Tuesday, November 14, 2006

بعض الذكريات عن النظام الملكي الليبي
ديسمبر 1951ـ ستمبر1969
يرويها
بشير السني المنتصر
وزير الدولة لرئاسة مجلس الوزراء الاسبق

-----------------------------------------------------------

الفهرس

صورة بشير أبراهيم السني المنتصر
---------------------------------
وزير الدولة لشئون الرئاسة في مكتبه بطرابلس

نبذة عن حياة
------------
بشير ابراهيم السني المنتصر

مقدمة
--------

الفصل الأول
------------
تمهيد

الطفولة

الدراسة الأبتدائية

الدراسة الثانوية

الدراسة الجامعية

الفصل الثاني
-------------

العمل الحكومي بوزارة الخارجية

فترة حكومة السيد عبد المجيد كعبار


الأنتقال الى السفارة الليبية في لندن

فترة حكومة السيد محمد بن عثمان

الأنتقال الى السفارة الليبية في القاهرة

الأنتقال الى وزارة الخارجية بالبيضاء

فترة حكومة الدكتور محي الدين فكيني


الفصل الثالت
-------------
حكومة السيد محمود المنتصرالثانية

الفصل الرابع
------------
حكومة السيد حسين مازق

الفصل الخامس
--------------
حكومة السيد عبد القادر البد ري

الفصل السادس
--------------
حكوكة السيد عبد الحميد البكوش

الفصل السابع
--------------
حكومة السيد ونيس القذافي


الفصل الثامن
الفاتح من ستمبر1969

الفصل التاسع
أحداث هامة متفرقة


الفصل العاشر
النظام الملكي الليبي



نبذة عن حياة بشيرالسني المنتصر



بشيرالمنتصر ينتمي إلى عائلة المنتصر المعروفة في مصراتة ولد بها بتاريخ 4 أبريل 1932 شب في عائلة محافظة متدينة لها مكانة بين السكان تستدعي المحافظة على أحترامهم وخدمتهم وتلبيةحاجاتهم والعطف على الفقير والأخذ بيد الضعيف .كانت العائلة من ملاك الأراضي في العهد العثماني وتولى بعض أفرادها مناصب أدارية عالية وحازوا ألقابا تركية رفيعة.
بدأ والده حياتة مدرسا في مدرسة مصراتة الأبتدائية وتدرج في سلك التعليم وتولى وظيفة مدير عام التعليم الأبتدائي ثم عين وكيلا لكلية العلوم في الجامعة الليبية حتى أحيل ألى التقاعد يعد قيام ثورة الفاتح من ستمبر 1969..وله أربعة أخوة علي وهو الأكبر وفاطمة والهادي وعبد العظيم وقد فقدوا أخيهم أحمد سنة 1984بعد تأهله لشهادة الدكتوراه في الهندسة المعمارية من جامعة برلين أثر مرض عضال .
دخل بشير المنتصر مدرسة مصراتة الأبتدائية خلال العهد الإيطالي وخلال سنوات الحرب درس في المدارس القرآنية لحفظ القرآن وتعلم النحو والصرف والأدب العربي كما تلقى دروسا خاصة في هذه العلوم على أيدي نخبة من علماء مصراتة المعروفين في ذلك الوقت.وبعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية في ليبيا عاد إلى مدرسة مصراتةالأبتدائية التي تغيرت الدراسة فيها إلى العربية بعد أن كان تعليمها باللغةالايطالية قبل الحرب وكان المعلمون فيها من أبناء مصراتة مثل الأستاذ محمد مسعود فشيكه والأستاذ عبد الله الترجمان ووالده الأستاذ إبراهيم السني المنتصر والأستاذ محمد الطبولي والأستاذ مختار معافة وغيرهم .تخرج من مدرسة مصراتة الابتدائية في صيف 1946 وإلتحق باول مدرسة ثانوية افتتحت في نفس السنة في طرابلس في عهد الادارة البريطانية وقضى فيها خمس سنوات وتخرج منها في صيف 1951.كانت مدرسة طرابلس الثاوية فى تلك الفترة منارة التعليم الحديث في البلاد وساهم طلابها بقصط وافرفي الحركة الوطنية قبل الاستقلال ومعارضة مشروع بيفن سفورزا لتقسيم ليبيا ووضعها تحت الوصاية. وكان الاساتذة فيها في السنوات الأولى من الليبيين ومنهم الأستاذ مسعود فشيكة والأستاذ المهدي الحجازي والأستاذ محمود البشتي والأسناذ مصطفى بعيووالأستاذ محمود فرحات والأستاذ مظفر الأميروالأستاذ الهادي عرفة والأستاذ فؤاد الكعبازي والأستاذ لامين الحافي وغيرهم كثيرون وكان بعض موظفي الأدارة البريطانية العرب يعطون دروسا مسائية في اللغة الأتجليزية ومنهم الأساتذة موسى إبشوتى والامين الطيبي الذين إشتهرا في الاذاعة البريطاتية بعد ذلك والأستاذ نصر الدين الأسد الذي كان له الفضل الكبير في أعداد طلابه لأتقان اللغة العربية وأدابها والذي شاع صيته بعد ذلك في الوسط الجامعي والتعليمي كوزير في الأردن و في القاهرة وكذلك الشيخ الكبير الأستاذ شكال الذي كان يعطي