمقراطي مقيد يحد من سلطات الملك ويجعل كل السلطات في أيدي البرلمان ومجلس النواب بالخصوص، والمشروع الثاني لنظام جمهوري (أي والله نظام جمهوري)، شيء غريب أن تعد مثل الدراسة بأمر الملك. مشروع الدستور الملكي لا يزيد عن تعديل للدستور المعمول به آنذاك، يعطي مجلس الأمة رقابة أكثر على الحكومة وتلغي سلطات الملك في تعيين الحكومة وإقالتها قبل التشاور مع مجلس النواب وإلغاء مشروعية حل مجلس الأمة من طرف الملك دون موافقة البرلمان نفسه.
يقضي مشروع الدستور أخذ رأي مجلس النواب قبل تسمية رئيس الوزراء وعلى الحكومة الحصول على ثقة المجلس قبل مباشرة مهامها، وللمجلس وحده سحب الثقة من الحكومة. وينص المشروع أيضًا على أن يكون ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ بالانتخاب، وتقوم الحكومة بالتشاور مع مجلس النواب لتعيين الثلث الباقي بمرسوم ملكي، كما يقضي المشروع بأن تعين الحكومة رئيس الديوان الملكي وكبار موظفي الديوان بمراسيم ملكية وليس بأوامر ملكية، وحدد حالات قليلة يجوز فيها حل مجلس النواب بطلب من الحكومة، وإجراء انتخابات عامة في فترة لا تزيد عن ثلاثة أشهر تكون فيها الكلمة النهائية للمجلس الجديد في المواضيع التي أدت إلى حل المجلس القديم، ولا يجوز حل المجلس الجديد لنفس الأسباب.
كما حد المشروع من سلطات الملك في تعيين ولي العهد أو تعديل نظام وراثة العرش وجعلها من سلطات مجلس الأمة بمجلسيه الشيوخ والنواب، بما في ذلك عزل الملك أو تكليف ولي العهد ليحل محله في حالة عجزه مؤقتًا عن مباشرة عمله أو سفره للخارج. وينطبق الشئ نفسه على تعديل الدستور بطلب أغلبية أحد المجلسين الشيوخ أو النواب، وضرورة الحصول على أغلبية ثلثي المجلسين لإقرار أي تعديل دستوري. وكان المشروع لا يختلف عن الدستور المعمول به سوى غلق كل الثغرات الموجودة في الدستور القديم وتحديد سلطة الملك وجعله يملك ولا يحكم كملوك أوروبا اليوم. وكان هدف الملك تطبيق هذا الدستور على من يخلفه ولا يعتقد أحد بأنه كان يريد تطبيقه على نفسه أثناء حياته. أما بقية فقرات المشروع فتقر نفس الحريات والحقوق التي أقرها الدستور القائم آنذاك بما في ذلك حق تأليف الأحزاب والجمعيات والنقابات والتظاهر والحريات الأساسية وميثاق حقوق الإنسان.
أما المشروع الثاني للدستور فهو الدستور الجمهوري، وينص على أن نظام الحكم في ليبيا يكون جمهوريًا ينتخب فيه الرئيس ونائبه لمدة أربع سنوات من طرف مجلس الأمة بمجلسيه أو في انتخاب عام، ويتولى نائب الرئيس الرئاسة بعد انتهاء مدة الرئيس أو في حالة وفاته أو استقالته، ويجري انتخاب نائب للرئيس الجديد بنفس الطريقة المشار إليها أعلاه. كما اشترط المشروع أن يكون الرئيس ونائب الرئيس أحدهما من برقة والآخر من طرابلس باستمرار. أما سلطات الرئيس فهي محدودة، وهي نفس السلطات التي نص عليها مشروع الدستور الملكي المذكور أعلاه للملك، وتكون الحكومة مسئولة بالكامل أمام مجلس النواب في بعض الحالات. ويوجد نص استثنائي مؤقت بجواز اختيار الملك إدريس رئيسًا مدى الحياة ويختار هو بدوره نائبه الذي سيخلفه، ولم ينص المشروع على أن هذا النائب يجب أن يكون من برقة أو من طرابلس. وقمت بإعداد الترجمة إلى العربية بخط يدي لأنني لم أكن أتقن الطباعة على الآلة الكاتبة في ذلك الوقت.
وكما ذكرت لم يمكنني السيد محمود المنتصر من أخذ نسخة منها وكان يحرص كل يوم عندما انتهي من العمل والذهاب إلى البيت ألا أحمل أي ورقة معي. ولا أذكر المزيد من التفاصيل عن المشروعين لمضي فترة على ترجمتي لهما. وأخذ السيد محمود المنتصر النص الإنجليزي الأصلي والترجمة العربية معه إلى الملك ولم أسمع عن الموضوع بعد ذلك سوى أن الملك استدعى المستر بيلت ورفيقيه المستشارين القانونيين وعقد معهم اجتماعًا بحضور السيد حسين مازق رئيس الحكومة آنذاك، ولم أعرف عن هذا الاجتماع شيئًا سوى أن الملك سلم نسخة من مشروع الدستور الملكي إلى السيد حسين مازق لبحثه مع الخبراء. أما مشروع الدستور الجمهوري فلا أعرف هل بحثه الملك مع السيد حسين مازق أو لا، وقد استفسرت من السيد محمود المنتصر عما تم فيه فأكد لي بأنه لا يعرف عنه شيئًا منذ سلمه للملك.
وفي سنة 1966م انتشرت الإشاعات بسرعة انتشار النار في الهشيم بأن الملك يريد تعديل الدستور ويرغب في ترك العرش. وأذكر أن السيد محمود المنتصر قال لي إن الملك لا يعرف مصدر الإشاعة ويرشح أن يكون السيد حسين مازق، المعروف بأنه ضد مثل هذا التعديل، هو مصدر الإشاعات، وقد وصلت هذه الإشاعات إلى أعضاء مجلس الأمة الذين اجتمعوا وأعلنوا رفضهم لأي تعديل للنظام الملكي، وانهالت برقيات الاحتجاج على القصر الملكي والديوان وعلى رئاسة الحكومة. وكان الملك يعتقد أن السيد حسين مازق أخبر رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب بمشروعي التعديل للدستور، كما أوعز إلى وزير الداخلية بأن يطلب من المجالس البلدية والمحافظين والمتصرفين والمديرين ومستشاري وشيوخ القبائل بإرسال برقيات الاحتجاج، وكانت هذه التعليمات تصدر شفويًا حتى لا يعرف مصدرها، وقيل إن الملك طلب التحقيق في مصدر الخبر وعن وسائل نشره بهذه السرعة.
وترافق مع هذه الإشاعات اتهام السيد محمود المنتصر بأنه يحاول من وراء ستار مع الملك لتغيير النظام الملكي وإزاحة ولي العهد وإعلان النظام الجمهوري برئاسته، وأن السيد حسين مازق كان ضد مثل هذا النظام لأنه لا يخدم مصالح برقة، وهو المعروف عنه بالمدافع عنها والمحافظ على مكاسبها الدستورية في الدستور القائم واستمرار العرش في أيدي العائلة السنوسية، فرئاسة الدولة في ليبيا يجب أن تكون في أيادي برقاوية حتى يمكن حفظ التوازن مع أغلبية طرابلس السكانية. كان السيد محمود المنتصر متألمًا من هذه الإشاعات التي كان يقول عنها بأنها غير صحيحة، وأنه سبق وأن أبدى للملك عدم موافقته ومعارضته لأي نظام جمهوري، وأن الملك لم يطلعه على ما تم في الاجتماع بينه والمستر بيلت ورفيقيه والسيد حسين مازق، وأن الملك لن يغفر للسيد حسين مازق إذاعة هذا السر.
وقد أعقب هذا الحدث أن عين الملك مجلسًا استشاريًا من أربعة أعضاء من رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب وشيخ الجامعة الإسلامية ومفتي ليبيا. وقد زاد هذا الحدث من حساسية العلاقة بين ولي العهد والسيد محمود المنتصر، وأصبح ولي العهد فعلًا قلقًا على مستقبله، ولكن الأمور هدأت حول الموضوع حتى سنة 1969 عندما سافر الملك إلى تركيا واليونان وعادت إشاعة أن الملك قرر اعتزال الحكم، وسيأتي الكلام عن هذا في الصفحات التالية في عهد حكومة السيد ونيس القذافي.











السيد محمود المنتصر في شبابه








حكومة السيد حسين مازق

1:18 PM  
Blogger Bashir Muntasser said...

بعد استقالة السيد محمود المنتصر في مارس 1965م ورفضي الانتقال إلى الديوان الملكي طلبت من السيد حسين مازق أن ينقلني إلى وزارة الخارجية، ولكنه رغم وعده بالاستجابة لرغبتي، إلا أنه طلب مني الاستمرار في عملي كوكيل وزارة لشئون الرئاسة. وقد كان يعاملني باحترام وتقدير، إلا أنه لم يكن يعرفني معرفة جيدة لعدم عملي معه في الماضي. ولاحظت في الأيام الأولى أن السيد حسين مازق بدأ يكلف السيد حسين الغناي وكيل وزارة الخارجية، والذي كان قد عمل معه في السابق ويعرفه معرفة جيدة، ببعض المسئوليات التي لها علاقة بعمل رئاسة مجلس الوزراء كإعداد خطب رئيس الوزراء في المناسبات الوطنية العامة وبعض المراسلات الهامة. وهذا ليس غريبًا، فالسيد حسين الغناي يعتبر نفسه كاتبًا كبيرًا، وقد يكون قد تطوع ليكتب كلمات وخطب رئيس الوزراء.
كما طلب مني السيد مازق بأن أعرض عليه بريد رئاسة مجلس الوزراء جميعه، وهو كم هائل، ويتجاوز يوميًا مئات الرسائل والشكاوى والعرائض والطلبات وتقارير مدراء الأمن والمحافظين والسفراء، وأن أحول إليه البريد السري دون فتحه. وقد أثارت إعجابي قدرته على قراءة كل البريد الذي يحال إليه وخاصة شكاوى المواطنين وطلباتهم، وكان يعلق عليها بخط يده ويكتب عليها تعليماته بإحالتها للجهات المختصة لإجراء اللازم، وأحيانًا الطلب من الوزير المختص تلبية الطلبات التي يتقدم بها أصحاب العرائض. ولما كان معظم العرائض والشكاوي والطلبات تأتي من مواطنين من برقة فإنه كان يعرف مقدميها وقبائلهم، أما تعليقاته على تقارير السفراء فكانت تدل على مدى إلمامه بالأحداث العربية والشئون الدولية.






وفي المناسبات الدولية كانت وزارة الخارجية ترسل للرئاسة مسودة كلمة لتصدر عن رئيس الوزراء بالمناسبة، وأذكر أنه كان يتعجب من بساطة وحتى من تفاهة بعض الكلمات التي كانت معدة من طرف خبراء الخارجية، وكان في غالب الأحيان يعدلها بحضوري للتأكد من بعض الأحداث وتواريخها والمصطلحات الدبلوماسية المستعملة، كما كانت تعليقاته على تقارير المحافظين تتميز بالمعرفة لما يجري داخل البلاد. وكان أحيانًا يسهر حتى الصباح على قراءة البريد. كما طلب مني عدم تغيير أي موظف بما فيهم سكرتيره الخاص السيد أحمد كعوان وياوره وسائقه الخاصين، الملازم محمد أبو مرداس والسيد محمد الشريف، وجميعهم من قوة أمن طرابلس.
والشئ الذي لفت نظري لأول مرة وأحرجني مع السيد حسين مازق أني وجدت أن نسبة كبيرة من موظفي رئاسة مجلس الوزراء من طرابلس، رغم أن فرع رئاسة مجلس الوزراء الذي يرأسه السيد مصطفى بن سعود وكيل الوزارة لشئون مجلس الوزراء، وهو من برقة، يضم عددًا من الموظفين من برقة، ومع هذا شعرت بأني كنت مقصرًا في عدم تعيين موظفين من برقة، نظرًا لطول الفترة التي كنت فيها مسئولًا عن الشئون الإدارية لرئاسة مجلس الوزراء.
والحقيقة التي قد تغيب عن الكثيرين أن ذلك الوضع نتج عن وجود الحكومة في طرابلس معظم الوقت منذ السنوات الأولى للاستقلال في عهود السيد محمود المنتصر والدكتور محي الدين فكيني والسيد مصطفى بن حليم، وكان من عادة الموظفين تفضيل العمل في مدنهم الأصلية، مما لم يشجع الموظفين من برقة وخاصة صغارهم على طلب العمل في الحكومة الاتحادية في طرابلس. كما أن الموظفين الجدد الذين عينوا من طرابلس أخيرًا كانوا من الحاصلين على شهادات جامعية ومن موظفي الرئاسة، ولم يتقدم أحد لهذه الوظائف من برقة لشغلها عند إنشاء الوظائف الجديدة والإعلان عنها. هذا الوضع لم يكن مقصودًا، ولكن انتقال الحكومة إلى مدينة البيضاء نهائيًا لفت نظر كثيرين من سكان برقة ومدينة البيضاء بالذات ومن ضباط قوة دفاع برقة ومستشاري قبائلها الذين أصبحوا يترددون على مكاتب رئاسة مجلس الوزراء، خاصة عندما تولى السيد حسين مازق رئاسة مجلس الوزراء،وقد استغل ذلك بعض أصحاب النوايا السيئة من ضباط قوة الأمن في البيضاء لاتهامي بالتعصب لطرابلس.

وضع موظفي رئاسة مجلس الوزراء تحت المراقبة
كان ياور رئيس الوزراء الملازم أول محمد أبو مرداس مساعدًا للياور السابق لرئيس الوزراء العقيد عبدالسلام الكتاف، وقد حل محله بعد أن عين هذا الأخير رئيسًا لجهاز أمن الدولة في طرابلس في عهد رئيس الحكومة السابق السيد محمود المنتصر. وكان الملازم أبو مرداس يعتبر من ضمن جهاز حراسة رئاسة مجلس الوزراء التابعين لقوة دفاع برقة ويشاركهم مكاتبهم. وقد جاءني يومًا غاضبًا وأعلمني بأن الضابط المسئول من أمن الدولة التابع لقوة دفاع برقة، والمشرف على حراسة رئاسة مجلس الوزراء، يتجسس ويكتب تقارير سرية مضللة عنه وعن جميع موظفي الرئاسة بما فيهم أنا، فطلبت منه أن يحاول في غفلة منه أخذ ملف تقاريره من مكتبه واحضاره لي واعتبار القيام بذلك بأمر مني.
وفعلًا جاءني في اليوم التالي بالملف وكان يحتوي على التقارير السرية لذلك الضابط إلى مديره، وكانت تحرياته تتناول جميع موظفي الرئاسة بما فيهم الياور الخاص الملازم أول أبو مرداس نفسه والسكرتير الخاص السيد أحمد كعوان وسائق الرئيس الخاص السيد محمد الشريف، ويضيف الضابط في تقريره بأن وجود هؤلاء، ويعني الياور والسائق، حول الرئيس خطر على سلامته وأمنه وإنهما يرسلان بتقارير عن تحركات السيد حسين مازق إلى العقيد عبدالسلام الكتاف رئيس جهاز أمن الدولة بطرابلس ومنه إلى السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي.
كما تعرضت تقارير هذا الضابط لي ووصفني بأنني متعصب لطرابلس وكل موظفي الرئاسة من طرابلس وكلهم طابور خامس، وادعى بأني أشيع بأن هناك تغييرًا وزاريًا سيجري قريبًا يخرج فيه السيد حسين مازق ليحل محله رئيس من طرابلس. ويضيف بأني على اتصال دائم بالسيد محمود المنتصر رئيس الديوان وأوافيه بتقارير عن نشاط السيد حسين مازق وعمل الرئاسة، وأني ناصري وضد النظام الملكي، وقد درست في مصر وأنتقد الحكومة ونشاطها ووجودها في البيضاء، وأقطن أحد البيوت المخصصة للوزراء رغم أني أعزب واستخدمه للسهرات واجتماعات أنصاري من الموظفين في البيضاء.
لقد صدمت بأن أكتشف أني كنت مراقبًا من قوات الأمن مع جميع موظفي الرئاسة دون معرفتي وأنا المسئول الأول عن مكاتب الرئاسة وموظفيها وأمين سر رئيس الوزراء. وكانت تقارير هذا الضابط وزملائه مليئة بتهم ملفقة لجميع موظفي رئاسة مجلس الوزراء فردًا فردًا ولا أساس لها من الصحة وتدل على سذاجة وتفاهة كاتب تلك التقارير. كان موظفوا الرئاسة من طرابلس يعانون وضعًا صعبًا في مدينة البيضاء، حيث كانوا يعيشون عزابًا دون عائلاتهم، ولم أسمح لهم بالانتقال إلى إدارات حكومية أخرى في طرابلس إلى جانب عائلاتهم حرصًا على سير عمل رئاسة مجلس الوزراء على الوجه المطلوب.
ولذلك قررت وفي الحال رفع الموضوع إلى رئيس الوزراء نفسه، وأخذت الملف وذهبت إلى بيته كالعادة لأعرض عليه بريد الرئاسة وكان ذلك في الصباح الباكر. وبعد أن فرغت من عرض البريد استأذنته في إثارة موضوع خاص. وبعد إذنه بدأت كلامي بتذكيره بما سبق وأن قلته له عندما ألف الحكومة، ورفضي الانتقال إلى الديوان الملكي بأن العرف جرى في ليبيا، وكما في معظم أنحاء العالم، أن كل رئيس حكومة جديد يتولى الحكم يختار مساعديه وموظفي مكتبه وخاصة السكرتير الخاص والياور الخاص وسائقه الخاص ومدير مكتبه من أشخاص يعرفهم ويتمتعون بثقته. ولهذا فقد أوضحت له أنني وموظفي رئاسة مجلس الوزراء مستعدون للانتقال إلى أية إدارة حكومية أخرى في حالة رغبته تغيير جهاز مكتبه ولن نعتبر مثل هذا الإجراء عدم ثقة، بل هو إجراء عادي متعارف عليه اتخده معظم رؤساء ليبيا السابقين، أما بالنسبة لي فقد طلبت منه إرجاعي إلى وزارة الخارجية بأي درجة كانت.
كان رد السيد مازق حاسمًا، وقال إنه يعرف وضع موظفي رئاسة مجلس الوزراء ولم يفرض أحد عليه أي موظف، واستفسر عن سبب إثارتي للموضوع معه من جديد. فقمت بإعطائه فكرة عن سبب ذلك وسلمته الملف الذي يحتوي تقارير ضابط الأمن في الرئاسة وشرحت له ظروف سحبه من الضابط المختص. وبعد أن ألقى نظرة سريعة على محتويات التقرير ظهر عليه الغضب واحمر وجهه وهو رجل دبلوماسي ومتزن وخجول ولا يعرف الإنسان ما يجول في خاطره. هل غضبه راجع إلى استنكاره لإقدام ضباط الأمن على التجسس على موظفي مكتبه، أو أن غضبه كان منصبًا على إهمال ضابط الأمن الذي ترك ملفه السري في متناول الآخرين؟
وتوجه رئيس الوزراء إليّ بالكلام قائلا إنه لم يطلب من مدير عام قوة الأمن ولا من أي ضابط أو شخص مراقبة أي موظف برئاسة مجلس الوزراء، لأنه إذا كان لا يثق في بعض موظفي الرئاسة فمن يستطيع أن يمنعه من نقلهم إلى مصالح حكومية أخرى، وأعرب عن رضائه عن خدماتي وثقته في إخلاصي للعمل. وأراد أن يخفف من وقع الموضوع بالقول إن مثل هذا العمل المشين لا يصدر إلا عن ضباط أمن جهلة يفتقرون إلى المعرفة والخبرة، وهم يعتقدون بأن واجبهم هو مراقبة الآخرين، وغالبًا ما يعتمدون على استنباطات خاطئة أو معلومات لا أساس لها نتيجة جهل أو غاية في نفوسهم، وأبدى أسفه وأنه سيعالج الأمور مع مدير الأمن العام اللواء مفتاح بوشاح، وفعلًا اتصل به أثناء وجودي معه وطلب منه حضوره حالًا إلى بيته.
واللواء مفتاح بوشاح تربطني به علاقة عمل وصداقة منذ تعيينه في عهد حكومة السيد محمود المنتصر، وكان في تلك الفترة يأتي إلى مكتبي كل صباح ويسلمني مظروفًا يحتوي تقارير إدارة أمن الدولة التابعة له لتسليمها إلى رئيس الوزراء، وكان يرسلها أحيانًا مع مساعده السيد يونس بلقاسم. ونظرًا لأني كنت أحيانًا أطلع على بعض هذه التقارير، فقد لفت نظر اللواء بوشاح إلى أن بعض تعليقات مساعديه على ما ينشر في الصحافة الوطنية والأجنبية وبعض الكتب المدرسية تدل على عدم خبرة محرريها، فما يكتب عن الانقلابات العسكرية والثورات ضد الأنظمة الملكية في الكتب التاريخية والصحف ليس معناه دعوة إلى الثورة، ولا يستدعي اقتراح وقف أو إلغاء رخصة جريدة أو مجلة سواء كانت وطنية أو أجنبية أو منع كتاب من التوزيع لمجرد نشره مثل هذه الأمور التي تتعرض إلى مواضيع تاريخية لا تعرّض أمن البلاد للخطر. واللواء مفتاح بوشاح رجل قبلي شهم ومخلص لكن تعليمه بسيط ويتأثر بمن حوله من الضباط وأكثرهم في مستواه العلمي، وهو مخلص للملك ومن ضباط جيش التحرير السنوسي الذى أسسه الملك في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية.
غادرت منزل رئيس الوزراء في ذلك اليوم إلى مكتبي لأواصل عملي كالعادة. وفي غضون ساعة أو أقل دق جرس الهاتف في مكتبي وكان اللواء مفتاح بوشاح على الهاتف، وأخبرني بأنه في الطريق إليّ ودخل مكتبي وعانقني وكان ينطق اسمي "بشير" باللهجة المصرية، وهو اسم لا يستعمل في مصر إلا لسكان النوبة. وذكر لي بأنه لم يأمر بفرض رقابة على موظفي الرئاسة ولم يطلب من رئيس ضباط حراسة رئاسة مجلس الوزراء القيام بذلك وأشاد بعلاقاتنا. وأضاف بأنه يعرفني ولا أحد يشك في إخلاصي للوطن والملك ووجودي في هذا المكتب دليل على ثقة رؤساء الوزارات المتعاقبين، وأن تصرف ضابط الحراسة سيحاسب عليه، وأنه قرر وأبلغ رئيس الوزراء بتغيير ونقل كل ضباط وجنود الحراسة في رئاسة مجلس الوزراء بالبيضاء واستبدالهم بأفراد متعلمين ولهم خبرة ومعرفة برجال الدولة حتى يمكن ضمان عدم تكرار مثل هذا العمل. كما زارني بعد ذلك حكمدار البيضاء وأبلغني أسفه بدوره وأنه نفذ تعليمات المدير العام وغير فريق الحراسة برئاسة مجلس الوزراء.
وهكذا أسدل الستار على هذه القصة، إلا أن الموضوع لم يغب عن ذهن رئيس الوزراء وكبار ضباط الأمن في البيضاء، لأنه اعتبر اختراقًا لسرية قوة الأمن، حتى إذا سلموا بعدم صحة المعلومات الواردة في التقارير. وبعد أسابيع قليلة قام رئيس الوزراء بتغيير ياوره وسائقه الخاصين المشار إليهما أعلاه بأشخاص يعرفهم من قوة دفاع برقة عندما كان واليًا على برقة، وتقرر نقل السيدين أبومرداس والشريف إلى مقر عملهما بطرابلس. وقد جعلني هذا القرار أشك في مصداقية عدم تكليف ضباط الحراسة بمراقبة موظفي الرئاسة. ورغم أني كنت أعتبر أن مثل هذا العمل بما فيه الرقابة على الموظفين قد تقتضيه المصلحة العامة لكن هذا في رأيي ليس معناه السماح لرجال المخابرات والأمن بتلفيق الأكاذيب ضد أشخاص وموظفين يتولون وظائف هامة وحساسة ولا يشك أحد في إخلاصهم للعمل والوطن.










من اليمين: اللواء نورى الصديق رئيس الأركان، السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي، الملك محمد إدريس السنوسي، السيد حسين مازق رئيس مجلس الوزراء، الفريق مفتاح بوشاح مدير الأمن العام

ورغم استمراري في العمل برئاسة مجلس الوزراء ورغم المعاملة الممتازة التي كنت ألقاها من السيد حسين مازق، إلا أنه بدأ واضحًا لدى كبار الموظفين والوزراء والنواب وضباط الأمن ورجال الأعمال، أنني لست من رجال السيد حسين مازق لكوني من طرابلس وعلاقتي قوية بالسيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي. وقد جعل هذا الانطباع لدى هؤلاء الاعتقاد بأني لست قناة آمنة أو مجدية للاتصال بالسيد حسين مازق كما كنت في عهد السيد محمود المنتصر، وبدأوا يتصلون به عن طريق من كان على صلة به. كما لاحظت بأن وكيل الوزارة لشئون مجلس الوزراء السيد مصطفى بن سعود لم يعد يتعاون معي كما كان عليه في عهد الحكومة السابقة.










7 مارس 1964م- الرئيس جمال عبدالناصر في استقبال وزير الخارجية الليبي السيد حسين مازق والسيد الطاهر باكير سفير ليبيا بالقاهرة

1:25 PM  
Blogger Bashir Muntasser said...

كما لاحظت أيضًا أن وزارتي الخارجية والدفاع ومدراء الأمن ورئيس أركان الجيش والمحافظون أصبحوا يتصلون برئيس الوزراء رأسًا في الغالب. والسيد حسين مازق يتمتع بصحة ممتازة وفكر صاف وحيوية ونشاط تجعله يتعامل مع كل هؤلاء بمفرده رأسًا. كما حاولت الجهات التي تريد الاتصال برئيس الوزراء، بما في ذلك أصحاب الشكاوى والطلبات من مستشاري ورجال قبائل برقة، البحث عن أشخاص ذوى صلة بالسيد حسين مازق لنقل طلباتهم وشكواهم إليه. وقد اقتصر عملي والإدارات التابعة لي في رئاسة مجلس الوزراء على الإجراءات والمراسلات الرسمية العادية، ودراسة التقارير التي تصل إلى الرئاسة وتزويد رئيس الوزراء بتعليقاتنا بشأنها وما ينشر في الصحافة المحلية والأجنبية وتنفيذ تعليمات رئيس الوزراء وإعداد مراسلاته الرسمية.

علاقة الديوان الملكي برئاسة مجلس الوزراء
شعرت بعد فترة أن علاقة السيد حسين مازق مع السيد محمود المنتصر لم تعد كما كانت عليه في الماضي، فقد كان هناك تبادل للرأي بينهما حول المسائل الهامة بما في ذلك موضوع جلاء القوات الأجنبية والعلاقات الليبية البريطانية والأمريكية والانتخابات، ولكن الوضع تغير بعد تعديل السيد حسين مازق لوزارته وخروج معظم وزراء الحكومة السابقة، ولم يعد يتصل هاتفيًا بالسيد محمود المنتصر كالعادة، كما أنه أصبح يقتصر في اتصاله بالقصر الملكي بالسكرتير الخاص للملك رأسًا بما في ذلك إرسال المراسيم الملكية للتوقيع.
وكان السيد محمود المنتصر يرغب بأن تحول المراسيم الملكية ومشاريع القوانين على الديوان الملكي ليتولى الديوان دراستها ورفعها إلى الملك بعد ذلك، غير أن هذا الأسلوب لم يتبعه السيد محمود المنتصر إبان حكومته الأولى التي استقالت بسبب تدخل الديوان الملكي وناظر الخاصة الملكية في شئون الدولة. وهكذا أصبح السيد حسين مازق يسعى لكسب تأييد الجميع بما فيهم خصوم حكومة السيد محمود المنتصر السابقة وفتح صفحة جديدة في حكمه للبلاد.
ورغم أن السيد محمود المنتصر بقى رئيسًا للديوان الملكي حتى الفاتح من سبتمبر سنة 1969م، إلا أن دوره السياسي في سياسات وشئون الدولة أصبح اسميًا منذ استقالته من رئاسة الحكومة. فهو لا يستشار من طرف رؤساء الحكومات ولا من طرف الملك فيما يجري من أحداث، بل سمعت منه أن الملك طلب منه أن يراعي صحته وأن يستريح ويلازم بيته وأنه، أي الملك، سيتصل به أو يدعوه لزيارته في طبرق كلما احتاج إليه. ورغم أن الملك والملكة واصلا الاتصال به للسؤال عن صحته ودعوته إلى طبرق من حين إلى آخر، كما واصل هو الذهاب إلى مكتبه كالعادة كل يوم في طرابلس. وكانت شئون التشريفات التي يرأسها السيد فتحي الخوجة من أهم الشئون التي يتولاها الديوان الملكي بالتعاون مع وزارة الخارجية والجهات المعنية في الحكومة.
وكان السيد محمود المنتصر يتصل بي باستمرار وينتقد تخطي رؤساء الحكومات للديوان الملكي وإرسال جميع المراسيم والقوانين رأسًا للملك عن طريق السكرتير الخاص، وكان يتسائل عن ما هي اختصاصات وأهمية وجود الديوان الملكي وتعيين مستشارين وموظفين به ما دام لا يؤخذ رأيه. وكنت أجامله وأقول له إنه هو الذي ثار على تدخل الديوان وناظر الخاصة الملكية في شئون الدولة أثناء حكومته الأولى، كما أنه على ما أذكر وأعرف كان الشخص الوحيد عندما كان رئيسًا للوزراء الذي يتصل بالملك رأسًا في أي وقت بالهاتف ويذهب إلى طبرق في أي وقت ويدرس معه المراسيم ويوقعها الملك بحضوره.
وكان السيد محمود المنتصر بين رؤساء الوزارات الذي يتناول طعام الغذاء والعشاء على مائدة الملك بحضور الملكة كلما زار أو بقي في طبرق، ولم يكن لرئيس الديوان أو ناظر الخاصة الملكية أو السكرتير الخاص في عهده أي دور في عمل الحكومة وعلاقاتها مع الملك. ويظهر أن الملك استفاد من أخطاء الماضي وأخذ برأي السيد محمود المنتصر، بعد استقالته من حكومته الأولى ووفاة السيد إبراهيم الشلحي، بعدم إعطاء فرصة لرؤساء ديوانه أو رجال حاشيته بالتدخل باسمه بينه وبين رؤساء حكوماته طوال السنوات الأخيرة، وأصبح يقصر اتصاله مع رؤساء الحكومات مباشرة أو عن طريق سكرتيره.

الانتخابات النيابية لسنة 1965م
عندما تولى السيد حسين مازق رئاسة الحكومة في 20 مارس 1965م كانت المعركة الانتخابية على أشدها وفي مراحلها الأخيرة بإشراف وزير الداخلية السيد فاضل الأمير، الذي تولى الوزارة في عهد السيد محمود المنتصر، وكان ينفذ تعليماته بشأنها حتى استقالته حسب ما كان يقال في الأوساط الرسمية والشعبية. وفي الحقيقة وحسب ما سمعت من وزير الداخلية لم تكن للسيد محمود المنتصر تعليمات معينة ومحددة بشأن المرشحين. وهذا صحيح، لأني لا أذكر أن للسيد محمود المنتصر أنصارًا معينين يريد فوزهم في الانتخابات أو أعداء يريد إسقاطهم فيها، فقد كان يعتبر نفسه رجل الجميع دائمًا، ولكن هذا لا يعني أنه لم يوعز إلى وزير الداخلية بتنفيذ تعليمات الملك المعروفة حول عدم السماح بترشيح أو فوز النواب المعارضين للاتفاقيات والمعاهدات العسكرية المعروفين.
ورغم أن الانتخابات جرت في عهد السيد حسين مازق، إلا أنه كان يقول إنها جرت وفق تعليمات السيد محمود المنتصر ونفذها وزير الداخلية السيد فاضل الأمير. وفي الحقيقة وضع السيد حسين مازق لمساته الأخيرة فيها، وخاصة فيما يتعلق ببرقة. وقد سقط في هذه الانتخابات جميع المرشحين المعروفين بمعارضتهم للاتفاقيات العسكرية البريطانية والأمريكية والمنادين بالجلاء العاجل عن كل التراب الليبي. كان أسلوب انتخابات 1965 مختلفًا عن انتخابات 1964 كما اتضح من مجريات الانتخابات. ففي الأولى قامت الحكومة بايقاف بضعة أفراد معروفين خلال ساعات الترشيح، بينما في انتخابات 1965م سمح للجميع بترشيح أنفسهم ولكن الحكومة، حسب ما أشيع، قامت بوضع معظم بطاقات من لم يدلوا بأصواتهم في الانتخابات، وهم كثيرون، في صناديق أنصار الحكومة، مما أدى إلى هزيمة المرشحين المعارضين.
ورغم أن رد الفعل والغضب الشعبيين في انتخابات 1965م لم يكن بقوة رد الفعل القوي لانتخابات 1964م، إلا أنه حصلت احتجاجات كثيرة وطعن من طرف المرشحين الذين هزموا في الانتخابات التي كانت موضع شك الجماهير. ففي المدن الكبرى نجح أفراد غير معروفين وسقطت أسماء لامعة لها شعبية كبيرة معروفة، وكان النواب الفائزين جميعهم من أنصار الحكومة.

علاقة حكومة السيد حسين مازق بمجلس الأمة
كان أعضاء مجلس النواب الجدد من أطوع نواب عرفهم مجلس النواب الليبي في تاريخه، مما أتاح لحكومة السيد حسين مازق فترة طويلة من الاستقرار والتفرغ لأعمال التنمية وتنفيذ مشاريع الخدمات التي وضعت في عهد حكومة السيد محمود المنتصر. وكانت موافقة مجلس النواب على ما يعرض عليه من قوانين ومشاريع تنمية تتم بعد مناقشات خلف كواليس المجلس وترضيات مع النواب للاستجابة لمطالبهم العامة لصالح دوائرهم الانتخابية ومصالحهم الخاصة. وكان يبت في هذه الطلبات من طرف الوزراء في حينها بموافقة رئيس مجلس الوزراء، ولهذا كانت مدة دورات مجلس الأمة قصيرة، ولم تكن جلسات مجلس النواب صاخبة كما كان عليه في الماضي.
ولم يشهد مجلس النواب نقاشًا هامًا لمواضيع سياسية حساسة مثل إلغاء المعاهدات والاتفاقيات العسكرية وجلاء القوات الأجنبية، ولم يعد يجرؤ أي نائب على إثارتها أو المناداة بالجلاء. كما أن رئيس الوزراء السيد حسين مازق لم يكن برلمانيًا بارزًا أو خطيبًا مفوهًا للدفاع عن سياسة الحكومة في البرلمان. وكان يكره المناقشات البرلمانية كما كان غيره من رؤساء الوزارات، ولهذا كان يتجنب عقد جلسات مجلس الأمة لفترة طويلة ويقصرها على مناقشة الميزانية السنوية والموافقة عليها. وكان يختار موعد انعقاد المجلس قبل العطلات الرسمية والأعياد ببضعة أيام لترفع الجلسات وتنفض الدورة ليعود النواب إلى عائلاتهم في دوائرهم لقضاء عطلات الأعياد معهم، خاصة أن إقامة النواب كعزاب في البيضاء غير مريحة، وكان أغلبهم يتوقون إلى العودة إلى عائلاتهم وأعمالهم في طرابلس وبنغازي في أقرب وقت.
ونظرًا لاستقرار الحكومة في البيضاء البعيدة عن المدن والتجمعات السكانية وعقد الدورات البرلمانية دائمًا فيها، فإن الشعب لم يكن يتجاوب مع ما يجري في مجلس الأمة وقرارات الحكومة في القضايا القومية الهامة التي كثيرًا ما تلاقي الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية، كما كان عليه الحال عندما تعقد جلسات المجلس في مدينة طرابلس.

الشئون الخارجـية
عين الدكتور أحمد البشتي وزيرًا للخارجية في أول تعديل لحكومة السيد حسين مازق، كما عين الدكتور وهبي البوري، الذي اختاره السيد حسين مازق وزيرًا للخارجية عندما ألف الوزارة، ممثلًا لليبيا في الأمم المتحدة في نيويورك. وعقد في هذه الفترة مؤتمر وزراء الاقتصاد لدول المغرب العربي في طرابلس. وحضر وزير الخارجية مؤتمرات وزراء الخارجية العرب في القاهرة، كما حضر مؤتمر وزراء الخارجية الأفارقة للإعداد لمؤتمر القمة الأسيوي الإفريقي. كما عقد المؤتمر الخامس للأوبك في طرابلس، وكذلك المؤتمر الثاني لمقاطعة إسرائيل في طرابلس.
بدأ السيد حسين مازق فترة حكمه أثناء أزمة العلاقات العربية مع ألمانيا بعد قرار الجامعة العربية قطع العلاقات الدبلوماسية معها بسبب مساعداتها لإسرائيل، إلا أن ليبيا مع بعض الدول العربية الأخرى ترددت في تنفيذ هذا القرار واكتفت بسحب سفيرها من بون، مما أثار رد فعل معاد في الصحافة العربية. وكان السيد حسين مازق بطبيعته يتجنب حدوث أي خلاف مع الدول العربية وخاصة مصر. ولم يقم بزيارات رسمية إلى الدول العربية والأجنبية ولم يدخل في اتفاقيات جديدة مع أية دولة عربية أو أجنبية، وكانت سياسة ليبيا الخارجية في عهده هي عدم الاحتكاك وعدم اتخاذ موقف مخالف للاجماع العربي.
استمرت المفاوضات الليبية البريطانية والأمريكية الخاصة بالجلاء في عهد السيد حسين مازق، كما توقفت في عهده الحملات الصحفية في ليبيا على الاتفاقيات العسكرية والمعاهدة البريطانية والمطالبة بجلاء القوات البريطانية. وتم في هذه الفترة جلاء القوات البريطانية من إقليم طرابلس، كما اتفق عليه مع حكومة السيد محمود المنتصر، دون ضجة إعلامية أو احتفال وطني، رغم أنه أشيع بأن الملك طلب من بريطانيا وأمريكا سرًا عن طريق سفيريهما في ليبيا عدم سحب قواتهما من طرابلس، إلا أن الحكومة البريطانية كانت قد أصدرت قرار السحب حال موافقتها على طلب ليبيا بالجلاء ولم يكن في إمكان الحكومة البريطانية إلغاء القرار. وفي هذه الفترة أيضًا عملت الحكومة الليبية على إضعاف ردود الفعل الشعبية للدعاية المصرية الناصرية وذلك بالموافقة على مشروع إنشاء محطة للبث التلفزيوني المباشر وتخفيض عدد المدرسين المصريين واستبدالهم بمدرسين من البلاد العربية الأخرى.










السيد محمود المنتصر رئيس الوزراء في حوار مع وزير خارجيته السيد حسين مازق والسيد بورقيبة الابن ومن ورائهم السيد الباهي الأدغم رئيس الوزراء التونسي وبعض أعضاء الوفد الليبي أثناء زيارة الوفد الليبي لتونس في ديسمبر 1964م

حضور ليبيا للعديد من المؤتمرات العربية والإفريقية
حضرت ليبيا في هذه الفترة العديد من مؤتمرات وزراء الخارجية العرب والأفارقة ومؤتمرات القمة العربية والإفريقية، ومثل ليبيا فيها الأمير الحسن الرضا ولي العهد نيابة عن الملك، الذي لم يحضر أية قمة عربية أو أفريقية إلا القمة العربية الثانية في الإسكندرية تحت إصرار السيد محمود المنتصر رئيس الحكومة آنذاك. وحضر إلى جانب الأمير ولي العهد في القمم الإفريقية والعربية وزير الخارجية الدكتور أحمد البشتي، ولم يشترك فيها السيد حسين مازق. أما سياسة الحكومة في الداخل فاتبع السيد حسين مازق سياسة معتدلة تتمشى مع التوجهات الإقليمية والقبلية.

النشاط الحكومي في المجال الداخلي
اهتمت الحكومة في عهد السيد حسين مازق بتنفيذ مشاريع التنمية التي بدأ الإعداد لها والعمل فيها خلال الحكومة السابقة، بعد تقوية وزارة التخطيط وتعيين الدكتور علي أحمد عتيقة وكيلًا لها. وشملت هذه المشاريع في عهد السيد حسين مازق توفير مياه الري، والطريق الساحلي، ومشروع إدريس للاسكان، وبناء جامعة بنغازي، والتوسع في البناء والإنشاءات في مدينة البيضاء، وطرحت العديد من العطاءات للمشاريع الإنمائية التي نالت منها المنطقة الشرقية نصيبًا هامًا. جاء السيد حسين مازق بالسيد سالم لطفي القاضي وزيرًا للمالية، وهو من الشخصيات الليبية الذين تولوا الوزارة ورئاسة مجلس النواب دون انقطاع منذ فترة الإعداد للاستقلال في حكومة طرابلس المؤقتة قبل استقلال ليبيا سنة 1951م وإلى الفاتح من سبتمبر 1969م، وقد تولى رئاسة الحكومة بالنيابة في عهد السيد حسين مازق.

حسـين مـازق.. سياسـي محـنك، يستمع لكل الآراء
كان السيد حسين مازق شخصية فذة لمن عرفه عن قرب، فهو يتمتع بصفات قلّ أن توجد في غيره من المسئولين الليبيين. فقد كانت ثقافته عالية رغم عدم حيازته على شهادة جامعية، ولكنه تعلم في ليبيا وتدرب في العمل الإداري في العهد الإيطالي وفترة الإدارة العسكرية البريطانية. كان يتميز بقدرة على التعامل مع الناس حسب مستوياتهم، فهو مع السفراء الدبلوماسي القدير الذي يحظى باحترامهم وتقديرهم، وهو مع شيخ القبيلة فرد من القبيلة يتكلم لغتها ويعرف حاجاتها وعاداتها، ومع الشباب المتعلم المثقف الواعي يرتفع بآرائه ونقاشه إلى المستوى الثقافي المطلوب معهم ويشاركهم حماسهم وأمانيهم وتطلعاتهم، ومع الأجانب على مختلف مستوياتهم يرتفع إلى مستوى السياسي المحنك الحذر في كلامه وتعليقاته، ومع أعضاء مجلس النواب متعاونًا ومتجاوبًا لمقترحاتهم ومطالبهم، ومع أصحاب المصالح ورجال الأعمال متفهمًا وكريمًا في حدود القانون والأعراف، ومع الفقير العادي كريمًا وقاضيًا للحاجة وعطوفًا.
كان السيد مازق قوي الذاكرة يتذكر أي شخص سبق أن قابله في مكتبه أو التقى به خارج العمل ولو مرة واحدة، أو أية رسالة قرأها أو عرضت عليه مهما طالت المدة، ومن الصعب أن يعرف محدثه ما إذا كان موافقًا أو معارضًا لرأيه. لا يغتاب أحدًا ولا يعادي أحدًا جهارًا ولا ينتقد أحدًا من وراء ظهره أمام الآخرين. يستقبل من يطلب مقابلته إذا سمح وقته بذلك، وهو يقضي كل وقته في العمل في المكتب والبيت ويرحب بضيوفه ويودعهم باحترام حتى باب مكتبه أو منزله، صادقًا في وعوده للآخرين بقدر الإمكان، ولا يخيب رجاء أحد، ويسعد بتلبية مطالب المواطنين بقدر المستطاع. كان يهاب الملك احترامًا ولا يصر على مقابلته إلا إذا استدعاه، ولا يتصل رأسًا به ويفضل الاتصال به عن طريق سكرتير الملك الخاص لنقل ما يريد إليه واستلام تعليماته عن طريقه، ولذلك كسب ثقة السكرتير الخاص.
أما في مجلس الوزراء فقد كان صبورًا يستمع إلى كل من يريد الكلام، أو له رأي مخالف. وتستمر جلسات مجلس الوزراء في عهده أيامًا متتالية وإلى الساعات المتأخرة من الليل، مما جعل الوزراء غير مرتاحين لتغيبهم عن وزاراتهم طوال جلسات المجلس، خاصة أن كل الوزارات باستثناء الخارجية والدفاع كانت في طرابلس، بينما مجلس الوزراء يعقد جلساته في البيضاء. لا يمل مقابلات الناس على مختلف مستوياتهم لا فرق عنده بين مواطن أو وزير، ويستقبل العشرات من أفراد عشيرته وقبيلته التي تسكن البيضاء سواء في مكتبه نهارًا أو في بيته ليلًا.
كان يقيم في مدينة البيضاء بدون عائلته التي يزورها في بنغازي في نهاية الأسبوع والعطلات الرسمية. يحب والدته كثيرًا ولا يخيب لها طلبًا، ولهذا كان بعض أصحاب الحاجات يلجأون إليها لايصال طلباتهم وشكواهم إليه. حذر يثق في عدد قليل من الناس، وهو خجول ويحمر وجهه في حالة الغضب دون أن يفقد اتزانه، ولا يحب إثارة المشاكل حتى بين مساعديه ولا يلوم أحدًا أمام غريمه أو خصمه. لا يبت فيما يعرض عليه على الفور ولا يتخذ قراره أو يبدي رأيه إلا بعد تفكير وتدبر. شخصية يعتريها الغموض أحيانًا، لا يستطيع إنسان أن يعرف ما يدور في خاطره.
يتهمه البعض بأنه كان منحازًا لبرقة ولقبيلته البراعصة ولمدينة البيضاء، وهذا في رأيي ليس عيبًا، وكالمثل العربي القائل بأن الأقرباء أولى بالمعروف. لا يستسيغ الإقامة في مدينة طرابلس ولا يعرف فيها كثيرًا من المواطنين، خاصة أن الناس العاديين ومشايخ القبائل والأعيان في طرابلس لم يتعودوا طلب مقابلة رئيس الوزراء أو حتى الوزراء وكبار الموظفين. ولندرة ذهابه إلى طرابلس فقد سمح لوزارة الإسكان بتخصيص بيت رئيس الوزراء في طرابلس لأحد أفراد حاشية الأمير ولي العهد وأعتقد أن ذلك كان بطلب من الأمير.
ولم يعد لرؤساء الحكومات الذين جاءوا بعده بيت حكومي رسمي في طرابلس. فالسيد عبدالقادر البدري لم يذهب إلى طرابلس بتاتًا، ورؤساء الحكومات من طرابلس مثل السادة محمود المنتصر ومصطفى بن حليم ومحمد عثمان الصيد وعبدالمجيد كعبار ومحي الدين فكيني وعبدالحميد البكوش كانوا يقيمون في بيوتهم الخاصة في طرابلس. ولما جاء السيد ونيس القذافي إلى طرابلس في مهمة رسمية كرئيس للوزراء لم يجد وزير الإسكان له بيتًا رسميًا يقيم فيه، واضطر وزير الإسكان إلى أن يطلب مني بصفة شخصية استعمال بيتي الخاص ولفترة أيام قصيرة لإقامة رئيس الوزراء، وانتقلت أنا للإقامة في الفندق أثناء إقامة السيد ونيس القذافي في طرابلس.
وكما ذكرت، ورغم أن السيد حسين مازق يشعر بانتمائه وحبه إلى برقة وقبيلته ومدينة البيضاء، إلا أنه كان حريصًا في تعييناته للموظفين ألا يكون محابيًا بقدر المستطاع. وهو كالملك، علاقته مع بريطانيا وثيقة منذ كان واليًا ويرى فيها الحليف الوفي، أما أمريكا فلا يشعر نحوها بود، وأعتقد أن السبب أن أمريكا فضلت أن تجعل من طرابلس مقرًا لقاعدتها وشركاتها ونشاطها وجاليتها، مما ساعد على نمو طرابلس عمرانيًا واقتصاديًا، الشئ الذي حرمت منه بنغازي وبرقة بصفة عامة.
بريطانيا تفقد ثقتها في مازق كما فقدتها في المنتصر
فقدت بريطانيا ثقتها بالسيد حسين مازق كما فقدتها بالسيد محمود المنتصر وذلك لإصرارهما على إلغاء المعاهدة والاتفاقيات العسكرية معها وجلاء قواتها من ليبيا بأسرع وقت ممكن، واعتقدت بريطانيا أن هدفهما من هذا كان التقرب من الرئيس عبدالناصر وكسب شعبية في ليبيا. رغم أن الملك لم يكن راضيًا عن سياسة الحكومة بإنهاء المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية، التي وجد نفسه بموجبها مضطرًا للسير معهما تحت ضغط الشعب حتى شارفت العملية على الانتهاء، واستدركها بعد ذلك كما رأينا بعملية الاستقالة والرجوع عنها، مما جعل الحكومات المتتالية لا تعطي الموضوع اهتمامًا خاصًا في سياساتها ومخططاتها، وتناسته جماهير الشعب، وخمدت الانتفاضة الشعبية التي أشعلتها قضية إلغاء الاتفاقيات والمطالبة بالجلاء.
فقدان بريطانيا لثقتها في السيدين محمود المنتصر وحسين مازق أكدها السير رودريك ساريل سفير بريطانيا في ليبيا في تلك الفترة (1964-1969م) في تقاريره العديدة والمفصلة التي كان يرسلها لوزارة خارجية دولته، والتي رفعت عنها الصبغة السرية ونشرت في سجلات دار المحفوظات البريطانية أخيرًا بعد مرور ثلاثين سنة لتصبح مرجعًا تاريخيًا لسياسة بريطانيا في العالم. وكما ذكرت سابقًا كان السيد حسين مازق يهاب الملك احترامًا وينفذ أوامره بدون مناقشة، وإذا اختلف معه يبعث له وسيطًا له منزلة عنده مثل اللواء مفتاح بوشاح مدير عام الأمن للمحافظات الشرقية أو أحد مستشاري القبائل من كبار السن ليشرح للملك وجهة نظره.
كان السيد مازق يعامل خصومه في برقة معاملة حسنة، رغم أنهم لا يكنّون له أي ود، خاصة الذين ينتمون إلى القبائل المنافسة لقبيلة البراعصة. وكان يعامل السيد عبدالقادر البدري والسيد عبدالحميد العبار رئيس مجلس الشيوخ معاملة خاصة، كذلك أبناء الشلحي السيدين عمر وعبدالعزيز، رغم أن السيد البوصيري الشلحي كان يخاصمه عندما كان واليًا على برقة. وقد غضب البوصيري من السيد محمود المنتصر عندما اختار السيد حسين مازق ليكون وزيرًا للخارجية في حكومته الثانية بعد أن كان مبعدًا منسيًا. كان السيد حسين مازق أيضًا لا يطمئن للسيد عبدالله عابد السنوسي ولا يتكلم معه، وقد قاطع هذا الأخير جميع الحفلات الرسمية في عهد حكومات السادة محمود المنتصر وحسين مازق وعبدالقادر البدري، لأنهم لم يخصصوا له مكانًا خاصًا للجلوس في الحفلات الرسمية بين رؤساء السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية لأنه لا يعتبر نفسه مواطنًا عاديًا لا يتمتع بأية صفة رسمية.
والسيد مازق لا يحب المظاهر ولا يرفع العلم على سيارة الرئاسة ولا يحب مرافقة سيارات الحرس لموكبه حتى في الحفلات الرسمية. ويعتبر السيد مازق نصيرًا للمرأة ويرى في الأستاذة حميدة العنيزي رائدة وراعية لقضية المرأة ويقدر دورها في هذا المجال. وقد صدر في عهده قانون يمنع الموظفين من الزواج بالأجنبيات ووضع عراقيل إدارية أمام المواطنين العاديين الراغبين في الزواج من أجنبيات.
السيد حسين مازق في رأيي من أذكى من عرفت. وكان طموحًا لتولي زعامة البلاد عن طريق نفوذه القبلي في برقة وعلاقاته الوطيدة مع بعض زعماء طرابلس الذين عرفهم في الحكومات المتتالية منذ كان واليًا على برقة، رغم أنه لا يتردد كثيرًا على طرابلس. وعقبته الوحيدة في المجال السياسي كانت عدم ثقة الملك الكاملة فيه، ويرى فيه ضعفًا وترددًا في السيطرة على الأمور في الأزمات كما حصل له في فترة الحرب الإسرائيلية العربية سنة 1967م. أما علاقته بولي العهد فكانت عادية. وفي الفترة الأخيرة من حكمه أقام السيد حسين مازق علاقة وطيدة مع السيدين عبدالعزير وعمر الشلحي ليتقرب بهما إلى الملك، وكانت علاقاته وطيدة مع السيد إدريس بوسيف سكرتير خاص الملك وقناة اتصاله بالملك كما أوضحت أعلاه.

تولي الشيخ سالم القاضي رئاسة مجلس الوزراء بالوكالة
في سنة 1966م سافر السيد حسين مازق في إجازة لأول مرة منذ توليه رئاسة مجلس الوزراء إلى إيطاليا للعلاج والاستجمام، وعين أقدم الوزراء السيد سالم لطفي القاضي وزير المالية رئيسًا للوزراء بالوكالة. كان السيد سالم لطفي القاضي مخلصًا لرؤساء الوزارات الذين عمل معهم ولهذا بقي في الوزارة أطول فترة من غيره من الوزراء، بالإضافه إلى توليه رئاسة مجلس النواب لفترة طويلة. وكان بدوره طموحًا ويأمل في إنهاء حياته السياسية بتولي رئاسة الوزراء، خاصة أن الملك كثيرًا ما يختار رؤساء الوزراء الجدد من بين أعضاء الحكومات المستقيلة القدامى، لذلك كان ينتظر دوره لتولي رئاسة الحكومة بعد السيد حسين مازق، لأنه كان أقدم الوزراء وتولى في عهده منصب رئيس الوزراء بالوكالة.
وأثناء قيامه برئاسة الحكومة بالنيابة في عهد السيد حسين مازق أراد أن يكسب ثقة الملك ورضا السيد حسين مازق، فسارع إلى البت في عطاءات إنشاء مباني الحكومة ومنازل الوزراء والموظفين في مدينة البيضاء. ويظهر أن الملك شعر بنقطة ضعفه فاستغل زيارته له في طبرق وسلمه عن طريق سكرتيره الخاص ثلاثة مراسيم لإصدارها بقوانين قبل مناقشتها معه، ولتنفيذها حالًا أثناء العطلة البرلمانية الصيفية حتى لا يؤخر تنفيذها لعودة السيد حسين مازق، ورفض الملك مناقشتها معه بعد أن سلمت له كما يقول الشيخ سالم القاضي نفسه. وكانت هذه المراسيم الثلاثة تتعلق بإلغاء الفوائد الربوية لقروض البنك العقاري والبنك الزراعي وكذلك البنك المركزي، وقد رجع السيد سالم لطفي القاضي غاضبًا من طبرق.
وكانت تربطني بالسيد سالم القاضي، كما بينت آنفًا، علاقة صداقة ويعتبرني كابنه محمد الذي كان زميلي في الدراسة وأنا اعتبره في مرتبة الوالد، فهو من مصراته وترتبط عائلته بعائلتنا منذ أمد طويل. وهو كريم ويحب الأدب والشعر ويحترم العلماء ويجالسهم، وكان يؤم الناس في الصلاة في قبيلته الدرادفة. وأذكر أنه استدعاني حال وصوله للبيضاء إلى بيته الملاصق لبيتي وأخبرني بأن الملك لم يشاوره في إصدار هذه المراسيم الثلاثة، وهي خطرة على الاقتصاد الليبي الذي يقوم على الاقتصاد المصرفي الحر. وبعد استشارته للمستشار المالي عرضها حالًا على مجلس الوزراء وحاول إقناع الوزراء بالموافقة على مرسومي إلغاء الفوائد على قروض البنك العقاري والبنك الزراعي، وفعلًا وافق مجلس الوزراء عليهما وصدرا في الحال. أما مرسوم إلغاء الفوائد على عمليات بنك ليبيا المركزي فقد لاقت معارضة من المستشارين والوزراء، ورفض نائب محافظ بنك ليبيا والمحافظ بالوكالة السيد على جمعة المزوغي (لغياب المحافظ السيد خليل البناني في إجازة) تنفيذه وهدد بتقديم استقالته في حالة إصرار الملك على تنفيذ المرسوم بإلغاء الفوائد على قروض البنك المركزي.






السيد على جمعة المزوغي السيد خليل البناني

وانعكس هذا الرفض في سير مناقشة مجلس الوزراء وحاول السيد سالم لطفي القاضي بحنكته وخبرته السياسية أن يقنع الجميع بإلغاء الوظيفة التجارية لبنك ليبيا المركزي والإبقاء عليه كبنك مركزي فقط بحيث لا يتعامل مع الليبيين بالفوائد الربوية، مع الإبقاء على نظام الفائدة في استثمارات البنك في الخارج حتى لا تحرم البلاد من العوائد التي ستجنيها من استثماراتها في الخارج. ولكن فكرته هذه لم تلق قبولًا لدى الوزراء ولدى البنك المركزي، ولهذا سعى لدى الملك بتأجيل إصدار المرسوم الخاص ببنك ليبيا المركزي لمدة ستة أشهر لدراسة ما يترتب عليه من أثار مالية واقتصادية على البلاد. وهكذا نجح السيد سالم لطفي القاضي في تخطي أخطر مشكلة واجهته، وتم حفظ مشروع المرسوم الخاص ببنك ليبيا المركزي حتى عودة السيد حسين مازق من الإجازة، الذي استطاع بدوره تأجيل البت فيه حتى حفظ نهائيًا. وأعتقد أن عدم تنفيذ السيد سالم لطفي القاضي لمرسوم إلغاء الفوائد في معاملات بنك ليبيا المركزي جعل الملك يغضب عليه ولم يفكر فيه بعد استقالة السيد حسين مازق لإسناد رئاسة الحكومة له كما توقع الشيخ سالم القاضي.

الاعتداء الإسرائيلي على مصر والأردن وسوريا يوم 5 يونيو 1967م
كما ذكرت، تميزت فترة السيد حسين مازق لرئاسة الحكومة بالهدوء والاستقرار حتى هبت عاصفة الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1967، وقيام الجماهير بمظاهرات صاخبة عمت جميع أنحاء ليبيا لم يعرف له مثيلًا من قبل وذلك بمجرد إذاعة خبر الاعتداء الإسرائيلي. وكانت الجماهير تهتف ضد بريطانيا وأمريكا لمشاركتهما في الاعتداء الجوي على مصر حسب ما أعلنت إذاعات مصر وصوت العرب بالذات. وشاركت الإذاعات العربية الأخرى في نشر الخبر بما في ذلك تأكيد هذا التدخل من طرف الملك حسين نفسه في إذاعة الأردن، وكان الوضع خطيرًا نظرًا لوجود القواعد العسكرية البريطانية في برقة والقواعد الأمريكية في طرابلس.
وأذاع صوت العرب بأن القواعد البريطانية والأمريكية في ليبيا استخدمت في الاعتداء على مصر، مما عرض القوات والجاليات الأجنبية في ليبيا للخطر. وهاجمت الجماهير الغاضبة في بنغازي وطرابلس وبقية المدن الليبية مساكن ومتاجر اليهود والسفارتين البريطانية والأمريكية. كما حصل اعتداء على الأفراد والممتلكات وتراشق بالحجارة مع القوات البريطانية في بنغازي (التي لم تنسحب بعد حسب الاتفاق التي تم مع الحكومة الليبية) والتي خرجت للمساعدة في سلامة الرعايا الأجانب، ولم تستطع قوات الأمن الليبية وقف العنف. كما أن الجماهير كانت في درجة الغليان والوقوف في وجهها كان سيؤدي إلى كارثة وسقوط العديد من الضحايا، وزاد الطين بلة، كما يقال، مشاركة أفراد قوة الأمن للجماهير في احتجاجاتها. كما تردد ضباط الأمن في إصدار تعليمات باستعمال السلاح ضد الجماهير، رغم تطور الاعتداء على الأفراد والممتلكات، وذلك خوفًا من تكرار حوادث يناير 1964م التي ألقيت مسئوليتها على ضباط الأمن في بنغازي وبقية المدن الليبية.
كان السيد حسين مازق في موقف أقل ما يوصف بأنه حرج للغاية، وكانت الحوادث أسرع من القدرة على اتخاذ قرار بشأنها. وكان الملك غاضبًا أيضًا وكعادته يتابع الأمور من بعد ويراقب ما تتخذه الحكومة دون إصدار أية أوامر إليها، وهو لا يتدخل عادة في مثل هذه الحالات تاركًا الأمر لرئيس الوزراء والوزراء تحمل مسئولياتهم. وقيل إنه كان متأثرًا من الاعتداء على الأردن، خاصة وأن الأخبار الأولى كانت تؤكد اشتراك الطائرات البريطانية والأمريكية في الاعتداء الإسرائيلي على مصر، مما زاد في تعقيد الوضع بالنسبة إلى ليبيا، كما قيل إن الملك ذهب إلى خيمته في الصحراء خارج طبرق، حيث يتعذر الاتصال به هاتفيًا، تاركًا الأمر كله في أيدي الحكومة.
كان أول قرار اتخذته الحكومة إعلان استنكارها للاعتداء، ولكن جماهير الشعب كانت تطالب بأكثر من هذا وتطالب باشتراك الجيش الليبي في المعركة ودعم الدول المعتدى عليها بالمال حالًا، والمطالبة من جديد بجلاء القوات البريطانية من بنغازي وطبرق والقوات الأمريكية من طرابلس فورًا ووقف ضخ البترول. وفعلًا أدى هذا إلى إضراب عمال البترول وتوقف الضخ فعلًا مما شل التحرك الحكومي، كما كان صمت رئيس الوزراء غريبًا لمن حوله ولم يكن راغبًا في اتخاذ قرار عاجل.
وكانت وزارة الإعلام بالذات في حيرة غير قادرة على اتباع سياسة وتعليمات محددة من الحكومة وملاحقة الأحداث المتسارعة والمتلاحقة، مما دفع بوزيرها الأستاذ خليفة محمد التليسي إلى ربط الإذاعة الليبية بالإذاعة المصرية وصوت العرب الذي كان يبعث بصيحات الحماسة ويندد بإسرائيل وبريطانيا وأمريكا. وواصلت الصحف الليبية نشر ما تذيعه وسائل الإعلام المصرية، مما ساعد على اشتداد العنف، وخاصة بعد تأكيد مصر والأردن اشتراك الطائرات البريطانية والأمريكية في الاعتداء على مطارات مصر.
وشارك أفراد من الجيش الليبي انتفاضة الجماهير ورفضوا مساعدة قوات الأمن على حفظ الأمن في البلاد، وأعربوا عن غضبهم لعدم مشاركتهم وإعداد وسائل النقل لهم للذهاب إلى المعركة، وقطعوا تعاونهم وعلاقاتهم مع أعضاء البعثة البريطانية العسكرية التي كانت تتولى تدريب الجيش الليبي. كذلك احتجت القوة الجوية الليبية التي كانت تتخذ من مطار الملاحة الأمريكي مقرًا لها بمقتضى اتفاق مفاوضات الجلاء للإشراف على تحرك الطائرات الأمريكية ومنعها من الاشتراك في أي اعتداء على البلاد العربية، وقرر ضباطها الليبيون الانتقال بطائراتهم إلى مطار إدريس الأول بطرابلس بعد تعذر التحكم في قيام وهبوط الطائرات الأمريكية من مطار الملاحة.
وقام المقدم مصطفى القريتلي من الجيش الليبي بقتل عائلتين يهوديتين ليبيتين مستعملًا في جريمته سيارات وأفراد الجيش التابعين له. وكنت أعرف هذا الضابط جيدًا وقد كان زميلًا لي في الدراسة وتعجبت من تصرفه غير السليم، إلا أنه يقال إنه أصيب بلوثة عقلية أدت به إلى القيام بهذا العمل، الأمر الذي استنكره الجميع وخاصة ضباط الجيش.
أما العمال وخاصة أعضاء اتحاد نقابات البترول فقد قرروا الاضراب مطالبين الحكومة بمنع تصدير البترول لبريطانيا وأمريكا، وقام العمال فعلًا بوقف الضخ إلى الموانئ البترولية وإلى السفن الشاحنة الراسية في الموانئ. وقامت جماهير طرابلس بقيادة عميد بلدية طرابلس الدكتور مصطفى بن زكري وبعض الشخصيات الطرابلسية المعروفة بتأليف لجنة أهلية لتنفيذ مطالب الجماهير بعد عجز الحكومة عن اتخاذ إجراءات عاجلة تتجاوب مع طلبات الجماهير. وقد سيطرت بعض العناصر المتطرفة على هذه اللجنة وطالبوا بإعلان العصيان المدني، مما أدى إلى عدم تعاون الحكومة مع هذه اللجنة الأهلية. شمل التردد وعدم اتخاذ القرار وزارة الخارجية الليبية بعدم مشاركتها العاجلة والفعالة في المساعي العربية والاجتماعات العربية في القاهرة ونيويورك، وقد أدى هذا إلى زيادة الهجوم على ليبيا، وخاصة من جانب مصر وأجهزتها الدعائية.

أثـار العـدوان الإسرائيلي
بعد انتهاء فترة الارتباك التي أعقبت الحرب الإسرائيلية العربية في أيامها الأولي دعى السيد حسين مازق مجلس الوزراء للانعقاد وتم اتخاذ القرارات التالية: وقف تصدير البترول، وتقديم دعم مالي عاجل للدول المتضررة من العدوان، وتلبية مطالب الشعب بما في ذلك إرسال ألوية من الجيش الليبي للمشاركة في المعركة. وكان الملك غير راض على عدم اتخاذ إجراءات أمنية لمنع أعمال الشغب وقتل بعض اليهود وتدمير ممتلكاتهم، رغم عدم اعتراضه على قرارات الحكومة في حينها.
كانت مدينة البيضاء يوم الاعتداء الإسرائيلي، كبقية المدن الليبية الأخرى، تعج بالمتظاهرين المستنكرين للاعتداء، إذ خرج أغلب سكانها وسكان ضواحيها في مظاهرات عارمة لأول مرة في تاريخها. ولا أعرف من أين أتى هذا الكم الهائل من البشر رجالًا ونساءً وأطفالًا، والتفوا حول مبنى رئاسة مجلس الوزراء يهتفون وينددون بالاعتداء ويطالبون بما تطالب به جماهير الشعب في طرابلس وبنغازي. وكنا في رئاسة مجلس الوزراء نتابع أخبار ما يجري في المدن الليبية. ورغم تكذيب بريطانيا وأمريكا لخبر اشتراكهما في الاعتداء لصالح إسرائيل، كما كانت إذاعات مصر والأردن تؤكد، لم تقم الإذاعة الليبية بإذاعة خبر التكذيب الأمريكي البريطاني لتهدئة جماهير الشعب الغاضبة وتخفيف الضغط على القوات البريطانية في بنغازي والجاليات الأجنبية الكبيرة في طرابلس وبنغازي.
وأذكر أن السفيرين البريطاني والأمريكي كانا يحاولان الاتصال بالملك ورئيس الوزراء ووزير الخارجية دون جدوى، ولم يتمكنا إما لرفض مكالماتهما أو لانشغال رئيس الوزراء ووزير الخارجية. وقد قاما شخصيًا بالذهاب إلى مبنى رئاسة مجلس الوزراء في طرابلس واجتمعا بالمستر بيت هارديكر المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، البريطاني الجنسية، والموجود في طرابلس. واتصل بي هذا الأخير، وذكر لي أن السفيرين البريطاني والأمريكي في مكتبه، ويأملان من الحكومة الليبية بصفة مستعجلة إذاعة بيان الحكومتين البريطانية والأمريكية بنفي مشاركة القوات والطائرات الأمريكية والبريطانية في المعركة لصالح اسرائيل في الإذاعة الليبية كخبر على الأقل، لأن تكرار هذا الادعاء المصري في الإذاعة الليبية يزيد الأمر تعقيدًا وتترتب عليه نتائج وخيمة.
وقد أبلغت رسالة السفيرين إلى رئيس الوزراء، فذكر لي أن الموضوع قيد البحث وسيتصل بالسفيرين في الوقت المناسب لإبلاغهما بأن النفي البريطاني الأمريكي سيذاع، خاصة أن الحكومة الأردنية صححت الأخبار التي أذاعتها الإذاعة الأردنية في الساعات الأولى للمعركة، عندما كان هناك اعتقاد في الأردن بأن الطائرات الإسرائيلية العائدة من مصر كانت آتية من السفن الحربية البريطانية والأمريكية المتواجدة في البحر الأبيض المتوسط كما سجلت شبكة الرادار الأردنية.


استقالة حكومة السيد حسين مازق
تردد السيد حسين مازق في اتخاذ قرار عاجل أغضب الملك، رغم أن الملك نفسه كان متأثرًا وأرسل بدوره برقية مؤثرة يظهر من صيغتها أنه كتبها بنفسه دون الاستعانة بأحد إلى الرئيس عبدالناصر والملك حسين يستنكر فيها الاعتداء الإسرائيلي وشعوره بالألم لما تتعرض له مصر الشقيقة والأردن الشقيق من خسائر في الأرواح والمعدات. ورغم أن الملك وافق على الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المشار إليها أعلاه، إلا أنه كان غير راض عن طريقة الحكومة في معالجة الأزمة والتنازلات التي قدمتها للمعارضة، وإحجام قوات الأمن والجيش عن التدخل السريع للحفاظ على الأرواح والممتلكات التي تعرضت للدمار والحرق، وعجزها عن حماية الأقليات والأجانب في البلاد على الوجه الأكمل. وبعد استقرار الوضع ومرور الأزمة بسلام استدعى الملك السيد حسين مازق إلى طبرق وطلب منه تقديم استقالته بعد استعراضه للأحداث التي وقعت وتردد حكومته في القيام بواجباتها أثناء الأزمة، وكلف الملك بعدها السيد عبدالقادر البدري بتشكيل الحكومة الجديدة.





الفصل الخامس

حكومة السيد عبدالقادر البدري

السيد عبدالقادر البدري رجل قبلي شهم وشجاع وثري وتحصيله التعليمي بسيط. وكان معارضًا في البرلمان في كل عهود الوزارات المتعاقبة لأنه لم يكن محتاجًا إلى أحد، وكان يقول دائمًا إنه ليس في حاجة إلى مناصب الدولة. كان يتمتع بنفوذ في قبيلة العواقير، وهو صديق للشيخ عبدالحميد العبار رئيس مجلس الشيوخ، وهو من قبيلة العواقير أيضًا. وبعد أن فقد الملك الثقة في السيد حسين مازق نتيجة لتردده في اتخاذ إجراءات مشددة ضد المظاهرات والانتفاضة الشعبية العارمة ضد الاعتداء الإسرائيلي وحرب 1967م، اختار الملك السيد عبدالقادر البدري رئيسًا لمجلس الوزراء، وهو الشخ

2:26 PM  
Blogger Bashir Muntasser said...

وهو الشخص الذي عرف بالحزم وعدم التردد.
جرى تغيير طفيف في قائمة وزراء حكومة البدري الجديدة كالعادة التي سار عليها الملك. وجئ بالسيد أحمد عون سوف وزيرًا للداخلية، وهو شخصية قوية في طرابلس ويهابه الكثيرون، وقد سيطر على الأمن في طرابلس. وكان يتفقد ما يجري في المحافظات الغربية شخصيًا باستمرار، وهو لا ينام ليلًا وعلى اتصال دائم هاتفيًا بمدراء الأمن فيها، لكنه ليس له نفوذ في برقة، وهو يقول دائمًا إنه لا يعرف عما يجري في المحافظات الشرقية وقوات الأمن فيها، لأنهم لا يخضعون لوزير الداخلية ولا يعترفون به.
ومن النكات التي يحكيها البعض أن السيد أحمد عون سوف عندما يسافر إلى بنغازي برفقة السيد أحمد عباس السوداني والموظف المخضرم في الداخلية لا يجد في استقباله أي مسئول من محافظة بنغازي أو من كبار ضباط الأمن فيها، وشوهد وهو يجر حقائبه بمفرده إلى سيارته دون أن يقدم له رجال الأمن المنتشرين في المطار أية مساعدة، ويغادر مطار بنغازي إلى مدينة البيضاء لحضور اجتماعات مجلس الوزراء في سيارته دون حراسة. ولم يزر في عهده كوزير للداخلية مدينة بنغازي أو أية محافظة من المحافظات الشرقية. وعندما يرجع إلى طرابلس من البيضاء يكون في انتظاره إستقبال رسمي وجمع غفير على رأسه جميع محافظي محافظات المنطقة الغربية في طرابلس وحكمداريها وكبار موظفي وزارة الداخلية ومحافظة طرابلس وكبار رجال الأمن فيها ولفيف من الأنصار، ويغادر مطار طرابلس إلى بيته أو مكتبه في موكب رسمي كبير تتقدمه وتحف به الدراجات النارية والسيارات الحاملة لقوات الأمن ويتبعه طابور طويل من سيارات المستقبلين والحرس.

رد فعل تعيين السيد البدري رئيسًا للوزراء
استُقبل تعيين السيد عبدالقادر البدري باستغراب وانتقاد من الجميع حتى من الوزراء، وخاصة القدامى منهم، الذين يعتقدون أنهم أولى منه بمنصب رئيس مجلس الوزراء وذلك لمستوى تعليمه. واستقال في الحال السيد سليمان الجربي وزير الدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء، والذي كان يفكر في الاستقالة منذ أن عين من طرف السيد حسين مازق، لأسباب كثيرة أهمها عدم وضوح اختصاصات وزير الدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء، والأهم من ذلك هو عدم رضائه على تعيين السيد عبدالقادر البدري رئيسًا للوزراء، لأنه يرى أنه أقدم منه وأكثر تعليمًا وخبرة بشئون الدولة، وكان يرى منذ قدومه للحكومة أن المستوى الثقافي والسياسي للوزراء والمسئولين في الدولة أصبح متدنيًا. وكان السيد الجربي حسب ما أعتقد لا يطمح في رئاسة الحكومة أو يرغب في تحمل مسئوليات كبيرة لا تتمشى مع مطامحه المتواضعة، وكان يحبذ أن يكون سفيرًا كغيره من كبار المسئولين الذين أصبحوا يشعرون أن المناصب العامة في الداخل أصبحت معرضة لمشاكل كثيرة، أهمها تدخلات الحاشية الملكية، والضغوط الشعبية الموجهة من القاهرة بوسائل الإعلام، والمطالب القبلية المؤيدة من القصر، ولكن السيد عبدالقادر البدري طلب من السيد سليمان الجربي البقاء في منصبه حتى يبت في أمر استقالته.
وكان السيد سالم لطفي القاضي وزير المالية وأقدم الوزراء على رأس المتذمرين من تعيين السيد البدري، والذي كان يرى أنه أولى بمنصب رئاسة الوزراء، وكان أمل السيد سالم القاضي أن ينهي حياته السياسية كرئيس للوزراء، فقد عمل مع كل رؤساء الحكومات وبقى وزيرًا حتى الفاتح من سبتمبر 1969م. وكانت علاقتي بالسيد سالم القاضي وطيدة ويحترمني ويصارحني برأيه فيما كان يجري.








بشير المنتصر وكيل الوزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء والسيدان محمد موسى وكيل وزارة الأشغال (مرتديًا الطربوش) وإبراهيم محمد الميت من وزارة الخارجية أثناء حفل العشاء الذى يقيمه رئيس الوزراء بمناسبة عيد الاستقلال في 24 ديسمبر

اتخذ السيد عبدالقادر البدري من السيد عبدالحميد البكوش وزير العدل مساعدًا ومستشارًا. فالسيد عبدالحميد البكوش شخص متعلم وقانوني معروف وكاتب. وفوجئت جماهير الشعب بشدة الإجراءات ضد المظاهرات والاعتقالات وتقييد حركات العمال والطلاب التي فقدت الحكومة السيطرة عليها في الأيام الأولى لحرب 1967، بسبب عدم رغبة السيد حسين مازق اتخاذ إجراءات مشددة ضد رد الفعل الشعبي للاعتداء الإسرائيلي واتهام بريطانيا وأمريكا بالتدخل لصالح إسرائيل. ولم يجر السيد عبدالقادر البدري أي تغيير في الوزراء والموظفين، وواصلت عملي كوكيل وزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء، ورفض السيد عبدالقادر البدري بدوره طلبي بنقلي إلى السلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية بمجرد أن أعربت له عن رغبتي في ذلك.
كان السيد عبدالقادر البدري يعمل معظم الوقت من بيت رئيس الوزراء في البيضاء أو من بيته الخاص في بنغازي، ولا يأتي إلى مبنى رئاسة مجلس الوزراء إلا لحضور جلسات مجلس الوزراء. وكنت أذهب إليه في البيت لأستعرض معه بريد الرئاسة، وقد ترك لي حرية التصرف في البريد وعدم إرسال البريد إليه كما جرى العمل مع السيد حسين مازق، لأنه كما يقول ليس لديه وقت لقراءة كل هذا البريد، وطلب مني أخذ رأيه إذا استدعى الأمر في المراسلات الهامة فقط.
كان السيد عبدالقادر البدري متفهمًا لما يجري بين طبقات الشعب، فقد كان في البرلمان معارضًا، رغم أنه لم يكن ضد النظام. ويقال إن الشيخ عبدالحميد العبار، وهو من قبيلته وأحد أعضاء المجلس الاستشاري للملك، كان في طبرق أثناء تعيين السيد عبدالقادر البدري رئيسًا للحكومة، وهو الذي أوصى الملك بتعيينه. كانت علاقة السيد عبدالقادر البدري بالسيد حسين مازق ودية في الظاهر رغم التنافس القبلي، إلا أن السيد عبدالقادر البدري كان ينتقد السيد حسين مازق في سياسته وموقفه المتردد أثناء أحداث حرب يونيو 1967 ويصفه بالضعف ويقول إنه دفع البلاد نحو الفوضى.
وكان كغيره من زعماء برقة حريصًا على المحافظة على مصالح برقة، وكان يتهم الانتفاضة الشعبية التي قامت في طرابلس أثناء حرب يونيو بأنها إقليمية، ويؤكد دائمًا بصراحة أن برقة لن تقبل سيطرة إقليم طرابلس على الأمور في ليبيا، وأن الميزة السكانية التي تعتمد عليها طرابلس تقابلها ميزة وجود معظم حقول البترول في برقة في تلك الفترة، مما يشكل توازنًا في الثقل السياسي بين الإقليمين، وكان يفضل بقاء الحكومة في البيضاء، رغم أنه يفضلها في بنغازي لكنه يعرف أن ذلك كان مستحيلًا لأسباب كثيرة سبق لي ذكرها.
كانت علاقة السيد عبدالقادر البدري بالسيد محمود المنتصر رئيس الديوان ودية للغايه لكنه لم يكن يستشيره في شئون الحكم، وكان السيد البدري يرجع إلى الشيخ عبدالحميد العبار للاستشارة. وتركز عمل السيد عبدالقادر البدري على شئون الأمن والجيش وإعادة الأمور إلى نصابها بعد أزمة الانتفاضة الشعبية إثر حرب يونيو 1967م. ونظرًا لمواقفه المتشددة مع الحاشية الملكية لم تدم فترة رئاسته للحكومة سوى أربعة أشهر استقال أو أقيل بعدها وعين بدلًا منه السيد عبدالحميد البكوش رئيسًا لمجلس الوزراء.

حكومة البدري وتعاملها مع المظاهرات والاضرابات
كانت سياسة السيد عبدالقادر البدري متشددة ضد الحركات الوطنية، وألقت الحكومة في عهده القبض على كثير من الشباب المتحمس وعلى المنتسبين إلى التنظيمات الحزبية السرية. كما حاول الحد من نفوذ بعض العناصر في القصر الملكي، خاصة أنهم كانوا في رأيه مصدر قلاقل وعدم استقرار في الدوائر الحكومية وفي شئون التجارة والعطاءات ولتمتعهم بحصانة. وكان موظفوا القصر، على اختلاف درجاتهم، يتقدمون بطلبات للحكومة وتلبى طلباتهم من قبل بعض الموظفين المعروفين بارتباطاتهم بالحاشية الملكية والمعينين بتوصية منهم، مما أضعف من سلطات الحكومة وسيطرتها على الأمور.
حاولت مع السيد عبدالقادر البدري أن أشرح له وجهة نظري في شأن الاعتقالات التي حصلت بعد مظاهرات حرب يونيو، والقبض على الطلاب وبعض الشباب المتعلم والحزبي العاملين في الحكومة والشركات. ولكن رغم استماعه إلى رأيي كان كغيره يعتقد أن سبب اهتمامي ومعارضتي للاعتقالات يرجع إلى وجود ابن عمي السيد عمر مصطفى المنتصر بينهم، لكنني كنت واثقًا أن هؤلاء الشباب لا يشكلون خطرًا على النظام والأمن ولكنهم مندفعين بحماس الشباب ووطنيته وحيويته وطموحاته وآماله. وقد وعدني السيد عبدالقادر البدري بأنه لن يلحق أي أذى بأي واحد منهم ما دام على رأس الحكومة، وهو يحاول عدم تقديمهم للقضاء، رغم أن الملك مصر على ذلك. وهذا كان موقف السيد عبدالحميد البكوش عندما أثرت الموضوع معه بعد استقالة السيد عبدالقادر البدري، وكان بدوره يجاملني بل صارحني بأنه يعرف أن سبب اهتمامي بهم راجع إلى وجود السيد عمر مصطفى المنتصر بينهم، وهذا ليس كل الحقيقة، ولكني كنت أتكلم بدافع وطني ومصلحة الحكومة واستقرار البلاد.
كان السيد عمر مصطفى المنتصر ضمن الذين حكم عليهم في قضية القوميين العرب وقد حكم عليه مع ثلاثة من زملائه بأربع سنوات، بينما حكم علي باقي المتهمين بفترات أقل متفاوتة. وكان عمر مصطفى المنتصر يراسلني من السجن نظرًا لقرابتي له ولعلاقتي الوطيدة معه، ولا أعرف كيف كان يرسل ببريده إلى صندوق بريدي في طرابلس، ويظهر أنه كان يكلف أحد زواره بتوصيل بريده إلى صندوقي دون طوابع بريد. وكانت رسائله طويلة مكتوبة باللغة الإنجليزية وتشرح ظروف سجنه. وكان ينتقد السيد عبدالحميد البكوش وزير العدل في وزارة السيد عبدالقادر البدري ورئيس الوزراء اللاحق، ويقول إن كل التهم التي وجهت إليهم مختلقة لأنهم حلوا التنظيم السري للقوميين العرب منذ عهد حكومة السيد حسين مازق وبمعرفته وتم ذلك في مكتبه عندما كان رئيسًا للوزراء، ومنذ ذلك التاريخ توقف نشاط القوميين السري. وأن أسباب إلقاء القبض عليهم في الحقيقة ترجع إلى كونهم أعضاء في نقابات البترول الذين قاموا بوقف ضخ البترول أثناء الاحتجاجات الشعبية على الاعتداء الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن في يونيو سنة 1967م، كما أن الخلاف القديم بين القوميين العرب من الليبيين والسيد عبدالحميد البكوش عندما كانوا طلابًا في القاهرة في الخمسينات كان عاملًا كبيرًا في معاملتهم بشدة وقسوة.
كنت أعتقد عن إيمان أن تعقب الطلاب والشباب المتحمس من طرف الحكومة ضار بالمصلحة العامة والنظام السياسي للبلد. فالاختلاف في الرأي شئ طبيعي بين البشر، ويجب السماح بحرية التعبير للطلاب والشباب فهي أجدى من الكبت التعسفي، ولهذا كنت دائمًا حريصًا، خلال عملي برئاسة مجلس الوزراء، على مقابلة الطلاب والاجتماع بممثليهم أثناء المظاهرات ومناقشتهم في مطالبهم. وأذكر أني كنت اجتمع برئيس اتحاد الطلاب في طرابلس السيد جمعة الفرجاني أثناء مظاهرات الطلاب، التي انتشرت بعد خطاب الرئيس جمال عبدالناصر حول القواعد العسكرية في ليبيا، محاولًا إقناع الطلاب باللجوء إلى الهدوء لأن موضوع الجلاء كان موضع اهتمام الحكومة.
وقد استطعت إقناع السيد ونيس القذافي عندما أصبح رئيسًا للحكومة بالمحاولة مع الملك لإصدار عفو كامل على من تبقى من سجناء القوميين العرب وضابطين من سلاح الطيران هما مفتاح الفرجاني وفتحي بن طاهر اللذين هربا بطائرة عسكرية إلى الجزائر عقب انتهاء حرب يونيو 1967م. وقد أرسل رئيس الوزراء فعلًا مراسيم بالإعفاء الكامل عن المسجونين السياسيين والعسكريين إلى الملك بمناسبة الأعياد الوطنية ضمن مراسيم الإعفاء العادية بتخفيض فترات السجن على جميع المسجونين، ولكن مرسوم الإعفاء الكامل الخاص بالسياسيين والعسكريين أرجع لرئيس الحكومة بدون توقيع على أساس استفادة الأشخاص الواردة أسماؤهم في هذا المرسوم من الإعفاء العام كغيرهم من المسجونين.

السيد عبدالقادر البدري وإلغاء المعاهدات والجلاء
أما موقف السيد البدري من المعاهدات والاتفاقيات العسكرية البريطانية والأمريكية في تلك الفترة فلم يكن واضحًا ولم يعلنه صراحة خلال فترة حكمه القصيرة، رغم أن المعروف عنه أنه كان ضد المعاهدات والاتفاقيات العسكرية عندما كان في البرلمان عند الموافقة عليها في السنوات الأولى للاستقلال. وقد استمرت في عهده المباحثات الليبية البريطانية لإتمام الجلاء عن بنغازي والمباحثات الليبية الأمريكية للجلاء عن مطار الملاحة، كما يعلن في خطب العرش عادة، ولكن هذه المباحثاث لم تعد بالأهمية التي كانت عليها في عهد حكومة السيد محمود المنتصر على المستوى الرسمي والشعبي ومنذ استقالة الملك.
كان بعض زعماء برقة يشعرون بقوة المطالب الشعبية بجلاء القوات الأجنبية عن ليبيا، فالشعب في برقة كان متضامنًا مع جماهير الشعب في طرابلس في المطالبة بجلاء القوات الأجنبية، إلا أن حرص هؤلاء الزعماء على توازن القوى بين برقة وطرابلس ووجود مخاوف بينهم باحتمال سيطرة طرابلس على الأمور في ليبيا في حالة وفاة الملك أو تنحيته عن الحكم، جعلهم يشعرون بخطورة جلاء القوات الأجنبية على التوازن بين الإقليمين. ورغم أنهم لم يستطيعوا معارضة الجلاء علنًا، إلا أنهم كانوا غير متحمسين للإسراع بالجلاء أو التجاوب مع دعوة الرئيس عبدالناصر إلى جلاء القوات الأجنبية من ليبيا.
كان السيد عبدالقادر البدري صريحًا، ويرى أن قبيلته (العواقير) أولى بزعامة برقة من قبيلة البراعصة التي كانت تحتل مركز الثقل في هيكل السلطة الحكومية في ليبيا، ووجود الحكومة في البيضاء ساعد على تقوية نفوذهم، رغم أن قبيلة العواقير هامة لوجودها في مدينة بنغازي وضواحيها والتي يقطنها أغلبية السكان في برقة. وقد أثار انحياز السيد البدري لقبليته العواقير بعض المشاكل، عندما قام بتعيين مستشارين لقبائل برقة وتخصيص مرتبات سخية لهم، وكان من ضمنهم عدد غير قليل من قبيلة العواقير، الأمر الذي تحاشى السيد حسين مازق أن يقوم به خلال الفترة الطويلة التي قضاها في الحكم، لأنه كان يعرف حساسية مثل هذا الموضوع بين قبائل برقة، وقد ترتب على قرار السيد البدري هذا احتجاج القبائل الأخرى لدى الملك، الذي كان بدوره يحرص على حفظ التوازن بين قبائل برقة.
لم يكن للسيد عبدالقادر البدري نشاط في مجال السياسة الخارجية خلال الفترة القصيرة التي تولى فيها الحكم في المجالين العربي أو الدولي، ولم يقم بأية زيارات خارجية، ولم يزر ليبيا أحد من كبار المسئولين الأجانب في عهده.

استقالة السيد عبدالقادر البدري
من مزايا السيد عبدالقادر البدري صراحته واعتداده بنفسه، ولهذا لم يسمع نصيحة المحيطين به بما فيهم السيد عبدالحميد البكوش وزير العدل وأقرب الوزراء إليه، بعدم التعرض لعائلة الشلحي ذات النفوذ القوي لدى الملك. ولكن السيد عبدالقادر البدري أثار مع الملك وضع العقيد عبدالعزيز الشلحي في الجيش وتصرفاته وتذمر ضباط الجيش منه وتدخل أفراد عائلة الشلحي في أنشطة الوزارات بتعيين ودعم بعض كبار الموظفين، مما جعل هؤلاء الموظفين يتصرفون في شئون العمل دون الرجوع إلى وزرائهم.
وطلب السيد عبدالقادر البدري طلبًا رسميًا من الملك بنقل العقيد عبدالعزيز الشلحي من الجيش وكذلك نقل وكيل وزارة المالية وآخرين. كما رفض تجديد جوازات السفر الدبلوماسية لأرملة السيد إبراهيم الشلحي وبناتها، وكن جميعهن يحظينّ بنفوذ ورعاية خاصة من طرف الملك. وقد وجد الملك في تصرف السيد عبدالقادر البدري عدم اللياقة لسوء معاملة عائلة ناظر خاصته السابق وصديق عمره إبراهيم الشلحي، رغم أن الملك لم يعلن، كعادته، عن معارضته للإجراءات التي اتخذها رئيس وزرائه، إلا أن الملك شعر بتزايد الشكوى ضد السيد عبدالقادر البدري من بعض القبائل أيضًا. ويقال إن الملك طلب منه تقديم استقالته، بينما يقول البعض إن السيد عبدالقادر البدري عندما شعر بعدم رضا الملك سارع إلى تقديم استقالته، بعد فترة لا تزيد عن أربعة أشهر قضاها في الحكم ومهد الطريق للأستاذ عبدالحميد البكوش لتولي الوزارة بعده.




































الفصل السادس

حكومة السيد عبدالحميد البكوش

بعد استقالة السيد عبدالقادر البدري من رئاسة الحكومة بتاريخ 25 أكتوبر 1967م اختار الملك السيد عبدالحميد البكوش رئيسًا للحكومة خلفًا له، وكان أصغر رئيس حكومة لليبيا ولا يزيد عمره عن ثلاثة وثلاثين عامًا. كان السيد عبدالحميد البكوش وزيرًا للعدل في حكومة السيد عبدالقادر البدري والحكومات السابقة وكان تعيينه مفاجأة للكثيرين، وخاصة من طرف جيل السياسيين القدامى الذين احتكروا أهم المناصب منذ بداية الاستقلال.
شملت حكومة السيد عبدالحميد البكوش بعض العناصر القديمة مثل السادة سالم لطفي القاضي كوزير للمالية وحامد العبيدي للدفاع وأحمد عون سوف للداخلية وعمر جعودة للصحة. ورغم أن السيد البكوش أوضح في أول اجتماع لمجلس الوزراء بأنه اختار أعضاء الوزارة بنفسه ولم يفرض عليه الملك أي وزير، إلا أن شمول من ذكروا أعلاه لعضوية الحكومة من جيل الساسة القدامى يعطي الانطباع أن الملك أوصى على بقائهم في الحكومة ليكونوا صمام أمان للشباب الذين شملهم السيد البكوش في حكومته.
وقد ضمت حكومته، بالإضافة لمن سبق ذكرهم، خليطًا من الإداريين القدامى والوزراء السابقين، كالسادة ونيس القذافي للتخطيط والتنمية، وحامد أبوسرويل للعمل والشئون الاجتماعية، وأحمد صويدق للشباب والرياضة، والمهدي بوزو للدولة للشئون البرلمانية، وخليفة موسى للبترول، والهادي القعود للمواصلات، ومن الجدد السادة حسين الغناي لشئون الخدمة المدنية، وأحمد الصالحين الهوني للإعلام والثقافة، وعبدالكريم لياس للزراعة.





السيد عبدالكريم لياس السيد المهدي بوزو

ولأول مرة تشمل الحكومة عددًا كبيرًا من المؤهلين جامعيًا والإداريين المتخصصين، مثل السادة الدكتور أحمد البشتي وزيرًا للخارجية، والأستاذ مصطفى بعيو وزيرًا للتعليم، والمهندس علي الميلودي وزيرًا لشئون البلديات، والمهندس فتحي جعودة وزيرًا للاشغال العامة، وطارق الباروني وزيرًا للصناعة والمهندس عمر بن عامر وزيرًا للاقتصاد والتجارة ووزيرًا للسياحة بالوكالة، وقد عينت وزيرًا للدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء خلفًا للسيد سليمان الجربي، الذي استقال منذ عهد حكومة السيد عبدالقادر البدري ولم يبت فيها حتى استقالة وزارة السيد البدري.





الدكتور أحمد البشتي السيد على الميلودي
كان السيد عبدالحميد البكوش وجهًا جديدًا لمثل هذا المنصب، فلم يكن من جيل الساسة القدامى أو من كبار الموظفين المعروفين، كما لم يكن من رجال القبائل البارزين. وكان قد تولى الوزارة لأول مرة في عهد السيد محمود المنتصر كوزير للعدل، وقد أثار تعيينه في ذلك الوقت لغطًا وتكهنات وتعليقات. وقد كان قبل تعيينه وزيرًا محاميًا ناجحًا، وكان السيد محمود المنتصر قد عرفه كمحامي سبق أن تعامل معه. وقد انتقد الكثيرون السيد محمود المنتصر على تعيينه وزيرًا، لأنه كان صغير السن وغير معروف لدى معظم الليبيين، كما أنه تردد في قبول الوزارة وقدم استقالته عدة مرات. وقد خرج السيد البكوش من وزارة السيد محمود المنتصر الثانية وعاد إليها من جديد، وقد أفاده ذلك، فرجع بنشاط ملحوظ، وتكرر خروجه من الوزارة في عهد السيد حسين مازق، ثم رجع وزيرًا للعدل ليحل محل الشيخ أبوبكر نعامة.
كان خروج السيد البكوش من الوزارة ورجوعه إليها عدة مرات دليلًا على تعلقه بالمنصب العام، وكذلك رغبة رؤساء الحكومات للاستفادة من خبرته القانونية. كما أشيع أن المستر إيريك دي كاندول مستشار شركة شل للبترول هو الذي أوصى به لدى الملك لتعيينه. والمستر دي كاندول كان المفوض المقيم للحكومة البريطانية في برقة في عهد الإدارة العسكرية البريطانية وصديقًا مقربًا للملك، وكانت الحكومة البريطانية تعتمد عليه في جس نبض الملك، وأخذ رأيه في أمور الدولة وسياسة حكوماته المتتالية، وكذلك نقل النصائح والتوجيهات إليه عن طريق غير مباشر بدلًا من تقديمها عن الطريق الرسمي بواسطة السفير البريطاني، الذي قد يعتبر تدخلًا في شئون ليبيا الداخلية.
وقد وصل السيد عبدالحميد البكوش إلى قمة نفوذه في وزارة السيد عبدالقادر البدري، حيث كان أقرب الوزراء إليه وجليسه الدائم ومستشاره في العمل اليومي، وكان الملك يعرف هذا، فهو لا تخفى عليه خافية. وكانت أخبار الحكومة وما يجري في مجلس الوزراء ينقل إليه عن طريق بعض الوزراء القدماء المعروفين، وكانت هناك تكهنات باستقالة السيد عبدالقادر البدري وعلى من يخلفه. وكان الملك أحيانًا يعين الوزير الذي على رأس قائمة وزراء الحكومة المستقيلة رئيسًا للوزراء، إلا أن الملك غير عادته. فعند استقالة السيد حسين مازق عين السيد عبدالقادر البدري بدلًا من السيد سالم القاضي الذي كان على رأس قائمة الوزراء وعمل رئيسًا للوزراء بالوكالة، ولهذا لم يكن أحد يعرف من سيكون رئيس الوزراء بعد السيد عبدالقادر البدري.

بداية مرحلة جديدة في تاريخ ليبيا السياسي
كان تعيين السيد عبدالحميد البكوش رئيسًا للحكومة مفاجأة أخرى للجميع، واستُقبل تعيينه من قبل جميع الأوساط بردود فعل مختلفة. فساسة الجيل القدامى اعتبروا تعيينه تحديًا لهم من الملك الذي خدموه بإخلاص، ومنافسًا يهدد مصالحهم ومكانتهم. كما اعتبره زعماء القبائل في برقة خطرًا كبيرًا على مصالحهم ونفوذهم، فهو غير معروف لديهم ولن يجدوا منه تفهمًا لمطالبهم ومطالب قبائلهم الكثيرة كما تعودوا من رؤساء الحكومات القدامى، وخاصة من كان منهم من برقة، وقد جاهر البعض منهم بعدم رضاهم بحجة أن القبائل لم تمثل تمثيلًا عادلًا في الوزارة. كما أنه لم يكن معروفًا في بنغازي، رغم أنه كان وزيرًا سابقًا للعدل لكنه ليس له تاريخ سياسي معروف، واستُقبل من سكانها ببرود.
أما أفراد الشعب في طرابلس فقد استبشروا به خيرًا، فلأول مرة في تاريخ البلاد تطل عليهم حكومة بوجوه شباب معروفين بتخصصهم في مجالات عملهم، رغم أنهم ليسوا من الوجوه الوطنية المعروفة لديهم بنضالها الوطني. وكان السيد عبدالحميد البكوش معروفًا بين الشباب المتعلم بأنه ماركسي التفكير في سنوات دراسته في القاهرة، وكان له أعداء كثيرون من أنصار القوميين والبعثيين، ولكنه تغير عندما دخل الحياة العملية وأصبح محاميًا ناجحًا ثم سياسيًا بارزًا، مما جعله يغير أفكاره ويصبح رأسماليًا.
أما رجال الصحافة والمثقفون فقد استقبلوا حكومته بترحيب، فهو من جيلهم ويمثل تفكيرًا متجانسًا وطموحات واحدة. كما أن ردود الفعل لدى السفارات كانت إيجابية بصفة عامة، وخاصة لدى السفارتين الأمريكية والبريطانية على أساس أن مثل هذه الحكومة تضم شبابًا متعلمًا أقدر على الإصلاح والسير بالبلاد نحو التقدم وتفهم العلاقات الدولية والمصالح المشتركة واكتساب ثقة رجل الشارع العادي، مما يساعد على حماية جالياتهم ومصالحهم.
كان مجئ حكومة السيد عبدالحميد البكوش مرحلة جديدة في تاريخ السياسة الليبية، وبداية تغيير سياسي داخلي وخارجي كانت تتوق إليه جماهير الشعب. وقبل الاسترسال في الحديث عن أعمال هذه الحكومة ومنجزاتها أود أن أتعرض بإيجاز إلى ظروف دخولي فيها كوزير للدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء.

ظروف دخولي للحكومة كوزير للدولة
لم تكن معرفتي بالسيد عبدالحميد البكوش طويلة، ورغم أنه كان يدرس في جامعة القاهرة خلال فترة دراستي في نفس الجامعة، إلا أني لا أذكر أننا تلاقينا كثيرًا للأسباب التي ذكرتها وهو ابتعادي عن الأنشطة السياسية والاجتماعية للطلاب، بالإضافة إلى تخرجي قبله بسنتين. وفي فترة ما بعد الدراسة لم نلتق كثيرًا فقد التحقت أنا بوزارة الخارجية بينما دخل هو المحاماة. ولظروف عملي كنت معظم الوقت إما في مدينة البيضاء أو مدينة بنغازي أو في السفارات في الخارج، وابتعدت بذلك عن المجتمع في طرابلس وعن جميع أصدقائي وزملائي وعائلتي. ولكنني عرفت السيد عبدالحميد البكوش جيدًا عندما عين وزيرًا للعدل في حكومة السيد محمود المنتصر الثانية والحكومات التالية، حيث كنت أراه باستمرار لوجودي في رئاسة مجلس الوزراء، وأستطيع القول بأنه لم تكن لي معه علاقات صداقة وطيدة.
والآراء في السيد عبدالحميد البكوش متضاربة، فالبعض يرى فيه شخصية ناجحة وعنصرًا ممتازًا قادرًا على تقديم أفضل الخدمات للبلاد، بينما يرى نفر من رفاقه في الدراسة ومن الشباب المتعلم أنه شخص لا يؤتمن جانبه ويكنّ بغضًا لبعض رفاقه في الدراسة لأسباب مذهبية وسياسية، وكان ضد البعثيين والقوميين حسب ما علمت منهم وقد يكون ذلك لكونه ماركسيًا أثناء الدراسة، إلا أنه كما ذكرت غير أفكاره بعد تخرجه وأصبح رأسماليًا وغربي الانتماء سياسيًا ومذهبيًا. كما أنه كان يتميز بمهارات مهنية وشخصية قوية، طليق اللسان، كاتبًا ماهرًا، وعليمًا بشئون البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومثقفًا ملمًا بما يجري في العالم، ولكن كانت تنقصه الخبرة في مجالات العلاقات الإنسانية والدبلوماسية في أول حياته السياسية.









السيد عبدالحميد البكوش رئيس الوزراء مع بعض من أعضاء حكومته أمام قصر دار السلام في طبرق بعد أداءهم قسم اليمين أمام الملك وبقية الوزراء أقسموا في وقت لاحق ويظهر على يمين السيد البكوش السيد أحمد عون سوف وزير الداخلية وعلى يساره السيد سالم لطفي القاضي وزير المالية

لم أكن أتوقع تعييني وزيرًا في حكومته فلم يكن ذلك ضمن طموحاتي لأني كنت عارفًا بمجرى الأمور في البلاد، ولم يكن هناك ما يشجعني على العمل السياسي في ظروف البلاد آنذاك. وأذكر أنه في اليوم السابق لسفر رئيس الوزراء السيد عبدالقادر البدري إلى طبرق لمقابلة الملك، بعد توتر علاقاته مع القصر بسبب وضع أبناء الشلحي في بنية الدولة، وعدم رضا بعض قبائل برقة على تصرفاته، كان السيد عبدالحميد البكوش يتناول العشاء معي تلك الليلة في بيتي في البيضاء، ولم يتعرض في حديثنا عن هدف السيد عبدالقادر البدري من مقابلة الملك بصورة مستعجلة أو لاحتمال استقالته وقيامه هو بتأليفه للحكومة، خاصة أنه رافقه في رحلته إلى طبرق. إلا أني لاحظت أنه كان يتكلم بثقة عن الفترة المقبلة للحكومة، وهذا ليس غريبًا لعلاقته الوطيدة بالسيد عبدالقادر البدري ومشاركته له في اتخاذ القرارات وتسيير أمور الدولة، فقد كان السيد عبدالقادر البدري يركز نشاطه على الوضع الأمني للبلاد والشئون المحلية والجيش الليبي تاركًا بقية أمور الدولة للأستاذ عبدالحميد البكوش.
ولما كانت هناك إشاعات بقرب استقالة السيد عبدالقادر البدري من رئاسة الحكومة فإن كلام السيد البكوش معي عن مشاريعه في المستقبل في الحكومة كان يدل على أنه كان يتوقع على الأقل بأنه سيعين رئيسًا للحكومة، غير أن ذلك لم يلفت نظري ولم يدر بخلدي على الإطلاق. وأذكر أني أثرت معه موضوع قصر تعيين السفراء على السياسيين والوزراء السابقين وتوقف ترقية موظفي الخارجية عند درجة مستشار، مما ألحق غبنًا لكثير منهم الذين قضوا سنوات طويلة دون ترقية، بينما واصل زملاؤهم في الخدمة المدنية الترقية إلى مناصب الدرجة الخاصة دون صعوبة، وقصر وظائف السفراء على جيل السياسيين القدامى نتج عنه حرمان السفارات الليبية من الدبلوماسيين ذوي الكفاءة والمتخصصين في هذا المجال. وقد علق على كلامي بالقول إنه سيغير هذا الوضع قريبًا، وسيرقي المستشارين القدامي الأكفاء إلى درجة سفير وسيعينون في السفارات في الخارج وقد ذكر بعضهم بالاسم، مما يدل على أنه كان يفكر في الموضوع قبل أن أثيره معه، وفعلًا قام بتنفيذ ذلك أثناء توليه رئاسة الحكومة كما سنرى.