دروس اللغة الفرنسية وبعد ذلك تولت البعثة التعليمية المصرية برآسة مهام التدريس في المدرسة . وبعد التخرج حاول والي طرابلس المستر بلاكلي اقناع طلاب الدفعة الأولى بصفتهم النخبة المتعلمة في البلاد الألتحاق بدورات تدريبية لتولى الوظائف القيادية في سياسة التلييب لأعداد البلاد للأستقلال في أول سنة 1952 ولكن معظم الطلاب أن لم يكن كلهم رفضوا العرض واصروا على مواصلة دراستهم الجامعية وهكذا أرسلوا في خريف سنة 1951 الى مصر في بعثة دراسية وكان بشير المنتصر من بين الدفعة الأولى التي تألفت منه والأخوةعلي الميلودي وعز الدين المبروك ومحمد إسماعيل سيالة وخيري الصغير وأحمد بن لامين وعبدالله بن لامين وشعبان عريبي ثم أرسلت دفعة ثانية من بينهم إبراهيم الفقي حسن وراشد السراج والمبروك العجيلي وسالم كوكان وشمس الدين بوشويرف وإبراهيم الميت وعبد الحفيظ سليمان ومحمد بن محمود وخاب عن ذهني أثنان منهم وعذري لهما كبير .وقد إضطروا جميعهم لأعادة السنة التوجيهية لأن مصر لم تعترف بالتوجيهية الطرابلسية لأن المنهج فيها كان فلسطنيا وسكنوا في المعادي بينما إعترفت الحكومة المصرية بالتوجيهية البرقاوية لأن المنهج فيها كان مصريا. وكان طلبة برقة قد سبقوتا ألى مصر ومنهم منصور الكيخيا وغيره كثيرون ضاعت أسماؤهم من الذاكرة وقت كتابة هذه الحروف ولكنهم في القلب وسكنوا في حلوان . وهكذا دخل بشير المنتصر المدرسة الخديوية الثانوية في حي السيدة زينب في القاهرة الشهيرة بنشاطها الوطني وتخرج منها في يونيو 1952قبل قيام ثورة لوليو برآسة عبد الناصر ببضعة اسابيع. ودخل كلية التجارة جامعة القاهرة في نفس السنة رغم أنمجموعه كان فوق 85% رياضي يؤهله لدخول كلية عملية ورغم أن أوراقه حولت رسميا بطلب من السفارة الليبية إلى كلية الهندسة لكنه رفض وسحب أوراقه وقدمها ألى كلية التجارة رغبة منه في الألتحاق بشعبة العلوم السياسية التي كانت تابعة لكلية التجارة أنذاك والتي تخرج منها في يونيو سنة 1956. وكان ترتيبه كما كان دائما في سنوات دراسته الجامعية أول دفعته التي ضمت عددا من خيرة الطلاب المصريين والعرب والذين تولوا مناصب وزارية وسفراء في بلادهم بعد ذلك وقد أتيحت له الفرصة الألتقاء بهم في جنيف بعد ذلك . وكان أساتذته في تلك السنوات نخبة من أساتذة مصر العظام أنذاك مثل الأساتذة وهيب مسيحة وعبد المنعم البنا وعبد المنعم حجازي وبطرس غالي وإبراهم صقر وفتح الله الخطيب وعبد الجليل العمري وعبد المنعم القيسوني وغيرهم كثيرون غابت أسماؤهم عن الذاكرة وقت كتابة هذه السطور وكلهم عينوا في مناصب وزراء في حكومات الثورة المتعاقبة وتولى بطرس غالى منصب السكرتير العام للأمم المتحدة .وتولى الدكتورعبد المنعم حجازي رئاسة الجكومة المصرية لفترة في عهد عبد الناصر . وكانت هذه الفترة من أهم الفترات في تاريخ إنطلاق القومية العربية بقيادة الزعيم عبد الناصر وانبعاث الدعوة الى الوحدة العربية وكانت جامعة القاهرة مركز الثقل لتشاط الثورة العربية الناصرية رغم تفشي الخلاف بين ثورة 23 يوليو والأخوان المسلمين.
رجع بشير المنتصر إلى طرابلس في صيف 1956 وعين في اول ستمبرفي وزارة الخارحية بالدرجة الرابعة كسكرتيرثان ومساعد لرئيس الشئون العسكرية والسرية وعين بعدها رئيسا لأول قسم للشئون الأقتصادية أسس في الوزارة.في سنة 1957 وعندما تولى السيد عبد المجيد كعبار رئاسة الوزارة طلب منه أن يكون سكرتيرا خاصا له بالدرجة الثالتة بالوكالة ورغم رغبته في مواصلة دراسته وعرض الجا معة الليبية علية بتعيينة معيدا وأرساله للخارج للحصول عل درجة الماجستير والدكتوراة ألا أنه تحت أصرار رئيس الوزراء رأى تاجيل دراسته وقبل متصب السكرتير الخاص لرئيس الوزراء وقد أتاح له هذا المنصب التعرف على المسئولين وزعماء البلاد وشيوخ القبائل كما رافق رئيس الوزراء في زيارته الرسمية ألى بريطانيا لمفاوضات أعادة النظر في الأتفاقية المالية . وقد كان مقر الحكومة في بنغازي معظم الوقت مع فترات قصيرة في طرابلس. ورغم مغريات الوظيفة ألا أن أمله في مواصلة دراسته جعله يلح على رئيس الوزراء لأعفائه من منصبة وأنهاء فترة أنتدابه ورجوعة ألى وزارة الخارجية ورغم محاولة رئيس الوزراء في أقناعه بالرجوع عن رأيه ألا أنه تفهم هدف سكرتيره ووافق على أرجاعة ألى وزارة الخارجية وساعده في أول حركة تنقلات بتعيينه سكرتيرا ثانيا في السفارة الليبية في لندن وكان السفير الليبي في لندن هو الدكتور علي الساحلي الذي سرعان ما نقل بعد تعيينه رئيسا للديوان الملكي وحل محله الدكتورعبدالسلام البوصيري كسفير لليبيا وأسندت الى بشير المنتصر مهام الشئون الصحفية والسياسية. كما أنتسب إلى جامعة لندن للحصول على الماجستير. في أواخر سنة 1962 تقرر نقله ألى القاهرة بدرحة سكرتير أول وتولى فيها مهام الشئون الصحفية أيضا وكان السفير هناك السيد خليل قلال وفي نهاية 1962 تقرر نقله الى ديوان وزارة الخارجية ومقره أنذاك في مدينة البيضاء التي أصبحت مقرا لرآسة الحكومة أيضا مع بعض أجزاء من الوزارات التي أستمرت في طرابلس. وفي سنة 1963 شارك مع الوفد الليبي برآسة الأمير حسن الرضا ولي العهد في مؤتمر القمة الأفريقي التاريخي الأول الذي أسست فيه منظمة الوحدة الأفريقية .وعين في الخارجية رئيسا للشئون العربية وقسم شئون فلسطين ورقي الى درجة مستشار .
وفي أوائل سنة1964 عندما عين محمود المنتصر رئيسا للحكومة للمرة الثانية عرض عليه تولى مهام مكتب رئاسة مجلس الوزراء منتدبا من وزارة الخارجية وعين كوكيل وزارة لشئون الرئآسة بالوكالة ورقي بعدها رسميا وكيلا للوزارة في حركة التنظيمات التي تمت بعد صدور قانون الخدمة المدنية الجديد .وحضر في هذه السنة مؤتمر القمة العربي الذي غقد في الأسكندرية وحضره الملك أدريس . وقد إستمر في منصب وكيل الوزارة لشئون رئآسة محلس الوزراء في عهد حكومة السيد حسين مازق وكذلك في عهد حكومة السيد عبد القادر البدري بدون انقطاع1964ـ1967 . في 1967 عين وزيرا للدولة لشئون رئآسة مجلس الوزراء في حكومة السيدعبد الحميد البكوش وقد أنتدب من طرف مجلس الوزراء كوزير للعدل بالوكالة وأستمرفي هذا المنصب حتى أستقالة السيد البكوش في سنة 1968 , وبعدها عين من جديد وزيرا للدولة لشئون الرئاسة في حكومة السيد ونيس القذافي الذي خلف السيد البكوش بالأضافة الى ذلك اسندت اليه مهام وزير بالوكالة لوزارات الخارجية والعدل والنفط أثناء غياب وزرائها الأصليين بالأضافة ألى عمله الاصلي كوزير للدولة لرئاسة مجلس الوزراء.
في 1 ستمبر 1969 أعتقل مع زملائه الوزراء وكبار مسئولي الحكم الملكي في تكنات العزيزية مقر رئاسة الجيش نقلوا بعدها الىألى نادي الضباط في فرناج وبعدها الى سجن طرابلس المركزي. اطلق سراحه يوم 30 نوفمبر من نفس السنة وبقى كل عام 1970 ملازما للبيت طوعيا ولم تفرض علية أية قيود وعومل معاملة حسنة . وأستغل هذه الفرصة واستأدن للسفر الى الحج مع والده ووالدنه وأخيه الهادي.
بعد عودته من الحج طلب السماح له في العمل وقبل عرضا من شركة شل للأستكشاف الليبية وعين فيها مديرا لشئون الموظفين لمجموعة شركات شل في ليبيا في أوائل سنة 1971 وأرسل على الفور الى لندن حيث أمضى كل سنة 1971 في مركز شركة شل العالمية في(واترلو لندن) للتدريب والأطلاع على أنظمة الشركة وخلال هذه الفترة حضر دورات تدريبيةعالية أعدت لكبار موظفي الشركات البريطانية ومنها دورة في الادارة العامة فى معهد جلاسيير (راسليب ـ ميدل سيكس). دورة في فن أتخاذ القرارفي نفس المعهد لأعضاء مجا لس الادارة للشركات ودورة للعلاقات لصناعية والتفاوض بين الأدارة وأتحادات العمال نظمت بالتعاون بين منظمةأتحادات أرباب العمل البريطانية والمؤسسة الصناعة البريطانية والمعهد البريطاني لأدارة شئون الافراد والأدارة في( أست بورن) في جنوب بريطانيا . ودورة في الأدارة وعلوم السلوك في معهد اشريدج( هرتفورد شارير) بريطانيا ودورة في أستخدام الكمبيوترفي أدارة الافراد في معهد أدارة الأفراد بمركز الكمبيوتر في( برمنهام ) بريطانيا. ودورة في إختيار وتقييم الأفراد في المعهد الوطني لعلم النفس الصناعي( بيكرستريت لندن).كذلك حضر اثناء فترة عمله مع شركة شل دورة في معهد الشرق الأوسط للعلاقات الصناعية (ميرك)في بيروت لبنان وألأجتماعات السنوية لمدراء شئون الأفراد لشركات شل في الشرق الأوسط التي عقدت في بيروت ونيكوسيا قبرص بأشراف شركة شل العالمية.