الحياة الاجتماعية في البيضاء
كان بيتي في مدينة البيضاء مفتوحًا لزيارة الأصدقاء من وزارة الخارجية وزملاء العمل، وكان من بينهم أيضًا بعض الوزراء ووكلاء الوزارات وكبار الموظفين الشباب الذين يأتون لمدينة البيضاء في مهام رسمية للاجتماع بوزرائهم الذين يقضون معظم وقتهم في البيضاء لحضور جلسات مجلس الوزراء. وكان زوار البيضاء هؤلاء يقضون سهراتهم في بيوت المقيمين في البيضاء دون عائلاتهم من أمثالي ولعب الورق إلى ساعات متأخرة من الليل. وكانت سهراتنا في بيتي تنتهي بأكل المكرونة "المبكبكة" وهي الأكلة الشعبية الليبية الشائعة، والتي زاد عزاب البيضاء على مختلف مناصبهم ووظائفهم من شعبيتها، كما أنها سهلة الإعداد ورخيصة التكاليف.
كان جاري السيد سالم لطفي القاضي الوزير شبه الدائم ووزير المالية آنذاك يصر دائمًا على أن أقضي السهرة معه، وكان بيته بدوره يعج بزملائه الوزراء وموظفي وزارته وكبار زوار البيضاء لتناول العشاء معه ولشرب الشاي ولعب الورق. كنت أجد صعوبة في التوفيق بين استقبال ضيوفي الشباب في بيتي وتلبية دعوة السيد سالم لطفي القاضي الذي أعزه كثيرًا وأعامله كوالدي، وكان يحبني ويغمرني دائمًا بعطفه وكرمه ويعتبرني كابنه.
هكذا كانت الحياة في مدينة البيضاء، وكان هذا الوضع غريبًا إذ كانت البيضاء هي مقر رئاسة الحكومة ومجلس الوزراء ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع، كما يوجد بها مكاتب لبعض الوزارات كالإسكان والأشغال، بينما كانت كل الوزارات بأجهزتها في طرابلس. وكان الوزراء يقضون بعض الوقت في البيضاء لحضور جلسات مجلس الوزراء والتشاور مع رئيس الوزراء الموجود دائمًا في البيضاء. وكانت الحكومة في البيضاء بعيدة عن الشعب وعن ما يجري في طرابلس أو بنغازي.
كما كان رجال السلك الدبلوماسي المقيمين في طرابلس وبنغازي يضطرون إلى السفر الدائم إلى البيضاء، لوجود وزارة الخارجية فيها ولمقابلة رئيس الوزراء والوزراء. وكان الملك دائما في طبرق، والأعمال تسير معظمها بالهاتف والتنقل المستمر بالطائرات والسيارات. ورغم كل ما كان يسببه هذا التناقض من سوء إدارة وعدم تواصل مع الشعب، لم يستطع أحد من رؤساء الحكومات أن يقنع الملك بأن هذا الوضع غير سليم وسيؤدي إلى انهيار النظام. كان رؤساء الحكومات البرقاويين يفضلون البيضاء على طرابلس، بعد أن فقدوا الأمل في نقل الحكومة إلى بنغازي العاصمة الثانية حسب الدستور الليبي، لأن الملك منع نقل الحكومة إليها بسبب مقتل السيد إبراهيم الشلحي فيها.
كان وضع الوزراء البرقاويين لا يختلف عن وضع الوزراء الطرابلسيين، فقد كانوا يقيمون في البيضاء عزابًا تاركين وزاراتهم في طرابلس وعائلاتهم في بنغازي ولا يزورونهم إلا نهاية الأسبوع، وعلى كل حال فهم أقرب لعائلاتهم من وزراء طرابلس الذين يحتاجون للسفر بالسيارات والطائرات لمسافة 1300 كم أسبوعيًا للالتحاق بوزاراتهم وبعائلاتهم هناك. وقد علق المستر أدريان بيلت على هذا الوضع أثناء اجتماعي به في جنيف سنة 1965م، بأن الملك تنقصه معرفة الإدارة الحديثة ومتطلباتها التي تعتمد على اللجان والمستشارين والاجتماعات اليومية للوزراء مع موظفيهم وضرورة وجودهم قريبًا من الكثافة السكنية، والملك يعتقد أن الوزراء يستطيعون تسيير شئون وزاراتهم من البيضاء بالهاتف كما يفعل هو نفسه مع رؤساء حكوماته من طبرق.

البدري يرشح البكوش لرئاسة الوزراء
كان السيد عبدالقادر البدري يرغب في ترشيح السيد عبدالحميد البكوش للملك ليكون خلفه لتولي رئاسة الحكومة، خاصة كما أوضحت، كان أقرب الوزراء إليه. وكما جرت العادة في الماضي كان الملك حريصًا دائمًا على تكليف أحد وزراء الحكومة المستقيلة بتأليف الحكومة الجديدة، حتى لا يحصل تغيير كبير وفوري في سياسة البلاد أو يعرض استقرارها للخطر. وفعلًا تحقق ذلك وقبل الملك استقالة السيد عبدالقادرالبدري وكلف السيد عبدالحميد البكوش بتأليف الحكومة الجديدة التي ضمت معظم الوزراء في الحكومة السابقة.
وكان سلفي السيد سليمان الجربي وزير الدولة لشئون الرئاسة قد سبق له أن أعرب عن رغبته في الاستقالة بعد تكليف السيد عبدالقادر البدري بتأليف الحكومة، لأنه كان غير راض كسلفه في نفس المنصب السيد عمر الباروني عن اختصاصات شئون رئاسة مجلس الوزراء التي كنت أتولاها كوكيل وزارة، وهكذا تفرغ لما يكلفه به رئيس الوزراء من مهام خاصة لا تدخل عادة تحت اختصاصات الوزراء الآخرين. كما شعر السيد سليمان الجربي بعد استقالة السيد حسين مازق أنه لا يمكنه العمل مع السيد عبدالقادر البدري، لأنه يرى أنه أكثر منه ثقافة وأطول مدة في خدمة الدولة، إلا أنه لم يقدم استقالته رسميًا، رغم أنها كانت مكتوبة وموقعة منذ ترك السيد حسين مازق الوزارة، وكان يحتفظ بها في جيبه باستمرار، ولم يجرؤ على تقديمها رسميًا للملك خوفًا من أن تعتبر رفضًا لإرادة الملك.
وقد وصل خبر استقالة السيد الجربي شفويًا إلى الملك عن طريق السكرتير الخاص للملك السيد إدريس بوسيف، ولم يتم البت في استقالته إلا أثناء تأليف السيد عبدالحميد البكوش لحكومته الجديدة، فاضطر السيد عبدالحميد البكوش إلى إيجاد بديل ليحل محله. وقد اختار السيد عبدالحميد البكوش معظم وزراء حكومته من بين وكلاء الوزارات، ولهذا قرر اختياري لأحل محل السيد سليمان الجربي في وزارة الدولة لشئون رئيس الوزراء دون أخذ رأيي مسبقًا. وكان العرف في ليبيا جرى على أن لا يستشار الوزراء قبل تعيينهم، لأن الملك عادة يستعرض أسماء الوزراء مع رئيس وزرائه، وقد يعترض على بعض من يرشحهم رئيس الوزراء أو يفرض أشخاصًا من عنده، كما قد يطلب بقاء بعض الوزراء في مناصبهم. ولهذا لا يستطيع رئيس الوزراء المعين التشاور أو وعد من يريده أن يكون وزيرًا معه قبل صدور المرسوم بالحكومة الجديدة، وكثيرًا ما يطلب الملك من الرئيس المعين الجديد أن يبقي نفس وزراء الحكومة السابقة.
وكان الملك غالبًا لا يتدخل في فرض كل أعضاء الحكومة على رئيس الوزراء أو يخبر الوزراء الذين أوصى بهم بأنه اختارهم، ليشعر الوزراء جميعًا أن الاختيار كان من طرف رئيس الوزراء. وكان العرف الشائع أن أي اعتراض من طرف المعينين بعد صدور المرسوم يفسر على أنه عدم ولاء للملك، وقد يشطب اسمه من يرفض التعيين من الترشح لأي منصب عام مستقبلًا. وكان الملك يوافق على اقتراحات رئيس وزرائه بتغيير وزرائه كلما رأى ذلك ضروريًا، ونادرًا ما يعدل الوزارة دون طلب من رئيس الوزراء سوى في حالات نادرة أو في حالة غيابه بطلب من رئيس الوزراء بالوكالة.
سمعت خبر تعييني في وزارة السيد عبدالحميد البكوش من الإذاعة في نشرة الأخبار كما سمعها الجميع، وقد كنت في البيت ومعي بعض الأصدقاء. وقد كان الخبر مفاجأة لي لأني لم أكن أسعى إلى منصب وزاري، ولو أردت العمل في المجال السياسي لرشحت نفسي في الانتخابات في مصراته منذ فترة وحتى قبل دخولي في العمل الحكومي. كما أن وجودي في وظيفة وكيل وزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء لفترة تقارب أربع سنوات ومعرفتي الكاملة بالوضع السياسي المتردي زاد من تصميمي على عدم دخول المجال السياسي لأسباب كثيرة.
كما أني كنت أعتقد أن اختصاصات شئون الرئاسة بمكتب رئيس الوزراء غير واضحة، وقد عجزت عن إقناع رؤساء الحكومات السابقين بوضع اختصاصات محددة لها. وقد استطاع وكيل الوزارة السابق السيد علي المسلاتي، كما ذكرت، وضع اختصاصات لها أثناء حكومة الدكتور محي الدين فكييني، إلا أنها ألغيت لمعارضة الوزراء بحجة تداخلها مع اختصاصاتهم كوزراء مسئولين عن كل مجال وزاراتهم أمام رئيس الوزراء مباشرة، ولا يريدون جهازًا في رئاسة مجلس الوزراء يشرف عليهم أو يتدخل في شئون وزاراتهم أو حتى يشاركهم في اختصاصاتهم، ولهذا رأيت أن تعييني وزيرًا لشئون رئاسة مجلس الوزراء لن يغير من اختصاصاتي كوكيل للوزارة بل يزيدها تعقيدًا. وقد أدى هذا الوضع في السابق إلى استقالة الوزيرين اللذين توليا هذه الوزارة قبلي وهما السيدان عمر الباروني وسليمان الجربي. إن أهمية ومسئولية وزارة الدولة لشئون الرئاسة قد تكون كبيرة في النظام الرئاسي، حيث تكون حلقة الوصل بين رئيس الجمهورية والوزراء، ولكن ليس لها مكان في حكومة يترأسها رئيس وزراء يتعامل مع الوزراء بشكل يومي مباشرة، كما كان الحال في ليبيا آنذاك.
كان السيد عبدالحميد البكوش يعرف أني أرغب في الانتقال إلى وزارة الخارجية، لأنه كان وزيرًا للخارجية بالوكالة لعدة مرات، وقد فاتحته في الموضوع مرارًا ولكنه لم يفعل شيئًا. ولهذا استغربت من تعييني وزيرًا معه، لأن معنى ذلك خروجي من كادر الخدمة المدنية بمجرد صدور المرسوم بتعييني وزيرًا ومن العمل الحكومي مستقبلًا في حالة استقالة الحكومة. وكنت غير مستعد لمثل هذا الوضع، فقد اخترت طريق الوظيفة في الحياة، ومنصب الوزير مؤقت، وفقدانك للمنصب احتمال وارد في أي وقت. كما أن الظروف السياسية السائدة كانت لا تساعد على العمل في منصب وزاري، فسياسة الحكومات المتعاقبة في ليبيا أصبحت لا تعكس مطالب وتطلعات الشعب، وهذه سياسة غير صحيحة وتؤدي، لا محالة، إلى نهاية النظام. وقد ظهرت بوادرها في موجة الاحتجاجات والمظاهرات التي سادت البلاد في فترات متعددة نتيجة مواقف الحكومة من القضايا العربية وتلك التي تلت هزيمة يونيه 1967. كان استعمال العنف أحيانا لقمع المظاهرات وإلغاء الدور الشعبي بإلغاء الأحزاب السياسية قد أفقد الحكومات الليبية المتتالية الوسيلة والقنوات المباشرة للتعامل مع الجماهير والاتصال المباشر بالشعب.
كما كنت ومازلت أعتقد أن المناصب الوزارية يجب أن تسند، مع مراعاة المؤهل العلمي، إلى أعضاء مجلس الأمة أو السياسيين الذين لا يعتمدون على المرتب الحكومي في معيشتهم، وذلك لكونهم يتمتعون باستقلال مادي يمكنهم مقاومة الضغوط من أية جهة، وهم عادة في غنى عن المنصب وقادرون على الاستقالة في أي وقت. كما أني لست من الذين يسعون إلى المناصب الوزارية من أجل تقوية مراكزهم الاجتماعية أو تحسين أوضاعهم المالية أو زيادة ثرواتهم بطرق بعيدة كل البعد عن النزاهة والشرف، فقد تربيت، والحمد لله، في عائلة طيبة وذات سمعة حسنة شبت على خدمة الناس ومصالحهم وتقديم العطاء لهم وليس الأخذ منهم.
كان أفراد عائلة المنتصر التي أنتمي إليها من الملاك الميسورين القادرين في الماضي، ولكن معظم أفراد العائلة أصبحوا من الطبقة المتوسطة الذين يعتمدون على العمل الحكومي في خدمة المصلحة العامة، بعد فقدانهم لأملاكهم بالتوارث والإنفاق للمحافظة على مستوياتهم ومسئولياتهم الاجتماعية، كما أنهم أبعد الناس عن معرفة العمل في المجال التجاري الذي لا يتمشى وطبيعتهم التي تربوا عليها.
بعد سماعي لخبر تأليف الحكومة الجديدة ذهبت إلى جاري وصديقي السيد سالم لطفي القاضي الوزير المخضرم والذي احتفظ بمنصبه في وزارة السيد عبدالحميد البكوش الجديدة. وكان منزله كالعادة مليئًا بالزوار من أعضاء مجلس الأمة وكبار الموظفين وزوار البيضاء من طرابلس وبنغازي. وقد بادرني الجميع بالتهنئة بتعييني وزيرًا، وقد استغرب بعضهم من عدم رضائي بهذا التعيين. وأذكر أن عضو مجلس النواب السيد محمد السيفاط كان حاضرًا، فثار في وجهي قائلًا إن الوزارة أمنية لكل سياسي ومسئول في البلاد، وهذه ثقة سامية أسبغت عليك رغم صغر سنك ويجب أن تكون فخورًا بها. أما السيد سالم لطفي القاضي فلم يكن سعيدًا بتعيين السيد عبدالحميد البكوش رئيسًا للوزراء، إذ كان يعتبر نفسه أحق الوزراء بها لأقدميته، فقد كان وزيرًا ولا زال منذ وحتى قبل إعلان استقلال ليبيا، حيث كان وزيرًا في حكومة طرابلس المؤقتة.

مبادرة البكوش بتعيين الوزراء من الشباب
قضيت تلك الليلة في التفكير في وضعي الجديد والخيار أمامي، إما رفض المنصب وهذا إجراء لم يقدم عليه، حسب علمي، أحد من قبلي في العهد الملكي، وكثيرًا ما يحرم الرافض لتولي المناصب العامة أو حتى الوظائف الحكومية الرئيسية من أي عمل حكومي مستقبلًا، وهذا ما لم أكن مستعدًا له ماديًا في ذلك الوقت، أو قبول منصب الوزير وعمل ما أراه صحيحًا في حدود إمكانياتي واستطاعتي، ثم المحاولة مع رئيس الوزراء لإعادتي إلى وزارة الخارجية بأي شكل وفي الوقت المناسب كما كانت رغبتي.








السيد عبدالحميد البكوش رئيس الوزراء مع أعضاء حكومته في اجتماع مجلس الوزراء
ويظهر في الصورة بشير السني المنتصر على اليمين في أول الصورة

وقد تفاءلت خيرًا بتعيين عدد كبير من الشباب المؤهل من وكلاء الوزارات كوزراء في تعديل حكومة السيد البكوش الأول، مما يجعل العمل في مجلس الوزراء أكثر تجانسًا. وأود هنا أن أذكر أن دخول هذه النسبة الكبيرة من الشباب المتخصص في المجالات المختلفة في الوزارة يرجع إلى مبادرة من السيد عبدالحميد البكوش، ولو استمر فترة أطول في الحكم لاستطاع الاستغناء عن بعض المخضرمين الغير قادرين على التغيير والانفتاح على الشعب، الذين كانوا منتشرين في جميع مناصب ووظائف الدولة لأسباب سياسية وقبلية وإقليمية، ولو تم تحقيق ذلك لتغيرت الأمور في ليبيا عما آلت عليه لاحقًا. هكذا بدأت العمل مع السيد عبدالحميد البكوش بروح من التعاون والإخلاص المتبادل، رغم أني لم أكن أعرف الكثير عن أسلوبه في العمل وسلوكه مع الناس، وسأحاول أن أكون موضوعيًا في تقييمي لعمله أثناء فترة رئاسته للحكومة.

شخصية السيد عبدالحميد البكوش
لاحظت منذ الأيام الأولى لحكمه أن السيد البكوش كان جريئًا في إصدار قرارته التي كان يوقعها في بعض الأحيان باسم مجلس الوزراء دون عرضها على مجلس الوزراء. كما أنه كان يتصرف مع زواره بأسلوب غريب عن العادات الليبية. فقد كان يستقبل ويودع زواره وهو جالس في مكتبه والغليون (البيبة) في فمه، وأحيانا يقوم بقراءة ما أمامه من أوراق والاستماع إلى زواره في نفس الوقت. ورغم أني أعرف أن المقابلات لا تترك للمسئولين في ليبيا فرصة التفرغ للعمل أو وقتًا لدراسة ما أمامهم من ملفات كثيرة وعاجلة، إلا أن معاملة المسئولين للزوار في ليبيا تتميز دائمًا بالاهتمام والاحترام، خاصة أن معظم زوار رئيس الحكومة وفي مدينة البيضاء بالذات هم من النواب ومستشاري ومشايخ القبائل وأعيان بنغازي الذين يتوقعون استقبالًا وديًا ومعاملتهم وفقًا لمراكزهم، وكذلك كبار السن منهم يتوقعون معاملة خاصة كما عودهم رؤساء الوزراء السابقين الذين كانوا يقفون لهم عند دخولهم للمكتب ويجاملونهم بالطرق المتعارف عليها في المجتمع الليبي ويودعونهم حتى الباب عند خروجهم.
وقد لاحظت أثناء عملي في رئاسة الوزراء أن الترحيب بالزوار بالطرق المتعارف عليها في ليبيا، بغض النظر عن مناصبهم ومكانتهم الاجتماعية، يبعث في نفوسهم الراحة والرضا والشعور بأهميتهم وهو بالنسبة لهم أهم من قضاء مصالحهم التي جاءوا من أجلها. كنت دائمًا أرحب بزواري واستمع إلى شكواهم ومطالبهم، وأعرب عن استعدادي لمراجعة المسئولين عن حالاتهم وشكواهم مبينًا لهم أيضًا الصعوبات التي قد تعترض تلبية مطالبهم. لهذا حرصت على إنشاء إدارة خاصة في رئاسة مجلس الوزراء تهتم بشكاوى المواطنين وطلباتهم منذ عهد حكومة السيد محمود المنتصر، يقوم فيها موظفوا الرئاسة بدراسة هذه الشكاوى والتظلمات وإحالتها إلى الوزراء المختصين بتوقيعي، وبتكليف من رئيس الوزراء للنظر فيها والرد على أصحابها، كما حرصت على أن ترسل صورة من هذه الرسالة إلى صاحب الشكوى أو الطلب لتمكينه مراجعة الوزارة المختصة.
وقد استغل بعض أصحاب هذه الشكاوى والطلبات هذه الرسائل التي تبعث لهم في التردد على مكاتب الوزراء، والإلحاح على معرفة ما تم في موضوعهم، وأحيانًا الإصرار على مقابلة الوزراء المختصين. وقد أثار هذا الإجراء غضب الوزراء وأثاروا الموضوع في مجلس الوزراء موضحين بأن هذا الأسلوب عطل أعمالهم وأدى إلى تجمع أصحاب الشكاوى أمام مكاتبهم طلبًا لمقابلتهم، وأن الشكاوى المحولة من الرئاسة كثيرًا ما سبق للوزارات أن درستها وأرسلت بردود لأصحابها، لكن أصحاب الشكاوى والطلبات الخاصة لا يقفون عند حد. لذلك اقترحت على الوزراء إنشاء مكاتب في وزاراتهم للشكاوى والتظلمات للبت فيها، وفعلًا تم ذلك. وقد أنشأنا بعد ذلك إدارة قانونية خاصة بالتظلمات والشكاوى برئاسة مجلس الوزراء يرأسها قاض للنظر فيها، مما جعل الوزراء وكبار المسئولين في الوزارات يعطونها أهمية خاصة، وعين فيها أحد القضاة المعروفين بالنزاهة وهو القاضي محمد هويسة.
وقد حدث في عهد حكومة السيد محمود المنتصر أن أحد وكلاء الوزارات المهندس بشير الحنش وكيل وزارة الأشغال، وهو زميل وصديق، اتصل بي بالهاتف وقال لي إنه يتولى فتح الرسائل التي ترسل من الرئاسة إلى وزيره السيد حامد العبيدي بخصوص الشكاوى بأمر منه، وأنه لاحظ بأن بعضها ضده شخصيًا، أي ضد السيد الحنش، وأنها لا تقوم على أسس، فمعظمها من المقاولين المتأخرين في تنفيذ المشاريع التي تعاقدوا عليها مع الوزارة، ويريدون أن يسلموا مشاريعهم إلى الحكومة وهي غير جاهزة، رغبة في استلام المبالغ المتبقية لهم، وهذا ما كان يرفضه، ويريد أن يعرف هل أن إرسال مثل هذه الشكاوى من طرف مكتب رئيس الوزراء إلى الوزير معناه عدم الثقة به كوكيل للوزارة. وقد حاولت طمأنته بأن إحالة مثل هذه الشكاوى على الوزير لا تعني أننا نؤيد ما جاء فيها، ولكن بإمكانه الرد على رسائلنا بأن الموضوع سبق أن تم النظر فيه من طرف الوزارة، وأحيط صاحبها علمًا برأي الوزارة في شكواه، وستقوم رئاسة مجلس الوزراء بدورها بإعلام صاحب الشكوى بذلك ولفت نظره بعدم تكرار ذلك، وإفهامه بأن اتهام موظفي الدولة كذبًا سيعرضه للملاحقة القانونية. هذه واحدة من المشاكل التي نتجت عن هذا الإجراء الذي خصص للمظلومين والمحتاجين لإيصال شكواهم وأصواتهم إلي الجهات الحكومية المختصة والذي كنت أهدف به خدمة المواطنين، فاستُغل من طرف أصحاب المصالح الخاصة للإساءة إلى سمعة بعض موظفي الدولة.

تعيينات جريئة وتفعيل لدور الصحافة الحرة
ومن ملاحظاتي على السيد عبدالحميد البكوش أنه على الرغم من مهنته القانونية، إلا أنه كان لا يتمسك بالقانون في قراراته السياسية والإدارية، وأذكر هنا حادثة كمثل. لقد طلب مني السيد عبدالحميد البكوش عندما كنت وزيرًا للعدل بالوكالة أن أعزل قاضيًا في زليطن قام بشتم كبار الموظفين المحليين ومن بينهم المحافظ والحكمدار، الذين كانوا يشرفون على توزيع طلاب المدارس للعمل التطوعي وإرسالهم إلى أماكن العمل، وهو البرنامج الذي وضعه رئيس الوزراء السيد البكوش. ونظرًا لأن القاضي يتمتع بالحصانة ولا يجوز للبوليس والنائب العام التحقيق معه فقد رفع الأمر إلى رئيس الوزراء، ولهذا كلفني بعزله لأنه اعتدي على مسئولين رسميين وهم يؤدون مهامهم الرسمية. وعندما لفت نظر رئيس الوزراء إلى أنه ليس من سلطاتي كوزير عدل أو من سلطات رئيس الوزراء عزل قاض حسب القانون، فالسطلة القضائية لا سلطان عليها من السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية وتخضع فقط لسلطتها العليا وهي مجلس القضاء الأعلى الذي من حقه تعيين وترقية وعزل القضاة. كان رد السيد عبدالحميد البكوش بأني (رجل طيب) يتمسك بالمثاليات في عالم تحكمه شريعة الغاب.
وقد شرحت لرئيس الوزراء بأني اتصلت بالقاضي عندما وصلتني الشكوى وواجهته بها ولكنه أنكر أنه شتم أحدًا، واعترف بأنه انتقد الأسلوب في أخذ الأطفال الصغار إلى أماكن بعيدة مهجورة، وأنه أوقف ابنه من الذهاب معهم، وهذا من حقه، وقد بلغت القاضي بأني سأحيل الشكوى ضده إلى مجلس القضاء الأعلى للنظر فيها. وفعلًا بعد مشاوراتي مع النائب العام، الذي رفض بدوره أمر رئيس الوزراء بالقبض على القاضي، اتصلت برئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس المحكمة العليا السيد محمد خليل القماطي، وهو شخص نزيه يحترمه الجميع، وشرحت له الوضع، وقد نصحني بأن أقتصر على نقله إلى جهة أخرى بدلًا من تركه في زليطن التي أثار فيها المشكلة، وهذا إجراء إداري من اختصاص وزير العدل ولا لزوم لتحويل الموضوع على مجلس القضاء الأعلى، لأن هذا يأخذ وقتًا طويلًا. أخذت برأي السيد القماطي ونقلت القاضي من زليطن إلى الجبل الغربي وأرجع إلى زليطن بعد أسابيع، وقد قبل رئيس الوزراء هذا الحل الذي اقترحه السيد محمد القماطي واعتمدته بدوري.
كذلك كان السيد البكوش لا يثق في موظفي الدولة، وأعتقد إن ذلك راجع إلى أنه لم يشتغل في الحكومة قط في الماضي. ولهذا سلك أسلوبًا مغايرًا في الإدارة ولم يلتزم بنصوص قانون الخدمة المدنية في بعض الترقيات والتعيينات التي كان يجريها، مما أثار موجة من الاحتجاجات بين الموظفين المتضررين. وكانت حجته أن الإدارة الحكومية فيها تضخم موظفين غير مؤهلين علميًا وليست لهم خبرة إدارية، ومعظمهم عين بطريق الواسطة الإقليمية والقبلية والمحسوبية ولا يؤدون عملًا انتاجيًا. ولكن رغم أن ما قاله رئيس الوزراء كان صحيحًا، إلا أن الوضع كان يستدعي علاجًا شاملًا وفقًا لقانون يخضع له الجميع.
وأود هنا أن أسجل أن جرأته في ترقية المستشارين القدامى في وزارة الخارجية إلى درجة السفراء واعتمادهم في كثير من الدول، بعد أن كانت وظائف السفراء مقصورة على السياسيين ورؤساء الحكومات والوزراء السابقين، أعادت الثقة إلى موظفي وزارة الخارجية. ومن منجزاته الهامة أيضًا أنه فتح المكاتب الحكومية أمام الصحفيين، وأصبح يعقد مؤتمرات صحفية ويصدر بلاغات عن أية إجراءات وأعمال تقوم أو تنوي الحكومة القيام بها. وكان يخاطب الشعب مباشرة والكلام باسم الشعب، الشئ الذي كان يتجنبه رؤساء الحكومات السابقين، لأن ذلك كان مقصورًا على الملك. كما أنه أصبح يقيم علاقات مع رؤساء تحرير الصحف والمثقفين وعين بعضهم في جهاز الدولة، كما اتبع نهجًا مغايرًا في تشجيع حرية الصحافة والمجالات الفكرية والاجتماعية.
أبدى السيد البكوش اهتمامًا أكبر بضباط الجيش وبالطلبة بإلقاء المحاضرات والاجتماع بهم، وخلق باب العمل التطوعي للطلاب في أيام العطلات الصيفية للعناية بالمرافق العامة والتشجير وتنظيف المدن وإزالة الأنقاض، وهو أسلوب سليم للسيد عبدالحميد البكوش قد يراه البعض سعيًا للشعبية والنفوذ، ويراه البعض الآخر عملًا إصلاحيًا. وقد لاقت هذه الخطوات الإصلاحية رضا معظم المثقفين وفئات الشعب والسفراء الأجانب ومن بينهم سفيري أمريكا وبريطانيا. أما بخصوص مواقفه السياسية فلم يكن السيد عبدالحميد البكوش قوميًا ولا يجاري الشعب في طموحاته الوطنية والقومية وانتماءاته العربية، ويعتقد أن الدول العربية لا تستطيع تقديم أي شئ لليبيا، وأن الدعم الذي تقدمه ليبيا للدول المتضررة من عدوان 1967 حسب قرارات مؤتمر الخرطوم وهو 30 مليون جنية سنويًا هو عبء ثقيل على الخزينة الليبية العامة ويجب التخلص منه.

إصدار لائحة علاوة السكن
من أهم إنجازات السيد عبدالحميد البكوش إصداره للائحة علاوة السكن للموظفين. لقد كان موضوع علاوة السكن وتخصيص البيوت الحكومية مشجعًا للفساد والمحسوبية والانتهازية، فقد كان يتمتع بالعلاوات والبيوت الحكومية نفر من الموظفين المحظوظين دون قواعد ولا قيود. كما كان تأجير البيوت الحكومية مشجعًا لكبار المسئولين والنواب ورجال الأعمال لأخذ قروض من الحكومة والمصارف وتشييد البيوت وتأجيرها للحكومة بأسعار عالية، مما ساعد على انتشار الفساد. وبصدور لائحة علاوة السكن أصبحت علاوة السكن تدفع لجميع الموظفين كجزء من المرتب حسب درجاتهم ليتولوا بدورهم دفع أجور بيوتهم التي يسكنونها، وألغيت عقود البيوت المؤجرة من طرف الحكومة. وهكذا أصبح الموظفون متساويين في المعاملة حسب درجاتهم. أما البيوت المملوكة للدولة فتملك لساكنيها على أن يتولوا دفع أقساط ثمنها من علاوة السكن التى تدفع لهم.
ودفع العلاوة لجميع الموظفين كلف الدولة مبلغًا كبيرًا يساوي الميزانية المخصصة لمرتبات جميع الموظفين، واستلم صغار الموظفين في قرى المملكة ومدنها مبلغًا إضافيًا يزيد عن مرتباتهم الأصلية كعلاوة للسكن. وقد استقال السيد سالم القاضي وزير المالية احتجاجًا على القرار بحجة أن غالبية الموظفين لهم بيوتهم الخاصة ولم يطالبوا بمثل هذه العلاوة. وضرب مثلًا بالفلاح في القرية الذي يسكن بيته العادي ويعمل في الدولة كمباشر أو عامل، وفي يوم وليلة تقرر له علاوة تزيد عن مرتبه، كما يوجد موظفون أغنياء لهم بيوتهم الخاصة وليسوا في حاجة إلى علاوة للسكن ما داموا يعملون في مدنهم الأصلية ولم يغتربوا. ورغم أن وجهة نظر السيد سالم القاضي لها ما يبررها في الظروف السائدة وانخفاض الموارد المالية آنذاك، إلا أن إقرار العلاوة للجميع فيه عدالة اجتماعية ورفع مستوى المرتبات لصغار الموظفين.

الضرائب التصاعدية
أصدر مجلس الوزراء في عهد السيد عبدالحميد البكوش قانون ضرائب الدخل. وقد استحدث هذا القانون الضرائب التصاعدية لأول مرة، مما أغضب كبار الملاك والتجار وبعض المسئولين القدامى، واتهم رئيس الوزراء بالشيوعية. وفي الحقيقة كان السيد البكوش من أنصار المعتدلين في المجلس في اقتراح نسب الضرائب على شرائح الدخل، بينما كان هناك فريق من الوزراء وأنا منهم يطالبون بنسب أعلى على الدخول الكبيرة لأن دخل البترول خلق طبقة جديدة من رجال الأعمال والملاك تتضاعف ثروتهم بسرعة، وكان من الضروري تحصيل المزيد من الأموال منهم لصرفها على المشاريع الصحية والتعليمية والاجتماعية للطبقات المتوسطة والفقيرة التي أصبحت تتذمر من الفوراق الجديدة في الطبقات. بالإضافة إلى ذلك تم إصدار العديد من القوانين لتشجيع الاستثمار والصناعة وتنظيم الاستيراد والتصدير والإصلاح الإداري.

الدعوة إلى "الشخصية الليبية"
دعوة السيد عبدالحميد البكوش إلى "الشخصية الليبية" لم تكن في رأية دعوة إلى الإقليمية والتقوقع وضد القومية العربية كما اتهمه البعض، ولكنها كانت أولًا تهدف إلى القضاء على النعرات الإقليمية والقبلية القبيحة التي شجعتها بريطانيا وأمريكا في ليبيا بتقسيمها إلى ثلاث دويلات شبه مستقلة هي طرابلس وبرقة وفزان تحت مسمى النظام الاتحادي الفيدرالي، والتي بقت مخلفاتها رغم إلغاء هذا النظام. والهدف الثاني للشخصية الليبية الذي شجعته بريطانيا وأمريكا والغرب هو التخفيف من حدة الاندفاع الشعبي في ليبيا مع تيار القومية العربية الجارف بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر، الذي جعل الجماهير الليبية وخاصة الشابة منها تهتم كليًا بما يجري في الوطن العربي دون إعطاء أي اهتمام بما يجري في ليبيا. وسبب هذا التصرف الشعبي كان تفشي الإقليمية والقبلية وغياب مبدأ المنافسة الديمقراطية في رسم وتقرير السياسات الداخلية والخارجية وتولي المناصب والوظائف القيادية في الدولة، واحتكارها على أساس أقليمي وقبلي وشخصي. وأعتقد أن الاهتمام بالشئون الوطنية عنصر أساسي في بناء الصرح القومي على أسس سليمة، والدعوة إلى تقوية الشخصية الوطنية وسيلة لتقوية الدعوة القومية، ولكن لا يجب أن تتعارض معها.
كانت الدعوة التي أطلقها السيد عبدالحميد البكوش لما عرف آنذاك بـ "الشخصية الليبية" اعتبرها البعض محاولة لإخراج ليبيا من مجالها العربي وانتهاج سياسة تقدمية غربية أوروبية دون مراعاة للإرتباطات الوطنية والقومية والإسلامية للشعب الليبي، مما أثار معارضة الفئات القومية والعربية في الداخل والخارج، وهذه جبهة قوية، بالإضافة إلى معارضة الزعامات القبلية والعشائرية والإقليمية في ليبيا له لأسباب أخرى ومنها أنه لا يخدم مصالحها. وقد حاولت نصح السيد البكوش بأن مثل هذه السياسة غير واقعية ولن تساعده على البقاء في الحكم لتنفيذ برنامجه الإصلاحي، ولكنه لم يأخذ بنصيحتي، لأنه كان يرى فيّ الشخص الطيب المثالي في عالم السياسة وهو يعتبر هذا ضعفًا.
لقد كنت واثقًا أن نظام الحكم في ليبيا يقوم على ركيزتين أساسيتين، الأول: العامل القبلي والجهوي، الذى شجعته بعض الحكومات الليبية والولايات السابقة واستشرى بين فئات كثيرة من الشعب، والثانية: العامل القومي وتحمس جماهير الشعب الليبي في المدن التى تسيطر عليها دعوة القومية العربية، وإن أي تجاهل لهذين الاعتبارين السياسيين من طرف أي زعيم أو سياسي ليبي لا يكتب له النجاح في النظام الليبي.
كان السيد عبدالحميد البكوش واثقًا من نفسه ومن ثقة الملك فيه، وكان يردد بأن رؤساء الحكومات السابقين يهولون من تدخل الملك في أعمال الحكومة وعدم تجاوبه لسياسة الانفتاح والتكلم باسم الشعب، وأنه شخصيًا لم يسمع من الملك شيئًا من هذا القبيل، بل كان يشجعه على الاقتراب من الشعب وعمل ما يراه صالحًا. وهذه ولا شك قراءة خاطئة منه لتفكير الملك ولا يعرف طريقة تعامله مع رؤساء الحكومات، وكنت أقول له سوف ترى وليس ذلك اليوم ببعيد، وهذا ما حصل له كما حصل مع غيره من رؤساء الحكومات.

تضارب المصالح ودور الحكومة في العهد الملكي الليبي
كانت مهام الحكومات الليبية المتعاقبة من أصعب المهام في ظل النظام الملكي الليبي، فهي تحاول التجاوب مع الحركات الشعبية القومية ودعوتها إلى الانفتاح على العالم العربي والوحدة العربية والتعاون العربي في كل المجالات، وتلبية مطالب فئات محلية قبلية وإقليمية يدعمها الملك ويشجعها ويحافظ على مصالحها وامتيازاتها، بالإضافة إلى ظهور طبقة جديدة من الشباب المثقف الذي يريد الإصلاح والمشاركة في شئون الحكم وإبداء رأيه بحرية وممارسة المسئوليات السياسية، وكذلك التعامل مع فئة رجال الأعمال والتجار التي لها وزنها لدى الملك وأصحاب النفوذ وأعضاء البرلمان، وخاصة بعد بداية تصدير البترول وتعاظم النشاط الاقتصادي.














السيد البكوش مع عدد من الوزراء والمسئولين في حفل عام بجامعة بنغازي وهم من اليمين في الصف الأول السادة: إبراهيم البكباك سكرتير عام مجلس النواب، حامد أبوسريويل وزير الشئون الاجتماعية، بشير المنتصر وزير الدولة لرئاسة مجلس الوزراء، عمر جعودة وزير الصحة، أحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام وعبدالحميد البكوش رئيس الوزراء وعلى يمينه يجلس المستر ديفيد نيوسم السفير الأمريكي بليبيا

سياسة السيد عبدالحميد البكوش
أرى أنه يوجد تضارب بين سياسة السيد عبدالحميد البكوش الوطنية الليبية
المؤيدة للغرب وبين تمسك الشعب بالقومية العربية والوحدة العربية والإخلاص
للرئيس عبدالناصر، وبين سياسته الوطنية الإصلاحية ومطالب ومصالح القوى الإقليمية والقبلية وذوي النفوذ لدى الملك. كان السيد عبدالحميد البكوش متكلمًا بارعًا قادرًا على مخاطبة الطبقة المثقفة، وكان يحاضر الطلاب في الجامعة ويتكلم عن الإصلاح والقضاء على الفقر والجهل والمرض والتخلف واللحاق بالعالم المتقدم ويلاقي كلامه هذا تأييدًا وتجاوبًا من سامعية. وكان دبلوماسيًا عندما يتعرض في كلامه عن ارتباط ليبيا القومي بالعرب، ويرى أن الشعب الليبي لا يستطيع ان يشارك في خدمة القضايا العربية إلا إذا استطاع الاعتماد على نفسه وتحقيق تقدم مادي وحضاري، كما أن الدول العربية لا تستطيع مساعدة ليبيا في تحقيق مثل هذا التقدم المادي والحضاري لأنها هي نفسها تفتقر إليه، وليس أمام الشعب الليبي سوى الاستفادة من الغرب المتحضر والمتقدم وتحسين العلاقات معه.
شعر السيد عبدالحميد البكوش في أواخر عهده بفقدان نفوذه بين الفئات الشعبية القومية، وازدياد معارضة القوى القبلية له في برقة، فحاول تعزير مركزه في مجال السياسة الخارجية، خاصة أنه وجد دعمًا من بريطانيا وأمريكا اللتين وجدتا فيه المصلح والمنقذ للنظام الملكي الذي فقد ثقة الشعب وانتشر فيه الفساد السياسي والمالي، بالإضافة إلى عدم وضوح الرؤيا لمستقبل ولاية العهد، كما أن دعوته الوطنية إلى اعتماد "الشخصية الليبية" وعدم الاندفاع نحو مصر والحركات القومية في العالم العربي وتوجهه للتعاون مع الغرب كانت مصدر ترحيب الدول الغربية.
أما في المجال الداخلي فقد شعر السيد البكوش بحاجته إلى دعم من قوى سياسية معينة عندما فقد ثقة جيل الساسة القدامى وزعماء البلاد التقليديين. والغريب أنه كان يرى أن الخطر على حكومته يأتي من زعماء طرابلس التقليديين مثل السيد محمود المنتصر وغيره وليس من قبائل برقة أو البرلمان. وقد ذكر السيد البكوش ذلك للسفير البريطاني السير ساريل في مقابلة خاصة معه، وقد نقل السفير فحوى هذه المقابلة في تقرير له إلى وزارة الخارجية البريطانية نشر أخيرًا بعد مضي 30 عامًا عليه. ولهذا اتجه السيد البكوش إلى الحاشية الملكية، ووجد في الأخوين العقيد عبدالعزيز والسيد عمر الشلحي مستشار الملك الخاص ضالته، فأقام علاقات وطيدة معهما ووجد فيهما دعمًا سياسيًا لدى الملك، وهو ما كان يطمح فيه لتنفيذ سياسته وما كان يسعى إليه الأخوان الشلحي عمر وعبدالعزيز من توسيع نفوذهما في الحكومة، الشئ الذي فشلا فيه كما فشل أخوهما السيد البوصيري في عهود الحكومات السابقة لوقوف رؤساء الحكومات المتعاقبة ضد تدخلهم. فالأخوان عمر وعبدالعزيز الشلحي رغم رعاية الملك لهما الذي كان يساعدهما في تحسين أوضاعهما وخدمة مصالحهما، إلا أنه كان لا يسمع منهما كثيرًا عند تدخلهما في الشئون السياسية للحكومات المتعاقبة صراحة.
كانت أهداف الأخوين الشلحي وأصهارهم لا تقتصر على حماية وتوسيع مصالحهم وتقوية نفوذهم فقط بل كانوا يفكرون في مستقبلهم بعد وفاة الملك. فهم يشعرون بأن أفراد العائلة السنوسية يكنون لهم عداء خاصًا وأن أحد أبناء العائلة السنوسية قتل والدهم السيد إبراهيم الشلحي احتجاجًا لدوره في السلطة وعلاقته الوطيدة مع الملك. وقد لاقى السنوسيون الاضطهاد والظلم نتيجة ذلك مما زاد من سخطهم، وأن ولي العهد الأمير الحسن الرضا في رأي أبناء الشلحي لن يخرج عن إجماع العائلة السنوسية إذا تولى الحكم بعد وفاة الملك، وكانوا يصارحون الملك بمصيرهم غير الآمن. وكانت النساء منهم لا يترددن في لوم الملك صراحة بأن قتل والدهم كان بسبب خدمته له، ولهذا كان الملك يعطف عليهم جميعًا ويعتبر نفسه في مقام أبيهم، وكان هذا مصدر قوتهم ونفوذهم مع الحكومة وسعيهم لتحسين أوضاعهم.
كما بدأ السيد البكوش في آواخر أيامه السعي لكسب ود بعض سكان المناطق الشرقية الذين أهملهم في أول حكمه وذلك بوقف تسريح العمال الحكوميين غير المنتجين الذين تغص بهم المكاتب الحكومية في برقة، وتأجير الحكومة للبيوت الشاغرة في البيضاء التي بنيت بقروض حكومية في عهود الحكومات السابقة، واستئناف منح القروض العقارية، وصرف مرتبات مستشاري قبائل برقة غير المدرجة في الميزانية، وإعطاء القروض الزراعية والصناعية والتعيينات الحكومية.

علاقات السيد عبدالحميد البكوش
في المجال الخارجي ورغم أن السيد البكوش كان يحظى بدعم وتأييد سفراء بريطانيا وأمريكا والدول الغربية، إلا أنه شعر أنه في حاجة إلى دعم وتأييد سياسي على مستوى العواصم الغربية في واشنطن ولندن وباريس وبون. وبدأ جولاته الخارجية في دول المغرب العربي وتأييد اتحاد المغرب العربي الكبير لإبعاد ليبيا عن تعلقها بمصر والمشرق العربي، وبعدها زار فرنسا واجتمع بالرئيس الفرنسي شارل ديجول وبدأ ترتيباته لزيارة لندن وواشنطن التي لم تتم لأسباب سيأتي ذكرها.
إن نقطة الضعف لدى السيد عبدالحميد البكوش هي عدم فهمه لعقلية الملك فقد اغتر بتأييده ودعمه له في أول عهده، ولكن فاته أن الملك يحكم بفلسفة الحكم العربية القديمة المبنية على عدم ثقة الحاكم في وزرائه ومساعديه الأقربين الذين يوليهم شئون الحكم، وهو يقرأ التاريخ الإسلامي وقصة البرامكة في العهد العباسي ليست غريبة عليه. والتاريخ السياسي العربي ملئ بدور المؤامرات على الخليفة والحاكم من طرف أفراد عائلته ووزرائه وأقرب مساعديه. كما أن الملك خبير بمواقف الدول الأجنبية وخاصة بريطانيا نتيجة علاقاته الطويلة معها. ورغم أن الملك غربي في سياسته الخارجية صراحة، إلا أنه شعر بأن أمريكا وبريطانيا وجدتا في السيد عبدالحميد البكوش غايتهما، فهو شاب مثقف قريب من الجماهير حريص على "الشخصية الليبية" والتعاون مع أمريكا وبريطانيا وفي إمكانه خدمة مصالحهما، مما قد يدفعهما إلى مساعدته لتولي حكم البلاد.
كما أن معظم زعماء قبائل برقة والساسة الذين يترددون على الملك حذروه من رئيس الوزراء السيد عبدالحميد البكوش وأعربوا له عن عدم ثقتهم به، وأن معظم العواصم العربية ومنها القاهرة غير راضية عنه. وقيل إن الملك فيصل ملك المملكة السعودية أعرب للملك إدريس عن طريق سفرائه عن رأيه في السيد عبدالحميد البكوش، وأنه وجد فيه أثناء زيارته للسعودية شابًا مغرورًا جريئًا في حضور كبار القوم ولا يمثل دولة ملكية مثل ليبيا لها تقاليدها العربية الإسلامية ولا يؤتمن جانبه، وأشار إلى رفضه أداء العمرة عند زيارته للسعودية، وهو تقليد تحرص المملكة العربية السعودية على توفيره لجميع كبار الزوار المسلمين، وهذا ما أكده لي في جنيف بعد ذلك السفير السعودي المتقاعد الدكتور مدحت شيخ الأرض.
وكانت مصر، رغم علاقة السيد عبدالحميد البكوش الودية بالأخوين عمر وعبدالعزيز الشلحي اللذين يرتبطان بعلاقة قوية بالرئيس عبدالناصر منذ أيام السيد البوصيري الشلحي، تشعر بأن السيد عبدالحميد البكوش أصبح يدفع بليبيا في أحضان الغرب ( بريطانيا وأمريكا ) بشكل أقوى من غيره من رؤساء حكومات ليبيا السابقين، الذين حرصوا جميعًا على المحافظة على علاقات قوية بالقاهرة وتأييد القضايا العربية رغم ارتباطاتهم الغربية.

استقالة السيد عبدالحميد البكوش
كان الملك يتابع تحركات السيد عبدالحميد البكوش الأخيرة عن كثب وشعر بأن حرصه على زيارة لندن وواشنطن يهدف إلى إثارة موضوع مستقبل النظام في ليبيا، والاتفاق معهم على حلول للوضع القائم دون رضاه، وهو لا يثق في إخلاصه لتناول مثل هذا الأمر الهام على هذا المستوى العالي، وأنه، أي البكوش، قد يفكر في إقامة نظام جمهوري في ليبيا بالاتفاق مع الأمريكيين والبريطانيين، خاصة وأنهم أصبحوا قلقين على مصالحهم في ليبيا بسبب عدم وضوح مستقبل نظام وراثة العرش، وتعرض ليبيا للضغط من جانب الرئيس عبدالناصر. ولهذا سارع الملك بأن يطلب من البكوش تقديم استقالته في المقابلة التي كان المفروض أن يتناول فيها معه دراسة زيارته إلى لندن وواشنطن التي تمت إجراءات الإعداد لها. وبقبول استقالة السيد عبدالحميد البكوش بتاريخ 4 سبتمبر 1968م كلف الملك السيد ونيس القذافي بتأليف الحكومة الجديدة.








الفصل السابع

حكومة السيد ونيس القذافي

كان إعفاء الملك للأستاذ عبدالحميد البكوش تحذيرًا لبريطانيا وأمريكا وتأكيدًا لهما بأنه الشخص الوحيد الذي له الحق الفصل في تقرير مستقبل النظام الليبي والبت في علاقات ليبيا مع الدول الأجنبية. وقد كان رد فعل إعفاء السيد عبدالحميد البكوش وإلغاء زيارته لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية سيئًا في لندن وواشنطن، وزاد من شكوك الدولتين في عدم رغبة الملك في الإصلاح، وأنه يفضل أن يستمر في إدارة شئون الدولة بأسلوبه القديم وعدم إعطاء حكومته والبرلمان مبادرة التحرك، وعدم قدرته على التجاوب مع المستجدات في البلاد، وهذا في نظرهما غير صالح للنظام واستقراره، ويعرض المصالح البريطانية والأمريكية والغربية بصفة عامة في ليبيا الغنية بالبترول إلى الخطر في حالة حصول أي حركة شيوعية أو قومية ضد النظام أو في الجيش، بتشجيع من جيرانها مصر برئاسة الرئيس جمال عبدالناصر والجزائر برئاسة الرئيس أحمد بن بلة.
وأعتقد أن إعفاء الملك للأستاذ عبدالحميد البكوش من رئاسة الحكومة كان القشة التي قسمت ظهر البعير، إذ فقد الملك بهذا القرار حليفيه الأقربين بريطانيا وأمريكا ولم يأخذ رأيهما مسبقًا. ومنذ ذلك التاريخ أصبحتا في حل من حلفهما معه، ولم يعد الملك في مركز يعتمد فيه على مساعدتهما في أي أزمة قد تواجهه مستقبلًا، ويظهر أن بريطانيا وأمريكا قررا منذ ذلك التاريخ عدم الوقوف ضد أي تغيير داخلي أو أية حركة ضد النظام في ليبيا. وبالنسبة لأمريكا كانت لا تمانع حتى ولو كان التغيير ناصريًا، لأن علاقاتها مع الرئيس جمال عبدالناصر أصبحت تتميز بالتعامل المتبادل معه على أساس احترامه لمصالحها في المنطقة مقابل لجم التوسع والعداء الإسرائيليين.

2:31 PM  
Blogger Bashir Muntasser said...