وفي نهاية سنة 1971 رجع ألى ليبيا وتولى مهامه كمدير لشئون الموظفين والأدارة لشركة شل للأستكشاف التي كانت الشركة الام لمجموعة شركات شل في ليبيا وصعدته اللجنة الشعبية للشركة وأضافت له مهام ادارة الشئون التجارية والعلاقات العامة ا. وبعد تأميم حصة شركة شل في شركة الأويزس وعدم عثورالشركة على النفط تقررانسحاب شركات شل من ليبيا والأستغناء عن كل الموطفين وبذلك أنتهى عمله بشركة شل في 1973 .
قبل بعد ذلك عرضا من شركة اكسدنتال ليبيا لتولي مهام مدير علاقات الموظفين بالشركة وكانت شركة ليبية مؤممة بين الحكومة الليبية وشركة أكسدنتال.
وعمل بها من أول سنة 1974 الى لوليو1977 وقد حضر في هذه الفترة الاجتماعات السنوية لمدراء ادارات الأفرا د لشركات أكسدنتال في أمريكا الشمالية والجنوبية وليبيا التي عقدت في لوس انجلوس وبيكرسفيلد و منتري بالولايات المتحدة الأمريكية .
في سنة 1977 تلقىعرضا من المستر رفائيل سالاس المدير التنفيذي لصندوق الأمم المتحدة للسكان للعمل مع الصندوق ورغم أن مجلس أدارة أكسدنتال عينه نائب رئيس للشركة لشئوت الأفراد وعرض عليه رئيس مجلس دارتها أنذاك السيد مسعود جرناز أن يكون مركز عمل منصبه الجديد في لندن للأشراف على أعمال شركة ألأكسدنتال الليبية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية(التي كانت تتولاها شركة شل العالمية نيابة عنها كالمشتريات وانتداب الخبراء) الا أنه رفض عرض أكسدنتال وقبل عرض الامم المتحدة .
عين ممثلا لصندوق الأمم المتحدة للسكان ورئيس مكتبه الأوربي للأتصال في جنيف سويسرا في 23 لوليو1977 .وكانت مهام المكتب تمتيل الصندوق لدى مكتب الامم المنحدة الأوربي بجنيف و منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الحكومية وغير الحكومية في أوربا وحضور الاجتماعات الخاصة بهاوكذلك السعي لدىالحكومات والمجالس التشريعية للدول المانحة الأوربية والعربية لزيادة مخصصاتها للصندوق . بالاضافة الى مهامه كمنسق لبرامج صندوق الأمم المتحدة للسكان في البرتغال واليونان وألبانيا وبولاندا وتشيكوسلافاكيا وهنغاريا وبلغاريا ومالطة ويوغسلافيا وهي الدول الأوربية التي كانت مؤهلة لتلقي مساعدة الامم المتحدة الفنية في شئون السكان .وكان عليه أن يتنقل بين هذه البلدان للاشراف على تنفيذ مشاريع الصندوق التي تنفذها الحكومات المعنية بالتعاون مع منظمات الأمم المتحدة الدولية والاقليمية المتخصصة في تلك الدول .
في 7 سوليو1981 رقي ألى درجة مدير بنفس المهام المذكورة وفي 1 ستمبر 1990 تقررنقل حميع شئون تنسيق برامج الصندوق في الدول الأوربية المذكورة الى مكاتب برنامج التنمية في عواصم تلك الدول والى مقر الصندوق الرئيسي في نيويورك واصبح المكتب الأوربي لصندوق الأمم المتحدة للسكان في جنيف مسئولا عن شئون العلاقات العامة والاعلام بالأضافة الى مهامه الأساسية الأصلية وهي تمثيل الصندوق لدى مكتب الأمم المتحدة الأوربي ومنظمات الأمم المتحدة التي مقرها في أوربا والتنسيق مع الدول المانحة والمنظمات الحكومية وغير حكومية وحضور أجتماعاتها التي تعقد في أوربا وجنيف كممثل للصندوق .
وقد حضرفي هذه الفترة عشرات من المؤتمرات الدولية والأقليمية التي نظمتها الأمم المتحدة في مجالات السكان والبيئة والتنمية الأجتماعية والمرأة وحقوق الأنسان ومئات من إجتماعات لجان الخبراء ومجالس ادارات منظمات الامم المتحدة المتخصصة التي لها علاقة مباشرة بصندوق الامم المتحدة للسكان مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية واللجنة الأوربية التابعة للأمم المتحدة ومنظمة شئون اللاجئين الدولية ومنظمة الهجرة الدولية والانكتاد في جنيف والمكتب الأوربي لمنظمة الصحة العالمية في أمستردام ومنظمة التغدية والزراعة والبرنامج الغذائي في روما واليونسكو في باريس وومنظمة الصناعة وادارة الشئون الأجتماعية في فيينا ومنظمة البيئة في نيروبي كممثل للصندوق وكذلك حضورلجان التنسيق ضمن نظام الامم المتحدة وأجتماعات المنظمات الحكومية والبرلمانية والمنظمات غير الحكومية في جنيف والمدن الأوربية.
وفي 30 مايو1994 أحيل على التقاعد ومنذ ذلك التاريخ وحتى كتابة هذه السطور كلف بعدة مهام كخبيرغير متفرغ وممثل للصندوق في الأجتماعات السنوية للجنة حقوق الأنسان التابعة للأمم المتحدة وبعض الأجتماعات الأخرى كلما استدعت الحاجة اليه .
2 أكتوبر 2006


بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد النبي الكريم

مقدمة
طلب مني كثيرون أن أكتب بعض ذكرياتي عن الأحداث التي عايشتها خلال عملي الحكومي في العهد الملكي الليبي ورغم أني لا اشعر بتحمس لهذه المهمة الصعبة إلا أني وتحث إلحاحهم قررت مراجعة مسودة كتبتها سنة 1970 عن السنوات التي كنت فيها قريبا من أصحاب القرار وحاولت تنقيحها لتكون قابلة للنشر دون تحريف لما جاء فيها من وقائع واحداث وتحليل يعبر عن رأيي في تلك الفترة التي كانت فيها الذاكرة نشطة واعية لتفاصيل ما حصل بالأمس القريب حرصا مني على عدم تعرضها للتغيير والتصحيح في ضوء ما نشر وعرفت حتى الان من الوثائق والمذكرات عن ذلك العهد .
وقبل الدخول في بعض التفاصيل أود أن أبدي الملاحظات التالية :ـ
1ـ رغم نصيحة كثير من الأصدقاء في العهد الملكي بان احتقظ شخصيا للتاريخ بصورة من كل ما استطيع من الوثائق التي تتاح لي الفرصة الاطلاع عليها بحكم عملي القريب من اصحاب القرار.
الا أنني لم اعمل بهذه النصيحة لأحترامي للثقة التي اؤتمنت عليها .
لقد حاولت اجراء تنظيم وتجميع بعض الوثائق الهامة المهملة في الخزائن السرية لرئاسة مجلس الوزراء ولكنني حفظتها في خزائن المكتب في رئاسة مجلس الوزراء ولا أعرف مصيرها بعد الاول من سبتمبر 1969 .
2ـ عدد كبير من الوثائق كانت تحفظ في الخزانة الخاصة برئيس مجلس الوزراء بعد إتخاذه الاجراء بشأنها وعادة ما يأخذ رؤساء الوزارات هذه الوثائق معهم عند إستقالتهم أذا سمحت لهم الظروف بذلك .ولا يعرف مصيرها الا من تولى منصب رئيس الوزراء .
3ـ الكتابة عن العهد ا لملكي الليبي لن تكون دقيقة وموثوقة الا أذا أمكن الرجوع الى الملفات الليبية وبالأخص ملفات مجلس الوزراء ومجلس الامة وتقاريرالشرطة والمخابرات ولا أحد يعرف مصيرها بعد الاول من سبتمبر .
4ـ يوم الاول من سبتمبر 1969 أخذت مع غيري من مسئولي العهد الملكي ألى ثكنات باب العزيزية وقد فتش منزلي بعد ذلك واخذت منه كل اوراقي بما فيها اوراقي الخاصة مثل الشهادات الدراسية والعائلية ولم ترجع ألي ألا بعد ثلات سنوات وكان بعضها محروقا وقيل لي أنها وجدت في خزانة في الحقول خارج طرابلس وقد حاول مختطفوها فتحها ولما عجزوا تركوها وقد فتحتها الشرطة بالنار مما ادى ألى أحتراق بعض محتوياتها ولما وجدت بها أوراقي الخاصة جئ بها الي.
5ـ بعد خروجي من المعتقل يوم 30 نوفمبر 1969 بقيت ملازما للبيت طوال عام 1970 طواعية فلم تفرض علي أية قيود تحدد اقامتي أو تنقلاتي وقد خطرت لي خاطرة كتابة بعض المذكرات خاصة وأن الذاكرة كانت نشطة انذاك وقد تمكنت من تسجيل تفاصيل بعض الأحدات كما عرفتها في فترة عملي بالحكومة من أول ستمبر 1956 ألى أول ستمبر 1969 بما فيها الاحداث التي تلت الاول من سبتمبر .
6ـ إن ما كتبته في هذه المذكرات أعتمد على الذاكرة وقد سنحت لي الفرصة بعد تقاعدي من الأمم المتحدة سنة 1994 لزيارة لندن والاطلاع على ملفات وتقارير السفارة البريطانية خلال كل فترة الحكم الملكي وأقول للتاريخ أن السفراء البريطانيين ومساعديهم سجلوا تفاصيل الأحداث في تلك الفترة والتعريف بالمسئولين عليها وسرد نبذ عن حياتهم وسياسات الحكومات المتعاقبة وتفاصيل مقابلات السفراء ومساعديه مع الملك ورؤساء الحكومات والوزراء والنواب وكبار المسئولين وضباط الشرطة والجيش وزعماء المعارضة والطلاب والمواطنين العاديين الذين فتحوا صدورهم وأفشوا بأسرارهم وأرائهم غير المعلنة علما منهم بأن هذه المعلومات لن تنشر الا بعد فترة طويلة للتاريخ وبعضهم قد لا يعرف أن كل كلمة قالها لدبلوماسي سجلت بحدافيرها . وهي معلومات لا تتوفر في أي مصدر أخر كما يفترض فيها الصدق والحياد لأنها سرية وصادرة عن مصادرتتمتع بثقة في بلادها لنقل فكرة صادقة عما كان يجري في ليبيا وعلى كل حال فالذين كتبوا هذه التقارير بشر يتأترون بما يعتقدون ويعلمون وعرضة للخطأ. وأتمنى لو ترجمت هذه الوثائق ونشرت ووضعت للأطلاع لطلاب التاريخ في ليبيا .وقد قامت بعض دول الخليج العربية بمثل هذا العمل .
7ـ أن المذكرت والكتب التي صدرت حتى طباعة هذه المذكرات من طرف بعض المسئولين السابقين وعلى رأسهم السيدان مصطفى بن حليم ومحمد بن عثمان كانت مساهمة مشكورة في توضيح تاريخ ليبيا في العهد الملكي وأعتقد أن حملة الأنتقادات التي ثارت حول هذه المذكرات تنقصها الدقة فرجل السياسة عندما يكتب وخاصة أذا كان في مستوى رئيس الوزراء فأنه يدافع عن أعماله وسياسة حكومته ورايه يجب أخذه في هذا الأطار ولكنه رأي يعبر عن واقع مجريات الأمور لا يتوفر في المراجع المروية عن الغير.
8ـ لقد خصصت الفصل الأول لسيرة حياتي منذ الطفولة وسنوات الدراسة بهدف أعطاء القارئ صورة عن الحياة السياسية و الأجتماعية في ليبيا في التلاتينات والأربعينات من القرن العشرين وليس المقصود سرد أحداث شخصية لا تهم القارئ. وشيشمل الجزء التاني ذكرياتي عن الفترة بعد بعد الاول من سبتمبر وعملي في الامم المتحدة الذي استمر لأكثر من عشرين سنة أذا سمحت ظروفي الصحية لكتابته وأذا كان في العمر بقية .