الفصل السابع

حكومة السيد ونيس القذافي

كان إعفاء الملك للأستاذ عبدالحميد البكوش تحذيرًا لبريطانيا وأمريكا وتأكيدًا لهما بأنه الشخص الوحيد الذي له الحق الفصل في تقرير مستقبل النظام الليبي والبت في علاقات ليبيا مع الدول الأجنبية. وقد كان رد فعل إعفاء السيد عبدالحميد البكوش وإلغاء زيارته لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية سيئًا في لندن وواشنطن، وزاد من شكوك الدولتين في عدم رغبة الملك في الإصلاح، وأنه يفضل أن يستمر في إدارة شئون الدولة بأسلوبه القديم وعدم إعطاء حكومته والبرلمان مبادرة التحرك، وعدم قدرته على التجاوب مع المستجدات في البلاد، وهذا في نظرهما غير صالح للنظام واستقراره، ويعرض المصالح البريطانية والأمريكية والغربية بصفة عامة في ليبيا الغنية بالبترول إلى الخطر في حالة حصول أي حركة شيوعية أو قومية ضد النظام أو في الجيش، بتشجيع من جيرانها مصر برئاسة الرئيس جمال عبدالناصر والجزائر برئاسة الرئيس أحمد بن بلة.
وأعتقد أن إعفاء الملك للأستاذ عبدالحميد البكوش من رئاسة الحكومة كان القشة التي قسمت ظهر البعير، إذ فقد الملك بهذا القرار حليفيه الأقربين بريطانيا وأمريكا ولم يأخذ رأيهما مسبقًا. ومنذ ذلك التاريخ أصبحتا في حل من حلفهما معه، ولم يعد الملك في مركز يعتمد فيه على مساعدتهما في أي أزمة قد تواجهه مستقبلًا، ويظهر أن بريطانيا وأمريكا قررا منذ ذلك التاريخ عدم الوقوف ضد أي تغيير داخلي أو أية حركة ضد النظام في ليبيا. وبالنسبة لأمريكا كانت لا تمانع حتى ولو كان التغيير ناصريًا، لأن علاقاتها مع الرئيس جمال عبدالناصر أصبحت تتميز بالتعامل المتبادل معه على أساس احترامه لمصالحها في المنطقة مقابل لجم التوسع والعداء الإسرائيليين.

حيرة الملك في اختيار رؤساء حكوماته
أعتقد أن الملك إدريس كان في حالة نفسية سيئة وغير قادر على التفكير السليم عند إعفائه السيد عبدالحميد البكوش من منصبه. ويبدو أن الملك فقد الأمل في الجميع، إذ جرب الساسة القدامى مثل السيد محمود المنتصر والسيد حسين مازق فوجد منهما تساهلًا مع التيار الناصري الشعبي ورغبة كل منهما في السير مع هذا التيار. كما جرب الساسة الشباب مثل الدكتور محي الدين فكيني والسيد عبدالحميد البكوش، فوجد في سياستهما خطرًا عليه وعلى النظام الذي رسمه لليبيا. وقد انعكست حالته النفسية أيضًا في اختيار السيد ونيس القذافي كشخصية إدارية لتسيير الأمور بصفة مؤقتة، وإعطاء نفسه مزيدًا من الوقت في التفكير في مشروعه الخاص بتعديل الدستور وإقامة نظام جمهوري، وفي اختيار العناصر المخلصة القادرة على التجاوب مع رغباته وسياساته، ومساعدته في الخروج من الحيرة التي يعيشها.
كانت استقالة السيد عبدالحميد البكوش غير متوقعة، خاصة أنها جاءت في فترة كان يستعد فيها لزيارة لندن وواشنطن، وقد أعدت الترتيبات للزيارتين من طرف لندن وواشنطن، كما دلت على سوء تقدير السيد عبدالحميد البكوش لعقلية الملك وتفكيره، ولهذا لم يكن يتوقع قرار الملك بإعفائه. وكان يرغب في الفترة الأخيرة تعديل الوزارة وإخراج الوزراء القدامى، وقيل أيضًا إخراج السيد أحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام وأنا أيضًا وبعض الوزراء كما أخبرني السيد أحمد الصالحين، الذي كان على اتصال برجال القصر. لكن الملك تلكأ ولم يحدد للأستاذ عبدالحميد البكوش موعدًا للمقابلة لتعديل وزارته لفترة طويلة، ولهذا شعر السيد البكوش بإمكانية إعفائه من منصبه، وكان يتمنى أن يخلفه صديقه الدكتور علي أحمد عتيقة في مثل هذه الحالة، ويقال إنه أوصى به الملك عندما طلب منه تقديم استقالته. ولكن الملك لم يأخذ بنصيحته ربما لأنه كان يعتقد أن الدور لبرقة، فهو كما رأينا يوزع منصب رئيس الوزراء بين طرابلس وبرقة، وأتى بالسيد محمد عثمان الصيد ليرضي فزان أيضًا. (علمت من الدكتور علي عتيقة أخيرًا أن السيد عبدالحميد البكوش اقترح عليه فعلًا أن يعرض اسمه على الملك إدريس ليخلفه لرئاسة الحكومة ولكن الدكتور علي عتيقة طلب منه أن لا يفعل ذلك).
وبعد مقابلته للملك ورجوع السيد عبدالحميد البكوش إلى طرابلس استدعى السيد ونيس القذافي وزير الخارجية من القاهرة، حيث كان يحضر اجتماع وزراء الخارجية العرب، وطلب منه الذهاب رأسًا إلى طبرق لمقابلة الملك. وبتاريخ 4 ستمبر 1968 صدر مرسوم ملكي بقبول استقالة السيد عبدالحميد البكوش وتعيين السيد ونيس القذافي رئيسًا للوزراء، وقد أبقى السيد ونيس القذافي كالعادة نفس التشكيل الوزاري.

رجوعي إلى وزارة الدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء
كنت في فترة استقالة السيد عبدالحميد البكوش وتعيين السيد ونيس القذافي في إجازة في لندن، وقد سمعت بخبر الاستقالة من السفير الليبي في لندن آنذاك الدكتور عمر محمود المنتصر، وكان والده السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي موجودًا أيضًا في لندن للعلاج. وقد سررت بخبر استقالة السيد عبدالحميد البكوش، لأن ذلك معناه خروجي من الحكومة وعليّ البدء في إيجاد عمل غير حكومي في المجال الخاص. ولكن فرحتي لم تدم طويلًا إذ أخبرني السفير في اليوم التالي بأن اسمي ورد في قائمة حكومة السيد ونيس القذافي الجديدة كوزير دولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء ومطلوب عودتي بسرعة لحلف اليمين، وهذا يعني عودتي إلى وزارة شئون الرئاسة بعد أن قضيت فترة وزيرًا للعدل بالوكالة بقرار من مجلس الوزراء في أواخر عهد حكومة السيد البكوش، على أساس أن قرار مجلس الوزراء بتكليفي بوزارة العدل بالوكالة كان سيعتمد في التعديل الوزاري الذي كان متوقعًا حسب ما ذكره السيد البكوش لمجلس الوزراء.
وأعتقد أن تكليفي بمهام وزير العدل بالوكالة كان المقصود منه إبعادي عن شئون رئاسة مجلس الوزراء، وخاصة بعد أن ساءت علاقة السيد البكوش مع السيد محمود المنتصر الذى تربطني به علاقات وطيدة. ومما زاد من اعتقادي هذا أن السيد البكوش، رغم تكليفي رسميًا بقرار من مجلس الوزراء بوزارة العدل بالوكالة، إلا أنه، أي السيد البكوش، استمر في توقيع القرارات الهامة لوزارة العدل بصفته وزيرًا للعدل. وقد طالت الفترة دون أن يتمكن السيد البكوش من الحصول على موافقة الملك على التعديل الوزاري حتى طلب الملك منه الاستقالة.
بقيت وزيرًا للعدل بالوكالة بقرار من مجلس الوزراء وهو وضع قانوني اختلفت فيه الآراء نظرًا لوجود الوزير الأصلي وهو رئيس الوزراء في البلاد وبقائي رسميًا وزير رئاسة مجلس الوزراء بمقتضى المرسوم الملكي. ويرى البعض أن مسئولية مجلس الوزراء مسئولية مشتركة ويجوز للمجلس تكليف أحد أعضائه بأي نشاط. هذا وبعد أن أخبرني السفير الليبي في لندن بخبر دخولي لحكومة السيد ونيس القذافي تفضل والده السيد محمود المنتصر رئيس الديوان برفقة ابنه السفير الليبي بلندن بزيارتي في مقر إقامتي في لندن لتهنئتي، وبعدها رجعت إلى طرابلس ومنها إلى طبرق لحلف اليمين، وكنت غير متحمس برجوعي إلى الحكومة وخاصة إلى وزارة الدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء كما ذكرت.

عدم تحمس السيد ونيس القذافي لتكليفه برئاسة الحكومة
كان السيد ونيس القذافي غير متحمس لعمله كرئيس للوزراء وقيل أنه طلب من الملك إعفاءه نظرًا لحالته الصحية ولكن الملك أصر عليه للقبول. وأشك في ذلك، لأنه لم يسبق لأحد من الساسة في العهد الملكي أن رفض مهمة كلفه بها الملك. عرف السيد ونيس القذافي بكونه إداريًا من الطراز الأول، مترددًا في اتخاذ القرار، يعمل في مكتبه طوال ساعات اليوم ويستمر في العمل في بيته ليلًا. ليس له أعداء، وتربطه علاقة وطيدة بالسيد حسين مازق، فقد كان رئيسًا للمجلس التنفيذي لبرقة أثناء ولاية السيد حسين مازق لها. وعلاقته ودية مع السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي والحاشية الملكية. كما كانت علاقته وثيقة بالسيد عبدالحميد البكوش وجميع رؤساء الحكومات السابقين. استُقبل تعيينه بفتور في طرابلس، لأنه غير معروف شعبيًا، وكذلك في برقة، لأنه معروف هناك بعدم الحسم في سياسته وقراراته، ولكنه استُقبل بترحاب من بعض قبائل برقة لعلاقته الوثيقة بالسيد حسين مازق.
كان السيد ونيس القذافي غير طامح في السلطة. وأذكر أني عندما طلبت منه أن يساعدني في الرجوع إلى وزارة الخارجية رفض بشدة قائلًا إنه هو نفسه كان سعيدًا كسفير في بون، ولو خير بين منصب سفير ومنصب رئيس الوزراء لاختار منصب سفير في أي بلد كان ولكن هذا أمر الملك، وطلب مني عدم التفكير في النقل ما دام هو رئيسًا للوزراء. وبذلك يكون السيد ونيس القذافي رئيس الوزراء الخامس بعد السادة محمود المنتصر وحسين مازق وعبدالقادر البدري وعبدالحميد البكوش الذي يرفض إعادتي إلى وزارة الخارجية ويصر على استمراري في العمل في رئاسة مجلس الوزراء.

سياسة السيد ونيس القذافي
حاول السيد ونيس القذافي في فترة حكمه عدم الاصطدام مع أحد، كما حاول إرضاء الجميع حسب قدرته وتوفر الإمكانيات وعدم تغيير أي موظف أو وزير، ولم تكن له سياسة مرسومة وغايات يريد تحقيقها كالسيد عبدالحميد البكوش. وكان يختلف مع السيد عبدالحميد البكوش في سياسته العربية، فقد كان يعتقد ـ كالسيدين محمود المنتصر وحسين مازق ـ أن الشعب الليبي قومي الشعور وناصري الاتجاه، ولهذا كان حريصًا على تأييد القضايا العربية. وعمله السابق في وزارة الخارجية ساعد على اهتمامه بالشئون العربية والوفاء بالتزامات ليبيا العربية، كما كان يرحب باستقبال زوار ليبيا من كبار المسئولين العرب.
كان السيد ونيس القذافي لا يعترض على موقف دول الجوار لفلسطين ودخولها في مفاوضات مع إسرائيل على أساس قرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر بعد حرب 1967م، الذي كانت تعارضه معظم الدول العربية غير المجاورة لإسرائيل ومن بينها ليبيا في عهد السيد عبدالحميد البكوش، وعذر السيد ونيس القذافي أن دول الجوار يجب أن تعطى حق وحرية تحرير أراضيها المحتلة من إسرائيل بأية طريقة تراها، ولا يجب إحراجها والمزايدة على مواقفها من طرف الدول العربية البعيدة عن إسرائيل.

حرب الاستنزاف والوضع الأمني في ليبيا
في فترة رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي كانت حرب الاستنزاف التي شنتها مصر على إسرائيل على أشدها وكانت تنذر بحرب إسرائيلية عربية آتية لا محالة. وكانت السلطات الليبية، وقد مرت بتجربة حرب 1967م وأثارها على اختلال الأمن وما أدت إليه من خسائر في الأرواح والأموال، قد تأهبت لعدم تكرار هذه التجربة والاستعداد لها مقدمًا. وأذكر أنه في شهر أغسطس 1969م وصلتنا في رئاسة مجلس الوزراء برقية من السيد عبدالسلام بسيكري السفير الليبي في القاهرة عن طريق وزارة الخارجية حوّلها السيد محسن عمير وكيل وزارة الخارجية آنذاك على رئيس مجلس الوزراء، نظرًا لغياب السيد علي حسنين وزير الخارجية في مهام خارجية، وتحذر البرقية من تأزم الحالة على قناة السويس وتوقع حرب وقائية تشنها إسرائيل.
وقد كلفني السيد ونيس القذافي بإبلاغ وزير الداخلية السيد معتوق آدم بذلك، وإعلان حالة التأهب القصوى (الطوارئ) لتجنب ما يحدث من إخلال بالأمن في حالة انفجار الحرب فجأة. كما تولى السيد ونيس القذافي نفسه إبلاغ قيادة الجيش ووزير الدفاع السيد حامد العبيدي. وفعلًا تم إبلاغ المسئولين في الداخلية والدفاع بتعليمات رئيس الوزراء لتنفيذها حالًا. وبعد أيام جاءت برقية من سفيرنا في القاهرة عن طريق وزارة الخارجية بأن الأمور هدأت على قناة السويس ولم يعد قيام حرب وشيكة واردًا، فأمر رئيس الوزراء برفع حالة التأهب القصوى. وقد تكرر هذا الإنذار من السفير الليبي بالقاهرة أكثر من مرة، كما تكرر إعلان حالة التأهب القصوى ورفعها، وفي أواخر أغسطس 1969م رفعت حالة التأهب القصوى نهائيًا.





السيد معتوق آدم السيد عبدالسلام بسيكري
مجاملات السيد ونيس القذافي لـزواره
كان السيد ونيس القذافي عفيفًا نظيف اليد نقي القلب، يقابل من يطلب مقابلته، رغم أنه متقلب المزاج ويحاول أن لا يفقد أعصابه المتوترة دائمًا نتيجة إكثاره من شرب القهوة إلى درجة الإفراط. ورغم ترحيبه بالجميع في حضورهم، إلا أنه كثيرًا ما ينتقدهم في غيابهم بأسلوبه الفكاهي اللاذع الذي يميزه عن غيره، وكثيرًا ما يستعمله في حل المشاكل مع الغير.
وأذكر مرة كنت معه أثناء مقابلته لمستشار قبيلة من برقة، وكان لقب المستشار يستعمل لمشايخ القبائل في برقة لإعطائهم أهمية خاصة رسمية، والمستشار من المترددين دائمًا على الملك فاستقبله رئيس الوزراء مرحبًا. وبعد أن مدح المستشار رئيس الوزراء للخدمات الجليلة التي يؤديها للشعب والملك، وهذا في رأي المستشار ليس غريبًا على السيد ونيس القذافي فهو خليفة الرجل الكبير العظيم السيد حسين مازق، وانتهى المستشار بالقول إن لديه ثلاثة مطالب. الطلب الأول يريد بيتًا كبيرًا لنفسه لأن له عائلة كبيرة وبيته الحالي صغير لا يتسع لها، وأن الحكومة لها بيوت جديدة جاهزة كبيرة وأشار إلى بعضها بالتحديد. فقال له رئيس الوزراء إن هذه البيوت أعدت للوزراء، وخاصة الطرابلسيين الذين تركوا عائلاتهم في طرابلس، لأنه ليست لهم مساكن في مدينة البيضاء، وأضاف لا شك أن السيد المستشار يريد بقاء الحكومة في البيضاء، وهذا لن يتحقق إلا إذا أعددنا بيوتًا للوزراء الطرابلسيين ليأتوا بعائلاتهم ويستقروا فيها، والبيوت التي أشار إليها المستشار قد خصصت فعلًا لأصحابها.
كان السيد ونيس القذافي يعرف أن المستشار حريص على بقاء الحكومة في البيضاء ومستعد للتنازل عن طلبه عن طيب خاطر في صالح بقاء الحكومة في البيضاء، ولكن السيد ونيس القذافي لا يريد أن يخيب أمل المستشار، فسأله إذا كان بيته الحالي به أرض فضاء يمكن البناء عليها لتوسيعه، لأنه في هذه الحالة سيطلب من وزير الإسكان بناء غرف إضافية فيه. وفعلًا قبل المستشار العرض وتكلم رئيس الوزراء بدوره مع وزير الإسكان آنذاك وكان المهندس أنور أبوبكر ساسي لتنفيذ هذا الطلب. والطلب الثاني للمستشار هو الموافقة على سفره للعلاج في الخارج ومرافقة ابنه له، فوافق رئيس الوزراء على الطلب واتصل بوزير الصحة لتنفيذه. وعندما أراد المستشار ذكر طلبه الثالث طلب منه رئيس الوزراء مازحًا تأجيل طلبه الثالث إلى مقابلة أخرى. ولكن المستشار أصر على طلبه الثالث وقال إنه يريد من رئيس الوزراء تعيين ابنه الذي لم ينجح في المدرسة (بسبب مضايقة المدرسين المصريين له) في رئاسة مجلس الوزراء في البيضاء ليكون إلى جانبه. وهنا استعان الرئيس بي للإجابة، فقلت له في الوقت الحاضر لا توجد وظيفة شاغرة في الرئاسة لابنه وسننظر في طلبه إذا توفرت شواغر مستقبلًا، وهنا وافق المستشار على تأجيل البت في الموضوع لجلسة قادمة.
وكان رئيس الوزراء يستشهد بي ليبرهن للمستشار على صدق أقواله، خاصة أني من طرابلس ومن الحكومة، وكان المستشار يتقبل رأيي مجاملة. فأنا في رأيه ضيف في البيضاء ويحترمني رغم صغر سني كما يقول ولأنني من عائلة معروفة. وبعد أن شكر المستشار رئيس الوزراء على مقابلته له وخرج من مكتبه انفجر السيد ونيس القذافي معلقًا على تصرف المستشار قائلًا إن هؤلاء المستشارين يزورون الملك ويدّعون بأنهم يخدمون مصالح المواطنين ويصرون على مقابلة رئيس الوزراء والوزراء لخدمة مصالح مواطنيهم كما يدعون، وهم كما رأينا يعملون على تحسين أوضاعهم ومصالحهم الخاصة، ولم يذكر المستشار طلبًا واحدًا يهم مواطنيه أو أفراد قبيلته، وإذا رفضت طلباتهم للمقابلة يذهبون إلى للملك ويقولون له إن الحكومة لا تهتم بمطالب الشعب وتغلق الأبواب أمامهم، والملك يصدقهم طبعًا.
لقد سردت هذه القصة كمثل لما يجري، لأن أمثالها كثيرة تحدث يوميًا في مكاتب الحكومة في البيضاء ويقضي رئيس الوزراء والوزراء معظم وقتهم لمقابلة مثل هؤلاء الناس والاستماع إلى مطالبهم وتلبية ما يمكن من طلباتهم الخاصة، وهذا هو السبب في إصرار زعماء القبائل والملك على بقاء الحكومة في البيضاء لتكون قريبة منهم. وقلّ أن يأتي إلى البيضاء مواطن عادي أو شيخ قبيلة من إقليم طرابلس للمراجعة باستثناء نواب البرلمان أو موظفي الحكومة. وفي طرابلس لم يتعود مشايخ القبائل والناس العاديين على طلب مقابلة رئيس الوزراء أو حتى الوزراء أو كبار موظفي الدولة أو التقدم بمثل هذه الطلبات لهم، وكل ما كانوا يسعون إليه هو الوصول إلى المسئولين الصغار في السلطات المحلية لمتابعة الأمور التي تهمهم وتهم قبائلهم. وكانت اتصالات السيد ونيس القذافي بالملك تتم عن طريق السكرتير الخاص للملك، وفي الفترة الأخيرة عن طريق السيد عمر الشلحي أيضًا بعد أن أصبح مستشارًا للملك.

أسلوب السيد ونيس القذافي فـي العـمل
كان السيد ونيس القذافي يتجنب المشاكل ويكره الاحتجاجات ومظاهرات الطلبة ويتخوف منها، ولا يحب أن يرفض رأيًا لوزير، ومستعد لسماع أي اقتراح دون إبداء رأي حاسم حوله. وكانت اجتماعات مجلس الوزراء تستمر أيامًا للحصول على إجماع الوزراء في أي قرار مهما كانت أهميته. وكان يعرض كل القرارات على مجلس الوزراء حتى الروتينية والإدارية التى جرى رؤساء الوزارات على توقيعها رأسًا أو بالاتفاق مع الوزير المختص دون عرضها على مجلس الوزراء، اختصارًا للوقت والجهد، والاكتفاء بتوزيعها على باقي الوزراء للمعلومية.
كان السيد ونيس القذافي يتمتع بأسلوب هادئ في الكلام والإقناع، وأحيانًا يلجأ إلى السخرية والتهكم واستعمال النكات لتجنب أي نقاش حاد. لا يثق في الغير بسهولة ولهذا يحرص على عمل كل شئ بنفسه. يناقش ما يعرض عليه ويريد معرفة كل التفاصيل حوله، ولهذا يصر على دراسة مذكرات الوزراء أثناء عرضها على مجلس الوزراء ويتعرض لتفاصيل المواضيع، مما يحرج بعض الوزراء الذين لا يعرفون تفاصيل ما يوقعونه من مذكرات تاركين ذلك لكبار موظفيهم والخبراء. وإذا أعطى خبرًا للإذاعة أو للنشر في الصحافة تابعه بنفسه حتى يذاع أو ينشر ليتحقق بأنه يتمشى والنص الذي أعده أو وافق عليه. وكانت عدم ثقته في الموظفين والوزراء راجعة لخبرته الطويلة في الإدارة، حيث تولى رئاسة المجلس التنفيذي لولاية برقة لفترة طويلة.
وكان معظم الموظفين في برقة يفتقرون إلى الخبرة في السنوات الأولي للاستقلال ويتصرفون وفقًا لآرائهم الخاصة دون تقديرهم للمسئولية وعدم الخوف من العقاب لاستنادهم إلى الدعم القبلي، بعكس ولاية طرابلس التي حافظت على بعض الموظفين من الليبيين الذين اكتسبوا الخبرة في الإدارة الإيطالية السابقة لفترة غير قصيرة ثم في الإدارة البريطانية حتى الاستقلال، وكان هناك إصرار على التقيد بالقوانين واللوائح وتنفيذها وتطبيق العقوبات على المخالفين مهما كانت انتماءاتهم ودرجاتهم، حيث المحسوبية نادرة والحماية القبلية معدومة.
وكان السيد ونيس القذافي إذا أراد إعداد كلمة للمناسبات العامة يقضى وقتًا
طويلًا في إعدادها وكتابتها ومراجعتها كأنه يعد مذكرة دبلوماسية، فيحذف كلمة
ويزيد أخرى ويتمعن معناها، حتى لا يساء تفسيرها في الداخل والخارج، ولا يلجأ للاستعانة بالأرقام الإحصائية إلا إذا تأكد من مرجعها. لا يحب الأضواء والدعاية ويكره أن يذكر اسمه أو مدحه في الصحافة أو الإذاعة والتلفزيون، ويقول إن ليبيا بلد صغير يعرف الناس بعضهم بعضًا ورأيهم في المسئولين لن يتغير بالدعاية التي تثير السخرية بينهم. ولهذا كان أسلوبه لا يتفق مع أسلوب السيد أحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام، وقد حاول مع السيد الصالحين لتغيير أسلوبه دون جدوى.








بشير المنتصر وزير الدولة والسيد أحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام
والسيد أحمد الصالحين لا يمكن تغيير أسلوبه المبني على المبالغة في إسباغ كل صفات الكمال والمدح للملك، وقد نال وسامًا من الملك على ذلك. ويبدو أن الثناء يعجب الجميع، حتى من عرف عنه الورع والتقشف، مثل الملك. كانت علاقة السيد ونيس القذافي مع مجلس النواب جيدة، فهو لا يحب النقاش في المجلس ويحاول حل أية خلافات مع أعضائه خارج القاعة، مما يضطره إلى الاستجابة لطلباتهم العامة لمناطقهم وطلباتهم الخاصة في حدود مقدرته وإمكانيات الدولة.
السيد ونيس القذافي لم يكن منحازًا
لم يكن السيد ونيس القذافي منحازًا لبرقة ولا يحابيها في تخصيص المشاريع التنموية، فهو غير قبلي، ولكن له أصدقاء كثيرين في مدينة بنغازي التي يحبها ويعطيها اهتمامًا خاصًا ولا يستطيع البعد عنها. لا تعجبه مدينة البيضاء ويغادرها في العطلات الأسبوعية والأعياد وكلما سنحت الفرصة إلى بنغازي. وكان يتضايق من زيارات مشايخ ومستشاري القبائل وطلباتهم التي لا تنتهي، رغم أنه يخاف شكواهم لدى الملك ويلبي ما يستطيع من طلباتهم. كذلك لا تعجبه مدينة طرابلس لأنه لم يعش فيها وليس لديه أصدقاء ومعارف كثيرين فيها.

علاقات السيد ونيس القذافي مع وزرائه
كان السيد ونيس القذافي صديقًا للأستاذ عبدالحميد البكوش وكان يستقبله كثيرًا للمشاورة، وكان يجامل الدكتور علي أحمد عتيقة ولكنه لا يتفق معه في بعض آرائه. كما كان معجبًا بالسيد خليفة موسى وزير البترول، الذي يتمتع بامتيازات خاصة من رؤساء الحكومات جميعهم بعدم حضوره جلسات مجلس الوزراء في البيضاء. وكان السيد خليفة موسى صريحًا بالمجاهرة برأيه بأنه ليس له ما يعمله في البيضاء فكل الشركات البترولية في طرابلس، ولهذا يفضل البقاء في طرابلس أو السفر للخارج لحضور المؤتمرات الدولية والاجتماعات العديدة لمنظمة الأوبك، ويتشاور مع رئيس الوزراء بالهاتف إذا استدعى الأمر، حتى مذكرات وزارة البترول إلى مجلس الوزراء يتولى رئيس الوزراء تقديمها والإجابة عن الاستفسارات حولها. السيد خليفة موسى، وكما ذكرت، صديق لي ويصر على أن أتولى أنا وزارة البترول بالوكالة في حالة سفره للخارج وخاصة في عهد السيد ونيس القذافي، ولا يرغب أن يتولاها الدكتور علي أحمد عتيقة وزير التخطيط وأقرب الوزراء إلى اختصاص وزارة البترول، وأعتقد أن سبب ذلك يرجع إلى عدم ثقته في الدكتور عتيقة وخوفه من أن يجري بعض التغييرات أو يتخذ بعض القرارات الهامة في غيابه.
كان السيد ونيس القذافي حريصًا على بقاء الوزراء في مدينة البيضاء ولا يرحب بسفرهم إلى طرابلس أو خارج ليبيا حتى للإجازة. وكانت علاقته مع الذين يعملون معه ممتازة يحترمهم ويستمع إليهم، ولم يفكر في استبدال موظف أو حتى سكرتير خاص طول فترة حكمه، لأنه يثق ويعامل الجميع على قدم المساواة.
لم يستجب السيد ونيس القذافي إلى مقترحاتي بتعديل اختصاصات رئاسة مجلس الوزراء، لأنه لا يريد أن يشعر الوزراء أنه يريد أن يحدد من اختصاصاتهم نتيجة تقوية جهاز واختصاصات رئاسة الوزراء، رغم أنه كان يوافقني على إدخال مثل هذه التعديلات ويعدني بدراستها ولكنه لم يفعل شيئًا بشأنها. لم أكن أعرف السيد ونيس القذافي معرفة جيدة قبل توليه رئاسة الوزارة لكنني حزت على ثقته، وبدأ بتكليفي دائمًا للقيام بأعباء وزارة البترول بالوكالة عند غياب السيد خليفة موسى الوزير الأصلي أو بالقيام بأعباء وزارة الخارجية بالوكالة أثناء غياب الوزير الأصلي السيد علي حسنين في الخارج لحضور الاجتماعات الدولية والإقليمية التي لا تنتهي طوال العام. كان يثق في وكيل وزارة الخارجية السيد محسن عمير وكان يراجعه رأسًا دون الرجوع إلى الوزير، وخاصة في أول عهده عندما كان وزير الخارجية السيد شمس الدين عرابي بن عمران والذى استبدله بالسيد على حسنين في أول تعديل لحكومته.
كان السيد القذافي حريصًا على معاملة بعض الأشخاص بما لا يحرجهم مع الآخرين. وأذكر مرة أن السيد عمر الشلحي مستشار الملك الخاص كان في مكتبه قادمًا من طرف الملك من اليونان ليدرس مع الحكومة زيارات الملك إلى بعض دول البلقان وتركيا، فاستدعى السيد محسن عمير الذي كان معي في مكتبي دون استدعائي، رغم أني كنت وزيرًا للخارجية بالوكالة، وذلك لاعتقاده بأن السيد عمر الشلحي قد لا يرحب بحضوري لمناقشة مثل هذا الموضوع الخاص بالملك لعلاقتي الوطيدة بالسيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي، الذي تحرص الحاشية الملكية على عدم استشارته أو إطلاعه على الأمور التي يكلفهم بها الملك، خاصة أن رئيس الديوان لم يكن مع الملك في زيارته لليونان وتركيا، بل كان طوال هذه الفترة الهامة في إجازة في لندن وروما للعلاج.










بشير المنتصر وزير الدولة والسيدان أحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام (في وسط الصورة) والأستاذ طارق الباروني وزير الصناعة

كان السيد ونيس القذافي يرجع إلى ولي العهد في بعض الأمور العادية أثناء غياب الملك، ولكنه كان وثيق الصلة بالأخوين عبدالعزيز وعمر الشلحي ويرجع إليهما عندما يريد الاتصال بالملك في الأمور الهامة، مما لا يرضي السكرتير الخاص للملك السيد إدريس بوسيف الذي كان دائمًا حلقة الاتصال بين رؤساء الحكومات والملك، ولكن السكرتير الخاص كان يعرف مدى مكانة الأخوين الشلحي عند الملك ويخشاهما ولا يعترض على تدخلهما في شئون الدولة والاتصالات بين الملك ورئيس الحكومة.

الملك يمدد فترة بقائه في الخارج
كانت رحلة الملك إلى اليونان ثم إلى تركيا في صيف 1969م قد طالت كثيرًا، وقد بعث هذا الغياب الطويل كثيرًا من الارتياب والتساؤلات في دوائر الدولة العليا. وأذكر أن السفير الليبي في اليونان السيد الطاهر القرامانلي قد بعث ببرقية إلى رئيس الوزراء يقول فيها بأن انطبعاته بعد مقابلته للملك أنه ينوي البقاء لفترة طويلة في الخارج، كما أنه يفكر في اتخاذ إجراء دستوري لكنه لم يصارحه في الموضوع. وبعد فترة أرسل الملك إلى رئيس الوزراء برقية يقول فيها بأنه سيقوم بجولة في يوغسلافيا والنمسا وإيطاليا، ولهذا أرسل السيد عمر الشلحي للتدارس معه حول هذه الزيارات. وفعلًا تقرر إعداد هدايا من المصنوعات الليبية التقليدية ليأخذها الملك معه إلى رؤساء الدول وزوجاتهم في البلدان التي سيزورها، وكلف وزير الصناعة السيد طارق الباروني بإعدادها، كما كلفت وزارة الخارجية باتخاذ الإجراءات الرسمية بشأنها.

إشاعـة استقالة المـلك
أمور كثيرة كانت تجري في الخفاء وبسرية تامة. فقيام الأخوين عبدالعزيز وعمر الشلحي بأدوار الاتصال بين الملك ورئيس الحكومة في هذه الفترة وعدم إطلاع مجلس الوزراء وكبار رجال الأمن والجيش على ما يجري وراء الكواليس يشير إلى توقع أحداث هامة. وزاد ذلك تأكيدًا طلب الملك رجوع رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب من الإجازة في أوروبا إلي البيضاء بسرعة لحضور الاحتفالات بمناسبة 9 أغسطس عيد الجيش السنوسي.
وأشيع أن الشيخ عبدالحميد العبار رئيس مجلس الشيوخ مر على تركيا وقابل الملك قبل عودته إلى ليبيا، مما جعل رئيس الوزراء يشك في الأمر ولهذا منع خروج الوزراء في إجازة في هذه الفترة التي توافق العطلة الصيفية المدرسية، والتي يحرص فيها المسئولون على السفر في إجازاتهم مع عائلاتهم. والغريب أن كل هذا كان يجري دون علم السيد محمود المنتصر رئيس الديوان، الذي كان في إجازة طويلة للعلاج، كما أخبرني هو في مطار طرابلس يوم عودته من أوروبا يوم 27 أغسطس.
وقد رفض رئيس الوزراء أن آخذ إجازتي في شهر أغسطس أيضًا وهو الشهر الذي أفضله للإجازة، رغم أنه سمح لوزير البترول السيد خليفة موسى بالخروج في إجازة بصفة استثنائية. وكان عليّ ان أتولى وزارة البترول بالوكالة في غيابه، ولهذا كنت في بنغازي وطرابلس في الأسبوع الأخير من أغسطس للاهتمام بشئون وزارة البترول. كما أن السيد علي حسنين وزير الخارجية سافر إلى أديس أبابا لحضور مؤتمر القمة الإفريقي وأسندت مهام وزارة الخارجية بالوكالة إليّ ايضًا. وكان رئيس الوزراء يتولى تسيير العمل في وزارة الخارجية مع السيد محسن عمير وكيل وزارة الخارجية في البيضاء أثناء انشغالي بالعمل في بنغازي وطرابلس لشئون تتعلق بوزارة البترول واستقبال بعض كبار الزوار بصفتي وزيرًا للخارجية بالوكالة.
في هذه الفترة كان رئيس الوزراء قلقًا ويتوقع أخبارًا هامة من الملك لم يفصح عنها. وسرعان ما انتشرت الإشاعات بأن الملك سيستقيل أو أنه سيعلن تغييرًا دستوريًا هامًا، الشئ الذي كان موضع تكهنات منذ فترة طويلة. وفي الأسبوع الأخير من شهر أغسطس كنت في بنغازي لحضور اجتماع للمجلس الأعلى لشئون البترول والاجتماع بأعضاء المجلس الذين استقال بعضهم، بسبب عدم موافقتهم على قرار مجلس الوزراء الخاص بإعطاء عقود بترولية لا تتمشى مع توصيات المجلس الأعلى لشئون البترول.

مجلس الوزراء يبحث إشاعة استقالة الملك
سافرت إلى طرابلس لاستقبال السيد عبدالهادي بوطالب وزير الخارجية المغربي، الذي يزور ليبيا حاملًا دعوة الملك الحسن الثاني إلى الملك إدريس لحضور مؤتمر القمة العربي الذي كان سيعقد في المغرب، وكذلك الإعداد لزيارة الأمين العام للأمم المتحدة المستر يوثانت إلى ليبيا يوم 5 سبتمبر. وسمعت أثناء ذلك أن اجتماع مجلس الوزراء الذي عقد في البيضاء في غيابي أثير فيه موضوع الإشاعات حول غياب الملك وأن رئيس الوزراء أكد للوزراء بأنه لا يعلم شيئًا.
وقد طلب مجلس الوزراء من السيد ونيس القذافي السفر إلى تركيا لرؤية الملك واستجلاء الحقائق منه وفيما إذا كان الملك يفكر في الاستقالة حقًا، وإذا كان مصرًا فيجب أن تتم بطريقة دستورية والتنازل عن العرش لولي العهد بالطرق الرسمية وعدم تعريض البلاد لفوضى لا يعرف مصيرها إلا الله. وقد أكد رئيس الوزراء للوزراء بأنه طلب الإذن للسفر لمقابلة الملك ولكن طلبه رفض ووعدهم بإبلاغهم بأية تطورات قد تحدث.

زيارة الوزير المغربي السيد عبدالهادي بوطالب
وبعد وصولي إلى طرابلس استقبلت الوزير المغربي السيد عبدالهادي بوطالب الذي وصل إلى طرابلس يوم 30 أغسطس، ونظرًا لغياب الملك أعددت له مقابلة مع ولي العهد لتسليمه دعوة الملك الحسن الثاني إلى أخيه الملك إدريس لحضور مؤتمر القمة العربي في الرباط. وقد اعترضتني مشكلة مع سكرتير ولي العهد السيد بلقاسم الغماري، عندما أعلمني بأن ولي العهد يرغب في استقبال الوزير المغربي منفردًا دون حضوري معه، وقد أفهمته بأن العرف جرى أن يحضر وزير الخارجية مقابلة الوزير الزائر للملك أو ولي العهد، ولكن سكرتير ولي العهد أبلغني بأن هذا قرار الأمير وهو مصر عليه. وقد يكون رفض الأمير حضوري المقابلة يرجع إلى علاقتي الوثيقة بالسيد محمود المنتصر الذى يشك في إخلاصه له.
أثار هذا التصرف غضبي، واتصلت برئيس الوزراء وأبلغته بالأمر محتجًا، وطلبت من رئيس الوزراء إعفائي من مهام وزارة الخارجية بالوكالة احتجاجًا على تصرف ولي العهد، ولكنه كعادته بدلًا من أن يراجع الأمير لتغيير رأيه ذكرني بالظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد وطلب مني عدم إثارة مشكلة أخرى وأن أترك الوزير المغربي يقابل ولي العهد بمفرده كما طلب. أبلغت الوزير المغربي بوطالب قرار ولي العهد، وقد استغرب بدوره هذا التصرف وشعر بغضبي. وهكذا تمت مقابلته لولي العهد صباح يوم 31 أغسطس، وبعدها جاء السيد بوطالب إلى مكتبي وأبلغني بما جرى في المقابلة وسلمني صورة من دعوة الملك الحسن إلى الملك إدريس. ودعته بعد ذلك ليستريح في الفندق على أن نتلاقى في المساء في حفلة العشاء التي سأقيمها على شرفه في فندق الودان.

مشكلة توقيع عقد للتنقيب عن البترول مع شركة أمريكية
بعد ظهر ذلك اليوم ذهبت إلى وزارة البترول، وأبلغني السيد إبراهيم الهنقاري وكيل وزارة البترول آنذاك، بحضور السيد عيسى البعباع وكيل الوزارة المساعد، بأن مدير شركة البترول "شباكوا" التي وافق مجلس الوزراء على منحها عقد امتياز التنقيب يصر على توقيع العقد اليوم لأنه سيسافر غدًا إلى أمريكا. واستغربت هذا الطلب، وسألت لماذا لم يوقع الوزير الأصلي السيد خليفة موسى قبل سفره للإجازة العقد مع هذه الشركة كما وقع العقود الأخرى مع باقي الشركات التي منحت امتياز التنقيب، فالعقد كان كغيره من العقود موقعًا من طرف رئيس شركة البترول الوطنية السيد محمد الجروشي.
كان رد السيدين إبراهيم الهنقاري وعيسى البعباع بأن السبب ورود نص اختياري في العقد لم يرد في قرار مجلس الوزراء يستثني هذه الشركة من مشاركة الحكومة بعد اكتشاف البترول بكميات تجارية، وعليه قرر السيد خليفة موسى حفظه حتى رجوعه من الإجازة. كما أوضحا لي بأن الشركة يدعمها بعض أفراد من الحاشية الملكية، وقد اتصل بهما القصر الملكي صباح ذلك اليوم وطلب منهما التوقيع على العقد مع هذه الشركة أسوة بالشركات الأخرى، وكانا يعتقدان بأنني على علم بالموضوع. وبعد اتصالي بالسيد ونيس القذافي رئيس الوزراء وافقني على الإصرار على التمسك بشروط قرار مجلس الوزراء أسوة بالشركات الأخرى وعدم التوقيع تحت أي تهديد. وفعلًا طلبت من السيد عيسى البعباع إعداد رسالة إلى مدير الشركة المذكورة برفضي توقيع العقد لعدم تمشيه مع قرار مجلس الوزراء، وإرجاعه إلى رئيس شركة البترول الوطنية لإعادة صياغته وفقًا لقرار مجلس الوزراء، وإبلاغ فحوى الرسالة بالهاتف إلى مدير الشركة إذا عاود الاتصال.

تكريـم الوزيـر المغربـي
خرجت من وزارة البترول إلى فندق الودان حيث أقمت مأدبة عشاء فخمة على شرف الوزير المغربي السيد عبدالهادي بوطالب، حضرها كل الوزراء الموجودين في طرابلس، ونواب رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب وكبار المسئولين، ورئيس أركان الجيش اللواء السنوسي شمس الدين ومدير عام الأمن في طرابلس اللواء سالم بن طالب وكبار ضباط الأمن. وبعد العشاء ودعته على أساس أن أراه صباح اليوم التالي لمرافقته إلى المطار للتوديع. ورجعت إلى البيت في تلك الليلة متعبًا بعد يوم ملئ بالعمل والمشاكل مع ولي العهد حول مقابلته للوزير المغربي وموضوع رفضي توقيع عقد الشركة البترولية التي يتبناها بعض أفراد الحاشية الملكية. وكان التلفزيون الليبي يركز في تلك الليلة على زيارة الوزير المغربي وحفلة العشاء الرسمية التي أقمتها على شرفه.
وقبل أن أنام اتصلت برئيس الوزراء في بنغازي وأعطيته تقريرًا مفصلًا عما جرى في ذلك اليوم في مجالي البترول والخارجية، خاصة زيارة الوزير المغربي وبعض التفاصيل عن برنامج زيارة السكرتير العام للأمم المتحدة المستر يوثانت إلى ليبيا يوم 5 سبمتبر، والذي كان من المفروض أن يكون رئيس الوزراء في استقباله في مطار طرابلس. ولكن السيد ونيس القذافي كان مترددًا في المجئ إلى طرابلس ويريدني استقباله نيابة عن الحكومة ومرافقته إلى البيضاء للاجتماع به هناك، وهذا ما كان يرفضه مكتب الأمين العام، الذي كان يصر على أن يكون رئيس الوزراء في استقبال السكرتير العام عند وصوله إلى طرابلس. وكانت المشاورات لاتزال تجري عن طريق السفير الليبي لدى منظمة الأمم المتحدة في نيويورك الدكتور وهبي البوري، وبعد ذلك أويت إلى فراشي.

2:45 PM  
Blogger Bashir Muntasser said...

الفصل الثامن

الفاتح من سبتمبر 1969م

عند حوالي الساعة الرابعة صباحًا من يوم الاثنين 1 سبتمبر 1969م رن جرس الهاتف في بيتي فاستيقظت، إذ كنت أتوقع مكالمة في ساعة متأخرة من الليل من السفير الليبي لدى الأمم المتحدة بنيويورك الدكتور وهبي البوري لتأكيد تفاصيل زيارة المستر يوثانت الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا يوم 5 نوفمبر، وهي التفاصيل التي سبق لي دراستها مع رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي. وبمجرد إجابتي على الهاتف فوجئت بالمتكلم يستفسر مني عن اسمي ومتحججًا أنه يريد شرطة النجدة، الأمر الذي أثار غضبي فأجبته بأنه كان الأولى به التحقق من الرقم الذي يريد مكالمته بدلًا من أن يزعج العباد في مثل هذه الساعة المبكرة من الصباح وأنهيت المكالمة.
وفي الساعة السادسة صباحًا رن جرس الهاتف من جديد، وكان المتكلم الحاج صالح اهميلة رئيس مستودع سيارات رئاسة مجلس الوزراء، وكان غاضبًا، وقال لي بأن رئاسة مجلس الوزراء محاطة بالجيش وأنهم منعوا السيارات التي ستنقل الوزير المغربي الضيف السيد عبدالهادي بو طالب ومودعيه إلى المطار من الخروج، وكذلك منعوا خروج بقية سيارات الوزراء. ورغم استغرابي لمثل هذا الإجراء الأمر الذي جعلني أعتقد أن شيئًا جديدًا قد حدث أثناء الليل، وأن رئيس الوزراء ووزير الداخلية ووزير الدفاع قد يكونوا اتخذوا إجراءًا مستعجلًا بإعلان حالة الطوارىء وتكليف الجيش بتولي الأمن في البلاد، خاصة وأننا جميعًا كنا نتوقع أخبارًا هامة مثل استقالة الملك، أو إجراء تغيير في نظام الحكم، ولهذا طلبت من الحاج اهميلة أن يتقيد بأوامر الجيش وعدم إخراج السيارات حتى اتصل به بعد أن أتحرى عما يجري.
وبعد دقائق رن جرس الهاتف من جديد وكان المتكلم والدي الذي يصحو مبكرًا لصلاة الصبح، وكان يقيم في وسط المدينة قرب سيدي الشعاب قريبًا من رئاسة مجلس الوزراء، وأخبرني بأنه سمع طلقات رصاص وأن سيارات الجيش تملأ شوارع المدينة واستفسر عما كنت أعرف بما يحدث، وطلب مني الاستماع لمحطة الإذاعة إذ هناك بيانات تذاع. وفعلًا فتحت على محطة الإذاعة وسمعت بيان حركة الجيش والموسيقى العسكرية فتأكدت أن حدثًا خطيرًا قد حدث. فحاولت الاتصال برئيس الوزراء ووزير الداخلية في البيضاء ومدير الأمن العام في طرابلس ولكن يظهر أن خطوط الهاتف مع برقة قد قطعت كما أن هواتف كبار المسئولين في طرابلس قد قطعت أيضًا، واستغربت بقاء هاتفي شغالًا، إلا أنني تذكرت بأنه لا أحد يعرفه وغير مسجل في دليل الهاتف.
وبعد دقائق اتصل بي السيد محمد الخويلدي، رئيس قسم المراسم بوزارة الخارجية، وكان يسكن في وسط المدينة وقال لي إن قوات الجيش منعت الناس من الخروج من بيوتها ولا يعرف ماذا يفعل، لأنه يريد الذهاب إلى فندق الودان لمرافقة الوزير المغربي إلى المطار حسبما سبق وأن اتفقت معه عليه، فطلبت منه الانتظار حتى تتضح الأمور. وكانت تدور في رأسي تفسيرات عديدة لما كان يحدث بعد سماعي للبيانات التي تبثها الإذاعة، وعن من هم يا ترى زعماء الانقلاب؟
كنت أعرف بعض ضباط الجيش الكبار من رتبة عقيد إلى رئيس الأركان. ومعظم العقداء كانوا من جيلي وقد كان بعضهم زملاء لي في الدراسة في المدرسة الثانوية في طرابلس، كما أن الكثير منهم كانوا في القاهرة في الكلية العسكرية في نفس الوقت الذي كنت أدرس فيه في جامعة القاهرة. وكنت أعتقد أنهم بعيدون عن السياسة رغم تذمر معظمهم من مجرى الأمور في الجيش، وفي البلاد بصفة عامة. كان التفسير الوحيد والذي استقر عليه رأيي هو احتمال استقالة الملك، الشئ الذي عودنا عليها. إذ قد يكون قرر خطة جديدة بعد فقدانه الأمل في السياسيين، بأن يولي الجيش حكم البلاد بقيادة العقيد عبدالعزيز الشلحي وضباط وأفراد الجيش الموالين له وللملك، بما فيهم دون شك ضباط قوة دفاع برقة، إلا أن نغمة البيانات والأناشيد والتعليقات التي كانت تبثها الإذاعة لا تتمشى مع مثل هذا التفسير، إذ كانت كلها ضد الملك، ولا أعتقد أن العقيد عبدالعزيز الشلحي يوافق عليها.
وزادت شكوكي عندما أذيع خبر تعيين العقيد سعد الدين أبوشويرب قائدًا للانقلاب، إذ هو زميل لي في الدراسة وأعرفه معرفة جيدة كما أعرف أنه خرج من الجيش. ورغم اطمئناني لشخصية العقيد سعد الدين أبوشويرب لكونه شخصًا معتدلًا ومتعلمًا وذا خبرة في الجيش وعارفًا بشئون البلاد وينتمي إلى عائلة معروفة ومحترمة، إلا أنني لم أصدق ذلك، وكنت أرى أن إذاعة خبر تعيينه ما هو إلا تغطية من طرف الضباط الموالين للعقيد عبدالعزيز الشلحي، حتى يضمنوا بذلك تأييد باقي عقداء الجيش الغير موالين لهم.
بعد تعذر اتصالي بأي من المسئولين وعدم استطاعتي القيام بشيء، إذ لم يكن للوزراء في النظام الملكي، أي دور في شئون الأمن أو سلطة أو اتصال مباشر بقوات الجيش أو الأمن، بل حتى بيوت الوزراء وتحركاتهم كانت بدون حراسة على الإطلاق. ولهذا قررت الانتظار وكلي اطمئنان ولم يساورني أي خوف، حيث كنت واثقًا من أنني لم أرتكب عملًا ضد بلادي، ولم أشترك في أي فساد سياسي أو مالي والحمد لله، فأنا لا زلت في بداية السلم الوزاري، وجئت للوزارة من الوظيفة العامة كخبير، ولم يكن في رصيدي في المصرف حينذاك سوى بعض المدخرات، كنت أوفرها من مرتبي للإجازة التي تعودت عليها سنويا في الخارج، ولم أملك أي حساب بأي مصرف خارج ليبيا أو ممتلكات.
كنت أعيش بمفردي في بيت بحي قرقارش في طرابلس دون حرس، سوى خفير عينته إدارة الأملاك الحكومية لحراسة أثاثها المعار لبيتي، وذلك نظرًا لتغيبي الطويل في مدينة البيضاء. وكان معظم جيراني من الأجانب العاملين في شركات البترول، والذين لم يكن لي اتصال معهم، وكان والدي ووالدتي وإخوتي يعيشون بعيدًا عني وسط المدينة. جاءني الأخوان محمود والأمين بن ناجي اللذان كانا جيرانًا لي، بالإضافة لكونهما ملاكًا للبيت الذي كنت أسكنه، وذكرا لي بأنهما لا يعرفان شيئًا عن هوية من قاموا بالانقلاب، رغم أن السيد محمود بن ناجي كان عقيدًا بالجيش واستقال منذ فترة، وكانا يعتقدان كما اعتقدت أن الانقلاب بقيادة العقيد عبدالعزيز الشلحي.
كنت أنتظر اعتقالي وكان هذا واردًا بل توقعته منذ الساعات الأولى من ذلك اليوم، ويظهر أن ضباط الجيش الذين قاموا بالحركة لا يعرفون حتى بيوت الوزراء، فقد سمعت أن رجال الجيش ذهبوا إلى بيت والدي في وسط المدينة يسألون عني، وقيل لهم أنني لا أسكن هناك. وقضيت اليوم كله وأنا لا أعرف شيئا، فقد قطع خط الهاتف عني ولم يبق لدي أي مصدر لمعرفة ما يجري في البلاد سوى ما تبثه الإذاعة. وفي مساء ذلك اليوم ونظرًا لعدم اتصال الجيش بي، ذهبت إلى بيت أحد الجيران، حيث تناولت العشاء معهم وبقيت هناك حتى ساعة متأخرة، قررت بعدها الرجوع إلى بيتي، وعلمت من الخفير أن جنودًا من الجيش قد جاءوا للسؤال عني فأعلمهم بأني غير موجود بالبيت وبأنه لا يعرف مكاني.
كنت أعتقد أسوة بغيري من الشباب المثقف أن النظام الملكي لم يحقق ما كان مرجوًا منه، وأن الإصلاح من الداخل كان متعذرًا في الظروف التي كانت سائدة ويحتاج إلى وقت، كما أن دخل البترول الذي أصبح يتزايد فتح المجال للفساد، الذي بات يسري في أجهزة الدولة وفي دائرة الأعمال التجارية والمالية، كما أن الملك أصبح عاجزًا عن السيطرة على الوضع تتقاذفه، أمواج الحاشية والإقليمية الضيقة بالإضافة لحالته الصحية والنفسية، كما كنت أعتقد أن أي تغيير لن يكون أسوأ مما كان عليه الحال، خاصة إذا كان ضباط حركة الجيش من الشباب المتعلم الواعي.
في صباح يوم 2 سبتمبر وبعد رفع منع التجول، جاءني والدي وأخي الأصغر عبدالعظيم، وقالا لي بأن والدتي تمر بحالة عصبية منذ سماعها خبر الانقلاب، وأنها كانت تصرخ في وجه رجال الجيش كلما جاءوا يبحثون عني، وطلبا مني مرافقتهما إلى بيت العائلة والبقاء معهم فيه حتى يكتب الله امرًا كان مفعولًا. ولكنني رفضت ذلك، وطلبت منهما تطمين الوالدة بأني بخير، ولست خائفأ على مصيري، وليس لدي ما أخشاة، وكل ما أرجوه منها هو الاهتمام بصحتها.

اعتقال الوزراء وكبار المسئولين
أصبحت أحداث الانقلاب تتضح بعد اعتراف ولي العهد وإلقاء القبض على كبار ضباط الجيش والأمن. وبعد منتصف النهار رن جرس الباب، وعندما فتحته وجدت سيارات "لاندروفر" عسكرية أمام البيت، ورأيت عددًا من الجنود بمدافعهم الرشاشة ينتشرون حول البيت، وتقدم مني ملازم وقال إن اسمه أحمد بن حليم، واستفسر مني عن اسمي، ولما أجبته طلب مني مرافقته، فطلبت منه منحي بضع دقائق لأغير ملابسي، فأنتظرني في الخارج ولم يدخل لتفتيش البيت كما فعل غيره مع باقي من اعتقلوا، كما علمت بعد ذلك منهم بأنهم تعرضوا لمعاملة سيئة أثناء اعتقالهم.
كما علمت بعد ذلك أن أحد رجال المباحث أو الشرطة يدعى حسن المصري كما قيل لي، والذي كان يساعد رجال الجيش ويدلهم على بيوت الوزراء وغيرهم من المسئولين، قد جاء إلى بيت العائلة وطلب من أخي الأصغر عبدالعظيم مرافقته الي بيتي لتفتيشه. وفعلًا رافقه أخي وعند انتهاء التفتيش أخذ رجل المباحث معه بعض أوراقي الخاصة، بما فيها شهادات دراستي والملفات الرسمية التي كانت على مكتبي، ويظهر، كما قال لي أخي عبدالعظيم لاحقًا، بأن رجل المباحث كان يبحث عن وجود السلاح ولم يهتم كثيرًا بالأوراق. ارتديت ملابسي، وبمجرد خروجي من البيت رافقني جنديان بمدافعهما الرشاشة إلى إحدى سيارات "اللاندروفر" الواقفة أمام البيت وجلست في المقعد الخلفي بين الجنديين، بينما جلس الضابط بن حليم في المقعد الأمامي إلى جانب السائق، وركب باقي الجنود السيارات الأخرى.
وقد لاحظت أن جيراني الأمريكيين كانوا جميعًا في شرفات منازلهم يودعونني ويتابعون ما كان يجري أمامهم. وبمجرد تحرك السيارات سألني الضابط بن حليم عما إذا ما كنت أعرف بيت إسماعيل التويجيري، أحد ضباط جهاز أمن الدولة، فأجبته بالنفي، ولكن أحد الجنود قال إنه يعرفه لأنه جاء الليلة الماضية مع أحد الضباط للبحث عنه ولكنهم لم يجدوه. عند وصولنا إلى بيته واستفسار الجنود عنه أخبرهم والده بأنه قبض عليه بالأمس، ورغم عدم اقتناع الضابط بأقوال الأب، إلا أنه لم يصر على تفتيش المنزل.
بعد مغادرة بيت السيد التويجيري سألني الضابط بن حليم عما إذا كنت قد أرسلت برقية تأييد للثورة فأجبته بالإيجاب. كما سألني عما إذا كان السيد حامد العبيدي وزير الدفاع في طرابلس أو بنغازي فقلت له بأني لا أعرف ذلك ولكنه لم يحضر مأدبة العشاء التي أقيمت ليلة 31 أغسطس على شرف الوزير المغربي الزائر، وأتيحت ليّ الفرصة لسؤاله عما تم في إجراءات سفر الضيف المغربي، فأعلمني بأنه سافر برًا عن طريق تونس.
عند وصولنا إلى ثكنات باب العزيزية أخذت إلى إحدى الحجرات، وسئلت عما إذا كنت قد أحضرت معي ملابس للنوم، وعندما أجبتهم بالنفي قدموا لي جهاز هاتف وطلبوا مني الاتصال بعائلتي لإحضار ما سوف أحتاجه من ملابس، وكانت المعاملة طوال الوقت تتم بالاحترام. ووجدت بالحجرة كلا من الوزراء المهندس علي الميلودي والدكتور علي أحمد اعتيقه والسيد حامد أبوسريويل والأستاذ مصطفى بعيو والسيد سالم لطفي القاضي، وكانت الحجرة صغيرة مخصصة لإقامة ضابطين فقط في الثكنات، ويظهر أنهما غادراها على حين فجأة، إذ تركا بها أوراقهما الخاصة مبعثرة والأدراج مفتوحة وملابسهما خارجها.
قضينا ليلتنا الأولى في ثكنات باب العزيزية، وكنا نتجاذب أطراف الحديث وكأننا في مدينة البيضاء، حيث كان الوزراء يعيشون فيها أغلب الوقت بدون عائلاتهم، ويسهرون معًا، وقدمت لنا تلك الليلة وجبة عشاء بسيطة مكونة من صحن من الشوربة على ما أذكر. وفي ساعة متأخرة من الليل أفقنا مذعورين على أصوات طلقات نار من مدفع رشاش استمر بشكل متواصل لعدة دقائق، مما أثار رعب كبار السن منا، ولما كنت أنا الشخص الوحيد بينهم الأعزب وبدون أطفال قلت لهم مازحًا، وشر البلية ما يضحك، يظهر أن رجال الجيش قرروا إعدام المعتقلين، وأن دورهم قادم. ردوا عليّ بغضب ولماذا يقتلون وما ذنبهم، إن لهم أبناء يريدون تربيتهم وتعليمهم أبنائهم وليسوا مثلي رجل أعزب متشائم. وبعد توقف إطلاق النار انتظرنا أن يدخل علينا أحد ليخبرنا بما جرى. ولكن يبدو أن إطلاق النار كان عملًا فرديًا لأحد ضباط أو جنود الحراسة لبث الرعب فينا نفسيًا. وهكذا نمنا حتى الصباح بدون أن نعرف شيئا عن مصيرنا.
وفي صباح يوم 3 سبتمبر دخل علينا بعض الضباط وطلبوا منا ارتداء ملابسنا والوقوف أمام أسرتنا، وبعد ذلك طلبوا منا مغادرة الحجرة إلى خارج المبنى، حيث وجدنا عددًا من السيارات الكبيرة لنقل الجنود، وكذلك بقية المعتقلين من الحجرات الأخرى، وكان بينهم السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي، والسيد أحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام، والسيد أحمد صويدق وزير الاقتصاد، والسيد حامد العبيدي وزير الدفاع، واللواء السنوسي شمس الدين رئيس أركان الجيش، واللواء نوري الصديق إسماعيل رئيس أركان الجيش السابق، والسيد خليل البناني محافظ مصرف ليبيا المركزي، والسيد منصور محمد خليفة عضو مجلس الشيوخ وغيرهم، وطلب منا الجنود صعود السيارات وكانت عالية مما تعذر على كبار السن الصعود إليها، فأسرعنا إلى مساعدتهم، بينما وقف الجنود الشباب يراقبوننا دون تقديم يد المساعدة.
تحركت بنا السيارات دون أن نعلم عن وجهتها، ومرت بنا عبر وسط المدينة التي كانت شوارعها تعج بالمظاهرات الشعبية الهاتفة بسقوط الملكية ومرحبة بحركة الجيش، وكما قال لنا حراسنا من الجيش، بأنه لو تم تسليمنا لتلك الجماهير لقطعتنا إربًا إربًا في شوارع طرابلس، وكان كل هذا يدل على مدى غضب الشعب في طرابلس على النظام الملكي. وصلنا ثكنات الجيش في الفرناج حيث وضعنا في نادي الضباط، وانضم إلينا بعض ضباط الأمن الذين كان من بينهم العقيد علي عقيل، وكان يبدوا عليه أنه عومل معاملة قاسية، فقد قيل بأنه رفض الأوامر التي أصدرها له رجال الجيش.
قدمت لنا وجبة الغذاء التي كانت من المكرونة المطبوخة على الطريقة الليبية، فأكل البعض وامتنع البعض الآخر. أخذنا بعد ذلك إلى صالة لعبة الأسكواش التي حوّلت إلى حجرة نوم لأكثر من 16 شخصًا، وكانت الأسرة والأغطية كلها جديدة ونظيفة وفصلونا عن ضباط الأمن، وعلمنا بوجود مجموعات أخرى في غرف أخرى منفصلة عنا. ووضعوا لنا جهاز راديو لسماع أخبار نجاح الانقلاب وتلاوة برقيات التأييد التي كانت تنهال بكثرة على قادة حركة الجيش من المسئولين والسفراء ومن المواطنين على اختلاف طبقاتهم، وكان من ضمنهم أخي علي السني المنتصر السفير الليبي في بلغراد.
كان يزورنا من حين لآخر ضباط من صغار الرتب لا نعرف منهم أحدًا، وكانوا يسألون عما كنا نحتاجة. فشكونا من عدم وجود تهوية كافية في الحجرة لعدم وجود نوافد فيها. فطلبوا من الجنود وضعنا في صالة النادي حتى مجيء وقت النوم، ووافقوا على نقل السيد محمود المنتصر إلى المستشفى العسكري لأنه كان كبيرًا في السن، ومريضًا يعاني من ضغط الدم وتصلب في شرايين القلب وتضخم في غدة البروستاتا، وكان في حاجة ماسة إلى الرعاية الطبية. وقد استلمنا بعض الملابس من عائلاتنا، وقضينا الوقت في الحديث وسط تساؤلات عن هوية ضباط الانقلاب.
وفي تلك الليلة حدث أمر أثار استغرابنا، حيث طلبوا منا عدة مرات ارتداء ملابسنا وجمع حاجاتنا والوقوف أمام أسرتنا استعدادًا للخروج، ثم طلبوا منا ارتداء ملابس النوم مرة أخرى والرجوع لحالتنا العادية. وكان السيد منصور محمد خليفة، عضو مجلس الشيوخ، كثير الحركة، فوضعوا في يديه سلسلة حديدية مثبتة في الحائط أمام الحجرة. وكان الجنود الحراس متعبين وينامون على الأرض ويرافقوننا إلى دورة المياه كلما طلبنا ذلك.

استنكار دعوة التدخل الأجنبي
وفي إحدى الليالي طلبوا منا ارتداء ملابسنا والخروج إلى قاعة النادي فوجدنا عددًا كبيرًا من باقي المعتقلين من رؤساء الحكومات والوزراء السابقين وكبار المسئولين في النظام الملكي الموجودين في طرابلس يوم قيام الانقلاب، كما لاحظنا وجود رجال الإذاعة والتلفزيون بآلاتهم للتصوير والتسجيل. وتكلم أحد الضباط وقال لقد طلب جماعة الملك الموجودين في الخارج وعلى رأسهم السيد عمر الشلحي من بريطانيا وأمريكا التدخل لقمع الثورة بالقوة، ونريد أن نعرف رأيكم؟ وطلب منا تسجيل رأينا لإذاعته في الراديو والتلفيزيون ضمن برقيات احتجاج المواطنين. وفعلًا ألقى جميعنا كلمات استنكرنا فيها أي تدخل أجنبي في ليبيا مهما كانت الدوافع، وبينا أن ضباط الانقلاب هم من أبناء الوطن وأنهم سيحرصون على مصلحة الشعب وأمن البلاد. الشخص الوحيد الذي لم يتكلم كان السيد محمود المنتصر الذي عندما جاء دوره في الكلام، حسب ترتيب مكانه بين الجالسين، قام متجهًا إلى دورة المياه ولم يطلب منه أحد الكلام بعد عودته.
أذكر أنني قلت في كلمتي بأننا في العهد الملكي حاولنا أن نؤدي واجباتنا وفقًا لضمائرنا في ضوء الظروف السائدة، ولا شك أننا فشلنا في تغيير الأوضاع والقضاء على الفساد بالشكل الذي كنا نأمله ونريده، ولكننا لم نقصر في الحد من ذلك وفقًا لإمكانياتنا، وبأني آمل بأن يتمكن الضباط الشباب الذين قاموا بالثورة من الإصلاح والسير بالبلاد في طريق الحرية والتقدم والازدهار، ونحن ندعوا لهم بالتوفيق. وفي نفس الوقت استنكرت بشدة أية دعوة للتدخل الأجنبي في شؤون البلاد الداخلية، وقلت إنه لا يجوز لأي من كان أن يتكلم باسمنا او باسم الشعب طلب التدخل الأجنبي. وقد حاول السيد عبدالحميد البكوش نصح ضباط الجيش بالتركيز على العمل بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وشرح الصعوبات التي تواجهها البلاد، كما تكلم الدكتور علي أحمد عتيقة بنفس المعنى. سمعنا بعد ذلك أن كلماتنا أذيعت على التليفزيون، مما طمأن عائلاتنا بأننا بصحة جيدة ولم نتعرض لمعاملة سيئة كما كان يشاع.
وفي إحدى الليالي دخل علينا عدد من الضباط وطلبوا منا ارتداء ملابسنا وجمع حاجياتنا والتوجه إلى الخارج، وعند خروجنا استغربنا وجود حافلات عسكرية معدة لنا وقوة عسكرية كبيرة وسيارات مدرعة، وجىء بباقي المعتقلين وكان من بينهم الأستاذ محمود البشتي وزير الداخلية السابق الذي أضيف إلى مجموعتنا. وصعدنا الحافلات، وأذكر أني جلست إلى جانب السيد حامد العبيدي وزير الدفاع السابق، وكان يسألني عن اتجاهنا لكوني من طرابلس وملمًا بمسالك طرقاتها أكثر منه، فقلت له إن الحافلات تتجه نحو مدينة طرابلس.
وعندما وصلنا إلى مفترق الطرق عند باب بن غشير اتجهت السيارات إلى اليسار، فقلت له الظاهر أنهم متجهون بنا إلى المطار ولعلهم يرغبون في نقلنا إلى فزان. ولكن قبل وصولنا إلى مفترق الطرق المؤدي إلى المطار اتجهت الحافلات يمينًا نحو الشارع الضيق المؤدي إلى السجن المركزي المبني منذ العهد الإيطالي، والذي كان يطلق عليه اسم سجن "بورتا بينيتو" وعرف أيضًا باسم سجن "الحصان الأبيض" لوجود تمثال حصان أبيض عند مدخله، وقد أسف السيد حامد العبيدي لهذا المصير المهين.
بعد وصولنا دخلنا إلى السجن بين صفين من الجنود المسلحين بمدافع رشاشة، وخصص لكل سبعة أشخاص منا حجرة تحتوي على مرحاض على الطراز التركي يصعب على كبار السن منا استعماله، وبها نافذة قرب السقف محصنة بأعمدة حديدية وكان باب الحجرة من الحديد، أقفل بمجرد دخولنا. والسجن ينقسم إلى أقسام مفصولة عن بعضها البعض، وكان قسمنا كله مخصصا للسياسيين، بينما خصص قسم آخر للعسكريين وقوات الأمن وقسم ثالث لرجال الأعمال وغيرهم، بينما أودع ولي العهد والعقيد عبدالعزيز الشلحي في قسم مستقل كما قيل. كانت الأسرة والأغطية كلها جديدة. وكانت المجموعة التي شاركتني الحجرة تتألف من السادة سالم لطفي القاضي وزير المواصلات، وأحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام، والهادي القعود وزير المالية، وأحمد صويدق وزير الاقتصاد، وخليل البناني محافظ بنك ليبيا المركزي، ومحمد فخر الدين رئيس تحرير جريدة طرابلس الغرب الرسمية.






السيد الهادي القعود السيد أحمد صويدق السيد محمد فخر الدين

استقر بنا الحال ولم يسمح لنا بالخروج لاستنشاق الهواء والاختلاط بزملائنا الآخرين، أو الاتصال بعائلاتنا هاتفيًا للحصول على ملابس لتغيير ما كنا نرتديه. وبعد أيام سمح لنا بالخروج إلى ساحة السجن مع بقية المعتقلين من الحجرات الأخرى. وكانت أسوار وسطوح السجن المحاطه بالساحة مليئة بالجنود المسلحين. وطلب منا غسل ملابسنا بأنفسنا في الساحة، وكان بعض الجنود يضحكون ويتندرون علينا.
وأذكر أن السيد محمد سيف النصر الموجود معنا في المعتقل، نظر إلى الجنود ناهرًا إياهم بحدة على سوء تصرفاتهم. ولم نكلف بتنظيف حجراتنا بل أتي الحراس بالمساجين العاديين للقيام بذلك، وحذرونا منهم بعدم ترك حاجات ثمينة في متناولهم أثناء تنظيفهم للحجرات لأنهم كانوا من اللصوص المحترفين أصحاب السوابق. وفعلًا وفي كل مرة بعد تنظيفهم للحجرات يعود إلينا الجنود بالساعات والحاجات الثمينة التي سرقها السجناء من حاجيتنا واسترجعها منهم الجنود.
وكان من بين المساجين سجين قديم من عائلة اعبيد التي أعرفها بمصراته، وكان يعرف أفراد عائلتي، جاءني وقال لي بأنه مفرج عنه صباح اليوم التالي وسألني فيما كنت أريد تبليغ رسالة شفوية لعائلتي، فشكرته على ذلك، ولم أطلب منه شيئًا حتى لا أسبب له أية مشاكل قد يتعرض لها بسبب ذلك.
بعد أيام سمح لنا بترك باب الحجرة مفتوحًا، كما سمح لنا بعد ذلك بزيارة زملائنا في الحجرات الأخرى، وفي الليل كان بعض الضباط وبالأخص الخويلدي الحميدي وعبدالمنعم الهوني يزوروننا باستمرار، ويسألوننا عما كان يجري في البلاد، وكان السيدان الخويلدي والهوني يتصرفان معنا باحترام وتفهم كاملين. كما زارنا بعض الضباط الآخرين، وقد عرف الشيخ سالم لطفي القاضي أحدهم وقال إن اسمه عمر المحيشي، وكان يعرفه لأنه كان منافسًا لأبيه السيد عبدالله المحيشي في الانتخابات النيابية في مدينة مصراته.
أما عبدالسلام جلود فزارنا مرة واحدة وكان شديدًا في كلامه معنا، وخاطبنا بلهجة غير لائقة ووجه للمعتقلين التهم بسوء السلوك، وخص بكلامه السيد منصور محمد خليفة عضو مجلس الشيوخ من فزان. وكذلك كان المقدم موسى أحمد وزير الداخلية في زيارته الوحيدة لنا، فقد وجه التهم للمعتقلين متوعدًا بالعقاب. وقد اعتذر الضابطان الخويلدي والهوني لنا على تصرفات الضابطين عبدالسلام جلود وموسى أحمد.
وفي هذه الفترة أخبرنا الضباط المشرفين بأنه تقرر وقف صرف مرتبات الوزراء وستصرف مرتبات الموظفين لعائلاتهم. وأذكر أن الضابط عبدالمنعم الهوني طلبني لمقابلته خارج الحجرة، وسألني عما إذا كنت في حاجة إلى مبلغ من المال للانفاق على عائلتي، لأنه لاحظ أني علقت على هذا القرار بقولي وماذا يفعل الوزير الذي كان موظفًا قبل تعيينه وزيرًا. فشكرته وقلت له بأني أعزب وليست لي عائلة، وبأني سأشتغل عندما أخرج من المعتقل في أي عمل ولا أحتاج مالًا الآن، رغم أني علمت أن جاري السيد محمود بن ناجي، الذي هو في نفس الوقت مالك البيت الذي أسكنه، أرسل لعائلتي رسالة طالبًا إخلاء البيت لأن مصلحة الأملاك أنهت العقد معه، وقد طالب بإيجار البيت في حالة تأخر تسليم البيت، كما كانت لي التزامات مالية أخرى.
كان السيد محمود المنتصر، الرئيس السابق للديوان الملكي، مريضًا وأخذ إلى المستشفى عدة مرات وأعيد في اليوم التالي في كل مرة، وكنا نسمع وقع عكازه على الأرض عندما يعاد في الساعات المتأخرة من الليل. وفي أحد الأيام وقع في دورة المياه، ولم يستطع الوقوف لكبر سنه لفتح الباب، فاضطر السيد شمس الدين محسن رفيقه في الحجرة إلى الدخول من الفتحة الموجودة في أعلى الباب لإخراجه. وكانت حالته الصحية سيئة. واجتمع المعتقلون وطالبوا ضباط الجيش بنقله إلى المستشفى وتركه هناك، لأن حالته الصحيه تزداد سوءًا كل يوم. وأذكر ان السيد محمود عبدالمجيد المنتصر ابن عمه ثار في وجه الضباط قائلًا إن هذا الشخص مريض جدًا ويجب تركه تحت الحراسة في بيته إذا كان لابد من اعتقاله، وإن وفاته في المعتقل سيشوه سجل الثورة، مما جعلنا جميعًا نخاف على ما قد يلاقيه السيد محمود عبدالمجيد المنتصر نتيجة شجاعته التي قد تؤدى بوضعه في زنزانة منفردة، ولكن الذي حصل كان العكس، إذ أفرج عنه ضمن المفرج عنهم تلك الليلة.

بداية الإفراج عن المعتقلين
بعد فترة لا تزيد عن شهر بدأ الإفراج عن بعض المعتقلين، والغريب أنه أطلق سراح بعض السياسيين القدامى مثل السادة سالم لطفي القاضي وحامد أبوسريويل وأبوبكر نعامة في أول دفعة في شهر رمضان، ولكن أعيد اعتقالهم بعد ثلاثة أيام، وقيل أن ضباط حركة الجيش لاحظوا كثرة زوارهم للتهنئة، فلم يعجب هذا التصرف ضباط الجيش فأعادوهم إلى المعتقل وبقوا بعدها فترات طويلة.





السيد حامد أبوسريويل السيد أبوبكر نعامة

وفي شهر رمضان سمح للعائلات باحضار الطعام للمعتقلين، فتراكمت الموائد في السجن. وكانت مطابخ أهم وأرقى بيوت طرابلس المعروفة ترسل بكل ما لذ وطاب من طعام إلى نزلاء المعتقل من رجال العهد الملكي، مما حدا بالبعض إلى تسمية المعتقل تنذرًا باسم "هيلتون طرابلس". وكانت سهريات رمضان صاخبة في المعتقل نتيجة الدردشة ولعب الورق. وفي أحد الأيام أرسلت بعض الجرائد المصرية إلى أحد زملائنا المعتقلين، فرأينا فيها صورة الملك على الصفحة الأولى لجريدة الأهرام وهو يهبط من الباخرة في الإسكندرية، ويستقبل معززًا مكرمًا من طرف محافظ الإسكندرية نيابة عن الرئيس جمال عبدالناصر، وخصص له قصر السلطان بحي الدقي في القاهرة لإقامته. وبقدر ما سر البعض له بسلامة المصير وحسن المعاملة شعر البعض بعدم الرضا عن اختلاف المعايير في المصير، فبينما يسجن وزراء العهد الملكي يستقبل الملك بالترحيب من الرئيس عبدالناصر الذي ساعد حركة الجيش على النجاح.

خروجي من المعتقل
في يوم 3 ديسمبر بعد انقضاء أكثر من ثلاثة أشهر في المعتقل، شعرت بمعاملة ودية جدًا من طرف الجنود والضباط المشرفين علينا، وخاصة من الملازم المبروك القويري، مما جعل زملائي في الحجرة يتوقعون خروجي في تلك الليلة. وفعلًا طلب مني بعد تناول العشاء إعداد حاجياتي وارتداء ملابسي والخروج. وبعد توديع الزملاء مررت على إدارة المعتقل حيث قدمت لي ورقة وقعت عليها متعهدًا فيها بعدم مقاومة الثورة وأن لا أقوم بأي عمل ضدها. وكنت كباقي المعتقلين جميعًا قد سبق وأن وقعت على إقرار بذمتي المالية عن أية ممتلكات لي في داخل البلاد وخارجها.
وكلف أحد الجنود بنقلي إلى بيتي في سيارة "لاندروفر"، فطلبت من السائق نقلي إلى بيت والدي في الهضبة الخضراء، لأني لم أكن أعرف ما تم في بيتي الحكومي المؤجر في قرقارش وهل سلمّ لمالكه أم لا. عند دخولي لبيت الوالد وجدته بمفرده يؤدي صلاة التراويح، وبمجرد ما رآني بعد أن أنهى صلاته قام وعانقني وفرح كثيرًا لرؤيتي طليقًا، وأخبرني بأن والدتي وأخي عبدالعظيم ذهبا إلى بيتي في قرقارش لإحضار ملابس لي لإرسالها لي في المعتقل. وشاع خبر الإفراج عني بين عائلات المعتقلين، إذ يبدو أن بعض أفراد هذه العائلات الذين كانوا أمام المعتقل ينتظرون الدخول لزيارة ذويهم المعتقلين قد رأوني خارجًا من المعتقل في السيارة العسكرية فأخبروا أهاليهم بذلك. انهالت المكالمات الهاتفية علىّ، وسمعت الوالدة بالخبر قبل رجوعها للبيت ففرحت تلك الليلة فرحًا عظيمًا. وقد علمت بأنها كانت خلال فترة وجودي في المعتقل في حزن وعذاب شديدين أثرا في صحتها بقية حياتها.
كنت شابًا قادرًا على الحياة الخشنة، ورغم أني لم أتعرض للتعذيب أو الإهانة، إلا أنني وجدت أن نزيل المعتقل يقاسى دائمًا آلامًا نفسية صعبة. فشعوره بأنه تحت رحمة الغير ولا يستطيع عمل أي شئ تضعف من معنويته وكرامته كإنسان.
كنت الشخص الوحيد الذي أفرج عنه في تلك الليلة الأمر الذي لم يحدث من قبل، فقد كان المعتقلون يفرج عنهم في مجموعات صغيرة من حين لآخر، ولا أعرف من الذي أمر بالإفراج عني تلك الليلة، ولا كيف يتم اختيار من يفرج عنهم. ورغم أن مسئولياتي في النظام الملكي لم تكن بأهمية مسئوليات بعض زملائي الوزراء، إلا أنني أنتمي إلى عائلة لعب بعض أفرادها دورًا بارزًا في النظام الملكي، وأعتقد أن ذلك كان سبب الإبقاء عليّ لفترة ثلاثة أشهر بدلًا من إخراجي مع أول دفعة. كنت آخر معتقل يفرج عنه طوال شهر ديسمبر، لأنه بعد الإفراج عني بأيام اعتقل المقدمان موسى أحمد وآدم الحواز بعد أول محاولة انقلاب فاشلة على النظام الجديد وأغلقت أبواب المعتقل لفترة نتيجة لذلك.
أول شيء عملته بعد الإفراج عني هو الانتقال إلى بيتي الجديد في جوار الوالد، وسلمت البيت المؤجر إلى صاحبه والأثات إلى إدارة الأملاك، ولم أطلب إجراءات تمليكي للأثاث بعد نصيحة السيد سليمان الكبير مدير إدارة الأملاك آنذاك بعدم شرائه من الإدارة، لأن ثمن الأثاث الحكومي غالبًا ما يكون عاليًا جدًا كعادة المشتريات الحكومية، وهكذا أعدته لإدارة الأملاك وفرشت بيتي الجديد بأثاث بسيط.

وفاة السيد محمود المنتصر
بقيت في بيتي ولم أخرج منه بالرغم من عدم وضعي تحت الإقامة الجبرية كبعض المعتقلين الذين أفرج عنهم. وفي هذه الفترة حصلت أحداث أولها قيام المقدمين موسى أحمد وآدم الحواز بحركة تمرد على حركة الجيش التي كانا من المشتركين فيها، وفرضت قيود جديدة على التحركات وتوقف الإفراج عن المعتقلين السياسيين من العهد الملكي السابق.
أما الحدث الثاني فكان وفاة السيد محمود المنتصر في المعتقل يوم 30 ديسمبر 1970. وقد تأثرت لذلك كثيرًا إذ كان يحبني كأحد أولاده ويحترمني ويعاملني في العمل معاملة حسنة، ولا أعتقد أنه وثق في إنسان أكثر من ثقته بي. ولم أتمكن من رؤيته منذ نقله من المعتقل إلى المستشفى بعد حادثة وقوعه في دورة المياة. ورغم أني كنت أقيم في حجرة غير الحجرة التي كان يقيم فيها في المعتقل، إلا أنني كنت أقضي معه بعض ساعات النهار والليل عندما كان في المعتقل، وكان حراس السجن ينقلونه إلى المستشفى للكشف والعلاج ثم يعيدونه إلى المعتقل باستمرار، ورغم مرضه ووضعه الصعب كانت حالته النفسية حسنة ومتفائلًا.
ولقد خرجت لأول مرة من بيتي بعد مغادرتي للمعتقل لحضور جنازة السيد محمود المنتصر وللمشاركة في مراسم العزاء في بيته. وقد قيل أن ضباط الجيش لم يبلغوا أو يسلموا جثمانه إلى عائلته إلا في اليوم الثاني لوفاته، حتى لا يصادف دفنه يوم تشييع جثمان الرئيس عبدالناصر، لأن ذلك قد يدفع ببعض الآف من المواطنين الذين تجمعوا يوم تشييع الرئيس عبدالناصر في طرابلس للمشاركة في جنازة السيد محمود المنتصر طبقًا لعادات الليبيين في احترامهم لجلال الموت.

وفاة الرئيس جمال عبدالناصر
وفاة الرئيس عبدالناصر كانت أيضًا مبعث أسى وحزن كبيرين لي. فقد أحببته منذ قيام ثورة 23 يوليو والتي عشت السنوات الأربع الأولى منها في مصر، وقد تشبعت بمبادئها وطموحات الرئيس عبدالناصر القومية، الذي كان وبدون منازع باعث القومية العربية والداعي إلى الوحدة والحرية في الوطن العربي. ولأول مرة في تاريخ العرب الحديث تتوحد الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج تحت زعامة عربية واحدة تعبر عن آمالها وأمانيها رغم الحدود المصطنعة والأنظمة الحاكمة التي فرضها الاستعمار على العالم العربي. عندما أذيع خبر وفاته على التلفيزيون انهمرت دموعي مدرارًا وبكيت بمرارة، وكانت والدتي تراقبني باستغراب، وقالت لي إن هذا الرجل هو سبب المشاكل التي تعرضت لها بعد الثورة لها فكيف أبكيه؟ لم يكن ذلك كرهًا من والدتي للرئيس عبدالناصر، والذي أصبح في جوار ربه، إنما كان ذلك راجعًا إلى حنان الأم على ابنها الذي اعتقلته حركة الضباط التى شجعها الرئيس عبدالناصر ودعم نجاحها.

أداء فريضة الحج
بعد أن أحالت الثورة والدي على التقاعد، وكان وكيلًا لكلية العلوم في جامعة طرابلس، قرر الذهاب لآداء فريضة الحج برفقة والدتي وأخي الأوسط الحاج الهادي الخبير في شئون الحج، لأنه رافق عماته وخالته للحج عدة مرات، فتوكلت على الله وقررت مرافقتهم للحج. وكانت الصعوبة الوحيدة التي واجهتني تكمن في حصولي على الإذن بالسفر، إذ كان معظم المسئولين في النظام الملكي ممنوعين من السفر إلى خارج البلاد. وبعد عدة اتصالات ومراجعات وافق المدعي العام لمحكمة الشعب على سفري وحصولي على وثيقة سفر وتأشيرة الحج، وذلك بعد تأكده من عدم وجود أي تهمة ضدي في ملفات القضايا التي ستنظر أمام محكمة الشعب.









1970م - بشير المنتصر ووالده فوق جبل عرفات لأداء مناسك الحج

وهكذا غادرنا طرابلس للحج وكانت هذه أول رحلة لي للخارج بعد تغير نظام الحكم في البلاد. وبعد وصولنا إلى الأراضي المقدسة ساعدنا السفير الليبي السيد حسين بلعون، وهو من سفراء النظام الملكي السابق الذي لم يتم تغييره بعد، على الحصول على وسائل النقل والحجز لنا في فنادق "تيسير" المريحة في جدة والمدينة ومنى.
كان الحج راحة لي ولأعصابي بعد الأحداث التي مرت بي من اعتقال واعتكاف في البيت إلى هجران قسري واختياري للأصدقاء والأحباب. كان جلال الكعبة المكرمة وزيارة قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أعظم ما أثر في نفسي بقية حياتي، وزاد قوة إيماني بالله والاعتماد عليه، وثقتي بنفسي لخوض مرحلة حياتي الجديدة القادمة التي أقبلت عليها بعد الفاتح من سبتمبر 1969م.
بعد الحج غادرنا الرحاب الطاهرة إلى بيروت، وبعدها سافر الوالد والوالدة إلى طرابلس وأخي الهادي إلى دمشق لمواصلة دراسته الجامعية بها، وبقيت أنا في بيروت لعدة أيام، اتجهت بعدها إلى القاهرة المدينة التي ارتبطت بها عاطفيًا حيث كنت قد قضيت فيها أحسن سنوات حياتي، سنوات الدراسة الجامعية وسنوات الشباب، وبعد فترة راحة قصيرة فيها عدت إلى طرابلس. لم تكن زيارتي هذه للأراضي المقدسة هي الأولى، فقد سبق وأن زرتها للعمرة سنة 1964م عندما رافقت الوفد الليبي برئاسة رئيس الوزراء السيد محمود المنتصر لتهنئة الملك فيصل عند توليه عرش المملكة العربية السعودية. وكذلك قمت في الثمانينات بعمرة أخرى إلى مكة المكرمة عندما كنت في الأمم المتحدة أحضر مؤتمرًا للأمم المتحدة في الرياض.

بداية العمل في شركات البترول
بعد رجوعي إلى أرض الوطن شعرت بضرورة هجر حياة الانزواء التي فرضتها على نفسي. وقد سنحت لي فرصة زيارة السيد سليمان قرادة لي في البيت، وهو صديق وزميل لي في العمل حيث كان أحد المدراء في رئاسة مجلس الوزراء التي كنت أتولى وزارة الدولة فيها، والذي اختير بعد الفاتح من سبتمبر ليكون السكرتير الخاص لرئيس الوزراء آنذاك العقيد معمر القذافي رئيس مجلس قيادة الثورة. وذكرت أثناء زيارته لي في البيت بأني أرغب في العمل، إلا أنني لا أعرف عما إذا كان مسموحًا لي من قبل نظام الحكم الجديد بالعمل أم لا، فأنا كما هو يعلم لا أملك شيئًا وأعيش على المرتب الوظيفي. واقترح عليّ مشكورًا بأنه في إمكانه أن يسلم رسالة محررة مني إلى رئيس الوزراء الأخ العقيد معمر القذافي أطلب فيها الإذن بالعمل. وفعلًا سلمته رسالة مني لرئيس الوزراء بهذا المعنى طالبًا السماح لي بالعمل في شركات البترول. وبعد يومين أخبرني الأخ سليمان قرادة بالهاتف بأن رئيس الوزراء العقيد معمر القذافي لا يرى مانعًا في أن أعمل في القطاع الخاص، بما في ذلك مجال البترول، ولكنه لا يسمح لي والعاملين في المناصب العامة في العهد الملكي بالعمل مع الحكومة في النظام الجديد. وهكذا بدأت البحث عن عمل في شركات البترول.
وخلال زيارتي للسيد محمد الكاديكي، المدير الليبي للعلاقات التجارية بشركة شل، الذي عمل معها لأكثر من 17 سنة، علمت منه أن الشركة تبحث عن عنصر ليبي لتولي مهام مدير إدارتها لشئون الموظفين، لأن وزارة البترول أصرت على تلييب هذه الوظيفة في جميع شركات البترول، ونصحني بالتقدم إليها، وفعلًا تقدمت بطلب مكتوب للعمل بها. وقدمني السيد محمد الكاديكي إلى مدير عام الشركة المستر بيتر هولمز، الذي كان يعرفني لقيامي بمهام وزارة شؤون البترول بالوكالة في العهد الملكي، وقد رحب بي بكل احترام واستعرض معي ملخص حياتي الدراسية وخبرتي والمسئوليات الإدارية التي توليتها، وقال لي بأنه يسر شركة شل أن تضمني إلى فريق مدرائها، ولكن نظرًا لمناصبي السابقة إبان الحكم الملكي فإنه يود أخذ موافقة وزير النفط قبل أن يقدم لي عرضًا رسميًا بالوظيفة، الأمر الذي اتفقت معه على وجوب اتباعه. وبالمناسبة المستر بيتر هولمز المدير العام لشل ليبيا آنذاك أصبح رئيسًا لمجلس إدارة شل العالمية ومنح لقب "سير" بعد ذلك.
كان وزير النفط آنذاك السيد عزالدين المبروك وهو صديق لي وزميلي في المدرسة الثانوية في طرابلس، وكذلك تشاركنا في السكن إبان دراستنا الجامعية في القاهرة. وبعد أيام اتصل بي المستر هولمز وأبلغني أن وزير النفط وافق على تعييني في الشركة بالإضافة إلى تزكيتي وبأنني سأكون مفيدًا للشركة ولعملياتها في ليبيا.

بداية عملي بشركة شل ليبيا للاستكشاف
باشرت العمل مع شركة شل في أوائل سنة 1971، وقد أوضح لي المدير العام للشركة بأنه يتحتم عليّ قضاء فترة تدريب بمركز الشركة في لندن، وحضور دورات مكثفة في الإدارة وشئون الموظفين قبل تسلمي لمهام وظيفتي من مديرها الإنجليزي آنذاك المستر جراهام هيل. كان هذا الإجراء شيئًا جميلًا بالنسبة لي، إلا أني أشرت له بإمكانية وجود صعوبة في حصولي على إذن للسفر إلى بريطانيا. وعليه بدأت اتصالاتي للحصول على إذن السفر وبعد جهد وافق المدعي العام لمحكمة الشعب على السماح لي بالسفر إلى لندن.

سفري إلى لندن للتدريب
التحقت في لندن بالمركز الرئيسي لشركة شل العالمية للبترول في مبنى الشركة الشاهق في منطقة (ووترلو)، والذي يعتبر أحد معالم المدينة لزوار لندن من السواح. حضرت أثناء وجودي في لندن عدة دورات عالية المستوى في الإدارة على مختلف مستوياتها، سواءً كان ذلك فيما يتعلق باتخاد القرارات أو علم السلوك الصناعي والعلاقات بين المستخدمين والإدارة، بالإضافة إلى مواضيع شتى في معاهد عالية متخصصة. كانت بيئة العمل في شركة شل ممتازة تتناسب ورغبتي في مواصلة الدراسة في ميادين البترول التي لها مستقبل في ليبيا والبلاد العربية. كما كان عملي في لندن فرصة ذهبية للعودة إلى الحياة في هذه المدينة التي أحببتها وقضيت فيها حوالي أربع سنوات أثناء عملي في السلك الدبلوماسي.
وفي شهر ديسمبر من سنة 1971م استلمت رسالة من مدير عام الشركة في ليبيا يخبرني فيها بأن السلطات الليبية مصّرة على الإسراع في تلييب وظيفة مدير إدارة شئون الموظفين وسفر المدير الإنجليزي (جراهم هيل)، وعليه فهو مضطر إلى أن يطلب مني قطع فترة التدريب التي كنت ملتحقًا بها، واستدعائي للعودة إلى طرابلس لاستلام مهامي، التي عينت من أجلها، كمدير لإدارة شئون الموظفين بالشركة. وهكذا عدت إلى طرابلس وبدأت عملي الجديد في شركة شل ليبيا. وبهذا دخلت فترة جديدة من حياتي لا تشملها هذه الذكريات عن النظام الملكي في ليبيا، والتى سأتناولها بالتفصيل في الجزء الثاني من الذكريات، إذا كان في العمر بقية.  

الفصل التاسع

أحـداث ومنجزات هامـة

كما أوضحت في المقدمة، إنني عندما كتبت هذه الذكريات لم يكن هدفي استعراض تاريخ النظام الملكي، ولهذا حرصت على التركيز على المواقف السياسية لرؤساء الحكومات ودور الملك في تسيير أمور الدولة والعلاقات بينه وبين رؤساء الحكومات وكبار المسئولين، وعلاقات المسئولين مع بعضهم البعض وتنازع الخلافات والاختصاصات في تسيير أمور البلاد. وقد وجدت أن الصورة الكاملة للعهد الملكي لا تتم دون التعرض باختصار لبعض المجالات والأحداث الهامة ومواقف الحكومات المتعاقبة منها.

الانتخابات
تعرضت في الفصول السابقة لمجرى انتخابات سنة 1964/1965م باختصار، إلا أنني لم أتعرض لانتخابات سنة 1960م لأنني كنت دبلوماسيًا في السفارة الليبية في لندن، ولم أتعرض كذلك لانتخابات سنة 1952 و1956م لوجودي في مصر للدراسة. أما بالنسبة لانتخابات سنة 1965م، فرغم أني كنت في ليبيا وفي مدينة البيضاء مع رئيس الوزراء آنذاك السيد حسين مازق، إلا أنه لم يكن بإمكاني معرفة الكثير عنها لتعامله مباشرة مع وزير الداخلية آنذاك السيد فاضل الأمير ومحافظي ومدراء أمن المناطق، ولم يصدر تعليمات مكتوبة عن طريقي، لكن بعض الأخبار كانت تصلني
عن طريق السيد فاضل الأمير وزير الداخلية عن طريق التقارير العامة المكتوبة، وشكاوى المرشحين التي كانت تصل رئاسة مجلس الوزراء والتي كنت أحيلها بدوري إلى رئيس الوزراء، وقد تعرضت إليها في الفصل الرابع.

تسليح الجيش الليبي
كان موضوع تسليح الجيش الليبي يحوز اهتمام كل رؤساء الحكومات المتعاقبة في الفترة ما بين سنة 1964م والفاتح من سبتمبر سنة 1969م.

موقف حكومة السيد محمود المنتصر من تسليح الجيش
في سنة 1964م اعترض الملك إدريس على محاولة وزير الدفاع آنذاك السيد سيف النصر عبدالجليل تسليح الجيش الليبي بأسلحة حديثة وثقيلة أثناء حكومة السيد محمود المنتصر، مما دفع الملك إدريس إلى إقالة السيد سيف النصر عبدالجليل وزير الدفاع من منصبه، وعين بدله السيد عبدالسلام بسيكري وزيرًا للدفاع. وكان سفر السيد سيف النصر عبدالجليل المتكرر إلى مصر، وإقامته الطويلة في القاهرة، وعلاقاته الخاصة والمشبوهة ببعض أعضاء السفارة المصرية في ليبيا عاملًا هامًا للاستغناء عنه.

تسليح الجيش في عهدي حسين مازق وعبدالقادر البدري
بعد استقالة حكومة السيد محمود المنتصر اقتصرت الحكومات المتتالية على تسليح الجيش الليبي وقوة دفاع برقة بالأسلحة التقليدية، وكانت السفارة البريطانية ترسل عروضًا لشركات بريطانية وكاتولوجات لأسلحة ثقيلة وصاروخية إلى رئيس الوزراء السيد حسين مازق. وكانت هذه العروض تسلم إلى وزير الدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء آنذاك السيد سليمان الجربي، لدراستها وإعداد قوائم بها وتقديرات لتكاليفها، إلا أن الوقت لم يسمح للسيد حسين مازق وكذلك السيد عبدالقادر البدري اتخاذ قرار بشأنها. وكان الملك قد أبدى موافقته للسفير البريطاني على هذه الأسلحة وكلف الحكومة بدراستها واتخاذ قرار بشأنها. ويظهر أن السيدين حسين مازق وعبدالقادر البدري كانا غير موافقين على تسليح الجيش بأسلحة ثقيلة خوفًا من الإخلال بالتوازن بين الجيش وقوة دفاع برقة الذي كانا يصران على المحافظة عليه.
ورغم الاجتماعات العديدة التي كان يعقدها رئيس الوزراء مع كبار ضباط الجيش لدراسة عروض هذه الأسلحة، كانت توصية السيدين حسين مازق وعبدالقادر البدري للملك برفضها لارتفاع تكاليفها، وعدم توفر العناصر الفنية المتخصصة في الجيش لاستيعابها، كما كانا يشكان في تصرفات بعض الضباط في الجيش وتذمر كثير منهم. وكان اللواء نوري الصديق بن إسماعيل رئيس أركان الجيش كثير الشكوى من تصرفات العقيد عبدالعزير الشلحي وتدخلاته في شئون الضباط وتسليح الجيش، كما كان يشكو اللواء السنوسي الأطيوش من قبله. ورغم أن الملك كان يؤمن بضرورة وجود توازن بين قوات الجيش وقوة دفاع برقة في الحصول على أحدث الأسلحة الحديثة، إلا أنه تحت إلحاح السفير البريطاني لإقناعه بفائدة نظام الصواريخ الدفاعي ضد أي اعتداء محتمل من مصر أو الجزائر وافق على تسليح الجيش أخيرًا. وكان العقيد عبدالعزيز الشلحي وهو موضع ثقة الملك يؤيد ويدافع عن قبول العروض البريطانية لتسليح الجيش.

السيد عبدالحميد البكوش وقرار تسليح الجيش الليبي
بقي موضوع تسليح الجيش دون قرار حاسم، حتى جاء السيد عبدالحميد البكوش رئيسًا للوزراء، وكانت علاقاته وطيدة مع العقيد عبدالعزيز الشلحي وعلى اتصال
به رأسًا، كما أن السيد البكوش كان يحظى بثقة وصداقة السفير البريطاني السير رودريك ساريل. وحال استلامه لمنصب رئيس الوزراء بدأ في الإسراع في البت في موضوع تسليح الجيش. وكان اللواء نوري الصديق بن إسماعيل ينتقد السيد البكوش بدوره لمساعدته العقيد عبدالعزير الشلحي والتعامل معه من وراء ظهره لإنجاز صفقة الأسلحة الصاروخية والثقيلة. وقد اجتمع السيد عبدالحميد البكوش بضباط الجيش في مدينة بنغازي، وأوضح لهم رأيه في ضرورة تقوية وسائل الدفاع عن ليبيا، وأفهمهم أن الخطر الخارجي الذي يهدد ليبيا لن يأتي من الشمال، أي أوروبا وأمريكا، وإنما من جيران ليبيا ويقصد مصر والجزائر، ولهذا لابد من إقامة نظام دفاع جوي وصاروخي يعتمد على التقنية المتقدمة، وليس على القوة البشرية، لأن ليبيا بلد قليل السكان بالنسبة لجيرانه، ومساحتها واسعة يصعب الدفاع عنها بالأسلحة التقليدية.








الملك إدريس في افتتاح ميناء الزويتينة البترولي في أبريل 1968 ويظهر على يمين الملك السيد عبدالحميد البكوش رئيس الوزراء وعلى يساره المستر آرماند هامر رئيس شركة أوكسيدنتال وخلفهما باللباس المدني العقيد عبدالعزيز الشلحي

وفي يوم الاحتفال بافتتاح ميناء الزويتينة البترولي سنة 1968م الذي حضره
الملك، استدعى السيد عبدالحميد البكوش مجلس الوزراء في اجتماع عاجل بعد
الاحتفال مباشرة، وأعلم المجلس بأنه نظرًا لحاجة البلاد إلى سلاح دفاعي يعتمد
على التقنية الفنية العالية، تقرر تسليح الجيش بشبكة من الرادار والصواريخ الدفاعية لتغطية معظم المناطق الليبية الشمالية والجنوبية، وأضاف بأن هذه الصواريخ المتحركة التى وقع الأختيار عليها تعمل على مدى 500 كيلومتر، وأن لجنة من ضباط الجيش قامت بدراسة عرض بريطاني دراسة دقيقة، ووافقت على نظام دفاعي يحقق هذا الغرض. وتكلم بعد ذلك وزير الدفاع السيد حامد العبيدي وأكد كلام رئيس الوزراء، وأضاف بأن النظام الصاروخي المقترح، يعتبر من أحدث الأسلحة ولا يوجد له مثيل في دول المنطقة سوى لدى دول حلف الأطلسي، بالإضافة إلى رغبة وزارة الدفاع في الاستمرار في تسليح الجيش بالأسلحة التقليدية الأخرى مثل الدبابات البريطانية والطائرات الأمريكية.
وقد تساءل بعض الوزراء ومنهم وزير التخطيط الدكتور علي أحمد عتيقة عن تأثير مثل هذا المشروع على مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي يجب أن تكون لها الأولوية في تقديرات الميزانية، فمشاريع الدفاع الحديثة باهظة التكاليف، خاصة أن ليبيا ملتزمة بدفع ثلاثين مليون جنية ليبي، أي ما يساوي تسعين مليون دولار أمريكي سنويًا لدعم الدول المجاورة لإسرائيل طوال فترة الخطة الخماسية للتنمية. كما طلب وزير المالية السيد الهادي القعود ضرورة معرفة تكاليف المشروع قبل الالتزام بأي عقد، وأضاف بأن مصروفات وزارة الدفاع الحالية تزيد على مخصصاتها في الميزانية العامة، وأية نفقات إضافية يجب الموافقة على تخصيص أموال لها قبل تنفيذها. كما تساءل وزير السياحة السيد معتوق آدم عن سبب عرض موضوع هذه الأسلحة الهام بصفة مستعجلة على المجلس، وهل الغرض من ذلك هو مجرد عرضه للمعلومية بعد أن تمت الموافقة عليه.
وأوضح رئيس الوزراء بأن هدفه من عرض الموضوع على المجلس هو أخذ رأيه نظرًا لأهميته، رغم سريته، بعد أن تمت دراسته الفنية من قبل لجنة عسكرية متخصصة من كبار ضباط الجيش الليبي، وأكد الخبراء الأجانب من بريطانيين وأمريكيين على أن الضباط الليبيين على درجة عالية من الكفاءة والخبرة لا تقل عن كفاءة وخبرة ضباط حلف الأطلسي، وطالب مجلس الوزراء بأن يثق في ضباط الجيش الليبي. كما أوضح أن المشروع قد حظي بموافقة الملك وهو الآن قيد التنفيذ، وأنه كان حريصًا على عرضه على مجلس الوزراء وأخذ رأيه في الموضوع، حتى لا يفاجأ أعضاء مجلس الوزراء عند إذاعة خبر الموافقة عليه في الإذاعة.
وكان رأيي أن الموضوع ليس إجراءًا روتينيًا عاديًا يمكن لرئيس الوزراء بالتشاور مع وزير الدفاع اتخاذ قرار فيه دون الحصول على موافقة مسبقة من مجلس الوزراء، فالموضوع يتعلق بتسليح الجيش بأسلحة ضخمة متطورة بتكاليف باهظة، والناس في ليبيا أصبحوا يشكون في المشاريع والصفقات الكبيرة، وأخشى أن إعلان هذا المشروع فجأة سيفتح مجالًا للإشاعات والأقاويل وتهم الفساد وهو الشئ الذي حرصت هذه الحكومة على محاربته، كما يجب إعطاء وقت كاف لدراسته من طرف اللجان الفنية ومجلس الوزراء وإحاطة الرأي العام عن تفاصيله لتقبل مثل هذا القرار الخطير. كان رد رئيس الوزراء بأنه إذا تخوفنا من ما يقال في الشارع من إشاعات عن الفساد، فلن تستطيع الحكومة عمل أي شئ يعود بفائدة على البلاد، وإن الحكومة يجب أن تنطلق من قناعتها بسلامة القرارات والإجراءات التي تتخذها. وأنهى الجلسة عند هذا الحد مؤكدًا بأنه سيطلع المجلس على مزيد من التفاصيل في الجلسات القادمة.
وخرج الوزراء غير مقتنعين بإجابة رئيس الوزراء وعرض الموضوع عليهم بهذه الصورة المستعجلة، رغم تسليمهم بأن الحكومة ملتزمة أمام مجلس الأمة بتسليح الجيش بأسلحة حديثة، كما أن اختيار نوع السلاح هو عادة من اختصاص وزير الدفاع ومساعديه في الجيش. وبعد هذه الجلسة أعلن رئيس الوزراء في مؤتمر صحفي موافقة الحكومة على تسليح الجيش الليبي بشبكة من الصواريخ والرادارات. وبعد فترة أعلن توقيع عقد الشراء وعقد المساندة مع الشركات البريطانية بإشراف الحكومة البريطانية، دون عرض المزيد من المعلومات على مجلس الوزراء حول الموضوع والاعتمادات المالية لتغطية تكاليف المشروع، بالإضافة إلى العقود السابقة لشراء دبابات وطائرات وسفن حربية التي سبق وأن وافقت عليها حكومة السيد حسين مازق ووزير الدفاع آنذاك السيد أبوسيف ياسين. وبرر وزير الدفاع السيد حامد العبيدي عدم تقديم العقود لموافقة مجلس الوزراء، بأن عقود التسليح سرية وتتناول الصواريخ ومواقعها، والدبابات والطائرات وقدرتها وكفاءتها وتكاليفها، وتاريخ التعاقد وتاريخ التسليم والانتهاء من إنشاء المنشأت لها، كلها معلومات تعتبر أسرارًا عسكرية.