الفصل الأول
تمهيد
كثير ما فكرت في احتراف الكتابة وهي رغبة كانت تراودني منذ الطفولة وخلال سنوات الحرب العالمية الثانية وبعدها كنت أ تنافس مع أخي الأكبر علي كتابة صحيفتين بيتيتين لا يقرأهما الا نحن وكنا لا زلنا في مرحلة الدراسة الابتدائية ألا أن تعليمنا اللغوي كان متقدما بفضل الدروس الخصوصية اللغوية والدينية التي كنا نتلقاها اثناء سنوات الحرب وقفل المدرسة وكان كل واحد منا يحاول مناقشة وأنتقاد الآخر في ما ينشره من اراء في صحيفته.وقد ساعد نا على ذلك كون والدنا مدرسا في ذلك الوقت وكنا نشاركه هواية القراءة وخاصة المجلات المصرية كالرسالة والمصوروآخرساعة والصباح وروايات جورجي زيدان والمجلات والكتب الأدبية التي كا نت متوفرة في ذلك الوقت في حانوت السيد محمد جميل في مدينة مصراتة التي كان عدد المتعلمين فيها قليل . وقد ساعدتنا قراءة هذه المطبوعات على تحرير صحيفتينا ومتابعة الحركات الأدبية والأنشطة السياسية في العالم العربي والعالم الخارجي وقد كان خالنا السيد عبدالله بلقاسم عمرباشا المنتصر الذى عاش معنا لفترة طويلة في فترة الحرب زادا غزيرا من المعلومات عن أوربا والعالم وخاصة تطورات أحداث الحرب وقد كان قد درس في جامعة تيفولي الأيطالية وكان يقرأ الجرائد والمجلات الأيطالية ويتابع أحداث الحرب عن طريق الراديو ويشرح لنا ما يجري في العالم ويناقشنا بمشاركة والدنا فى ما نقرأ واحدات الساعة .وقد تعلمنا منه الكثير.وكان يعرف الكثير عن تاريخ ليبيا في العهد العثماني وتاريخ عائلة المنتصر وشجرة العائلة حتى مؤسسها المنتصر وهذا يرجع ألى أنه كان قد عاش مع جده عمر باشا المنتصر بعد وفاة والده وهو طفل وكان عمر باشا المنتصر قائمقاما على سرت وله أملاكا كثيرة فيها . يقال حسب رواية خالي أن جد العائلة المنتصر جاء من الكوفة بالعراق مع مجموعة من المهاجرين العرب ونزلوا في مصراتة وأطلق عليهم قبيلة الكوافي وتولى المنتصرواولاده وأحفاده منصب الشيخ لقبائل الاهالي في مصراتة وقائمقام ومتصرف في مصراتة والخمس وسرت وحصل بعضهم على لقب بك وباشا في العهد التركي . وهناك رأي يقول أن المنتصر الأول جاء من المغرب ونزل في مصراتة ورحبت به قبيلة الكوافي وأختير شيخا عليها ثم عينت الحكومة العثمانية أبنه الشيخ بلقاسم شيخا على قبائل الأهالي ويقطن في مصراتة ثلات مجموعات من القبائل أهالي وكوارغلية وأولاد شيخ ويقال أن الأهالي اصلهم من سكان ليبيا القدامى (البربر)ثم أستعربوا بمرور الزمن تحت الحكم العربي والكوارغلية أصلهم من الأتراك والأعاجم الذين جاءوا من كل أنحاء الأميرطورية العثمانية الى مصراتة ثم أستعربواأما أولاد الشيخ فهم القبائل العربية التي جاءت وسكنت مصراتة بعد الفتح العربي لليبيا والله أعلم .

الطفولة
ولدت يوم 4 أبريل 1932 في مدينة مصراتة وكنت الأبن الثاني بعد أخي الأكبر علي لابوين من عائلة المنتصر وكان والدي لا زال يدرس ويعيش مع جدي أحمد السني مصطفى المنتصرالذي كان ميسورا ويملك أراض شاسعة في مصراتة وتاورغاء ومسلاتة وبنغازي وكان له ثمان بنات وأبن واحد هو والدي ولم يعمل في الحكومة أو التجارة بل كان يعيش على دخل أراضيه وكان يعامل الفلاحين معاملة حسنةعملا بنظام المغارسة حيث جرى العرف على أعطاء النصف من الناتج للمالك في المحاصيل المطرية والربع في المحاصيل المروية ويصبح الفلاح مالكا لنصف الأرض بعدأتمام غرس عدد معين في العقد من الأشجار المثمرة في فترة محددة تمتد لعشرين سنة .وهذا جعل معظم الفلاحين ملاكا لأراضيهم بعد فترة زمنية معينة .
بعد مولد أختي فاطمة وهي ثالتنا أضطر والدي ألى مغادرة بيت والده دون رضاه ليعيش مستقلا فقد كان من الصعب على والدتي العيش مع عماتي في بيت واحد رغم أتساعه وخاصة بعد ان تزايد عدد أفراد أسرتها وقد أضطر والدي للبحت عن وظيفة وكانت الحكومة الأيطالية لا توظف الليبيين الا في وظائف تدريس اللغة العربية أو الوظائف الأدارية البسيطة أو المؤقتة وعين في وظيفة في جهاز الأحصاء ثم اصبح مدرسا بعد نجاحه في أمتحان التدريس وساعده والده بأعطائه منزلا قريبا منه ورغم مساعدة والده وخالتيه في طرابلس الا ان ظروف معيشة العائلة أصبحت صعبة بعد حياة مريحة في بيت والده . وهكذا ترعرت أنا وأخوتي في جو عائلي متواضع محافظ جدا . وعندما كنا أطفالا وحتى نتمكن أنا وأخي من الحصول على تغدية صحية كا ن أخي الأكبر علي يقيم في طرابلس مع خالة والديه أما أنا فكنت أتناول طعامي بأستمرار مع جدي في بيته القريب من بيتنا .
كانت عائلة المنتصر تتمتع بمركز إجتماعي وسياسي متميزولها تاريخ طويل في خدمة الناس وكانت تتمتع بمكانة لدى الحكومة العثمانية حيث تولى بعض أفراد العائلة وظائف أدارية عالية وحصلوا على ألقاب تركية كثيرة منها الشيخ والبكوية والباشوية .وقد فرضت علينا هذه الظروف العائلية قيودا وألتزامات منذ الطفولة فقد كان ممنوعا علينا مشاركة أطفال الحي العابهم ومرحهم في الشارع دون رقابة وكنا نذهب ألى المدرسة مع مرافق لنا بأستمرار وكان الناس يعرفون العائلة بأسم عائلة البي(بك التركية) وينادون أفرادها بلقب بي حتى الاطفال منهم . وكانت العائلة محسودة على مكانتها الأجتماعية من طرف المتطلعين الى النفوذ والسيطرة ومع هذا فقد كان أحترام الناس العاديين والفلاحين بصفة خاصة لنا ووجودهم حولنا دائما وتقديم خدماتهم لنا عن طيب خاطر وطواعية يبعث فينا رضا وتعلقا بهم وتقديم كل ما نستطيع من خدمات لهم ومشاركتهم مشاكلهم وافراحهم وأحزانهم وكانت بيوتنا مفتوحة أمامهم وتعج بالزوار وخاصة في أيام السوق حيت يتوافد الفلاحون على السوق في مصراتة لبيع محاصيلهم وشراء حاجاتهم وكانوا يحضرون لنا بعض منتوجهم من الخضار والفواكة بأستمراروكنا نقدم لهم ما نستطيع من ضيافة متواضعة. وأذكر أن بيتنا الذي كان مواجها للسوق الرئيسي كان دائما مفتوح الباب لا يغلق خلال الأربع والعشرين ساعة دون خوف من سارق او معتد .