تسليح الجيش في عهد السيد ونيس القذافي
استمر تنفيذ مشروع التسليح في سرية في عهد حكومة السيد ونيس القذافي. وكانت لجنة تسليح الجيش التي ألفها وزير الدفاع تجتمع وتوافق على العقود وترسل البعثات التدريبية ووفود التفاوض مع الشركات المعنية في بريطانيا، وطلبت اللجنة استعارة المستر بيت هارديكر المستشار المالي والاقتصادي لرئيس مجلس الوزراء للاستعانة به في أعمالها، ودراسة العقود وتمشيها مع القوانين المالية والجمركية المعمول بها في ليبيا. وكنت عن طريق المستر بيت هارديكر أعرف ما يجري في اللجنة. وأذكر أنه أخبرني بأنه أستطاع تخفيض تكاليف العقود، لأن الشركات البريطانية المتعاقد معها وضعت تقديرات مبالغ فيها لعدم إلمامها بمستوى المرتبات في ليبيا ومستوى المعيشة فيها، كما حرص على مراجعة أسعار الأسلحة والمعدات التي تطلبها الشركات ومقارنتها بالأسعار المعروفة عالميًا وفي بريطانيا.
إن تفاصيل هذا المشروع وأسعار الأسلحة الصاروخية وخدمات التدريب يتعذر ذكرها في هذه الذكريات، خاصة أنها لم تكن معروفة لدينا آنذاك عندما بدأ تنفيذ المشروع. وفي السنوات الأخيرة نشرت تقارير مفصلة عن مشروع التسليح في ملفات الحكومة البريطانية التي رفع عنها الحجر بعد مضي فترة 30 عامًا عليها، وتتضمن مراسلات وزارة الدفاع وتقارير السفير البريطاني ومراسلات الحكومة البريطانية مع وزارتي الخارجية والدفاع الليبيتين، والشركات المتعاقدة مع ليبيا، ومراسلات هذه الشركات مع ليبيا. وأنصح من يريد معرفة المزيد عن الموضوع الرجوع إلى هذه الوثائق البريطانية في دار الوثائق البريطانية في منطقة كيو جاردن بلندن.

البـترول
أنشطة البترول ودور وزارة البترول في السنوات الأولى للتنقيب والاكتشافات موضوع شائك طويل ويحتاج إلى مجال أوسع من هذه الذكريات. وفي الفترة الأخيرة للعهد الملكي الليبي السابق توليت منصب وزير البترول بالوكالة لفترة قصيرة وعرفت بعض المشاكل التي ترافق عادة منح الامتيازات البترولية والتي سأحاول تلخيصها فيما يلي باختصار.

الامتيازات التي أعطيت في عهد السيد حسين مازق
عرضت على شركات البترول العالمية سنة 1966 مناطق للتنقيب، وقد تقدمت هذه الشركات بعروضها التي عرضت على ما يسمى آنذاك بالمجلس الأعلى لشئون البترول، وقد رفض هذا المجلس بعضها لعدم توفر الشروط المطلوبة. فقد كانت بعض الشركات صاحبة هذه العروض لا تتمتع بسمعة مالية طيبة، وبعضها على ما قيل شركات جديدة أنشئت خصيصًا للمشاركة في العطاءات التي أعلنتها الحكومة الليبية لامتيازات عقود البترول.
وقد علقت على عملية فتح امتيازات جديدة كثير من الصحف الغربية والعربية آنذاك. وكان هناك خلاف بين وزير البترول الأستاذ فؤاد الكعبازي الذى كان مساندًا من بعض أفراد الحاشية الملكية، وبين كبار موظفي وزارة البترول وأعضاء المجلس الأعلى لشئون البترول. وقد أدى هذا الخلاف في النهاية إلى استقالة الأستاذ فؤاد الكعبازي من منصبه كوزير للبترول في أبريل 1967 واستبداله بالسيد خليفة موسى وكيل وزارة البترول بالوكالة، بالإضافة إلى عمله الرئيسي في وزارة المالية كوكيل للوزارة لشئون الجمارك.
ورغم أن رئيس الوزراء آنذاك السيد حسين مازق كان لا يتفق مع وزير البترول الأستاذ فؤاد الكعبازي حول مجرى عروض شركات البترول، لكن يظهر أنه لم يستطع إقناع الملك بإخراجه من وزارة البترول في أول تعديل له للوزارة، ولكن رئيس الوزراء استطاع إخراجه بعد ذلك بعد أن تمت الموافقة على عقود الامتياز للتنقيب عن البترول. وقد عرضت على مجلس الوزراء قرارات المجلس الأعلى لشئون البترول حول العطاءات المقدمة ووافق عليها وأضيفت شركات أخرى دون عرضها على المجلس الأعلي لشئون البترول، وعلى إثر ذلك استقال ثلاثة من أعضاء المجلس وهم السادة د. على عتيقة، سالم عميش وإبراهيم الفقيه حسن.
ومن الإشاعات التى صاحبت هذه العروض، أن الملك أمر رئيس الوزراء السيد حسين مازق بالموافقة على عرض شركة أوكسيدنتال، التى يملكها الأمريكي آرماند هامر، لأنها تقدم مزايا ترمي إلى تخصيص نسبة 5 بالمائة من أرباحها لتنمية منطقة الكفرة، رغم أن المجلس الأعلى لشئون البترول لم يوافق على هذا العرض لعدم أهلية الشركة المذكورة التي تنقصها الخبرة والأهلية المالية للقيام بعمليات التنقيب والإنتاج وتصدير البترول، كما أنه يشتبه بعلاقاتها مع أحد أفراد الحاشية الملكية. بالإضافة إلى أن مجلس الوزراء لم يكن موافقًا بالإجماع على قرار منح بعض الامتيازات بسبب معارضة بعض الوزراء لها.
كان رئيس الوزراء وبعض الوزراء وكبار المسئولين في الدولة يبررون مواقفهم، في المجالس الخاصة، بأن الملك نفسه أصدر تعليماته بالموافقة على بعض العروض، بما فيها عرض شركة أوكسيدنتال. وقد وصلت بعض هذه الأقوال إلى مسامع الملك، مما جعله يأمر سكرتيره بإصدار بيان بنفي هذه الإشاعات والتأكيد بأن الملك لم يتدخل إطلاقًا في عروض شركات البترول ولكنه نصح الحكومة بالموافقة على العقود التي تقدم ميزات وخدمات إضافية من أرباحها للبلاد، وكان يقصد بذلك شركة أوكسيدنتال. وقد جاء البيان تأييدًا ضمنيًا للإشاعات بأن بعض العقود أعطيت بأمر الملك دون مراعاة لنتيجة العطاءات. عقب هذا البيان صدر مرسوم ملكي بتعديل الوزارة وخروج بعض الوزراء.

المستر آرماند هامر رئيس مجلس إدارة شركة أوكسيدنتال للبترول
آرماند هامر (1898-1990م) ابن مهاجر من الاتحاد السوفيتي وكان من أذكى وأخطر الشخصيات العالمية في الأنشطة السياسية والتجارية العالمية، وقد سخر ثروته لبناء سمعته الشخصية. وربط آرماند هامر علاقاته مع الزعماء السوفيت منذ أيام لينين، وكانت علاقاته وثيقة بالبيت الأبيض والكونجرس في أمريكا. وقد ساعد على إزدهار التجارة بين روسيا وأمريكا، ولعب أدوارًا هامة وسرية ومخابراتية بين روسيا وأمريكا، كما اكتسب صداقة ملوك ورؤساء الدول العربية البترولية. كان نشاطه في ليبيا أهم مصادر ثروته الكبيرة، وقد استطاع الحصول على امتيازات بترولية مهمة، وأصبحت شركة أوكسيدنتال إحدى أكبر الشركات البترولية المصدرة للنفط الليبي، واستفادت ببلايين الدولارات من تصدير البترول الليبي وتكريره وبيعه.







لقاء هامر بزعيم الحزب الشيوعي السوفيتي نيكيتا خروتشوف

توثقت علاقات هامر بالملك إدريس عندما تقدم للحصول على امتيازات بترولية في ليبيا، واستطاع بدعم من بعض أفراد الحاشية الملكية إقناع الملك إدريس بأنه في حالة حصوله على امتيازات بترولية في ليبيا، فإنه سيخصص 5% من أرباح شركته لتمويل مشروع زراعي كبير في الكفرة مركز الحركة السنوسية القريبة إلى قلب الملك. وفعلًا أوصى الملك بإرساء العطاء على شركة أوكسيدنتال كما أوضحت. وهنا لا أريد الدخول في نشاط هامر البترولي وعلاقاته مع كثير من المسئولين الليبيين ولكني سأتعرض إلى لقاء لي معه.
دعاني المستر هامر في إحدى زياراته إلى ليبيا، وكنت وزيرًا للبترول بالوكالة، لمرافقته في زيارته لمشروع شركته الزراعي في الكفرة. وسافرنا برفقة زوجته في إحدى الطائرات العادية لشركة أوكسيدنتال، لأن طائرته النفاثة الصغيرة لا تستطيع الهبوط في الكفرة. وأتيحت ليّ الفرصة للتعرف على هذا الشخص الغريب الأطوار. كان طوال الرحلة يتكلم عن نجاحاته وعلاقاته، ودوره في القضاء على احتكار الشركات البترولية الكبرى للأنشطة البترولية وخاصة في ليبيا. وعندما سألته عن سر نجاحه كرجل أعمال ذكي ومميز قال لا شك أن هناك مبالغة في مقدرتي الشخصية، ولكني رجل عملي في طريقة تسيير أعمالي، فمثلًا عندما وقعت عقد التنقيب عن البترول مع الحكومة الليبية، مررت في طريقي إلى أمريكا على زيورخ في سويسرا وحصلت من إحدى البنوك على قرض بالمبلغ المقرر صرفه في ليبيا للتنقيب وفق العقد بضمان العقد نفسه، لهذا لم أدفع شيئا من جيبي، وكانت العملية بالنسبة لي عبارة عن رحلة ترفيهية من أمريكا إلى ليبيا ثم أوروبا، وهكذا تتم كل عملياتي التجارية وتوطيد علاقاتي مع الجميع.
وكان في بعض الأحيان يغفو وينام واعتذرت زوجته لسلوكه هذا، وقالت إن زوجها لا ينام في حجرة نومه كما يفعل الناس، بل يستغني عن ذلك بغفوة النوم هذه أثناء سفره اليومي وتنقلاته بالسيارة والطائرة وفي مكتبه أحيانًا. كان هامر ملمًا بتفاصيل النشاط البترولي في ليبيا ودور المسئولين الليبيين فيه. وأذكر أننا تعرضنا للحديث عن السيد خليفة موسى وزير البترول آنذاك، والذي كان مسافرًا في مهمة رسمية، فقال إن خليفة موسى رجل ذكي ويعرف مسئولياته جيدًا، ونصحني بالاستمرار في علاقاتي مع السيد خليفة للتفرغ للنشاط البترولي لتولي مسئوليات كبيرة مستقبلًا في هذا المجال البترولي الذي يميز ليبيا عن غيرها من دول المنطقة، بالإضافة إلى مركزها الاستراتيجي الممتاز بين الشرق والغرب والشمال والجنوب. وقد دعاني إلى زيارة أمريكا والإطلاع على نشاط شركة أوكسيدنتال في لوس أنجلس وبيكرسفيلد.
كان مشروع أوكسيدنتال الزراعي في الكفرة في بدايته، وكان يديره في تلك الفترة شخص أمريكي مشهور من العاملين في هذا المجال، وكما قال لي المستر هامر أن هذا الشخص يعتبر من أثرياء أمريكا، لكنه حريص على العمل بنفسه في مشاريع شركته، ولا تهمه مشقة الحياة في الصحراء مع مساعديه وعماله. وكانت آلات المياه تروي مساحة كبيرة خضراء وسط الصحراء، مزروعة بنباتات خاصة لتقوية التربة لتكون صالحة للزراعة. وقد تفقدنا الأعمال الجارية، والتخطيط للمستقبل، والمرافق العامة التي أعدت للموظفين والعمال. وأذكر أنه أثناء عودتنا إلى طرابلس قابلت الطائرة عاصفة قوية على خليج سرت ومرت بفراغات هوائية كبيرة جعلت الطائرة ترتفع وتهبط بشكل لم نستطع فيه حفظ توازننا داخلها، ومع كل هذا لم يظهر على وجه المستر هامر أي شعور بالانزعاج لأنه أدمن ركوب الطائرات طوال حياته.
وفي زيارة أخرى له إلى ليبيا كان في البيضاء، وكنت مسافرًا مع بعض الوزراء
إلى بنغازي ومنها إلى طرابلس كالعادة دائما في نهاية الأسبوع، وكنا نستعمل طائرات صغيرة للخطوط الليبية من مطار لبرق إلى مطار بنغازي، لنأخذ طائرة الخطوط
الجوية الليبية النفاثة إلى طرابلس. وفي مطار لبرق وجدنا المستر هامر يستعد للسفر
بطائرته النفاثة الصغيرة إلى طرابلس ومنها إلى أمريكا عن طريق أوروبا. ولما كان
عددنا ثلاثة فقط فقد عرض علينا السفر معه بطائرته إلى طرابلس بدلًا من ركوب
طائرة الخطوط الليبية، فقبلنا العرض لأنه أسرع لنا بمواصلة السفر رأسًا إلى طرابلس.
وبعد أن استقر بنا المقام في طائرة المستر هامر وغادرت طائرة الخطوط الليبية مطار
لبرق، جاء قائد الطائرة وهمس في أذن المستر هامر، فظهر على وجه الأخير الانزعاج وشعر بالحرج، وقال بأسف ظاهر إنه يأسف لوجود خلل ميكانيكي في الطائرة ولا يمكنها الطيران إلا بعد وصول قطع الغيار اللازمة لها من باريس بطائرة خاصة، واقترح أن يأتي لنا بإحدى طائرات شركة أوكسيدنتال العادية المستعملة في الحقول وذلك لأخذنا
إلى بنغازي لنلحق بطائرة الخطوط الليبية الذاهبة إلى طرابلس. وفعلًا تم ذلك وودعنا وبقي المستر هامر مع طائرته التي لم تستطع الطيران إلا في صباح اليوم التالي بعد وصول قطع الغيار من باريس.








كان هامر عراب (godfather) الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا في مراسم تعميد الأمير

عقود مشاركة بترولية مع الشركات الفرنسية
بعد زيارة السيد عبدالحميد البكوش لفرنسا في إبريل 1968 منحت عقود امتياز بترولية مشاركة لشركتي ( ألف أكتين وإيراب ) الفرنسيتين، مما أثار مخاوف أمريكية وبريطانية لفقدان احتكارهما للتنقيب وإنتاج البترول في ليبيا، كما دارت حولها بعض الإشاعات حول الرشوة والفساد.

عقود المشاركة مع شركات البترول سنة 1968
استحدثت عقود المشاركة بعد إنشاء المؤسسة الليبية للبترول التي بدأ التفكير فيها منذ عهد حكومة السيد محمود المنتصر، وصدر قانون بإنشائها سنة 1968 في عهد حكومة السيد البكوش. وبناء على اقتراح لوزير البترول السيد خليفة موسى ثم طرح بعض المناطق التي استرجعت من شركات البترول في مناقصة عالمية، وطلب من الشركات التقدم بعروضها للدخول في مشاركة مع الحكومة ممثلة بالشركة الوطنية للبترول.
وقد تقدمت عدة شركات بعروضها التي عرضت على مجلس مؤسسة البترول فوافق عليها باستثناء عرض شركة "شباكوا" الأمريكية الذي رفضه المجلس لعدم توفر الشروط المطلوبة. وكانت بعض الشركات الأخرى التي تقدمت بعروضها هي من الشركات الكبرى المعروفة ومعظمها لها نشاط سابق بليبيا. وقد حصل انقسام في مجلس مؤسسة البترول بصدد قراره بشأن شركة شاباكو المذكورة فرفض عرضها عدد من أعضاء المجلس أذكر منهم السيدين مصطفى رشيد الكيخيا وشكري غانم.
وقد عرض وزير البترول قرار مجلس مؤسسة البترول على مجلس الوزراء، واقترح إضافة عرض شركة "شباكوا"، وقال إنه بالرغم أن عرض شركة "شباكوا" لم يوافق عليه مجلس مؤسسة البترول، إلا أنه رغبة في إعطاء هذه الشركة فرصة أخرى، فقد طلب منها التعهد بشروط تتعلق بالأسباب التي رفض العقد من أجلها وهي الأهلية المالية ولكونها شركة جديدة ليست لها الخبرة المطلوبة، واشترط عليها تقديم ضمان مالي من مصرف عالمي موثوق به، والتعهد بعدم التنازل عن امتيازها لشركة أخرى، وذلك ضمانًا لعدم المتاجرة وبيع امتيازها لإحدى الشركات العاملة في البلاد. وقد وافقت الشركة على كل هذه الشروط. ولهذا اقترح وزير البترول على مجلس الوزراء بصفته السلطة العليا المختصة بالموافقة على عرض الشركة، رغم معارضة مجلس مؤسسة البترول الوطنية.
وقد أيد رئيس الوزراء رأي وزير البترول. وكان واضحًا لدى أعضاء مجلس الوزراء أن وزير البترول ورئيس مجلس الوزراء واقعان تحت ضغط من الحاشية الملكية. وكان وزير البترول رغم تقدمه باقتراح الموافقة غير متحمس لعرض الشركة المذكورة. وقد وافق مجلس الوزراء على عقود المشاركة الأخرى التي وافق عليها مجلس مؤسسة البترول وكذلك على عقد شركة "شباكوا" بالشروط التي ذكرها وزير البترول. وقد رفض مجلس الوزراء عرض شركة إسو للبترول بقبول امتيازات لبعض المناطق المعروضة دون التقيد بمبدأ المشاركة، الذي لا يتمشى مع سياستها الدولية، رغم تقدمها بامتيازات إضافية مغرية بإنشاء صناعات بتروكيميائية كبرى في ليبيا. والمعروف أن منظمة الأوبك اعتمدت مبدأ المشاركة، إلا أنها تركت الباب مفتوحًا لعقود الامتياز التقليدية.
أحيل قرار مجلس الوزراء بالموافقة على عقود البترول على وزارة البترول، التي حولته بدورها على المؤسسة الوطنية للبترول لتنفيذه، وإعداد العقود للتوقيع عليها وإصدارها وفقًا لقانون البترول. وقام رئيس المؤسسة السيد محمد الجروشي بالموافقة على العقود وتوقيعها نيابة عن المؤسسة، وأحالها على وزير البترول آنذاك السيد خليفه موسى للتصديق عليها وإصدارها حسب القانون.









بشير المنتصر والسيد خليفة موسى وزير البترول (في وسط الصورة) والسيد إبراهيم الهنقاري وكيل وزارة البترول

وفعلًا صادق السيد خليفة موسى ووقع كل العقود التي وافق عليها مجلس الوزراء باستثناء العقد مع شركة "شباكوا" المشار إليه أعلاه نظرًا لإدخال تعديل عليه بالاتفاق بين الشركة ورئيس مؤسسة البترول الوطنية، يعطي الشركة معاملة خاصة في التقيد بالمشاركة مما لا يتمشي مع قرار مجلس الوزراء. ومن المصادفات أنه أسندت لي مهام وزير البترول بالوكالة في هذه الفترة، عندما ذهب السيد خليفة موسى الوزير الأصلي لوزارة البترول في إجازته السنوية.
في يوم 31 اغسطس 1969 عرض علي وكيل وزارة البترول السيد إبراهيم الهنقاري والوكيل المساعد السيد عيسى البعباع عقد شركة "شباكوا" المشار إليه للتوقيع، وذكرا لي بأن ممثل الشركة يصر على توقيع العقد أسوة بغيره من العقود التي وافق عليها مجلس الوزراء، وأنه مسافر إلى أمريكا ويرغب في أخذ العقد معه موقعًا. وقد اعتراني الشك في الموضوع فسألت السيدين إبراهيم الهنقاري وعيسى البعباع عن سبب عدم توقيع السيد خليفة موسى وزير البترول الأصلي على العقد أسوة بغيره من العقود التي وافق عليها مجلس الوزراء، فكان جوابهما بأن العقد مع شركة "شباكوا" يتضمن بنودًا استثنائية تعفي الشركة من الدخول في مشاركة مع الحكومة، وهو استثناء غير وارد في قرار مجلس الوزراء ولم يذكر في العقود مع الشركات الأخرى، وأن السيد خليفة موسى أمر بحفظ العقد إلى حين عودته لدراسته مع رئيس مؤسسة البترول الوطنية، والسبب في عرضه عليّ اليوم هو أن القصر الملكي في طبرق اتصل بهما وطلب منهما تقديم العقد إليّ للتوقيع.
وفوجئت بعد ذلك برسالة من ممثل شركة "شباكوا" يعلمني فيها بأنه إذا لم يتم التصديق اليوم على عقد شركته الموقع من طرف رئيس مؤسسة البترول، فإن شركته ستلجأ إلى القضاء والمطالبة بالتعويض عن أي تأخير. كما استلمت مكالمة هاتفية بهذا المعنى من القصر الملكي من إحدى سيدات الحاشية الملكية بحجة أن مدير الشركة اتصل بها وطلب منها التوسط لدي، وقد أوضحت لها ظروف العقد والصعوبات التى تواجه توقيعه ورفضي التوقيع على العقد حتى يعدل وفق قرار مجلس الوزراء.
وعلى الفور طلبت من السيادة إبراهيم الهنقاري وكيل وزارة البترول، والسيد عيسى البعباع الوكيل المساعد، والسيد سهيل السعداوي نائب رئيس مؤسسة البترول، الذي صادف وجوده في الوزارة، دراسة عقد الشركة المشار إليه أعلاه وتقديم تقرير مكتوب إليّ حالًا. وفعلًا تقدموا بتقرير مفصل فحواه بأن العقد مخالف لقرار مجلس الوزراء لأنه تضمن استثناءات غير واردة في القرار. وعلى الفور طلبت من السيد عيسى القبلاوي الوكيل المساعد إعداد رسالة إلى رئيس مؤسسة البترول وإعادة العقد إليه لتعديله وفقًا لقرار مجلس الوزراء، وعلى أن يتضمن أيضًا الشروط الإضافية التي التزم بها وزير البترول أمام مجلس الوزراء بالنسبة لشركة "شباكوا" وتقديمه من جديد للتوقيع والمصادقة عليه من وزير البترول، كما طلبت منه إرسال رسالة مستعجلة تسلم في حينها إلى ممثل الشركة بهذا المعنى، والإعراب له عن أسفي لعدم إمكاني توقيع العقد حتى يتم تعديله ليتمشى مع قرار مجلس الوزراء.
كما أخبرت السيد ونيس القذافي رئيس الوزراء بما اتخذته من إجراءات ولفت نظره إلى مخالفة رئيس مؤسسة البترول لتوقيعه على عقد شركة "شباكوا" بما لا يتمشى وقرار مجلس الوزراء، وقد وافقني رئيس الوزراء على الإجراء الذي اتخذته، ووعد بالنظر في وضع رئيس المؤسسة الذي كثرت الشكوى منه وخلافاته مع مجلس مؤسسة البترول ومع كبار الموظفين في الوزارة. وقد أحضر لي السيد عيسى القبلاوي الرسالتين المشار إليهما أعلاه، إلى كل من رئيس مؤسسة البترول الوطنية، وإلى ممثل شركة "شباكوا" فوقعتهما في مكتب وزير الخارجية في نفس اليوم، رغم انشغالي مع السيد عبدالهادي بوطالب الوزير المغربي الذي كان في زيارة رسمية إلى ليبيا لتسليم دعوة الملك الحسن الثاني ملك المغرب إلى الملك إدريس لحضور مؤتمر القمة الذي كان سيعقد في الرباط في سبتمبر.
وقد سررت عندما كنت في المعتقل عندما أذيع قرار إلغاء العقد مع شركة "شباكوا" من طرف الحكومة التي ألفت بعد قيام الثورة، استنادًا على رسالتي التي أرسلتها إلى ممثل الشركة المشار إليها أعلاه. وما أثار غضبي أن وزير البترول الأصلي السيد خليفة موسى لم يعلمني مسبقًا بالمشكلة قبل سفره في إجازة. وقد قابلته بعد ذلك في روما وأثرت معه الموضوع ولمته على عدم إعلامي قبل سفره بتفاصيل المشكلة مع شركة "شباكوا".

زيارات بعض الشخصيات العربية والأجنبية
أود في هذه المرحلة من الذكريات سرد ملخص للزيارات التي قامت بها بعض الشخصيات العربية والأجنبية لليبيا.

السيد حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة
قام السيد حسين الشافعي بزيارة إلى ليبيا أواخر 1967 رافقه فيها السيد عصام الدين حسونه وزير العدل المصري، وقد أسندت لي مهمة مرافقته أثناء الزيارة. كان في استقبال السيد الشافعي في المطار الدكتور أحمد البشتي وزير الخارجية نيابة عن الملك وأنا نيابة عن رئيس الوزراء السيد عبدالحميد البكوش. قابل رئيس الوزراء بمكتبه السيد الشافعي وبرفقته وزير العدل المصري والسفير المصري في ليبيا، وكنت حاضرًا لهذه المقابلة. وذكر السيد الشافعي خلال المقابلة بأنه جاء إلى ليبيا حاملًا رسالة إلى الملك إدريس من الرئيس عبدالناصر، وفي نفس الوقت سيشرح للمسئولين الليبيين الحالة العسكرية على الجبهة الغربية مع إسرائيل. وأضاف بأن الجمهورية العربية المتحدة تقوم بإعداد قواتها المسلحة على أسس جديدة لتجنب ما حدث في نكسة 1967م، كما ذكر بأن مساعي الحل السلمي لازالت جارية، ولكن لابد من الاستعداد لمعركة قادمة مع إسرائيل لاسترداد الأرض التي احتلتها إسرائيل سنة 67 مع الإعداد للمعركة جيدًا.
قدم السيد الشافعي شرحًا وافيًا للاتصالات الجارية مع الولايات المتحدة الأمريكية والوضع العربي. واستمع بعد ذلك إلى تعليق رئيس الوزراء السيد البكوش الذي أكد له حرص ليبيا على تأييد الجهود والمساعي العربية لاسترداد الأراضي العربية المحتلة، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في استقلاله واسترداد أراضيه المغتصبة، كما أن ليبيا تتفهم مشاكل الدول المجاورة لإسرائيل وحقها في إستعادة أراضيها بالأسلوب الذي تراه مناسبًا لها، ولكن الدول العربية غير المجاورة لإسرائيل ومن بينها ليبيا ليست في حاجة إلى التفاوض مع إسرائيل أو الاعتراف بقرار مجلس الأمن رقم 242.











في يسار الصورة السفير المصري السيد صلاح بدر ثم السيد عبدالحميد البكوش (وجهه غير ظاهر)، تحت العلم من اليسار السيد حسين الشافعي ثم وزير العدل المصري السيد عصام الدين حسونة ثم بشير المنتصر، على اليمين اثنان من مستشاري السفارة المصرية

كما قابل السيد الشافعي بعد ذلك الملك إدريس وحضر المقابلة عن الجانب الليبي رئيس الوزراء، وجرى الحديث مع الملك على نفس النهج الذي جرى عند مقابلته لرئيس الوزراء، مع التأكيد على مشاركة ليبيا في الجهود الجارية لتقوية الجبهات العربية مع إسرائيل. ولم تثر أثناء المقابلة مسائل المساعدات المالية، خاصة وأن ليبيا ملتزمة حسب مؤتمر القمة في الخرطوم بدفع ثلاثين مليون جنية ليبي للدول المواجهة لإسرائيل.
وقد سنحت لي فرصة مرافقة السيد الشافعي ومناقشته حول الوضع العربي ودور الكفاح العربي من أجل تحرير الأراضي العربية المحتلة. وكان الشافعي واثقًا كل الثقة من مقدرة الأمة العربية على الصمود، ويرى أن العرب يجب أن يواجهوا حملة التشكيك التي يروجها الغرب للنيل من إرادة الأمة العربية بدعوى التخلف العلمي والتكنولوجي حتى يفقدوا الثقة بأنفسهم. كما لاحظت على الشافعي تدينه العميق، واستخدامه للآيات القرآنية في أحاديثه، وكان على جانب كبير من المعرفة بالفنون والنهضة الثقافية العربية، بالإضافة إلى تحليلاته السياسية الثرية. وكنا قد أعددنا له برنامجًا حافلًا مليئًا بزيارات المتاحف والمدن الأثرية في وخارج العاصمة طرابلس.







بشير السني المنتصر في رفقة السيد حسين الشافعي نائب الرئيس عبدالناصر أثناء زيارته الرسمية إلى ليبيا ويظهر معهما في الصورة السيد علي لاغة محافظ الزاوية

كان رئيس الوزراء السيد عبدالحميد البكوش غير متحمس لهذه الزيارة، لأن برنامجه السياسي لا يركز على الاهتمام بالتضامن العربي أو القضية الفلسطينية، بل كان منصبًا على تقوية التعاون مع الغرب وخاصة مع أمريكا وبريطانيا وفرنسا، مع تركيزه في المجال العربي على التعاون مع دول المغرب العربي، ويظهر أن مصر كانت تعرف ذلك كما فهمت من سياق الحديث مع السيد الشافعي. كان رئيس الوزراء ووزير الداخلية السيد أحمد عون سوف غير مرتاحين للزيارة تخوفًا من احتمال قيام استقبالات شعبية في المدن الليبية يصعب التحكم فيها، فقد كان أغلب الشعب الليبي متحمسًا قوميًا ويكن حبًا وإخلاصًا منقطع النظير للرئيس عبدالناصر والترحيب بنائبه كان من تحصيل الحاصل.
اتخذ وزير الداخلية السيد أحمد عون سوف احتياطات أمنية خاصة وخاصة في مدينة طرابلس، وأصر على حصر تحركات الشافعي في نطاق ضيق. وقد سببت هذه الإجراءات الأمنية إحراجًا كبيرًا لي بصفة خاصة لأني كنت الوزير المرافق، ومن واجبي الحرص على راحته ورغباته كضيف على البلاد. وكان رئيس الوزراء يؤيد وزير الداخلية في تحفظاته وكانا يحذراني بأني سأكون مسئولًا عن أية حوادث شغب أو مظاهرات قد تحدث أثناء الزيارة.











بشير المنتصر برفقة السيد حسين الشافعي أثناء زيارته لمتحف السراي الحمراء بطرابلس

وقد طلب مني رئيس الوزراء تعديل برنامج الزيارة وإلغاء زيارة السيد الشافعي لمدينة ترهونة لحضور الاحتفال الشعبي المقرر إقامته هناك للحفاوة بالضيف الكبير، وذلك بعد سماعه خبر الاستعدادات الكبرى، واحتمال تجمع جماهير شعبية كبيرة من المناطق المجاورة ومن معظم أنحاء البلاد. بالإضافة إلى ذلك أن وزير الداخلية أخبر رئيس الوزراء البكوش بأن السيد أبوبكر نعامة، الوزير السابق وعضو مجلس النواب، يريد استغلال الفرصة لإقامة احتفالات ضخمة لتقوية نفوذه في المنطقة وتأكيد زعامته أمام ممثل الرئيس عبدالناصر، وكان السيد البكوش على علاقة غير ودية مع السيد أبو بكر نعامة.
وفعلًا تم إلغاء الزيارة إلى ترهونة واستبدالها بمدينة الخمس ولبدة، وعدل البرنامج وفقًا لذلك. وقد حدث بعد ذلك أن أبلغ السفير المصري مدير إدارة المراسم بوزارة الخارجية الليبية، وكان بالمصادفة أخي السفير علي السني المنتصر، بأن السيد الشافعي يشعر بألم في ساقه ويود الراحة في طرابلس يوم الجمعة إذا أمكن، كما أبدى رغبته في أداء صلاة الجمعة في مسجد أحمد باشا القرامانلي الواقع في وسط مدينة طرابلس.
وقبل بدء الحفلة التى أقيمت على شرف السيد الشافعي في فندق الودان ناقشت طلب السيد الشافعي بالصلاة في مسجد أحمد باشا مع رئيس الوزراء بحضور وزير الداخلية، فعارضا الاثنان ذلك بحجة أن وجوده في المسجد سيشجع الجماهير في طرابلس للتجمهر والتظاهر تحية للرئيس عبدالناصر مما يعرض الأمن للخطر، وأصرا على أن يصلي السيد الشافعي صلاة الجمعة في المسجد المركزي لمدينة الخمس الواقعة على بعد 100 كم شرقي مدينة طرابلس بعد زيارته لمدينة لبدة الأثرية المجاورة لمدينة الخمس، وتناول طعام الغذاء في فندق الخمس والرجوع إلى فندق الودان بطرابلس الذي يقيم فيه الضيف. وقد طلبت من مدير المراسم بوزارة الخارجية إبلاغ السفير المصري بعدم إمكانية تعديل برنامج الزيارة والصلاة في مسجد الخمس بدلًا من مسجد أحمد باشا في طرابلس. وهكذا ذهبنا في اليوم التالي في موكب كبير إلى مدينة الخمس، فوجدناها تعج بالجماهير هاتفة للرئيس جمال عبدالناصر والوحدة العربية، وقد استغربنا كيف سمعت الجماهير بالزيارة غير المعلنة، وعرفنا بعد ذلك أن الجماهير التي كانت تنتظر الضيف في ترهونة علمت بتغيير زيارته إلى الخمس فاتجهت إليها.
وبعد صلاة الجمعة وتناول الغذاء عدنا إلى طرابلس. وكان الشافعي رائعًا وفهم ما كان يجري وراء الكواليس، وقال لي إنه سعيد بزيارة ليبيا، وتمكنه من زيارة مدينة لبدة التاريخية ومشاهدة أثارها العظيمة، وتأثر بالحفاوة والترحيب التي أبدتها جماهير الخمس والمدن الأخرى التي مررنا بها. وكانت الجماهير في طرابلس تتجمع وتظهر ترحيبها بالضيف كلما تحرك موكبه في المدينة دون تنظيم أو إعداد مسبق. وعند مغادرته عائدًا لمصر ودع بنفس المراسم التي استُقبل بها وأعرب عن تقديره لترحيب الملك ورئيس الوزراء به وشكرني على مرافقتي له طوال فترة الزيارة، كما شكر المرافقين الآخرين من وزارة الخارجية ورجال الأمن.
كانت زيارة السيد الشافعي فرصة لي للتعرف عليه، وقد سر كثيرًا عندما أخبرته بأني درست العلوم السياسية في جامعة القاهرة وقضيت خمس سنوات في الدراسة بمصر من سنة 1951م ولغاية سنة 1956م، بالإضافة إلى عملي بالسفارة الليبية في القاهرة طوال سنة 1962م، كما ذكرته بأني كنت ضمن الطلبة العرب الذين دعيوا من طرف أعضاء مجلس ثورة 23 يوليو بعد قيلمها بفترة وجيزة.
وكان من المصادفة أن الرئيس عبدالناصر ألقى خطابًا هامًا أثناء وجود السيد الشافعي في ليبيا، ولما أخبرته بأني سمعت الخطاب استفسر مني عن فحواه، وكان حسب ما فهمت يتوقع تغييرًا أو خبرًا هامًا. وفعلًا بعد عودته من زيارة ليبيا تم استبداله بالسيد أنور السادات كنائب أول لرئيس الجمهورية. هذا كما فهمت من حديثه مع وزير العدل في السيارة التي كانت تضمنا معًا، بأنهما غير راضيين عن سياسة وتصرفات الرئيس عبدالناصر وأعوانه وكانا ينتقدان الوضع السائد في مصر بصفة عامة.

زيارة السيد محمود رياض وزير الخارجية المصري
زار ليبيا بعد السيد حسين الشافعي السيد محمود رياض وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة وأعد له استقبال رسمي وقابل الملك إدريس. وقد حضرت مقابلته مع رئيس الوزراء السيد عبدالحميد البكوش. وقد بدأ حديثه بسرد تفاصيل اتصالاته المكثفة في أمريكا التي قضى فيها فترة بعد حرب 1967، وقابل فيها العديد من الوزراء وأعضاء الكونغرس. وأوضح أنه فشل في مساعيه في الحصول على أي تأييد أمريكي أو وعد لإلغاء أثار العدوان لحرب 1967م بإجبار إسرائيل على الجلاء عن الأراضي المحتلة. وأضاف بأن المسئولين في وزارة الخارجية الأمريكية يعرفون ويتفهمون الموقف العربي في النزاع الإسرائيلي العربي وكانوا صرحاء معه، وأوضحوا له بأن أعضاء الكونغرس والبيت الأبيض يسيران بتوجيه من اللوبي اليهودي الداعم لإسرائيل والذي يمثل النفوذ المالي والإعلامي في الولايات المتحدة، كما يمثل الصوت اليهودي في الانتخابات الأمريكية وخاصة في المدن الكبرى مثل نيويورك ولوس انجلوس وكذلك بقية المدن التي لليهود فيها نفوذ مالي وإعلامي رغم ضآلة نسبتهم العددية، كما أن تساوي الأصوات في الانتخابات بين الديمقراطيين والجمهوريين جعل للصوت اليهودي أهمية خاصة، بينما لم يكن للعرب والمسلمين تنظيم مماثل يؤثر على هذا الحزب أو ذاك.
كان السيد محمود رياض فاقدًا للأمل في أمريكا وشدد على

2:47 PM  
Blogger Bashir Muntasser said...

كان السيد محمود رياض فاقدًا للأمل في أمريكا وشدد على ضرورة التعاون العربي، وقال إن الجمهورية العربية المتحدة تحاول تقوية دفاعاتها بكل إمكانياتها ولكن على العرب تقوية كل الجبهات الشرقية والشمالية، وذكر بأن العرب في حاجة إلى طيارين أكثر من حاجتهم إلى طائرات، فالطائرات يمكن تعويضها في وقت قصير لكن الطيارون يحتاجون إلى وقت طويل للإعداد والتدريب. واستفسر السيد رياض من رئيس الوزراء السيد عبدالحميد البكوش عن موقف ليبيا من الصراع العربي الإسرائيلي.
وكان جواب السيد البكوش حذرًا وأوضح بأن ليبيا تتفهم موقف الدول العربية المجاورة لإسرائيل في مساعيها من أجل استرداد أراضيها، وليبيا تدعم الفلسطينيين لتحرير أراضيهم وممارسة حق تقرير مصيرهم بكل الوسائل المتاحة، وأن ليبيا كانت ولازالت مستعدة للمساهمة بما لديها من إمكانيات عسكرية ومالية. أما فيما يخص الحل السلمي فإن ليبيا رغم أنها تؤيد الدول المتضررة المجاورة لإسرائيل في اتخاد أي إجراء تراه يتمشى ومصالحها بما في ذلك قبول قرار مجلس الأمن رقم 242 وتنفيذه بدون المساس بحق الشعب الفلسطيني في فلسطين، إلا أن ليبيا لا ترى ضرورة لاعتراف باقي الدول العربية بإسرائيل.
وهنا علق السيد محمود رياض قائلًا إن الدول العربية لا زالت تسير على نهج سياستها السابقة والمغالاة في مطالبها كلامًا لا فعلًا، فقد كان العرب ينادون برمي اليهود في البحر وتحرير كل شبر من فلسطين، وكانت النتيجة دخولهم في ثلاثة حروب خسروا فيها فلسطين كلها وبعض أجزاء من الدول العربية المجاورة، والآن رغم أن قرار مجلس الأمن القاضي بانسحاب إسرائيل من أراض عربية احتلتها إسرائيل في حرب 1967 مقابل سلام دائم معها والذي يقضي في نفس الوقت قبول إسرائيل كدولة بحدودها في 5 يونية 1967، إلا أن الزعماء العرب لازالوا يرددون كلامًا غير محدد حول حقوق الشعب الفلسطيني في تحرير كل أراضيه. وكان يشير ضمنًا إلى جواب السيد عبدالحميد البكوش حول موقف ليبيا، وأضاف أن مثل التصريحات ترجعنا إلى الدخول في متاهات نعجز فيها عن حل المشكلة الفلسطينية. ولم يجب السيد عبدالحميد البكوش صراحة عن ما يحاول السيد محمود رياض الحصول عليه، وهو مدى قبول ليبيا صراحة قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي قبلته مصر والأردن.
كان هدف زيارة السيد محمود رياض للدول العربية ومنها ليبيا كما فهمت هو إقناع الدول العربية غير المجاورة لإسرائيل بنبذ سياسة ذات الوجهين التي تتبعها الحكومات العربية، وإصرارها على عدم مصارحة شعوبها بقبول إسرائيل في حدودها يوم 5 يونية 1967م، وفقًا لقرار مجلس الأمن المشار إليه أعلاه. وكانت الدول العربية غير المجاورة لإسرائيل وخاصة السعودية والعراق وليبيا غير مستعدة أو مضطرة لقبول قرار مجلس الأمن رقم 242 والاعتراف بإسرائيل، مع ترك الحرية للدول المجاورة لإسرائيل لانتهاج السياسة التي تراها مناسبة لاسترجاع أراضيها دون المساس بحق الشعب الفلسطيني في أراضيه.

زيارة السيد حسن صبري الخولي مبعوث الرئيس عبدالناصر الخاص إلى ليبيا سنة 1969م
يظهر أن زيارتي السيدين حسين الشافعي ومحمود رياض كانتا مقدمة لزيارة السيد حسن صبري الخولي الهامة. استُقبل السيد حسن الخولي رسميًا من طرف السيد فتحي الخوجة كبير التشريفات الملكية مبعوثًا من الملك، وأنا نيابة عن رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي، والعقيد عبدالعزيز الشلحي بصفته الشخصية، فالخولي تربطه بعائلة الشلحي علاقات خاصة منذ أيام السيد البوصيري الشلحي وعلاقته الوثيقة بالرئيس عبدالناصر. هذا وقد قابل السيد الخولي الملك وتناول معه الغذاء الذي حضره رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي والعقيد عبدالعزيز الشلحي.
وقد علمت بعد الغذاء من رئيس الوزراء أن الهدف من الزيارة هو الحصول على مساعدة مالية إضافية لتغطية صفقة شراء طائرات عمودية من إيطاليا، لأن السوفيت الذين يزودون مصر بالأسلحة لا يملكون مثل هذا السلاح، وليس لدى مصر نقد أجنبي لذلك، وقد وافق الملك على هذا الطلب كما وافق عليه مجلس الوزراء. وبعدها اجتمع رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي بمكتبه وبحضوري مع السيد حسن الخولي وأبلغه موافقة الحكومة الليبية على دفع مبلغ عشرة ملايين جنية ليبي (30 مليون دولار) على دفعتين حسب طلب الجمهورية العربية المتحدة، وبالطبع كان القرار بأمر من الملك. وأذكر أن السيد حسن الخولي استقبل القرار بسرور بالغ كأنه لم يكن يتوقع نجاح مهمته بهذه السرعة، وقال للسيد ونيس القذافي بأن التاريخ سيسجل لليبيا هذا العمل الجليل لأنها بهذا المبلغ ستمكن الجيش المصري من أن يتحول من جيش راجل (بري) إلى جيش طائر (جوي).
وأضاف السيد الخولي بأن التاريخ سيسجل لليبيا بكل فخر واعتزاز مدى المساعدات التي قدمتها وتقدمها ليبيا للصمود العربي في وجه الصهيونية والاستعمار، وأشاد بصفة خاصة بموقف الملك إدريس من القضايا العربية، وأضاف بأن الجمهورية العربية المتحدة ترغب في إظهار حسن نيتها وتطلب من ليبيا أن تدفع فواتير شراء الطائرات العمودية رأسًا إلى مصانع الطائرات العمودية في إيطاليا دون تدخل مصر. ولكن رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي رفض هذا العرض قائلًا إن ليبيا تثق في الشقيقة مصر وسيحول المبلغ رأسًا إلى الحكومة المصرية وهي حرة لإتمام عملية الشراء حسب إجراءاتها المالية.
وطلب السيد الخولي بعد ذلك موافقة ليبيا على أن يطلق الجيش المصري على فرقة الطائرات العمودية التي سيتم شراؤها اسم ليبيا ووضع شعار الجيش الليبي عليها إظهارًا لمدى مشاركة ليبيا في المعركة المصيرية القادمة مع إسرائيل. ورأى السيد ونيس القذافي إحالة القرار في هذا الشأن إلى قيادة الجيش الليبي للبت في هذا الموضوع، وقال إن هدف الحكومة الليبية هو مشاركة الجمهورية العربية المتحدة في عبء المعركة ولا تريد جزاءًا ولا شكورًا لأنها تعتبر ذلك واجبًا عربيًا ولو توفرت لدى ليبيا قوات عسكرية قوية لما ترددت في المشاركة الفعالة في المعركة.
وقد تقرر بعد ذلك دفع المبلغ على دفعتين وسمح لمصر شراء بجزء من المبلغ أسلحة أخرى غير الطائرات العمودية، كما اعتذرت ليبيا عن قبول اقتراح السيد الخولي بإطلاق اسم ليبيا على فرقة الطائرات العمودية في الجيش المصري وكذلك وضع شعار الجيش الليبي عليها. ومن الصدف أن السيدة أم كلثوم كانت تحي حفلاتها في ليبيا أثناء زيارة السيد حسن الخولي ودعي من طرف السيد عبدالله عابد السنوسي الذي كان يشرف على زيارة السيدة أم كلثوم لحضور حفلتها التي أقيمت في طرابلس، وقد تردد السيد ونيس القذافي في أول الأمر في حضور الحفلة ولكن حضور مندوب الرئيس عبدالناصر السيد حسن الخولي اضطره إلى حضورها، وأصر على مرافقتي له والجلوس إلى جانبه حتى نهاية الحفلة.

زيارة السيد صالح مهدي عماش نائب رئيس الوزراء العراقي 1968م
زار ليبيا في هذة الفترة السيد صالح مهدي عماش نائب رئيس الوزراء العراقي يرافقه وزير التربية العراقي بدون دعوة رسمية، وعلمنا بقدومهما بعد دخول طائرتهم الأجواء الليبية. واستقبلتهما في المطار نيابة عن رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي، ولم يتمكنا من مقابلة الملك ولكنهما قابلا رئيس الوزراء بمكتبه. وقد حضرت هذه المقابلة حيث قدم السيد عماش شرحًا للوضع في العراق والخسائر التي تكبدها الجيش العراقي في حرب 1967، حيث فقد عددًا كبيرًا من طائراته ودباباته قبل وصول الجيش العراقي إلى جبهة القتال. كما ذكر بأن دخل العراق من البترول قد تضاءل بسبب الصراع بين شركات البترول الأجنبية، ولما كان العراق لم يشمله الدعم العربي الذي قرره مؤتمر الخرطوم للدول المجاورة لإسرائيل، ولهذا فإنهم يأملون في الحصول على دعم مالي من ليبيا لتسليح الجيش العراقي وتقوية الجبهة الشرقية في الصراع العربي الإسرائيلي.
إلا أن رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي اعتذر بعدم مقدرة ليبيا في الوقت الحاضر على تلبية طلب العراق، وأضاف بأن ليبيا ملتزمة بالدعم العربي للدول المتضررة المجاورة لإسرائيل والمقرر في قمة الخرطوم، كما أنها ساهمت في دعم الجبهة الغربية مع الجمهورية العربية المتحدة. وأشار إلى التزام الحكومة الليبية بمشاريع خطة التنمية لحاجة البلاد الملحة إلى بناء مرافقها العامة، وافتقار الشعب إلى كثير من الخدمات لفقر البلاد قبل اكتشاف البترول، وعجز الحكومة عن تمويل أية مشاريع تنموية في الماضي، كما أن الاستعمار الإيطالي حرم الشعب الليبي من كل مقومات الحياة الكريمة، بالإضافة إلى أسعار البترول المتدنية. وقد أبدى السيد عماش تفهمًا لظروف ليبيا الحاضرة وقال إن الوفد العراقي جاء بحسن نية، وبرسالة نبيلة لخدمة الأمة العربية، ولم يشعر العراق بالحرج لطلب الدعم من دولة عربية مثل ليبيا لتجهيز الجيش العراقي، فهو جيش العرب جميعًا وحصنهم المنيع ضد الاستعمار والصهيونية.
السيد عماش شخصية فريدة ويحب اللهو والسمر، وفهمت منه أنه يرغب في السهر ليلًا، خاصة أن برنامج زيارته كان متعبًا ويشمل السفر والتنقل جوًا داخل ليبيا. فرغم أن العاصمتين في ليبيا هما طرابلس وبنغازي إلا أن رئيس الوزراء يستقبل زواره عادة في مدينة البيضاء والملك يستقبل زواره في مدينة طبرق، بينما يقيم الضيوف في طرابلس، ولهذا كان برنامج كبار الزوار يستدعي تنقلهم بين طرابلس وبنغازي والبيضاء وطبرق، وتوضع برامج استقبالات رسمية في كل منها. ويقيم كبار الزوار عادة في فندق الودان في طرابلس وقد يستريحون في فندق البرينيتشي في بنغازي لبضع ساعات أثناء سفرهم من وإلى طرابلس والبيضاء وطبرق.

زيارة السيد محسن العيني رئيس الوزراء اليمني
زار السيد محسن العيني رئيس وزراء اليمن ليبيا وكنت في استقباله في المطار نيابة عن رئيس الوزراء السيد عبدالحميد البكوش. لم أكن أعرف السيد العيني شخصيًا ولهذا سألني ونحن في السيارة عن منصبي في الحكومة، وقد ارتاح عندما عرف أني على مستوى وزير، وكان كما شعرت يتوقع أن يستقبله رئيس الوزراء في المطار حسب البروتوكول. شرحت له أوضاع ليبيا ونظام الاستقبالات الرسمية فيها لوجود رئاسة مجلس الوزراء في البيضاء، والملك في طبرق. كما سألني أيضًا عن السيد منصور رشيد الكيخيا الذي كان زميله في الدراسة في مصر. وبعد قضاء ليلته في طرابلس سافرنا في اليوم التالي معًا إلى البيضاء حيث استُقبل في مطار البيضاء من طرف رئيس الوزراء.
ونظرًا لشعوري بعدم رضا السيد العيني على مستوى استقباله في طرابلس اقترحت على السيد عبدالحميد البكوش رئيس الوزراء استقباله رسميًا في مطار البيضاء بدلًا من استقباله في مكتبه كما كان معدًا في البرنامج المعد له. وعمل رئيس الوزراء بما اقترحته عليه، رغم أن السيد البكوش كان كما ذكرت غير متحمس لزوار ليبيا من العرب، كما أنه يعرف أن هدف زياراتهم كان دائمًا لطلب الدعم المالي، خاصة بعد أن أصبحت ليبيا دولة منتجة للبترول، رغم أن سعر برميل البترول آنذاك كان لا يتعدى دولارًا واحدًا. وأعتقد أن السيد العيني لم يكن راضيًا عن زيارته فهو لم يستقبل بحفاوة من طرف الملك، كما أن السيد عبدالحميد البكوش لا يعرف المجاملة، خاصة عندما يواجه بطلبات مالية.
والشيء الذي لم يكن يعجبني في الزوار العرب هو أن كبار المسئولين العرب يطلبون الزيارة دون إعطاء وقت للإعداد لها في متسع من الوقت، ويطلبون مقابلة الملك ورئيس الوزراء دون أن يعلنوا عن الغرض من زيارتهم، مما يضع المسئولين الليبيين في حرج، بما فيهم الملك، الذي كان لا يريد أن يواجه بطلبات ورغبات من رؤساء دول تضطره لاتخاد قرار فوري في مواضيع هي من اختصاص الحكومة. لكن الزوار العرب يحبذون التوجه بطلبات بلدانهم باسم رؤساء دولهم إلى الملك مباشرة، لأنهم يؤمنون بأن قرار الموافقة على مثل هذه الطلبات لا يتخد إلا على هذا المستوى العالي، كما هو الحال في بلادهم.

زيارة السيد عبدالعزيز بوتفليقة سنة 1967م
وأذكر خلال هذه الفترة زار ليبيا السيد عبدالعزيز بوتفليقة ومبعوث الرئيس الجزائري السيد هواري بومدين (اسمه الحقيقي محمد إبراهيم بوخروبة)، وقد جاء إلى البيضاء وقابل السيد حسين مازق في مكتبه، وقد دعاه هذا الأخير إلى غذاء خاص في منزله لم يكن في برنامج الزيارة، وطلب مني أن أكون معهما على الغذاء الذي لم يحضره أحد من الخارجية. وقد كان السيد بوتفليقة شابًا قريبًا من الرئيس أبومدين. وقد استعرض أثناء الغذاء العلاقات الليبية الجزائرية والعلاقات العربية بصراحة مع السيد حسين مازق، الذي كان معجبًا به وبآرائه الوطنية والقومية الوحدوية. وكان في حديثه يستعين بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين في سياق سلس غير متكلف مما دل على تعليمه الديني الرصين رغم دراسته الفرنسية.
استعرض السيد بوتفليقة بوضوح التخطيط الاستعماري للعالم العربي، والخلافات العربية، وسياسة حكومة الجزائر في السعي لتحقيق الوحدة المغربية والتضامن العربي البعيد عن التدخلات الداخلية. وقد كلفة السيد حسين مازق بحمل تحياته إلى الرئيس هواري بومدين وحرص ليبيا ملكًا وحكومة وشعبًا على تقوية العلاقات بين البلدين الشقيقين، وتوحيد مواقفهما على المستوى العربي والإسلامي ودول عدم الانحياز، وبذل كل ما في استطاعتهما لدعم الشعب الفلسطيني من أجل تحقيق حريته واستقلاله بعيدأ عن المساومات الدولية والإقليمية.


زيارة الرئيس التركي جودت صوناي سنة 1968م
كان الرئيس التركي هو رئيس الدولة الوحيد غير العربي الذي زار ليبيا في هذة الفترة من 27 يناير إلى 2 فبراير 1968، وقد جاء الملك إلى طرابلس حيث كان في استقباله ووداعه. وجرت للرئيس التركي استقبالات كبيرة. وأذكر أنه كانت قد وصلت في هذه الفترة إلى ميناء طرابلس سيارة "كاديلاك" مصفحة ضد الرصاص التي كانت الحكومات السابقة قد أوصت بصناعتها لاستعمال الملك، وقد قمت مع السيد فتحي الخوجة، كبير التشريفات الملكية، بعرضها على الملك والملكة في بيتهما الخاص في سواني بن يادم بطرابلس، إلا أن الملك لم تعجبه السيارة المفتوحة، وذكر لنا بأنه يفضل استقبال الرئيس التركي في سيارته الخاصة "الرولس رويس"، أما السيارة الجديدة فتوجه إليّ مخاطبًا: "انتم يا حكومة استعملوها للضيوف الأجانب".











مراسم استقبال الرئيس التركي جودت صوناي بمطار طرابلس












بشير المنتصر مع الأستاذ منصور الكيخيا (الثاني من اليمين) ويظهر في يسار الصورة شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي أثناء حفل العشاء الذى أقامه الملك إدريس على شرف رئيس الجمهورية التركية جودت صوناي

زيارة الملك حسين ملك الأردن
زار الملك حسين ليبيا سنة 1967 ولم أكن على إطلاع على ما جرى خلالها من مباحثات بينه وبين الملك لأني كنت في إجازة خارج ليبيا. أما زيارته الثانية التي تمت في نفس السنة فقد وافق الملك فيها على تقديم مساعدة للأردن قيمتها خمسة ملايين جنيه ليبي لشراء أسلحة صاروخية دفاعية، بالرغم من أن طلب الأردن كان أكثر من ذلك بكثير. كان الملك إدريس يحب الملك حسين وأخيه الأمير حسن وكان يرحب بأي زيارة لهما.











الملك إدريس في استقبال الملك حسين ويظهر خلف الملك الأمير الحسن الرضا ولي العهد والعقيد عبدالله عبدالكريم مرافق الملك

المساعدات الليبية
بلغت المساعدات الرسمية الليبية للدول العربية المتضررة من العدوان الإسرائيلي والتي وافقت عليها الحكومة نتيجة هذه الزيارات العديدة خلال الفترة 67-69 أكثر من 75 مليون جنية ليبي، بما في ذلك الدعم العربي المقرر في قمة الخرطوم وهو 30 مليون جنية ليبي سنويًا، بالإضافة إلى المساعدات الشعبية من نقدية وعينية وما لدى الجيش الليبي من أسلحة متوفرة وعتاد ومعدات التي قدمت في شكل هبات ومساعدات.
وفي هذه الفترة تلقت ليبيا طلبات عديدة للمساعدة في شكل مساعدات نقدية أو قروض من كل من تونس والمغرب والسودان والعراق واليمن الشعبية ولكن ليبيا اعتذرت عن تلبية هذه الطلبات باستثناء تونس. كما تلقت ليبيا طلبات للمساعدة من حركة اريتريا فقدمت لها المساعدات عن طريق الجامعة الإسلامية ودفعت لها تكاليف إصلاح سفينة شحن كانت سوريا قد تبرعت بها لاريتريا.
كما قدمت ليبيا مساعدات لتشاد والنيجر في ميادين بناء المساجد والمدارس الحديثة وفي المجال الزراعي والمواصلات وتوفير وسائل النقل. كما أن ليبيا التزمت بقبول اللاجئين المسلمين من تشاد، بما فيهم زعيم الطوارق وأولاده في مناطق الحدود مع تشاد وحددت لهم مرتبات ومساعدات. وكان هناك جدل حول هذه المساعدات فيرى البعض أنه من الواجب تقديم هذه المساعدات للمعارضة التشادية ودعمها بالمال والسلاح، ولكن البعض كان يرى أن مثل هذه المساعدات تجر ليبيا إلى مشاكل مع فرنسا والدول المجاورة. ولهذا استقر الرأي على تحسين العلاقات مع تشاد في ميادين التعاون المختلفة المتعلقة بالمسلمين كبناء المساجد والمدارس، وفي نفس الوقت السماح لزعيم الثوار ورجاله بالالتجاء إلى الأراضي الليبية بشرط ألا يهاجموا تشاد من داخل الحدود الليبية وأن تكون المساعدات المقدمة لهم سرية.
وحاولت حكومة تشاد الوصول مع زعيم الثوار الموجود في ليبيا إلى اتفاق وتعهد الرئيس التشادي فرانسوا تومبلباي بعدم التعرض له إذا رجع إلى بلاده، ولكنه رفض هذا العرض وبقى هو وأبناؤه في حركة تمرد على الحدود الليبية التشادية. وفي العلاقات مع تشاد أذكر أن وزيرًا تشاديًا، من أصل فرنسي، زار ليبيا لدراسة إمكانية تصدير البترول التشادي مستقبلًا عن طريق ليبيا، وكانت عمليات التنقيب الفرنسية عن البترول في تشاد تجري على قدم وساق بعد اكتشاف ليبيا للبترول، وقد أعربنا له على استعداد ليبيا لدراسة الموضوع عندما يكتشف البترول في تشاد.
هذا كما أمر الملك بتقديم مساعدات إلى ملك ألبانيا لرعاية أنصاره الموجودين خارج وطنهم لمساعدتهم للعودة إلى بلادهم وذلك بصفته ملكًا مسلمًا في صراع مع الحكم الشيوعي في بلاده. كما أمر بمساعدة المسلمين في يوغوسلافيا في مجال حاجاتهم الدينية كبناء المساجد والمدارس. وامتدت هذه المساعدات لتشمل المساهمة في مشاريع الجاليات الإسلامية الثقافية في الدول الأوروبية والأمريكية، بما في ذلك بناء مراكز إسلامية في روما ولندن، كما فتح الباب أمام الطلاب الإفريقيين المسلمين للدراسة في جامعة السيد محمد بن علي السنوسي الإسلامية والجامعات والمعاهد الليبية.

مساعدات ليبيا لمنظمة التحرير الفلسطينية
أما بشأن منظمة التحرير الفلسطينية ومنظمة فتح الفلسطينية فإن ليبيا كانت تقدم المساعدات لهما قبل عدوان 1967م وضاعفت من مساعداتها لهما بعد ذلك، غير أن التركيز كان على فتح، خاصة بعد انضمام السيد ياسر عرفات إلى منظمة التحرير وأصبحت المنظمتان شبه موحدة. وكان موضوع المساعدات قد أوقف في فترة حكومة السيد عبدالحميد البكوش بسبب الخلاف الذي نشأ حول زعامة منظمة التحرير الفلسطينية واتجهت المنظمات الشعبية إلى توجيه مساعداتها إلى منظمة فتح، إلا أنه في عهد حكومة السيد ونيس القذافي أعيدت المساعدات الرسمية والشعبية التي أوقفت بعد استجلاء الموقف بين المنظمتين. وكان رئيس الحكومة السيد ونيس القذافي متحمسًا مع السيد ياسر عرفات ومنظمة فتح ولم يرفض لها طلبًا سوى الإذن لها بالتدريب في معسكرات الجيش الليبي، إذ رفض الملك السماح بذلك.

ياسر عرفات يزور ليبيا
زار السيد ياسر عرفات ليبيا وقدم إلى البيضاء لمقابلة السيد ونيس القذافي رئيس الوزراء، وأذكر أنه لما وصل إلى مكتب رئيس الوزراء كان رئيس الوزراء غير موجود في المكتب، فأدخله سكرتير رئيس الوزراء آنذاك السيد أحمد كعوان مكتب رئيس الوزراء وأخبرني بذلك. فأسرعت إلى مقابلته والجلوس معه حتى جاء رئيس الوزراء. وكانت هذه أول مقابلة لي للسيد ياسر عرفات، وقد تبادلت معه الحديث حول الأوضاع العربية ونشاط منظمة التحرير الفلسطينية، وكان برفقته زميل له لا أتذكر من هو الآن. وقد أجرى السيد عرفات بعد ذلك مباحثات مع رئيس الوزراء دون حضوري، ولا أذكر أنها تمخضت عن شئ جديد، فمنظمة التحرير تتسلم مساعدة سنوية من ليبيا بمقتضى قرارات القمة العربية.

المغرب العربي الكبير
جرت اتصالات ومساع كثيرة في فترة حكومة السيد عبدالحميد البكوش والسيد ونيس القذافي مع دول المغرب العربي حول وحدة دول المغرب العربي. وكانت ليبيا مترددة في توقيع الاتفاقية الاقتصادية المتعلقة بإنشاء سوق واحدة أسوة بالسوق الأوروبية المشتركة، وكان بعض أعضاء الحكومة مترددين في مدى فائدة ليبيا من الانضمام لهذه الاتفاقية. وقد استقر الرأي بعد ذلك على الدخول في الاتفاقية، وكان من المتوقع التوقيع عليها في نهاية سنة 1969م.

مزيـد من الزيارات
بالإضافة إلى ما تقدم، زار ليبيا عدد كبير من المسئولين العرب والأجانب لتبادل الرأي في الوضع العربي، أو لتوثيق العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية خلال 1968م ومن بينهم وزراء مواصلات المغرب العربي الذين حضروا مؤتمر المغرب العربي للمواصلات السلكية في 20 يناير 1968م، ووزير الاقتصاد الوطني الأردني في 27 فبراير، ووزير التجارة البريطاني من 1 إلى 5 مارس. كما زار ليبيا وزير التجارة الإيطالي يوم 13 مارس، ووزير التجارة المغربي يوم 14 مارس ووزير التجارة التركي من 16 إلى 21 مارس ووزير التجارة المالطي من 17 إلى 21 مارس، ووزير المواصلات التركي يوم 22 أبريل ورئيس وزراء مالطا من يوم 27 أبريل وحتى يوم 1 مايو، والأمين العام للجامعة العربية من يوم 6 إلى 8 يونية، والوزير التركي للخارجية من يوم 17 إلى يوم 22 يونية، ورئيس وزراء مالطا من 8 إلى 14 يونية، ورئيس وزراء السودان من 20 إلى 25 أغسطس، ووزير التجارة السوداني يوم 2 سبتمبر، ووزير الدولة البريطاني من 12 إلى 15 أكتوبر. كما عقد مؤتمر وزراء العمل في طرابلس من يوم 3 إلى 10 نوفمبر.

مرور المستر هارولد ويلسون رئيس وزراء بريطانيا بليبيا
في مارس 1969م مر بليبيا المستر هارولد ويلسون رئيس وزراء بريطانيا الذي كان في طريقه إلى نيجيريا أثناء حرب "بيافرا"، وقد كنت في استقباله نيابة عن الملك ورئيس الوزراء السيد ونيس القذافي، رغم أن مروره كان بالقاعدة البريطانية ( العدم ) في طبرق. ويظهر أن مروره بليبيا لم يكن في برنامج زيارته أو بعلم وزارة الخارجية، ولهذا لم يكن السفير البريطاني حاضرًا، واستقبلته مع قائد عام القاعدة فقط. وكان معه وفد كبير من الوزراء والمستشارين. وقد قضيت معه بعض الوقت مرحبًا واتضح لي أنه لم يكن قد أعطي له ملخصًا عن ليبيا وما هي المواضيع التي قد يتعرض لها في حالة مقابلته للمسئولين الليبيين، ولهذا اقتصر حديثه معي على السؤال عن الملك وصحته وطلب مني إبلاغ شكره على إرسالي باستقباله وكذلك إلى رئيس الوزراء. كان يتكلم بصفة عامة عما يجري في ليبيا دون التعرض لمواضيع معينة. وبعد بعض الوقت استأذن مني للتفرغ إلى اجتماع كان مقررًا مع وزرائه ومستشاريه للإعداد لمباحثاتهم مع الحكومة النيجيرية. وقد انتظرته مع قائد القاعدة حتى انتهى من اجتماعه ثم حضرنا حفلة شاي قدمها قائد عام القاعدة وبعدها سافر وودعناه بمثل ما استُقبل به.
كما زار ليبيا خلال 1969 وزير خارجية هولندا من 8 إلى 12 يناير 1969، ووزير الدفاع البريطاني من 12 إلى 15 يناير، ووزير خارجية الجزائر السيد عبدالعزيز بوتفليقة من يوم 29 يناير إلى 3 فبراير. وزار ليبيا في هذه الفترة وزير ألمانيا الاتحادية للدفاع الهير ستراوس. كما عقد مؤتمر المواصلات لدول المغرب العربي من يوم 15 إلى 17 مارس، وزار ليبيا للمرة الثانية وزير الدفاع البريطاني من يوم 20 إلى 21 ابريل، وفي نفس هذه الفترة زار ليبيا نائب وزير الخارجية الأمريكي لشئون أفريقيا ووزير خارجية أسبانيا.

دوري في استقبال الزوار العرب
كنت في الحكومة كوزير دولة لشئون رئاسة الحكومة غير مسئول عن وزارة معينة، ولهذا كنت أتولى القيام بالمهام العارضة التي يستوجب القيام بها شخص بدرجة وزير يكلفه بها رئيس الوزراء، ومنها مسئولية زيارة كبار المسئولين واستقبالهم ودراسة برامج زياراتهم مع الوزراء المختصين. وقد لاحظت أنه رغم تكليفي باستقبال وحضور جميع مقابلات كبار الزوار من المسئولين العرب مع رئيس الوزراء، إلا أن الوزراء الأجانب في الغالب يستقبلون من طرف زملائي الوزراء كل في اختصاصه لأسباب كثيرة، منها أن زيارات ومقابلات الزوار العرب كانت مجاملات بروتوكولية في الغالب ولا يتوقع منها نتيجة، ولهذا تركوا لي أمر مجاملة مثل هؤلاء الزوار العرب، خاصة أني عشت في مصر وخبرت السياسة العربية أكثر من أغلب زملائي الوزراء. أما الزوار من الوزراء الأجانب فعادة يأتون وفقًا لبرناج معد مسبقًا لدراسة مسائل سبق أن نوقشت مع الوزارات المختصة عن طريق سفاراتهم، ولهذا يحرص الوزراء على استقبالهم للبت في ما جاءوا من أجله وكذلك حضور اجتماعاتهم مع رئيس الوزراء إذا استدعى الأمر.

خطة التنمية الثانية للسنوات الخمس 1968-1972م
إن تفاصيل ميزانية خطط التنمية متوفرة في الوثائق الرسمية والمراجع التاريخية بالتفصيل. وأريد هنا أن أذكر باختصار بعض جوانب ما كان يجرى أثناء إعدادها ومناقشتها في مجلس الوزراء، وكذلك المشاكل الاقتصادية التي كانت سائدة في تلك الفترة، والتنافس بين الأقاليم، الذي كان عقبة في وضع ميزانية على أسس علمية وحاجات البلاد الحقيقية.
وقبل التعرض لتفاصيل ما تقدم أود أن أسجل بأن ليبيا كانت الدولة العربية الوحيدة التي حظيت بدراسات دقيقة لاقتصادها منذ كانت أفقر دولة في أفريقيا يوم استقلالها إلى أن أصبحت أول دولة أفريقية في معدلات مستوى دخل الفرد في أواخر الستينات، وذلك راجع بالطبع إلى اكتشاف البترول وتصديره في فترة قصيرة لا تتجاوز بضع سنوات. كما أن اقتصادها كان موضوع دراسة دقيقة من طرف خبراء الأمم المتحدة والخبراء الدوليين الأجانب الذين شاركوا في هذه الدراسات وفي التخطيط الاقتصادي ورسم خطط التنمية الخمسية. وكان دور ابن ليبيا الشاب والاقتصادي الدولي القدير الدكتور علي أحمد عتيقة دورًا عظيمًا في دراسة الاقتصاد الليبي ووضع خطة التنمية الخمسية الثانية والتي كانت نتاج جهده وجهد زملائه في وزارة التخطيط.
وكانت الخطة الخمسية الأولى للتنمية التي بدئ في تنفيذها في بداية عهد وزارة الدكتور محي الدين فكيني للفترة 1963-1967م قد مددت وذلك لإنهاء المشاريع التي لم تتم مع الاستمرار في مشاريع الخدمات العامة والمنشآت الصحية والتعليمية، بالإضافة إلى مشكلة موازنة الدخل مع المصروفات العامة بعد تضخم العجز في الميزانية العامة وتراكمه طوال السنوات الماضية، بسبب تنفيذ مشاريع لم تدرج في الميزانية أو في خطة التنمية، وخاصة في ميزانية السنة المالية 65-1966م. وهكذا استمرت دراسة خطة التنمية الثانية فترة طويلة. ورغم محاولات الدكتور علي أحمد عتيقة لتعميم فرص التنمية على كل المناطق الليبية، ومراعاة الكثافة السكانية، إلا أن الإقليمية الضيقة، مع الأسف الشديد، التي كانت سائدة في تلك الفترة، كانت تعرقل مشاريع التنمية المدروسة والمدعمة بالإحصائيات الدقيقة، وتشجع مشاريع غير اقتصادية، وإنشاءات عامة وخاصة في مدينة البيضاء، التي كانت تستنزف أموالًا باهظة على حساب مشاريع التنمية، وبدون مراعاة للمخصصات المالية، مما ساعد على إرباك الخزانة.
وقد جرت عدة محاولات للحد من نفقات البند المفتوح الخاص بإنشاءات مدينة البيضاء وذلك بإنشاء مؤسسة البيضاء أسوة بمؤسسة المرج حتى يمكن وضع حد لهذه المصروفات والإنفاق في حدود مخصصاتها، وخصص لها مبلغ كبير في الخطة الخمسية، رغم أنه ينقص كثيرًا عن التقديرات المطلوبة والمصروفات الفعلية والتي كانت أضعاف المبلغ المخصص لها في الميزانية. أما ميزانية مشروع مدينة المرج فكانت مفتوحة أيضًا، ورغم المحاولات لتخفيض التقديرات المالية المخصصة لها، إلا أنها باءت كلها بالفشل، فقد كان المشرفون عن المشروع غير متقيدين بالمخصصات المالية بقدر اهتمامهم بجعل المرج مدينة مثالية. وقد كانت هذه المشاريع من الحساسية بمكان.

ازدواج مشاريع التنمية
كان ازدواج المشاريع الكبرى للمنشآت العامة مضيعة للمال والجهد، مثل إنشاء مدينتين رياضيتين وقاعتين عامتين بنفس السعة والخدمات وفي فترة زمنية واحدة، وكذلك مطارين عالميين متشابهين ومينائين متساويين في كل من طرابلس وبنغازي، بالإضافة إلى إنشاء مطار عالمي في البيضاء، وبناء الموانئ في المدن الساحلية والمدارس والمستشفيات بنفس الحجم والسعة والخدمات دون مراعاة للمتطلبات الفعلية والأخذ في الحسبان توزيع السكان. وكذلك الحال في مجال الطرق والخطوط الهاتفية الدولية والداخلية، والإصرار على أن تكون مراكز المصانع البتروكيميائية في المنطقة الشرقية بحجة قربها من مصادر البترول، رغم معارضة شركات البترول لعدم توفر الإمكانيات الإسكانية والمرافق العامة وبعدها عن السوق الاستهلاكية الرئيسية في طرابلس والموانىء في الشق الغربي من البلاد.
لقد حرمت هذه المشاريع والإنشاءات المزدوجة للمرافق وضخامتها وارتفاع تكاليفها في الخطة الخمسية القطاعين الزراعي والصناعي الهامين من الحصول على الاعتمادات اللازمة، خاصة أن ما خصص لهما في الخطة الخمسية كان يسير وفق ما اتبع في مشاريع إنشاءات المرافق وهو الازدواج بين الإقليمين الشرقي والغربي، ففي القطاع الصناعي كان كلما تقرر إنشاء مصنع في المناطق الغربية أضيف مصنع مشابه له في المنطقة الشرقية، دون اعتبار لعامل التكاليف واتساع السوق والعمالة. وكذلك الحال بالنسبة للقطاع الزراعي حيث توجد مشكلة عويصة، فالمناطق الزراعية في برقة تملكها على الشيوع قبائل بدوية، ليس لديها خبرة في الزراعة لاستغلال هذه الأرض، وكان لابد أن تقوم الحكومة بإدارتها وتمويلها والإنفاق عليها بمساهمات من الميزانية العامة لصالح ملاكها، بينما كانت مزارع الشق الغربي تدار من قبل أصحابها الذين كان بعضهم يقترضون الأموال من المصارف على أسس تجارية.
لم يكتب لهذه المشاريع والإنشاءات التي سبق ذكرها أن تنجز، إلا أنني عندما ذكرت الصعوبات التي تعرضت لها خطة التنمية لم أكن أدعو إلى تركيز الإنشاءات في مدينة أو منطقة معينة، فليبيا واسعة الأرجاء ولابد من الاهتمام بمناطقها المترامية الأطراف، ولكن على أساس تكاملي وليس على أساس تنافسي، والأخذ في الاعتبار الأولويات وعامل الوقت وعوامل الكثافة السكانية والأنشطة الاقتصادية والخدمات المتوفرة، حتى لا تصرف الأموال على منشآت تفوق الاحتياجات الفعلية لها ودون مردود اقتصادي كما حصل في بناء مدارس ومنشآت خدمية ومراكز صحية في مناطق نائية بقيت مهجورة لعدم توفر عدد التلاميذ والسكان والزبائن والخدمات، وكان من الأجدي أن توجه معظم أموال خطة التنمية إلى المشاريع الزراعية والصناعية. ومن الجدير بالذكر هنا أن ليبيا كانت تعتمد على المساعدات الأجنبية في تنميتها وميزانيتها الإدارية منذ استقلالها سنة 1951 وحتى بدأ تصدير البترول أواخر سنة 1961. ورغم أن الإنتاج الليبي للبترول زاد عن ثلاثة ملايين برميل يوميًا في أواخر الستينات، إلا أن دخلها من البترول لم يزد عن بضعة مئات من الملايين من الجنيهات، فقد كان سعر البترول لا يتراوح الدولار الواحد.
































الفصل العاشر

النظام الملكي الليبي.. نظرة عامة

قبل الحكم على النظام الملكي الليبي يجب استعراض الظروف والأسس التي قام عليها. فقد أنشئت المملكة الليبية المتحدة كدولة مستقلة بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة استجابة لرغبات الشعب الليبي، وكانت قبل الاستقلال مقسمة إلى ثلاثة أقاليم تديرها ثلاث إدارات عسكرية بريطانية وفرنسية، بعد تحريرها من الاستعمار الإيطالي في الحرب العالمية الثانية، وتم تنفيذ قرار الأمم المتحدة هذا بواسظة بريطانيا وفرنسا وبإشراف مندوب منظمة الأمم المتحدة المستر أدريان بيلت ومجلس استشاري عينته الأمم المتحدة لمساعدته.
وقد تقرر بعد التشاور مع الأحزاب السياسية القائمة في البلاد آنذاك ومع زعماء البلاد إقامة نظام ملكي اتحادي تحت تاج أمير برقة آنذاك السيد محمد إدريس السنوسي. وكانت السياسة البريطانية تهدف بعد الحرب العالمية الثانية إلى إيجاد بديل لقواعدها في مصر، التي كانت مضطرة للجلاء عنها نتيجة لمقاومة الشعب المصري لها، وذلك بإقامة إمارة سنوسية غربي قناة السويس يحكمها الأمير إدريس السنوسي، ترتبط سياسيًا واقتصاديًا ببريطانيا مثل إمارات دول الخليج العربية. وكانت الفكرة في بداية الأمر تقتصر على برقة ولكن بعد فشل مشروع بيفن ـ سفورزا تقرر تعميمها على كل ليبيا.

دسـتور ضمن الحقوق والحريات.. وركـز السلطات في يـد الملك
إنشاء النظام الملكي واختيار الملك والنظام الاتحادي قرارات تمت بدون استفتاء شعبي، ووضع الدستور عن طريق جمعية تأسيسية معينة بالتساوي بين الأقاليم الثلاثة، ولم ينص الدستور على ضرورة المصادقة عليه باستفتاء عام أو من طرف أول مجلس نيابي منتخب لإعطائه الصبغة الشرعية الديمقراطية. ولضمان إقامة هذا النظام الملكي الاتحادي استدعى الأمر اختيار فئة من السياسيين المعتدلين ترتبط مصلحيًا بهذا النظام، وتتعاون مع الدول التي كانت تدير البلاد، خاصة في المراحل الأولى للاستقلال.
ورغم أن الدستور كان من أحدث الدساتير وأشرف على إعداده أكبر خبراء
القانون الدستوري في العالم، وضمن جميع الحقوق والحريات والتوازن بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، إلا أن صدوره من طرف هيئة معينة، وإرساء نظام اتحادي يحدد اختصاص الاتحاد ويركز السلطات في أيدي الولايات، وينص على إنشاء ثلاث حكومات لثلاث ولايات، وثلاثة مجالس تشريعية، وثلاثة ولاة بالتعيين المباشر بأمر ملكي وليس بمرسوم تصدره الحكومة الاتحادية، ومراعاة المساواة في التمثيل في مجلس الشيوخ المعين بين الولايات وفي الحكومة والمناصب الهامة والرئيسية، كل هذا جعل من الناحية الواقعية تركيز السلطات الحقيقية في يد الملك. وقد تعززت هذه السلطات بمرور الوقت وأصبحت تقليدًا دستوريًا للبلاد.
وبعد حل الأحزاب السياسية، ومنع إنشاء أي تنظيم سياسي وتقييد الصحافة، لم يجد الرأي العام الليبي منصة للتعبير عما كان يجري سوى القيام بالمظاهرات من حين لآخر أو إنشاء تنظيمات سرية. كان الترشيح والانتخاب لمجلس النواب يجري على أساس شخصي فردي وقبلي وإقليمي وليس على أساس برنامج حزبي يعبر عن رغبات فئات الشعب وتطلعاتها وانتماءاتها ومذاهبها. وكان من بين النواب في المراحل الأولي للاستقلال أفراد معروفين بانتماءاتهم الحزبية السابقة يكوّنون ما يعرف بالمعارضة آنذاك. والحقيقة أنه رغم احتكار القرار السياسي، إلا أن البلاد كانت تتمتع بكثير من الحريات الفردية والاقتصادية وحقوق الإنسان ومتطلبات الأمن التي لم تكن توجد في بقية دول العالم العربي آنذاك، وقد أمكن حتى تحدي السلطة أمام القضاء وإصدار أحكام ضدها.

تاريـخ ليـبـيا
ليبيا لها تاريخ طويل وعرفت بهذا الأسم منذ أيام الأغريق وتقاسمتها روما وبيزنطة بعد انقسام الإمبراطورية الرومانية شرقية وغربية، وتوحدت بعد الاحتلال العربي ثم في العهد العثماني والحكم القرامانلي. وعرفت بطرابلس الغرب من الإسكندرية حتى تونس، وحتى احتلال إيطاليا بعد الحرب العالمية الأولي التي أعادت إليها اسمها القديم ليبيا. والشعب الليبي شعب عربي والبربر الذين سكنوا ليبيا قبل الاحتلال العربي استعربوا بالكامل في ما بعد ـ لغة ودمًا ـ ولم تبق سوى نسبة ضئيلة منهم في مناطق زوارة وجبل نفوسة حافظوا على لغتهم الخاصة إلى جانب اللغة العربية.
وقد تعرضت ليبيا إلى ما تعرضت له الشعوب العربية والإسلامية من الغزو والاحتلال الأوروبي، ومرت بظروف متشابهة كان آخرها سيطرة الإمبراطورية العثمانية التي ارتبطت بالعالم العربي بسبب العامل الديني والولاء للخلافة الإسلامية. وقد فشل الحكم العثماني في مواكبة التطور العلمي والتقدم الحضاري، وفي منافسة الدول الغربية القوية مثل بريطانيا وفرنسا وروسيا، التي سيطرت على مناطق واسعة في العالم وأصبحت تطمع في المناطق الواقعة تحت الحكم العثماني، ومنها المنطقة العربية الهامة التي تتحكم في طرق المواصلات بين الشرق والغرب، والتي تخلفت اقتصاديًا وثقافيًا. وأخذت عوامل الضعف تعصف بالإمبراطورية العثمانية حتى انهارت في الربع الأول من القرن العشرين أمام القوى الأوروبية، التي فاقتها تقدمًا وتسليحًا، وساعدها على ذلك قيام القوميات المختلفة في البلاد الواقعة تحت السيطرة العثمانية بالثورة ضدها، وظهور زعامات قومية ووطنية عملت على التخلص من السيطرة العثمانية.
وكان الشعب الليبي هو آخر الشعوب العربية التى حافظت على ولائها للإمبراطورية العثمانية والحرب تحت لوائها، حتى تنازلت تركيا عن ليبيا لإيطاليا نهاية 1912. وسرعان ما سيطر العامل القومي على الليبيين بفضل ما كان يجري في المشرق العربي من حركات وطنية وقومية تحررية ضد الحكم العثماني والاحتلال الأجنبي، وتجلى ذلك في استمرار كفاح الليبيين ضد الاحتلال الإيطالي بعد تخلي تركيا عنهم. وقد تزعمت هذا الكفاح في برقة الحركة السنوسية بزعامة السيد أحمد الشريف السنوسي، ثم الأمير محمد إدريس المهدي السنوسي والشيخ عمر المختار، وقام زعماء مناطق طرابلس فرادى وجماعات بالوقوف في وجه الاحتلال الإيطالي.
وكان للعامل الديني الدور الأكبر في تولي الحركة السنوسية الدور القيادي في الجهاد ضد الاحتلال الأجنبي، ولم تكن للعائلة السنوسية مطامح سياسية لتولي الإمارة والملك
في ليبيا إلا بعد ظهور زعامات سياسية وعروش عربية في المشرق العربي بالتعاون
مع بريطانيا، مما شجع الأمير إدريس السنوسي على تولي قيادة الحركة السنوسية بعد
السيد أحمد الشريف، وقيامه بالتفاوض مع البريطانيين والإيطاليين لإقامة إمارة في برقة تحت إمارته. وكان إخلاص القبائل في برقة وولاؤها للعائلة السنوسية قد أعطاه سندًا قويًا للمطالبة بذلك.
أما في طرابلس فقد كان الخلاف بين زعماء الإقليم وعدم التفافهم تحت زعامة واحدة قد أضعف الكفاح ضد إيطاليا، وأعطاها فرصة للتدخل ومناصرة بعضهم ضد بعض، وقد اضطر هؤلاء أخيرًا إلى مبايعة الأمير إدريس السنوسي لتوحيد البلاد ضد الاحتلال الإيطالي. ولكن تولي الحزب الفاشيستي بزعامة بينيتو موسوليني السلطة في إيطاليا سنة 1922 غيّر موازين القوى، وقررت إيطاليا احتلال ليبيا بالكامل وضمها الى إيطاليا. واستطاعت إيطاليا السيطرة على كل التراب الليبي بعد استشهاد الشيخ عمر المختار في سبتمبر 1931.

الاحتلال الإيطالي
مرت ليبيا تحت الحكم الإيطالي بفترة ركود سياسي، واستطاعت إيطاليا تهجير عشرات الألوف من الإيطاليين إليها، واعتبار ليبيا جزء من إيطاليا. ورغم الاستبداد والعنف ضد الليبيين فقد استطاع الليبيون الحفاظ على شخصيتهم الإسلامية العربية، وفشلت إيطاليا في القضاء على ثقافتهم ولغتهم أو في إقناعهم بقبول الجنسية الإيطالية مع المحافظة على ديانتهم الإسلامية. كانت إيطاليا حليفة لبريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى الأمر الذي مكنها من الاحتفاظ بليبيا كنصيبها من تركة الإمبراطورية العثمانية التي خسرت الحرب.
وكان من حسن حظ ليبيا أن إيطاليا دخلت الحرب إلى جانب المحور ضد بريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الثانية، مما ساعد على فقدان إيطاليا لسيطرتها على ليبيا. واحتلت بريطانيا طرابلس وبرقة، واحتلت فرنسا فزان، تمهيدًا لتقسيم ليبيا بعد الحرب بينهما. إلا أن أمريكا أرادت أن تستفيد أيضًا بالحصول على طرابلس، أو إرجاعها الى إيطاليا تعويضًا لها على ثورتها ضد موسوليني في المراحل الأخيرة من الحرب، ولدعم الحكومة الإيطالية اليمينية للوقوف ضد الحزب الشيوعي الإيطالي القوي الذي كانت تسنده روسيا، ولكن مطالبة روسيا أيضًا بالوصاية على إقليم طرابلس، ومنعًا للتنافس بين الدول الكبرى أحيل مصير ليبيا إلى الأمم المتحدة.

السياسة البريطانية وضم ليبيا إلى منطقة نفوذها في الشرق الأوسط
كانت بريطانيا، وهي تخوض معركة الحياة والموت ضد ألمانيا تفكر في إمبراطوريتها في الشرق الأوسط، ووجدت أن احتلال ليبيا قد يساعد على وضع مصر وسوريا وفلسطين ـ وهي الدول التي كان يتوقع تمردها على الاحتلال الأجنبي ـ بين كفي كماشة قواعدها في الخليج العربي وليبيا. وفعلًا بعد الحرب أعلنت بريطانيا عن رغبتها في البقاء في برقة شرقي ليبيا تلبية لوعدها للأمير إدريس السنوسي بعدم عودة برقة للاستعمار الإيطالي، مقابل مشاركة جيش التحرير السنوسي في المعركة ضد إيطاليا، بينما استمرت في المناورات الدبلوماسية دوليًا وفي داخل ليبيا للاحتفاظ بسيطرتها على كل ليبيا، شمالها وجنوبها. اتبعت بريطانيا سياسة مخالفة لسياسة إيطاليا في ليبيا فسمحت لليبيين بحرية التعبير وإنشاء النوادي الاجتماعية والأحزاب السياسية، مما شجع الحركة القومية والوطنية للمطالبة بالاستقلال والوحدة والانضمام لجامعة الدول العربية بمقتضى حق تقرير المصير، والتجاوب مع الاشقاء العرب في كفاحهم القومي من أجل التحرر والوحدة العربية.
بعد تنازل إيطاليا عن مستعمراتها السابقة في معاهدة الصلح فشلت الدول الأربع الكبرى، بريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا، في الاتفاق على تقرير مصير ليبيا، وتقرر إحالة الموضوع إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث تجدد الخلاف بين الداعين الى تأييد استقلال ليبيا والدول الاستعمارية الداعية إلى تقسيمها ووضعها تحت الوصاية. وقد فشل مشروع بيفن ـ سفورزا لتقسيم ليبيا بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا عند التصويت عليه بصوت واحد، هو صوت دولة هايتي التي صوت مندوبها (إميل سان لو) ضد القرار مخالفًا بذلك تعليمات حكومته بتأييد المشروع.
وبفضل معارضة دول الجامعة العربية والدول الإسلامية والآسيوية وروسيا ورد فعل الشعب الليبي المعارض للقرار، ومساندة بريطانيا من وراء ستار، رغم أنها كانت إحدى الدولتين المقدمة لمشروع بيفن ـ سفورزا، رفضت الجمعية العامة للأمم المتحدة المشروع، ووافقت في 21 نوفمبر 1949 على أن تصبح ليبيا دولة مستقلة ذات سيادة في موعد لا يتجاوز أول يناير 1952، وإيفاد المستر أدريان بيلت الهولندي الجنسية مندوبًا للأمم المتحدة يساعده مجلس من ست دول وأربعة أعضاء ليبيين لمساعدة الشعب الليبي لوضع دستور الدولة الجديدة، ويطلب من الدول القائمة بالإدارة، بريطانيا وفرنسا، تنفيذ هذا القرار بإشراف مندوب الأمم المتحدة.
ورغم إجماع الشعب الليبي على المطالبة بالاستقلال والوحدة أثناء نظر القضية في مؤتمر الصلح ثم في الأمم المتحدة، إلا أن خلافًا كبيرًا نشب بين زعماء برقة وزعماء طرابلس حول الوضع الدستوري لإمارة السيد محمد إدريس السنوسي على البلاد، وكذلك بين زعماء طرابلس في ما بينهم، وكان ذلك قبل وبعد صدور قرار الأمم المتحدة. واستمر هذا الخلاف خلال فترة الإعداد للاستقلال ووضع الدستور وتأليف أول حكومة ليبية.

بداية النشاط السياسي الليبي بعد الاحتلال البريطاني
كان النشاط السياسي في ليبيا قد بدأ بعد الاحتلال البريطاني مباشرة، وتمثل في البداية في إنشاء النوادي الثقافية ثم إنشاء الأحزاب السياسية، مما شجع عودة المهاجرين الليبيين من الخارج للمشاركة في المطالبة بالاستقلال والوحدة، وكان على رأس هؤلاء العائدين الأمير محمد إدريس السنوسي إلى برقة والسيد بشير السعداوي إلى طرابلس. رجع السيد بشير السعداوي إلى ليبيا في يناير 1948 على رأس هيئة تحرير ليبيا التي تألفت من بعض زعماء طرابلس وبرقة، وبدعم من السيد عبدالرحمن عزام باشا أمين عام جامعة الدول العربية ومصر، وكان الهدف من مجئ هيئة التحرير تنسيق مواقف زعماء ليبيا في مطالبة اللجنة الرباعية، التي أرسلتها الأمم المتحدة لتحري رغبات الشعب الليبي، بأمور ثلاثة والمتمثلة في الوحدة والاستقلال والانضمام إلى الجامعة العربية.








السيد بشير السعداوي في مهرجان خطابي بطرابلس سنة 1950م

وقد دب الخلاف بين زعماء برقة وطرابلس حول الإمارة. فزعماء طرابلس كانوا يرون أن المناداة بالسيد إدريس السنوسي أميرًا على ليبيا يجب أن تتم بطريقة دستورية عن طريق استفتاء عام، والمطالبة باستقلال ليبيا الموحدة ورفض أي حل لتقسيم ليبيا واستقلال جزء معين دون الآخر. أما زعماء برقة فأصروا على المناداة بإمارة السيد إدريس السنوسي بلا قيد أو شرط، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أي استقلال برقة إذا تعذرت الموافقة على استقلال كل ليبيا، والعمل سويًا مستقبلًا على استقلال بقية أجزاء ليبيا طرابلس وفزان ووحدتها. إلا أن السيد بشير السعداوي، ليضمن موافقة برقة ويحول دون الانفصال الذي كان يشجعه كثير من زعماء برقة، والذي بدأت طلائعه بإعلان حكومة في برقة دون انتظار تنفيذ استقلال ليبيا، انفرد بقبول مبدأ إمارة السيد إدريس السنوسي، وعذره في ذلك هو منع تقسيم ليبيا إلى ثلاث دول قزمية، وأعلن ذلك صراحة، مما أدى إلى خلافه مع الجامعة العربية وأمينها العام عبدالرحمن عزام باشا وبقية الأحزاب الطرابلسية.
وأنشأ السيد بشير السعداوي بعد ذلك المؤتمر الوطني العام على أنقاض الجبهة الوطنية المتحدة بعد استقالة السيد سالم المنتصر من رئاستها، وتأليفه لحزب الاستقلال الذي ساندته ودعمته إيطاليا وشجعته الجامعة العربية بزعامة عزام باشا، بهدف معارضة السيد بشير السعداوي والسياسة البريطانية الرامية إلى الاحتفاظ بسيطرتها على كل ليبيا تحت التاج السنوسي، وربطها بحلف عسكري وأمني وإبقاء قواتها للحفاظ على ما تبقى لها من نفوذ في الشرق الأوسط.
ولم يكن زعماء وأحزاب طرابلس، وخاصة حزب الاستقلال، أقل تمسكًا
بمبدأ إمارة السيد إدريس السنوسي من السيد بشير السعداوي، ولكنهم كانوا أكثر حيطة وحرصًا على ضرورة إقرارها دستوريًا، وربطها بنظام ديمقراطي نيابي، للحيلولة دون قيام حاكم مطلق في المستقبل ينفرد بالقرار. وأدى قبول السيد بشير السعداوي للإمارة بدون قيد أو شرط إلى تحقق ما كانت الأحزاب الطرابلسية تخشاه، وهو إعلان الدستور عن طريق جمعية تأسيسية معينة، والموافقة على النظام الفيدرالي، وإعطاء الملك سلطات غير محدودة، وخلق ولايات شبه مستقلة مرتبطة بالملك رأسا للحد من سلطة الاتحاد. كما أن بريطانيا عملت بالتشاور مع الأمير إدريس السنوسي على إزاحة السيد بشير السعداوي نفسه من أي دور في الحكومة المقبلة، نظرًا لشعبيته التي قد تجعل منه الحاكم الفعلي المطلق إذا كلف بتشكيل الحكومة.
وكان قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة باستقلال ليبيا بدأية مرحلة من أهم مراحل الحركة الوطنية في ليبيا وبدأت بريطانيا في كشف مخطاطاتها. فبعد أن أسست إمارة سنوسية في برقة أخذت تعمل لتحقيق هدفها الأوسع وهو خلق مملكة في كل ليبيا تحت التاج السنوسي، وهذا استدعى التدخل في الحركة الوطنية، واختيار الزعماء ذوي الطموح والمخلصين للسيد إدريس السنوسي ولبريطانيا لوضع دستور، يضمن سلطة الملك ويحافظ على كيان ولاية برقة وشخصيتها كوحدة سياسية شبه مستقلة، واختيار حكومة موالية لتسيير شئون البلاد، والدخول في حلف دفاعي وأمني مع بريطانيا. وقد لاقت هذه السياسة تأييدًا من أمريكا ومن فرنسا بعد أن ضمنتا الحصول على امتيازات وتسهيلات عسكرية، الأولى في طرابلس والثانية في فزان، بينما لاقت معارضة شديدة من طرف الدول العربية والإسلامية وإيطاليا والاتحاد السوفيتي والدول الشيوعية الأخرى.

اختيار النظام الفيدرالي لليبيا
وجدت بريطانيا في النظام الفيدرالي ضالتها بمساعدة المستر أدريان بيلت مندوب الأمم المتحدة في ليبيا، فالدستور الفيدرالي يوزع السلطات بين الولايات، ويمنع سيطرة الحكومة الاتحادية على شئون البلاد، ويجعل القرارات الهامة خاضعة لموافقة المجالس التشريعية والتنفيذية في الولايات الثلاث، مما يضعف سلطات الحكومة الاتحادية، وبمعنى آخر تستطيع ولايتا برقة وفزان، وعدد سكانهما يقل عن ثلث سكان ليبيا، فرض رأيهما على ولاية طرابلس التي تضم أغلبية سكان البلاد.
وما أن وضحت هذه السياسة حتى هب الشعب في طرابلس بزعامة السيد بشير السعداوي ضدها. وقد شعر السيد بشير السعداوي بأن الإدارة البريطانية خدعته واستغلته لإقامة نظام ملكي فردي يملك فيه الملك ويحكم، وأبعدته عن المشاركة في سلطة اتخاد القرار، مما سهل الاستغناء عنه والاستعانة بزعامات أخرى ترتبط بالنظام الفيدرالي بروابط المصلحة. وكان النظام الفيدرالي المقترح يرمي إلى تقسيم البلاد الى ثلاث دول شبه مستقلة ترتبط فيدراليًا برباط ضعيف، ويجعل سلطة القرار الحقيقية في يد الملك. فالملك وحده يعين رئيس الوزراء والحكومة الاتحادية وكبار المسئولين دون الرجوع إلى مجلس الأمة، ويعين الولاة ورؤساء وأعضاء المجالس التنفيذية للولايات بأوامر ملكية دون موافقة الحكومة الاتحادية ومجلس الأمة والمجالس التشريعية للولايات.
وقد اضطر السيد بشير السعداوي إلى أن يتحول إلى المعارضة، وأعلن معارضته لتأليف الجمعية الوطنية التأسيسية بالتساوي بين الولايات وبغير انتخابات، كما عارض اختيار الجمعية الوطنية التأسيسية للنظام الفيدرالي، رغم أنه هو الذي كلف من طرف مندوب الأمم المتحدة بتعيين عضو طرابلس في المجلس الاستشاري لمندوب الأمم المتحدة، وكذلك تعيين أعضاء طرابلس السبعة في لجنة الواحد والعشرين التي مهدت لإنشاء الجمعية الوطنية التأسيسية، وذلك اعترافًا بزعامته لولاية طرابلس مثله مثل الأمير إدريس السنوسي في برقة والسيد أحمد سيف النصر في فزان، وقد أدى تحوله الى المعارضة إلى تخلي بريطانيا عنه. وأدى الخلاف بين الإدارة البريطانية والأمير إدريس من جانب والسيد بشير السعداوي من جانب آخر إلى انشقاق عدد كبير من أعضاء المؤتمر الوطني برئاسة نائب رئيس المؤتمر مفتي ليبيا الشيخ محمد أبوالأسعاد العالم. وكان من بين المنشقين عن حزب المؤتمر كبار التجار وكبار موظفي الإدارة البريطانية من الليبيين وعمداء البلديات ومشايخ القبائل وأعيان الدواخل الذين يتبعون دائمًا سياسة الإدارة الحاكمة حماية لمصالحهم. ولكن مع هذا بقت أغلبية جماهير الشعب في مدينة طرابلس والمدن الكبرى والعمال والشباب والطلاب والمثقفون مخلصة للمؤتمر الوطني ورئيسه السيد بشير السعداوي.
وقد أدى هذا الوضع إلى دخول السيد بشير السعداوي في صراع مع الإدارة البريطانية ثم مع الحكومة والسلطات الليبية المؤقتة، وخاصة خلال الانتخابات الأولى التي فاز فيها مرشحوا المؤتمر الوطني برئاسة السيد السعداوي في مدينة طرابلس، بينما فاز مرشحوا المنشقين عنه وعن المؤتمر الوطني مع عدد قليل من مرشحي حزب الاستقلال في دواخل البلاد بمساندة السلطات المحلية، مما أدى الى قيام مظاهرات في طرابلس متهمة الحكومة بالتدخل. وقد تطورت هذه المظاهرات إلى اشتباكات مع الشرطة اضطرت معها الحكومة إلى اتخاد إجراءات صارمة، مما أدي إلى سقوط ضحايا من المدنيين، وأبعدت السيد بشير السعداوي خارج ليبيا بحجة أنه سعودي يحمل جواز سفر المملكة العربية السعودية وكذلك أعوانه من المصريين.
وكانت الجامعة العربية قد عارضت سياسة بريطانيا في ليبيا منذ البداية، وأرسلت وأيدت السيد بشير السعداوي على رأس هيئة تحرير ليبيا ليتولى هذه المعارضة داخل ليبيا، والمناداة بالاستقلال والوحدة والانضمام للجامعة العربية، لكن الجامعة العربية عارضته وتخلت عنه عندما تعاون مع بريطانيا في قبول إمارة السيد إدريس السنوسي دون قيد أو شرط. واضطرت الجامعة العربية إلى التعاون مع حزب الاستقلال وإيطاليا للوقوف في وجه السياسة البريطانية. ولكن تحول السيد بشير السعداوي بعد ذلك إلى معارضة السياسة البريطانية من جديد، جعل الجامعة العربية تبارك خطواته في معارضته لإقرار النظام الفيدرالي وتأليف الجمعية الوطنية التأسيسية بالتعيين وبالتساوي بين أقاليم ليبيا الثلاثة، بينما تخلى زعماء حزب الاستقلال بدورهم عن معارضتهم للسياسة البريطانية وقبلوا المشاركة في دعم النظام الفيدرالي وتعزيز سلطات الملك رغبة في المشاركة في الحكم.