مرحلة الد راسة الأبتدائية
بدأت التعليم في المدرسة مبكرا فوالدي كان مدرسا في زاوية المحجوب وأذكر أول يوم ذهبت فيه إلى المدرسة وعمري كان حوالي الخامسة مع والدي وأخي علي وقد اعطيت كراسة وقلم حبريستعمل مع المحبرة فأرقت الحبر على الكراسة وملابسي وقرر يعدها والدي إرجاء ألتحاقي بالمدرسة الى السنة التالية.وفي السنة التالية دخلت مدرسة مصراتة الأبتدائية المركزية بعد أن نقل والدي أليها.
كانت الحياة بسيطة في متطلباتها في تلك الفترة وكان مستوى المعيشة لعائلتي متوسطا إذا قورن بحياة الغالبية الفقيرة للشعب وكان دخل والدي محدودا . وبعد فترة ولد اخي الهادي قبل الحرب العالمية الثانية وكان رابعنا .
ذهب والدي الى الحج في سنة 1938 وأخبرنا بأحوال العالم العربي الذي لا نسمع عنه كثيرا تحت حكم أيطاليا وكان العرف أن يحتفل بمناسبة حج احد أفراد العائلة ويدعى الاقارب والاصدقاء والمعارف الى مآدب الأكل وتحتفل النساء ويعم الحي زغاريت النساء وتقام الولائم وأذكر أن الوالد أخبرنا بما يجري في فلسطين وقيام بريطانيا بالسماح للمهاجرين اليهود بالمجئ الى فلسطين وكان الناس متحمسين لما يجري في فلسطين رغم وجود عدد كبير من اليهود يعيشون بيننا وكانت علاقتنا معهم علاقات ودية وكنا نتزاورونحتفل معهم بأعيادهم ويحتفلون معنا بأعيادنا وكنا نسكن قريبا من حارة اليهود وكنت أسمع صوت الزمور في الفجر مناديا للصلاة وكثيرا ما يتجاوب مع أذان الفجر في الجوامع المجاورة .
قد أحضروالدي معه من الحج قصيدة مكتوبة باليد عن فلسطين حفظتها عن ظهر قلب ولا زلت أتذكر معظم ابياتها أذ تقول :ـ
فلسطين فلسطين نفوس العرب تفديك
أيدنو منك صهيون ورب العرش يحميك
أسود نحن لا نخضع وعرب نحن لا نخنع
فيا صهيون لا تطمع فلسنا نرهب المدفع
وتنتهي بهذا البيت
فخلي الجهل في لندن فأمر العرب قد جد
ـــــــــــــ
قامت الحرب سنة 1939 وأنا في السنة الثانية الأبتدائية فأغلقت المدارس الرسمية ولجأنا الى المدارس القرآنية في المساجد وكانت الدراسة التقليدية بها تتمتع بأحترام الناس فهي توفر للطالب حفظ القرآن الكريم وكذلك دراسة العلوم الدينية واللغة العربية هذا كما خصص لنا الوالد دروسا خصوصية في النحو والصرف على أيدي بعض كبار المشايخ الذين درسونا النحو في كتاب الكفراوي وحفظت الاجرومية وبعض الفية أبن مالك وحوالي ربع القرآن الكريم عن ظهر قلب .
وعندما أصبحت ليبيا كلها ميدانا للحرب أنتقلتا ألى الريف وعشنا مع عائلة السيد الطاهر الماني من سكان الأرياف كان يرعى مزارع لجدي في مكان يعرف بعباد وكان ميسور الحال بالنسبة لغيره من الفلاحين ورجل متدين ومتزوج من امرأة من عائلة معروفة في مصراتة وبالأضافة ألى عمله في الزراعة كان يشتغل أيام السوق في تجارة الصوف وكانت تضحيته كبيرة وقد ساعده والدي كما ساعد غيره في التوسط لدي الطبيب الأيطالي الذي كان مسئولا عن الكشف الطبي للمجندين الليبيين للحرب مع أيطاليا وكان يعرفه جيدا بان يعفيهم من التجنيد بحجة عدم صلاحيتهم صحيا . وقد بلغ من كرم وحسن ضيافة السيد الطاهر الماني أن ترك بيته لنا ولجدي وبناته وأنتقل هو وأطفاله الى زريبة من جريد النخيل حتى بنى دارا حولها .
كانت ليبيا مسرحا للحرب العالمية الثانية وقد جرت على الليبيين مشاكل المآسي والفاقة وكانت طائرات الحلفاء في أول الحرب ثم المحور بعد الأحتلال تقذف بقنابلها المدن الليبية ومنها مصراتة وتقتل المئات في تلك المدينة وأذكر يوم السبت الاسود في مصراتة حيت قذفت الطائرات الانجليزية السكان البدو الذين جاءوا الى المدينة بالألاف لأخذ التموين المخصص لهم واعتقد الطيارون أنهم جمعا من الجنود الأيطاليين وقد مات منهم العشرات وجرح المئات ولم يبق بيت في مصرتة الا وفقد أو جرح له عزيز لهم وكان من بين الجرحى زوج أحدى عماتناوكانت الطائرات كثيرا ما تخطي وتضرب أحياء ومزارع المدنيين وفعلا سقطت قريبا من البيت الذي كنا نعيش فيه كثير من القنابل ومع هذا كان والدي يذهب للعمل حيت كلف المدرسون باعمال ادارية في فترة غلق المدارس وكنا نذهب لزاوية المنتصر أو كما تعارف أهل مصراتة على تسميتها ب "زاوية البي" في مركز المدينة لحفظ القران . وقد خصصت لأطفال العائلات الميسورة بعد ذلك مدرسة في الريف مجاورة لسكنانا انتسبنا أليها . وكنا عندما تبتعد المعارك عن مصراتة نرجع الى بيوتنا في المدينة وقد اضطر جدي وبناته الانتقال الى بيت آخر في احدى المزارع القريبة منا نظرا لضيق البيث الذي كنا نسكنه معا.