17 ديسمبر 1950م: شباب جمعية عمر المختار يتقدمون مظاهرة شعبية في بنغازي للمطالبة بالاستقلال الكامل لليبيا ووحدة البلاد تحت العرش السنوسي

وتجاوبت جماهير الشعب في طرابلس وحتى في بنغازي ودرنة بزعامة جمعية عمر المختار لمعارضة النظام الفيدرالي. ورغم معارضة الشعب العارمة، والجامعة العربية، وبعض أعضاء المجلس الاستشاري التابع لمندوب الأمم المتحدة، استمرت بريطانيا بالتعاون مع الملك وزعماء حزب المؤتمر المنشقين عن السيد السعداوي برئاسة مفتي ليبيا السيد محمد أبوالأسعاد العالم، وحزب الاستقلال بزعامة السيد سالم المنتصر، والمستقلين بزعامة السيد محمود المنتصر. وكان هؤلاء جميعًا يمثلون الزعامات التقليدية والوجوه السياسية المعروفة في مناطق طرابلس، لكنهم يفتقدون إلى دعم وتأييد رجل الشارع الليبي العادي، وقد تم اختيار أعضاء طرابلس في الجمعية الوطنية التأسيسية منهم.
كما اختيرت شخصيات عرفت بحيادها بين الأحزاب في الماضي لقيادة أول حكومة مؤقتة في طرابلس برئاسة السيد محمود المنتصر، وهو مستقل. ولم يكن أعضاء برقة وفزان في الجمعية الوطنية التأسيسية يعارضون الخطوات التي اتخذتها الجمعية الوطنية التأسيسية فكل قراراتها، بما فيها الدستور الفيدرالي، وافق عليها الأمير آنذاك إدريس السنوسي مقدمًا قبل عرضها على الجمعية الوطنية التأسيسية بالاتفاق مع الإدارات الحاكمة البريطانية والفرنسية وممثل الأمم المتحدة المستر أدريان بيلت.
إن الأسلوب الذي سلكته بريطانيا وسياستها في إضعاف الحركة الوطنية وتشتيت جبهاتها وإقامة دولة ملكية كغيرها من الإمارات العربية التي ترعاها بريطانيا في المشرق العربي، كانت تتعارض مع رغبات أغلبية الشعب الليبي، ومخالفة لقرارات الأمم المتحدة ومبادىء الديمقراطية، واستطاعت بريطانيا أن تضمن موافقة فرنسا وأمريكا وكذلك المستر أدريان بيلت مندوب الأمم المتحدة، الذي اضطر للموافقة على هذه الخطوات حرصًا على تنفيذ قرار الأمم المتحدة باستقلال ليبيا في موعده المحدد تبريرًا لموافقته كما يقول.
السيد محمود المنتصر والسيد بشير السعداوي
أخذ على السيد محمود المنتصر أنه أبعد الزعيم بشير السعداوي من ليبيا، ولكن الحقيقة أن السيد محمود المنتصر لم يفكر في مثل هذا الإجراء بتاتًا، لأنه من طرابلس ويعرف شعبية السعداوي فيها ولا يستطيع المجازفة بإبعاده، لأن ذلك يعرضه إلى غضب جماهير الشعب في طرابلس. وحتى البريطانيين أنفسهم الذين ساعدوا في تقليص نفوذ السيد السعداوي، وعدم أخذ رأيه في تعيين أعضاء طرابلس في الجمعية التأسيسية وفي تأليف الحكومة المؤقتة، لم يفكروا في إبعاده تخوفًا من رد الفعل الشعبي لمثل هذا الإجراء، وكذلك رغبة بريطانيا في إبقائه في المعارضة مهمشًا لاستخدامه عند الحاجة للتحكم في تصرفات الملك إدريس. ولكن الملك إدريس اتخذ قرارًا صارمًا من تلقاء نفسه بعد أن شعر بأن السعداوي أصبح خطرًا عليه، ووصوله إلى الحكم في انتخابات شعبية سيقوي مركزه، ويجعله يسيطر على شئون البلاد ويهدد سلطات الملك، وربما يعمل على إلغاء النظام الاتحادي وفرض رأي الأغلبية الطرابلسية في البرلمان.
ولهذا قرر الملك إبعاد السيد السعداوي في أقرب فرصه. فحرمه أولًا من دوره في تأليف الحكومة المؤقتة التي كان السيد بشير السعداوي يتوقع أن يكلف بها، فهو زعيم أغلبية الشعب الليبي في طرابلس وهو الذي بايع الأمير إدريس السنوسي، كما أنه كلف من طرف المستر أدريان بيلت مندوب الأمم بمهمة تعيين عضو طرابلس في المجلس الاستشاري لمندوب الأمم المتحدة وأعضاء طرابلس في لجنة الواحد والعشرين اعترافًا بمركزه المساوي للسيد أحمد سيف النصر في فزان والسيد إدريس السنوسي في برقة اللذين عينا بدورهما أعضاء فزان وبرقة في المجلس الاستشاري ولجنة الواحد والعشرين. ولما عارض السيد بشير السعداوي تأليف الجمعية التأسيسية بالتعيين بدلًا من الانتخاب وبالتساوي بين الولايات الثلاث بصرف النظر عن حجمها السكاني، سحبت الإدارة البريطانية والأمير إدريس والمستر أدريان بيلت ممثل الأمم المتحدة ثقتهم في السيد بشير السعداوي كزعيم لطرابلس، وأسندوا بالتشاور فيما بينهم مسئولية تعيين أعضاء طرابلس العشرين في الجمعية التأسيسية إلى سماحة مفتي ليبيا الشيخ محمد أبو الأسعاد العالم بدلًا من السيد بشير السعداوي.
وقد سنحت للملك إدريس فرصة المظاهرات والأعمال التخريبية التي قامت بها جماهير المؤتمر الوطني بعد أول انتخابات برلمانية بإصدار أوامره إلى رئيس حكومته السيد محمود المنتصر لاتخاذ قرار بإبعاد السيد بشير السعداوي، خاصة وأنه يعلم أنه يحمل الجنسية السعودية وجواز سفر سعودي. وقد جاءت الوثائق البريطانية التي نشرت بعد مضي 30 عاماً عليها مؤيدة لما ذكر أعلاه. فقد جاء في برقيتين من رافانديل المسئول عن السفارة البريطانية في برقة إلى السفير البريطاني السير أليك كيركبرايد ما يلي:

FO1021/55
21/2/1952م
Ravendale to the Ambassador
قابلت رئيس الوزراء محمود المنتصر في مطار بنينة اليوم بعد مقابلته للملك وأكد لي أن الملك مصمم بشكل قاطع على نفي زعيم المعارضة السيد بشير السعداوي حالًا. وكان محمود المنتصر يحاول عدم اتخاذ مثل هذا القرار لأثاره الخطيرة في ولاية طرابلس التي يتمتع السعداوي فيها بأغلبية شعبية ولكنه لا خيار له سوى قبول قرار الملك.

FO1921/55
21/2/1952م
Ravendale to the Ambassador
قابلت جلالة الملك إدريس بطلب منه وأبلغني بأن قراره النهائي هو التخلص من بشير السعداوي وأعوانه غير الليبيين بالنفي حالًا، ويريدك أن تعرف بأنه اتخذ الخطوات التالية وأمر رئيس الوزراء بتنفيذها:-
- النفي حالًا لزعيم المعارضة بشير السعداوي ومعاونيه غير الليبيين.
- على الشرطة الليبية بذل جهد أكبر للسيطرة على النظام بوسائلهم الخاصة.
- طلب تدخل القوات البريطانية في حالة فشل الشرطة الليبية في إعادة النظام إلى حالته الطبيعية.

رأي المستر أدريان بيلت في النظام الفيدرالي
كان عذر المستر أدريان بيلت في تأييده للنظام الفيدرالي ـ كما سمعت منه شخصيًا عندما زرته في جنيف سنة 1965م ـ أن التوفيق كان مستحيلًا بين الدعوة إلى وحدة البلاد التي تؤيدها أغلبية الشعب الليبي في طرابلس، ورغبة ولاية برقة في المحافظة على شخصيتها وكيانها السياسي تحت إمارة السيد إدريس السنوسي. ورغم أن الأمير إدريس بويع من طرف زعماء طرابلس دون قيد أو شرط قبل وضع الدستور، إلا أنه استمر في انحيازه إلى برقة في كل طلباتها أثناء الإعداد للاستقلال.
وقد كان اختيار النظام الفيدرالي الحل العملي لتنفيذ قرار الأمم المتحدة باستقلال ليبيا في التاريخ الذي حددته الجمعية العامة للأمم المتحدة وهو أول يناير سنة 1952م. وكان المستر بيلت يخشى استمرار الخلاف بين زعماء طرابلس، المنقسمين على أنفسهم، وزعماء برقة بقيادة الأمير إدريس السنوسي، مما قد يؤدي إلى إعادة موضوع مستقبل ليبيا إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك لم يكن في صالح ليبيا، لأن إعادة القضية الليبية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة قد يثير موضوع وضعها تحت الوصاية من جديد، وتأجيل البت في استقلالها، ولهذا كان هدف المستر بيلت هو استقلال ليبيا قبل أي اعتبار آخر. أما قضية وحدة البلاد فيمكن تحقيقها مستقبلًا. ولا شك أن هذا العذر كان غير منطقي في ذلك الوقت، فقد كان في استطاعة المستر بيلت أن يفرض اختيار الجمعية الوطنية التأسيسية بالانتخاب لوضع الدستور وعرضه على الاستفتاء الشعبي، بدلًا من تأليف الجمعية الوطنية التأسيسية بالتعيين، والموافقة على الدستور دون الرجوع إلى الشعب، مما يخالف مبادىء الأمم المتحدة والديمقراطية وحقوق الإنسان.

وحـدة ليـبـيا
إن ما توقعه المستر بيلت لوحدة ليبيا مستقبلًا كان قد تحقق فعلًا. فمع مرور السنوات تقررت وحدة ليبيا الكاملة بدون استفتاء شعبي أو مبادرة من مجلس الأمة، بل تحققت باقتراح من الملك نفسه بعد سيطرته الكاملة على السلطة، وتم ذلك في أواخر عهد حكومة السيد محمد عثمان الصيد وبداية عهد الدكتور محي الدين فكيني، وكان ذلك كما قيل بتوصية من أمريكا، خدمة لشركاتها وتحاشيًا لتطور الخلاف بين ولايتي برقة وطرابلس حول استغلال الحقول البترولية واستخدام موانئ شحن البترول المتداخلة على الحدود بين الولايتين.
لا شك أن قرار الوحدة استُقبل بالترحيب على كل المستويات الشعبية والعربية، لكن الوحدة رغم أنها قررت في الدستور، وألغيت حكومات الولايات، وقسمت البلاد إلى محافظات، إلا أن الملك حرص على استمرار ما أرساه النظام الفيدرالي من أسس في توزيع السلطات، مثل التعيينات المتساوية بين طرابلس وبرقة لأعضاء مجلس الشيوخ ومجلس الوزراء والمجالس المنبثقة عنه، وفي المخصصات المالية، وحصر التعيينات في المناصب السيادية مثل الأمن والدفاع والجيش والخارجية في أياد معينة من ولاية برقة، مما جعل جماهير الشعب في طرابلس لا تشعر بحصول تغيير في نظام الحكم الفيدرالي.

الدستور الليـبي
رغم الثغرات التي كانت في الدستور الليبي فقد كان من أحدث الدساتير الديمقراطية، ولكن تنفيذه كان يحتاج إلى إدارة حديثة تشرف على انتخابات حرة وترعى الحريات، وحقوق الإنسان، وحفظ التوازن بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية دون تدخل من الملك الذي كان من المفروض أن يملك ولا يحكم حسب الدستور. ولكن الملك وضع كل السلطات في يده عندما بويع من الشعب حتى قبل وضع الدستور، ثم حل الأحزاب السياسية بعد أول انتخابات نيابية، ولم يعد للشعب منصات شعبية يبدي فيها رأيه في حكم البلاد، وأصبحت الانتخابات تجري على أساس فردي وقبلي ومساومات بين النواب والحكومة، ولا ترتبط ببرامج مسبقة يطالب بها الشعب، ولم يعد للدستور احترامه الملزم لجميع الأطراف، مما شجع الولايات على تجاهل اختصاصات وسلطات الاتحاد والانفراد بالسلطة المستمدة رأسًا من الملك.
وكما أوضحت، وافقت الجمعية الوطنية التأسيسية التي عين أعضاؤها بالتساوي 20 عضوًا من كل ولاية. وقد عين أعضاء برقة الملك إدريس وأعضاء طرابلس عينهم مفتي ليبيا بصفته رئيس الفريق المنشق على المؤتمر الوطني، وقد شمل ضمن من اختارهم بعض أعضاء من حزب الاستقلال ومن المستقلين، بينما كانت الأغلبية منهم من أعضاء المؤتمر الوطني المنشقين عن السيد بشير السعداوي، وتم ذلك بالتشاور مع الإدارة البريطانية والمستر بيلت. أما أعضاء ولاية فزان فقد عينهم حاكم فزان السيد أحمد سيف النصر بالتشاور مع الإدارة الفرنسية وموافقتها. ولم يكن في استطاعة أحد من الأعضاء المعينين في الجمعية الوطنية التأسيسية أن يعارض أو يناقش مشروع الدستور الفيدرالي الذي أعد مقدمًا وعرض عليهم للموافقة، رغم المناقشة الحامية التى تمت في الجمعية التأسيسية حوله، ومعارضة الجماهير الشعبية والمؤتمر الوطني برئاسة السيد بشير السعداوي، والأحزاب الطرابلسية الأخرى، وجمعية عمر المختار في برقة وممثلي مصر، وباكستان وولاية طرابلس في المجلس الاستشاري التابع للأمم المتحدة.
لم يعرض الدستور في استفتاء عام كما كان يجب، وإنما فرض على الشعب دون النص حتى على إمكانية تعديله من أول مجلس نواب منتخب. كما أن إمكانية تعديله مستقبلًا قيد بشروط لا يمكن توفرها من الناحية العملية، ومنها موافقة ثلثي مجلس النواب، وموافقة الولايات الثلاث ومجالسها التشريعية ومجلس الشيوخ المؤلف بالتساوي بين الولايات. كما حدد الدستور اختصاصات الاتحاد وترك ما لم ينص عليه للولايات، كما نص على ربط الولايات رأسًا بالملك الذي أصبح ملكًا على ليبيا وفي نفس الوقت ملكًا فعليًا لكل من ولايات طرابلس وبرقة وفزان يعين ولاتها ومجالسها التنفيذية ويوافق على تشريعاتها دون موافقة الحكومة الاتحادية، بل أكثر من ذلك، احتفظ الملك بلقب أمير برقة مما يمهد الطريق للانفصال في حالة أية معارضة من ولاية طرابلس للدستور الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية التأسيسية.

استقلال ليـبـيا
أعلنت ليبيا استقلالها، وقد تم فعلًا قيام دولة ملكية تحت التاج السنوسي، وكان لابد من إرساء دعائم النظام في وجه معارضة شعبية لازالت قوية يقودها حزب المؤتمر بزعامة السيد بشير السعداوي، الذي كان في أوج قوته. ولم يكن أمام الحكومة المؤقتة التي ألفها الملك والجمعية الوطنية التأسيسية من خيار لاستقرار نظام الحكم، سوى العمل على هزيمة المعارضة المتمثلة في حزب المؤتمر الوطني برئاسة السيد بشير السعداوي في أول انتخابات نيابية. ولما كان من الصعب هزيمته في مدينة طرابلس وغيرها من المدن حيث كانت الجماهير الشعبية واعية لما يخطط لها، كان لا بد من العمل على هزيمته في الدواخل والريف في ولاية طرابلس، حيث التعصب القبلي والعشائري لا يزالا على أشدهما، وانعدام الرأي العام فيها، وقلة عدد المثقفين الواعين، وسهولة تسخير مشايخ القبائل ورجال الإدارة المحلية للتأثير على المواطنين العاديين والفلاحين وقبائل البدو للتصويت لمرشحي الحكومة. وهكذا ضمنت الحكومة أصوات الأغلبية في هذه المناطق، وفازت الشخصيات المحلية والعناصر المنشقة عن المؤتمر الوطني وبعض أعضاء حزب الاستقلال.
وكما كان متوقعًا انضم نواب طرابلس المنتخبون إلى نواب برقة وفزان وكونوا أغلبية في مجلس النواب مؤيدة للحكومة المؤقتة. وكانت المعارضة تتألف من عدد قليل من النواب من بينهم نواب طرابلس الخمسة الذين فازوا في الانتخابات عن المؤتمر الوطني، ومن المؤيدين للسعداوي، وهم السادة مصطفي السراج، عبدالعزيز الزقلعي، محمد الزقعار، مصطفى ميزران والشيخ عبدالرحمن القلهود.
وقد استُقبلت نتيجة الانتخابات باستياء واحتجاجات شعبية في طرابلس جرت فيها حوادث شغب واضطرابات عارمة استخدمت الحكومة فيها العنف للسيطرة عليها وقمعها بالقوة، واتهمت الحكومة عناصر المؤتمر الوطني بزعامة السيد بشير السعداوي بالقيام بحركة للإطاحة بالنظام، وقررت على إثر ذلك إبعاد السيد بشير السعداوي بحجة جنسيته السعودية ومساعديه من المصريين خارج البلاد، كما تعرض أتباعه الليبيين المقربين في المؤتمر الوطني للسجن.
وبقيام مجلس نيابي موال للحكومة المؤقتة والملك بادرت الحكومة البريطانية بالتعاون مع الملك للطلب من الحكومة الليبية الجديدة بتوقيع معاهدة صداقة مع بريطانيا، والدخول في تحالف معها والموافقة على بقاء القوات البريطانية في ليبيا مقابل مساعدة مالية لتغطية عجز الميزانية الليبية. وفعلًا تمت مصادقة البرلمان على المعاهدة البريطانية الليبية والاتفاقية المالية المرفقة بها. وكذلك تم الاتفاق مع أمريكا لبقاء قواتها في مطار الملاحة مقابل دعم مالي للتنمية في ليبيا، كما ضمنت مصالح فرنسا في فزان ومصالح الأقلية الإيطالية في ليبيا.

أسلوب الملك إدريس السنوسي في الحكم
الأسلوب الذي اتبعه الملك في تعيين رؤساء الحكومات والوزراء وإقالتهم واستبدالهم أحيانًا بخصومهم السياسيين، دون الرجوع إلى مجلس النواب، شجع التنافس بين الطامحين في الحكم والتباري في إرضاء الملك وقبول تعليماته وتوجيهاته دون مناقشة. وكان إلغاء الأحزاب السياسية قد ساعد على عدم وجود سياسيين يعتمدون على قاعدة شعبية قادرين على الوقوف ضد تدخل الملك وحاشيته، وإبداء رأيهم بصراحة في شئون البلاد، ومعارضة أية تعليمات لا تتمشى ورغبات الشعب. ومنع الملك رؤساء الحكومات والوزراء التكلم باسم الشعب على اعتبار أنه هو الممثل الشرعي الوحيد للشعب، وهكذا أصبح هم الحكومات الليبية المتوالية هو إرضاء الملك وتنفيذ تعليماته.
كانت سياسة الملك تهدف إلى عدم تمكين أي شخص من الوصول إلى مركز يمكنه من زعامة الشعب كما استطاع السيد بشير السعداوي، ولهذا ألغى الأحزاب وواصل ترسيخ سلطته، حتى أصبح يعتقد أن من واجب جميع المسئولين العمل بتعليماته في إدارة شئون البلاد، ومن واجب مجلس الأمة السير بسياسته في تشريعاته وقراراته. وأصبح من حقه التدخل في شئون الحكم، وتعيين من يشاء في المناصب الهامة والحساسة من أهل الثقة، دون مراعاة الخبرة والمعرفة، وبذلك فقدت هذه المناصب حيادها وهيبتها وفاعليتها واستغلت للمصالح والأهواء مما عجل بنهاية النظام.
الغريب في السياسة أن غرور السلطة والحكم يسيطر على الحاكم الذي لا رقابة عليه، حتى الإنسان المتقشف النزية مثل الملك إدريس لا ينجو من ذلك. ويتداول المحيطون بالملك إدريس قصة أن الفريق محمود أبو قويطين قال للملك يومًا: "نريد بناء بيوت إلى جانب القصر للجنود والضباط الذين يحمونك ويحرسونك يا سيدي"، فتوقف الملك عند كلمة يحمونك ويحرسونك وقاطع أبوقويطين في الحال وقال له: "والله يا سي محمود مش عارفين مين يحمي من، أنتم تحموني أو أنا الذي أحرسكم وأحميكم وأسبغ عليكم السلطة والهيبة".
ورغم تعيين الملك للمقربين منه ومن كان في خدمته في المهجر قبل الاستقلال في وظائف هامة في الدولة واستمرار رعايته لهم، إلا أنه لم يعامل كل السياسيين الذين خدموه بإخلاص واحترام كرؤساء الحكومات والوزراء والموظفين الكبار وكبار ضباط الأمن والجيش نفس المعاملة. فمعظم الساسة الذين تولوا الحكم والموظفون في المراكز القيادية وكبار ضباط الأمن والجيش أهملوا بعد خروجهم من مناصبهم. وتعرض بعضهم إلى ملاحقة خصومهم الذين تولوا الحكم بعدهم، وبذلك لم يعد أحد من هؤلاء يشعر بالأمن على نفسه، والولاء للملك، والنظام والتفت كل منهم إلى أموره ومصالحه الخاصة.
وعند تحليل تصرف الملك في حكم البلاد نجد أنه لم يكن يسمع نصائح أحد، حتى من حلفائه البريطانيين والأمريكيين في الشئون الداخلية. فقد كانوا غير راضين عن سياسته، وإصراره على التصرف حسب تفكيره التقليدي، وتعيينه لغير المؤهلين في المناصب العامة، مما ساعد على فقدان ثقة الشعب وإضعاف النظام بصفة عامة وهذا ما كان في رأيهم يهدد المصالح البريطانية والأمريكية أيضًا إذا تعرض النظام الملكي إلى خطر.

علاقة الملك بعائلته ورغبته في إلغاء النظام الملكي الوراثي
كان سلوك الملك نحو عائلته موضع استغراب الجميع، فقد شتت شملهم وجعل منهم أعداء وفقد بذلك سندهم وتأييدهم عند الحاجة، وعاش معظم وقته شبه معزول عن الجماهير، وكبار معاونيه في ركن بعيد من الوطن في مدينة طبرق التي تبعد عن مراكز تجمعات السكان بمئات وآلاف الكيلومترات، كما كان حائرًا في من يخلفه بعد وفاته. ورغم أنه قبل على مضض تعيين أخيه السيد محمد الرضا في أول الاستقلال، وتعيين ابن أخيه الأصغر السيد الحسن الرضا بعد وفاة أبيه، إلا أنه لم يكن يؤمن بفكرة ولاية العهد لأحد من أسرته وكان مصممًا على حرمان عائلته من تولي الحكم بعد وفاته، بعد أن حرمهم من حق المواطن العادي أثناء حياته.
كان الملك قاسيًا على عائلته. فمثلًا، عند وفاة المرحوم السيد صفي الدين السنوسي ـ أحد قادة معركة القرضابية ـ في مصر سنة 1967م أعلم رئيس الوزراء مجلس الوزراء بالخبر، وذكر بأنه استشار الملك أين يدفن السيد صفي الدين وهو عم الملكة، فسأل الملك رئيس الوزراء وماذا كانت وصيته؟ فلما ذكر له بأنه أوصى بأن يدفن في الجغبوب وافق الملك على ذلك، ولكنه أمر بأن يتم الدفن بدون إجراءات رسمية، وأن لا يشترك الوزراء أو ممثلوا الحكومة في مراسم الدفن. وعندما ما قيل للملك إن السيد صفي الدين عليه ديون وأن حالته المالية لا تسمح بدفعها أجاب بأنه له أولاد ويجب أن يدفعوا ديون والدهم.
كان الملك يفكر في تعديل الدستور ولكنه كان حائرًا بين اختيار نظام جمهوري أو نظام ملكي لا سلطة فيه للملك. ورغم أنه كان يحبذ النظام الجمهوري، إلا أنه كان يرغب في المحافظة على التوازن بين إقليمي طرابلس وبرقة، وضمان تبادل منصب رئيس الجمهورية بين الأقليمين، وهذا من الصعوبة بمكان في أي نظام جمهوري يقوم على الانتخاب الحر، مما جعله يتردد في استعجال تعديل الدستور، رغم أنه كلف المستر أدريان بيلت بدراسة التعديل وألفت لجنة من كبار القانونيين الدوليين برئاسة المستر بيلت دون علم أو موافقة الحكومة والبرلمان. وقد درست هذه اللجنة اقتراحات الملك للتعديل وتقدمت بمشروعين للدستور أحدهما جمهوري والآخر ملكي مقيد لا سلطة فيه للملك، ولم يتخذ الملك قراره بشأنهما حتى انتهى الحكم الملكي. وقد تعرضت لذلك الموضوع بالتفصيل في الفصل الثالث.
وتفكير الملك بتغيير الدستور الليبي وتحويله إلى نظام جمهوري لحرمان العائلة السنوسية من حكم البلاد شئ غريب. ففي عالمنا العربي يعتمد الحاكم على الولاء العائلي والقبلي في تقوية حكمه، لأن فقدان مثل هذا الدعم العائلي يشجع أصحاب الطموح في السلطة للسعي للوصول إليها بشتى الطرق دون خوف. وأعتقد أن هذا ما حدث في ليبيا، فلم يجد الملك من يقف للدفاع عنه وقت حاجته إلى من يحمي عرشه، خاصة أنه لم يكن ملكًا شعبيًا على رأس نظام ديمقراطي يحميه، فقد ألغيت الأحزاب ولم يعد في البلاد أي تنظيم شعبي له دور فعّال في شئون البلاد.
لم يكن الملك إدريس يعايش مواطنيه كفرد منهم، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، ويزورهم ويستمع إلى شكواهم وآرائهم، ويلبي طلباتهم العامة ويعطف على حاجاتهم الخاصة، كما يعمل حكام العرب. كما أنه لم يكن يشرف مباشرة على الجيش، أو يختلط بضباطه ويجتمع بهم لمعرفة مشاكلهم وحاجاتهم، كما يعمل ملوك العرب ورؤساؤهم. لقد فقد الملك ثقة الجميع بما فيهم كبار ضباط الجيش، والعائلة السنوسية، وكل السياسيين الذين خدموا البلاد والنظام والملك ثم وضعوا (على الرف) دون تقدير أو رعاية أو حماية بعد خروجهم من الحكم.

ردود الفعل لرغبة الملك في تغيير نظام الحكم
لم يكن تفكير الملك بتغيير النظام الملكي إلى نظام جمهوري أو ملكي دستوري راجعًا إلى تجاوب مع رغبات شعبية أو حبًا في الديمقراطية، بل كان مبنيًا على رغبة الملك في حرمان العائلة السنوسية من حكم البلاد أو لعب أي دور فيه بعد وفاته. أثار موضوع رغبة الملك في تغيير النظام رد فعل معارض من أنصار النظام الملكي المقربين، بينما لم يعرف الشعب بشئ مما يجري في الخفاء، ولو أعلن ذلك رسميًا لقامت المظاهرات في برقة تأييدًا للنظام الملكي. كان كل شئ يجري في الخفاء حول رغبة الملك في تغيير النظام وسط تكهنات دولية ووطنية حول مستقبل النظام. حتى الذين شاركوا في إعداد المشاريع الخاصة بالتغيير كانوا لا يعرفون ماذا يريد الملك في قرارة نفسه. وكان كذلك سفراء بريطانيا وأمريكا، أقرب الناس إلى الملك، لا يعرفون ماذا يريد الملك، مما زاد من حيرتهم جميعًا.
أسهبت الصحف البريطانية والأمريكية في الكتابة عن العوائق التي تقف في وجه استمرارية النظام الملكي في ليبيا، حتى أن بعض أعضاء البرلمان البريطاني حذر الحكومة من استمرار بريطانيا في دعم النظام القائم في ليبيا وعارضوا تسليح الجيش الليبي بالدبابات الحديثة آنذاك، حتى لا تقع في أيدي معادية للغرب في حالة قيام حركة ضد النظام في ليبيا. ولم تستطع الدول الحليفة التدخل لفرض رأيها على الملك لحماية عرشه لأنه كان واثقًا من نفسه، وإخلاص الشعب له، وسيطرته على الأمور حتى في غيابه، وكان يغضب لسماع أية معارضة حتى في شكل مناشير توزع ضده.
وكان يعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية غير مخلصة له وأنها تعامله بصداقة حرصًا على مصالحها في ليبيا، وأنها لن تتردد في التضحية به لتأييد أية حركة ناجحة ضده، كما فعلت في مصر والعراق واليمن. وكان بالعكس يثق ببريطانيا ثقة عمياء، ويتمسك بعلاقاته معها، ولم تتزعزع هذه الثقة حتى بعد تغير السياسة البريطانية بقدوم حزب العمال إلى الحكم، الذي لم يعط الأنظمة الملكية التقليدية أية أهمية تذكر، بل بالعكس كان يؤيد الحركات الاشتراكية في العالم وفي المناطق الخاضعة للنفوذ البريطاني على وجه الخصوص. وكانت حكومة العمال لا تعطي النظام الملكي في ليبيا اهتمامًا، رغم ضخامة مصالحها فيها وسعيها لضمان الصفقات التجارية المتزايدة نتيجة لبدء تصدير البترول.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فكانت تعرف جيدًا أن الملك لا يثق فيها، ولكنها كانت تعتمد على بريطانيا في التعامل مع النظام الليبي، وكانت تؤيد بريطانيا لإعداد ولي العهد لحكم ليبيا بعد وفاة الملك. وكانت تتشاور في هذا الشأن مع الدول الأخرى الصديقة التي لها مصالح في ليبيا مثل فرنسا وإيطاليا وتونس والمغرب، لأن الأخطار التي قد تعرض ليبيا للخطر قد تعرض مصالح هذه الدول للخطر، خاصة أن الاتحاد السوفيتي كان قوة عظمي تنافس النفوذ الأمريكي، وأن النفوذ الناصري واستقلال الجزائر وسيرها في الركب الناصري يعرض المنطقة إلى سيطرة الاتحاد السوفيتي. وفي ضوء هذه الصورة لما يجري في ليبيا كانت أمريكا تعطي مستقبل ليبيا اهتمامًا متزايدًا للمحافظة على مصالحها، ودورها في المنطقة في حالة قيام بديل للنظام القائم في ليبيا. لذلك اتجهت مخابراتها إلى الوضع الداخلي في ليبيا، والبحث عن زعامات في صفوف المعارضة والجيش لتتولى الحكم في حالة انهيار النظام الملكي.
وكانت السفارة الأمريكية تفتح أبوابها سرًا وعلانية لرجال المعارضة وضباط الجيش وزعماء التنظيمات العمالية والنقابية، وحتى لأفراد الشعب العاديين، لمعرفة ما يجري في صفوف الشعب. وكان رؤساء الحكومات الليبية الملكية المتعاقبة في ذلك العهد، رغم عدم رغبتهم في إثارة المشاكل مع أمريكا، يعبرون عن قلقهم من هذا السلوك الأمريكي المشبوه خلال حديثهم مع سفراء بريطانيا في ليبيا. وقد سجل سفراء بريطانيا في ليبيا هذا في تقاريرهم إلى الحكومة البريطانية. كانت بريطانيا وأمريكا تتابعان حركة التغيير في الرأي العام الليبي، وأصبح واضحًا لهما أن جيلًا جديدًا قد بدأ في الظهور، وأن الجيل القديم من السياسيين قد أصبح عاجزًا عن السيطرة على البلاد وتقديم الحلول للمشاكل الناتجة عن تطور الاقتصاد بعد اكتشاف البترول وتطور الوضع الثقافي والاجتماعي للشعب. ورغم استعانة النظام بالشباب المتعلم للقيام ببعض المهام الفنية على المستوى الوزاري والإداري، إلا أن الوضع أصبح يستدعي تغييرًا جوهريًا.
ولم يكن الملك بغائب عما يجري في ليبيا وما يسعى إليه حلفاء ليبيا الأجانب، ولهذا بادر بدوره إلى إدخال الشباب في أواخر حكمه، وتعيين عناصر شابة متعلمة في مراكز هامة على المستوى الوزاري وضمن كبار الموظفين، ولكنه عمل على الإبقاء على بعض العناصر القديمة المخلصة في الحكومة للسيطرة على وزارات الدفاع والداخلية والمالية والخارجية. وقد استقبلت الدوائر الغربية هذا التغيير والتحول نحو الشباب بترحيب كبير لأن ذلك في رأيها سيساعد على الاستقرار وضمان مصالحها. ولهذا سارعت بعض السفارات الأجنبية إلى التقرب من هذه الصفوة الشابة الجديدة لمعرفة سياساتها وتوطيد علاقاتها بها خدمة لمصالحها، مما أثار مخاوف الملك وكذلك الجيل القديم الذي لا زال يسيطر على المناصب القيادية المهمة، وضمن الحاشية الملكية ذات النفوذ الكبير ورجال القبائل في برقة الذين لهم وضع خاص.
وفعلًا خرجت زعامات شابة استطاعت إقناع الملك باستحداث إصلاحات حديثة مثل تعيين السيد عبدالحميد البكوش رئيسًا للحكومة، الذي استطاع بذكائه أن يستفيد من هذا التغيير والاتجاه نحو الشباب. وتجاوب الملك معه ورحب البريطانيون والأمريكيون به، وسارعوا إلى تأييده أثناء توليه الحكومة. ولكن السيد عبدالحميد البكوش في رأيي كانت تنقصه صفات التروي والإلمام بالتركيبة السكانية في ليبيا، فقد اندفع في سياسة التغيير والارتباط بالغرب، والابتعاد عن العرب ومشاكلهم والدعوة الناصرية القوية، والتركيز على مشاكل ليبيا الاقتصادية والاجتماعية، ورفع مستوى المعيشة لسكانها، ومناداته بـ"الشخصية الليبية"، والتقدم والقضاء على التخلف، واللحاق بالركب الحضاري. كان يدافع عن رأيه وسياسته بأن ليبيا يجب أن تكون متقدمة قوية لتفيد العرب، لأنها في وضعها آنذاك لا تستطيع تقديم أي شئ، لكن سياسته في التقرب من الغرب أثارت الشكوك لدى الجماهير الشعبية حول مصداقيته. فالرأي العام في ليبيا كان قوميًّا ناصريًّا ولا يقبل التضحية بعروبته من أجل فوائد اقتصادية وثقافية لا تعرف أهدافها الحقيقية.

الملك في حيرة من أمره
إن الدارس لتصرفات الملك يقع في حيرة من أمره، هل كان تصرفه نتيجة لعدم انجابه وليًا للعهد أو أن كراهيته لعائلته هو سبب انعزاله والبعد عن حياة البذخ الذي عرف به الحكام العرب، وكذلك الادعاء بسوء صحته المبالغ فيه، فقد كان يتمتع بصحة جيدة، وعاش حتى الثمانينات. كانت تصرفات الملك غريبة وكانت مصدر قلق لرؤساء حكوماته، فكان أحيانًا يتظاهر بقبول النصيحة واقترحاتهم ثم يغير رأيه. ولم يستقر رأيه في اختيار رؤساء حكوماته، فمثلًا عين في أول فترة الاستقلال السيد مصطفى بن حليم ثم الدكتور محي الدين فكيني مما يدل على رغبته في الاستعانة بالشباب المؤهلين جامعيًا لتسيير أمور البلاد، ولكنه سرعان ما تخلص منهما وعاد للساسة المخضرمين مثل السادة محمد عثمان الصيد ومحمود المنتصر وحسين مازق وعبدالقادر البدري، ثم غير رأيه وعاد للشباب المؤهل واختار السيد عبدالحميد البكوش، ولكنه سرعان ما تخلص منه وعاد مرة ثانية للإداريين المخضرمين فعين السيد ونيس القذافي.
كان الملك إدريس حريصًا على صحته وأحيانًا يتظاهر بأنه لا يريد الخوض في شئون الحكومة ليبتعد عن مقابلة المسئولين، حتى رؤساء حكوماته قلما يتمكنون من مقابلته لشهور، أما وزرائه فلا يراهم إلا يوم حلف اليمين بمناسبة تعيينهم أو في المناسبات العامة من بعيد. وكان يصدر أوامره لرؤساء وزرائه عن طريق سكرتيره الخاص. ولا أذكر أنه استدعى مجموعة من الوزراء أو وزيرًا بمفرده لمعرفة رأيهم في أمر هام أو دعاهم إلى الغذاء معه لمناقشة مسائل تهم البلاد وشئون وزاراتهم، حتى رؤساء حكوماته لا يراهم إلا نادرًا. وفي نفس الوقت كان حريصًا على مقابلة مستشاري وشيوخ ولاية برقة واستقبال سفراء بريطانيا وأمريكا وكبار موظفي سفارتيهما وعائلاتهم وكبار الزوار من الدولتين، وكان يدعوهم للغذاء معه وبحضور الملكة أحيانًا، وكان اتصاله بهم دائمًا رأسًا وليس عن طريق وزارة الخارجية كما جرى عليه العرف الدبلوماسي.
وقد تعرض سفراء بريطانيا وأمريكا في تقاريرهم العديدة التى بعثوا بها إلى حكوماتهم في تلك الفترة والتي نشرت بعد رفع السرية عنها بمرور 30 عاما عن أحداث العهد الملكي، وسياسات الحكومات الليبية والملك، وحتى حياة الملك الخاصة والعائلية وعلاقاته وحاشيته، وما يجري في القصر الملكي من أحداث وأسماء من يخدم في القصر وجنسياتهم ونشاطهم بشئ من التفصيل. كما تعرضوا أيضًا إلى الحياة الخاصة لكل رؤساء الحكومات وكبار المسئولين الليبيين بشئ من التفصيل، بما في ذلك ما يشاع عنهم بين الناس حول سلوكهم ونسبهم وعلاقاتهم الخاصة والرسمية مع بعضهم البعض ومع الآخرين. وأستطيع أن أقول، بعد الإطلاع على بعض هذه التقارير وفي ضوء ما أعرف، أن تقارير السفيرين البريطاني السير رودريك ساريل والأمريكي المستر ديفيد نيوسوم عما كان يجري من أحداث في العهد الملكي السابق وسياسة الحكومات المتعاقبة وردود فعل السياسة الأمريكية والبريطانية حولها تعبر بوضوح عن حقيقة الواقع الذي كنا نعيشه في تلك الفترة، وهو ما حاولت أنا بدوري في هذه الذكريات التعرض له باختصار، بعد انتهاء العهد الملكي مباشرة سنة 1970م وقبل الإطلاع على هذه التقارير أخيرًا.

المستر ديفيد نيوسوم والسير رودريك ساريل
المستر ديفيد نيوسوم كان سفيرًا للولايات المتحدة الأمريكية في ليبيا من أكتوبر 1965 إلى يونيو 1969م، وعايش فترات أربعة رؤساء حكومات في النظام الملكي السابق، وكان مقربًا منهم ومن الملك يزورهم باستمرار في مكاتبهم وبيوتهم، ويدعى إلى القصر في فترات متتالية للغذاء والعشاء مع الملك والمسئولين الليبيين، والاستراحة في طبرق هو وعائلته وبعض معاونيه. لقد لعب ديفيد نيوسوم دورًا هامًا في الحياة السياسية الليبية مستغلًا نفوذ بلاده القوي، وقد حظي بمثل ما حظي به السير رودريك ساريل السفير البريطاني الذي يعتبر في ليبيا من العائلة، سواء مع رؤساء الحكومات والوزراء أو الملك. كانت الأبواب مفتوحة أمام هذين السفيرين والأذان تصغي لما يقولان، وهذا ليس مبالغة، فقد انعكس هذا في تقاريرهما إلى حكومتيهما التي نشرت بعد مضي فترة الثلاثين عامًا عليها، وقد تم نقلهما معًا من ليبيا قبل الفاتح من سبتمبر 1969م بفترة وجيزة بعد قضاء عدة سنوات كسفيرين لبلديهما في ليبيا.
ورغم هذه العلاقات الوطيدة للسفيرين مع المسئولين الليبيين لم يكن السفير الأمريكي أو السفير البريطاني يتدخلان في القرارات السياسية، فقد كان الملك يحكم ويقرر ما يراه دون الرجوع إلي السفيرين أو إلى أي أحد ليبيًا كان أو أجنبيًا ولم يكن يومًا عميلًا لأية دولة أجنبية. أما رؤساء الحكومات فكانوا يتخذون قرارتهم حسب رؤيتهم للأمور واجتهادهم، أما قراراتهم الهامة فتكون وفق تعليمات الملك دون الرجوع إلى أحد آخر، ولا اعتقد أن أحدًا منهم كان عميلًا لأي دولة أجنبية. وكانت علاقتي بنيوسم وساريل رسمية فلا يزوراني في بيتي ولا يتبادلان معي الأحاديث في غير المعاملات الرسمية العادية.
زارني ديفيد نيوسوم للوداع في مكتبي عندما تقرر نقله من ليبيا، كما زار بقية المسئولين في الحكومة. وقد أثار معي مواضيع هامة لم يكن يتناولها معي في مقابلاته العادية، وأمطرني بأسئلة عديدة عن النظام الملكي وسياسة الملك والحكومة وموقف الشعب من الحكومة وموقف ضباط الجيش. وقد فؤجئت بهذه الأسئلة الغريبة التي تعتبر شئونًا داخلية لا علاقة له بها، رغم أنه قدمها بشكل ودي دبلوماسي. وقد حاولت أن أكون دبلوماسيًا بدوري وبادلته الحديث في ما كنت أعتقده أنه لا يمس سياسة الدولة، رغم أني كنت أعرف أن كثيرًا من المسئولين الليبيين يصارحونه بكل ما يعرفون، وتجلى هذا في تقاريره إلى الحكومة الأمريكية التي نشرت أخيرًا بعد أن رفعت السرية عنها. وكنت أعرف أنه من أخطر الدبلوماسيين الأمريكيين، يخفي وراءة أسرارًا كثيرة عن ليبيا والليبيين، لكثرة اتصالاته وانتشار رجال مخابراته بين فئات المواطنين والمسئولين وكان يرسم وينفذ مخططات وسياسات حكومته ليس في ليبيا فحسب بل في منطقة الشمال الإفريقي.
بدأ السفير نيوسم حديثه معي بالكلام عن علاقته الوطيدة مع الرئيس نيكسون وأنه عائد إلى وزارة الخارجية لتولي مناصب تنفيذية في إدارته. وأنه صديق لنيكسون منذ أن كان الأخير نائبًا للرئيس أيزنهاور، وكان نيكسون يتصل به هاتفيًا في مكتبه لأخذ رأيه في بعض الأمور، مما أحرجه مع رؤسائه وزملائه في وزارة الخارجية. كان ملخص ما قلته له في الإجابة عن أسئلته العديدة، أن الشعب الليبي بدأ يشعر بالأمان والرضا لتوفر الرخاء الذي بدأ يعم مختلف طبقات الشعب بفضل دخول البترول، وأن الجفوة بين الحكومة والشعب أخذت تزول مما يبعث على الاستقرار والأمن، وأن الشئ الوحيد الذي يضايق الشعب والحكومة هو موقف أمريكا المؤيد لإسرائيل، ومعاداتها للرئيس عبدالناصر، مما جعل موقف الحكومات العربية الصديقة لأمريكا ومنها ليبيا في موقف حرج مع شعوبها، وأني آمل أن يستطيع بعلاقاته الوطيدة مع الرئيس نيكسون أن يقنعه بإجبار إسرائيل بالجلاء عن الأراضي التي احتلتها سنة 1967م، والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في الاستقلال والسيادة على أراضية، وفي ذلك خدمة لأمريكا ومصالحها في العالم العربي وخدمة للأنظمة العربية التي ترغب في المحافظة على علاقات صداقة وتعاون مع أمريكا، وحفاظًا على الأمن في المنطقة لتتفرغ لتنميتها الاقتصادية والسير نحو الديمقراطية، ولا يمكن إيقاف الرئيس عبدالناصر من إثارة الشعوب العربية ضد الحكومات المتعاونة مع الغرب، إلا إذا تم الجلاء عن الأراضي المحتلة والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.
كان جواب السفير الأمريكي غريبًا فقد قال لي إن أمريكا تدخلت سنة 1956م وأجبرت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على الجلاء عن كل الأراضي التي أحتلها مقابل وعد من الرئيس عبدالناصر بعدم اللجوء إلى القوة في حل القضية الفلسطينية، ولكن الرئيس عبدالناصر استمر في استعمال القوة ثم أغلق المضايق البحرية أمام التجارة الإسرائيلية في البحر الأحمر وبدأ في الإعداد للهجوم على إسرائيل سنة 1967م. ولهذا عندما احتلت إسرائيل كل فلسطين وبعض أراضي الدول العربية، قررت أمريكا عدم التدخل وإجبار إسرائيل على الجلاء كما فعلت في الماضي، واشترطت أن يتم مثل هذا الجلاء عن طريق المفاوضات الثنائية بين طرفي النزاع للوصول إلى حل يقبله الطرفان، ولن تقدم أمريكا في المستقبل على فرض حل معين على إسرائيل لا ترضاه مهما كانت الضغوط العربية عليها.










1971م- ديفيد نيوسم بعد أن صار مساعدًا لوزير الخارجية الأمريكي للشئون الإفريقية في لقاء مع الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة

وأما بالنسبة لأمن ليبيا ومواقف ضباط الجيش الليبي فقد قلت له رغم وجود خلافات بين ضباط الجيش الليبي فلا أعتقد أن تقدم مجموعة بالانقلاب على النظام، لأن القوات المسلحة الليبية لا تخضع لقيادة واحدة ويصعب حصول إجماع بينها. وقد حاول أن يدخل في بعض التفاصيل التي يعرفها عن الوضع داخل الجيش وموقف الملك ومستقبل النظام الملكي ووضع ولي العهد، ولكني حرصت على عدم الخوض في مثل هذه الأمور. وقد ودعته طالبًا منه أن يكون صوتًا مؤيدًا ومساندًا لقضية فلسطين والجلاء عن الأراضي العربية المحتلة، فهو أعرف من غيره بين المسئولين الأمريكيين بالوضع العربي، ورد فعل الشعوب العربية ضد السياسة الأمريكية غير المحايدة بين العرب وإسرائيل، وتأثير مثل هذا الموقف على الأنظمة العربية الصديقة لأمريكا. وقد وعد بأن يكون خير رسول للقضايا العربية لدى الإدارة الأمريكية.

علاقة الملك بالملوك والرؤساء العرب
كانت علاقة الملك إدريس بالرؤساء العرب غير مستقرة أو واضحة. فمثلًا كان يظهر صداقة قوية للرئيس عبدالناصر ويلبي كل طلباته، وفي نفس الوقت يصدر تعليماته السرية إلى رؤساء حكوماته ويحذرهم من الرئيس عبدالناصر وسياسته التوسعية نحو ليبيا ورفض حتى زيارته لليبيا. كما أن علاقته مع السيد أحمد بن بلة كانت وثيقة قبل استقلال الجزائر وبعده ولكنها تغيرت حالما توطدت علاقات الرئيس بن بلة بالرئيس عبدالناصر. وكان لا يشعر بود أو تقارب للرئيس التونسي الحبيب بورقيبة ربما بسبب عزله للباي، ولا لملك المغرب الحسن الثاني ولا للعائلات الحاكمة في السعودية ودول الخليج والعراق بعد الثورة ولا لسوريا، ولكنه كان يعطف على الملك حسين ملك الأردن، وغضب كثيرًا عندما قتل الملك فيصل ملك العراق وولي عهده، ورفض الاعتراف بحكومة العراق الثورية وحكومة اليمن بعد التغيير لفترة من الزمن.

إضافة خاصة للمؤلف
وقبل أن أنهي هذا الجزء الأول من ذكرياتي أود أن أضيف إلى أنه بعد الفاتح من سبتمبر 1969م وعملي بشركات النفط أعطيت والدي ووالدتي اهتمامًا خاصًا. فقد عشت إلى جوارهما بعد أن فرقتنا سنوات الدراسة والعمل في السفارات وفي البيضاء. فقد سهرت على صحتهما وتمكنت من السفر معهما للعلاج في بريطانيا. وكان مدراء شركة شل وأوكسيدنتال الذين كنت أعمل معهم يشكون من طول الوقت الذي احتجته لهذا الغرض، رغم تفهمهم لمشاعري وواجباتي العائلية.
في سنة 1976م مرضت والدتي إثر وقوعها في البيت، فأدخلتها مستشفى شركات النفط بطرابلس على حسابنا الخاص. وقد انتقلت إلى رحمة الله في اليوم الذي كنت أستعد فيه للسفر بها إلى بريطانيا للعلاج. وقد كان لوفاتها وقعًا أليمًا في نفسي غيّر مجرى حياتي. فقد كانت رحمها الله قريبة إلى قلبي وأحظى منها بحب خاص وجارف، وكانت دائمًا دعمًا لي في مواصلة دراستي وتقديم المساعدة لأحقق هدفي في إتمام دراستي الثانوية والجامعية بعيدًا عنها في طرابلس ثم في القاهرة. ووفاة الوالدة شجعني على العمل في الخارج مع الأمم المتحدة بعيدًا عن الوطن.
وبعد وفاة الوالدة انتقل والدي إلى بيتي المجاور للإقامة معي ولم يعد يستطيع حتى زيارة حجرة نومه التي تذكره بزوجته التي قضى معها العمر كله قريبًا منها، لم يتركها لحظة، حتى الإقامة معها في المستشفى قبل وفاتها. وبعد شهرين تقريبًا أصيب الوالد بمرض في كليتية وشخص الأطباء مرضه بوجود التهاب في الكلية، وقد أخذ إلى لندن وتقرر إجراء عملية جراحية له في "لندن كلينك" بعد أن أثبتت التحاليل وجود ورم سرطاني في الكلية اليمنى. وأخضع للعلاج بالأشعة لفترة من الزمن، ولم يكن الوضع المالي والظروف الاستثنائية التي كنا نعيشها تسمح لنا بالاستمرار في علاجه في الخارج.
رجع الوالد إلى طرابلس، وقبلت في هذه الفترة عرض الأمم المتحدة للعمل معها واضطررت إلى مغادرة طرابلس، ولم يكن في مقدوري أخذه معي إلى جنيف، وتركت الوالد في رعاية الإخوة الهادي وعبد العظيم. ولكن أخي علي، الذي عين سفيرًا في كوبا في تلك الفترة، رجع إلى طرابلس وتزوج وأخذ الوالد ليعيش معه في كوبا ويرعى علاجه لفترة. والأخ علي أفضاله على العائلة لا يمكن حصرها. وبعد فترة رجع الوالد إلى طرابلس، كأنها تناديه، لينتقل إلى رحمة الله في نهاية سنة 1978م ويدفن في مقبرة سيدي منيدر إلى جانب أفراد العائلة.
وخلال عملي في الأمم المتحدة مرض أخي الدكتور المهندس أحمد السني المنتصر، الذي كان يدرس الهندسة في جامعة برلين في أغسطس 1984م، فأسرعت إليه، وقد كنت في جنيف أستعد للسفر إلى مؤتمر الأمم المتحدة للسكان الذي كان سيعقد في مدينة المكسيك في الأول سبتمبر من نفس السنة. وقد صدمت بنتائج الفحص الطبي الذي أجري على أخي أحمد في مستشفى جامعة برلين، فقد أخبرني الأستاذ بالجامعة الدكتور الذي أجرى العملية بوجود ورم سرطاني متضخم في البنكرياس وأنه لا أمل في حياته وهو يعطيه أسابيع للبقاء على قيد الحياة. نزل هذا الخبر كالصاعقة عليّ. وجاء بعض الإخوة من طرابلس إلى برلين، وسافرت بدوري إلى المكسيك لحضور مؤتمر السكان وأنا في دوامة من الألم والضياع. وبعد رجوعي أسرعت إلى برلين وبقيت معه بقية أيامه في المستشفى حتى فاضت روحه إلى بارئها ونقل جثمانه إلى طرابلس ليدفن في مقبرة سيدي منيدر بجانب أبويه.
وأنا أكتب هذه الإضافة إلى ذكرياتي في لندن في الأسبوع الأول من نوفمبر 2007م وصلني خبر أليم من طرابلس وهو وفاة أخي الهادي السني المنتصر بعد مرض عضال طويل في طرابلس. وكان قد قضى كل حياته بعد دراسته للقانون في جامعة دمشق محررًا للعقود بطرابلس. ترك رحمه الله أرملته وولدين وأربع بنات.








المراجع لبعض الصور التاريخية:
- المواقع الإلكترونية: ليبيا الباكور، ناصر، أم السراية، ليبيا المستقبل، مكتوب، الصياد، واحات اليمامة، الأمم المتحدة.
- الهادي إبراهيم المشيرقي: مشاهداتى في بلاد الهند، المطبعة الليبية، طرابلس ـ ليبيا، 1967م.
- الهادي إبراهيم المشيرقي: ذكرياتي في نصف قرن من الأحداث الاجتماعية والسياسية، منشورات مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، سلسلة الوثائق التاريخية (7) 1980م.
- جميل عارف: صفحات من المذكرات السرية لأول أمين عام للجامعة العربية.. عبدالرحمن عزام ـ الجزء الأول ـ المكتب المصرى الحديث، 1977م.
- "الملك إدريس عاهل ليبيا: حياته وعصره"، تأليف إيريك دي كاندول، مانشستر 1989م. ترجمة محمد القزيري ونشر محمد عبده بن غلبون.
- Epstein, E. Dossier: The Secret History of Armand Hammer, Carroll & Graf Pulishers, New York, 1996.
- The Society for Libyan Studies: Seventh Annual Report (1975-1976) London.

2:52 PM  

Post a Comment

<< Home