بعد أحتلال الانجليز لمصراتة وأنسحاب الطليان والألمان منها عدنا الى بيوتنا في مصراتة المدينة لكن الحرب أستمرت في ليبيا بعيدا عنا وكانت تؤتر في حياتنا .
وقد تفتحت مداركنا في هذا الجوالخانق ومشاكل الحرب وحالة الفقر التي يعيشها الناس وكانت حياتنا في البيت باشراف والد متعلم وخال مثقف تعلمنا منهما الكثير فقد كانا على جانب كبير من الثقافة والمعرقة وتجارب في الحياة وأذكر أني كنت رغم صغري أناقشهما في ما يجري في الحرب بين المحور والحلفاء وكنت متحمسا للألمان وللقائد العسكري رومل كمعظم الليبيين وكنت مبهورا بهم وبشجاعتهم التي كانت أساطير تروى بين الناس بينما كان الناس يكرهون أيطاليا بسبب أستعمارها لهم . وكان جدي احمد السني المنتصر يكره أيطاليا لأسباب كثيرة أهمها أنها في حربها ضد الليبيين بعد الحرب العالمية الأولى أعتقلته في مصراتة وقدم للمحاكمة بتهمة مساعدة المجاهدين(الفلاقة كما كانت تسميهم أيطاليا ) لدخول مصراتة وحكم عليه بالسجن مدى الحياة ثم خفف الحكم الى عشر سنوات بعد أن ذكر محاميه للمحكمة أنه أب لثماني بنات صغيرات لا عائل لهن وقد قضى منها سنتين ونصف في سجن قلعة طرابلس ثم أفرج عنه بعد صلح أيطاليا مع حكومة مصراتة بزعامة المجاهد رمضان السويحلي .
وكان جدي قد ألقي القبض عليه مع مجموعة من وجهاء مصراتة بعد واقعة القرضابية وعصيان المجاهد رمضان السويحلي مع غيره من المجندين الليبيين الجيش الأيطالي وأنضمامهم الى المجاهدين بقيادة السيد صفي الدين السنوسي وكان من بين الذين أعتقلوا مع جدي أخوة رمضان السويحلي ومنهما أحمد وسعدون الذين كانا مع جدي أيضا في سجن طرابلس وذلك بحجة التأمر مع رمضان السويحلي وا اتخطيط لهذا العصيان مقدما وقد ساعده ذلك على أن يحظى بمعاملة خاصة من حكومة رمضان السويحلي وأقامته في مصراتة رغم العداء الذي كان قائما بين رمضان السويحلي وبين أبناء عمر باشا المنتصر منذ العهد العثماني لأسباب خاصة والذي وصل الى درجة الأقتتال لاسباب عائلية . وبدأ هذا الخلاف بقيام رمضا ن السويحلي وأخوته بقتل بلقاسم المنتصر إبن عمر باشا المنتصر عندما كان مسافرا في طريقه من مصراتة الى طرابلس عند موقع وادي عين كعام قرب مدينة زليتن في العهد العثماني أنتقاما لسوء سلوكه وأعتدائه على بعض افراد عائلة السويحلي ولم يكن معه سوى حارس واحد اسمه أحمد درم تخلف عنه في زليتن لشراء بعض الطعام ولما لحقه وجده مقتولا وقد قامت الحكومة العثمانية بالقاء القبض على رمضان السويحلي وأخوته وأخذتهم الى قبرص للمحاكمة بعيدا عن جو الصراع الذي نتج عنه قيام عبد القادر عمر المنتصر، أخو بلقاسم باثارة قبائل الأهالي في مصراتة مطالبا بأخذ الثار لأخيه بينما قام اخوه التاني أحمد ضياء الدينعمر المنتصر بمتابعة محاكمة أبناء الشتيوي السويحلي في قبرص التي أخذت وقتا طويلا مع الحكومة العثمانية وكلفته أموالا باهضة اضطرتهم ألى بيع اراض للعائلة لتغطية التكالي و بعد ان تخلت تركيا عن ليبيا لأيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى أوقفت المحاكمة وأطلق سراح رمضان ( ألشتيوي) وأخوته ورجعوا الى مصراتة التي كانت أيطاليا قد أحتلتها من ضمن المدن الساحلية الليبية .
بعد أحتلال أيطاليا للمدن الرئيسية ، قامت بتاليف جيش من الطرابلسيين لمحاربة السنوسية ) في برقة وعرضت أيطاليا أمر قيادة المجندين الطرابلسيين على عمر باشا المنتصر وأبناؤه وكانوا يتولون مناصب قائممقام في مصراتة وسرت في العهد العثماني ولكنهم رفضوا لأنهم من أتباع طريقة الأخوان السنوسيين الدينية منذ قدوم السيد علي السنوسي الكبيرمن الجزائر ونزوله عند عائلة المنتصر في مصراتة وهو في طريقه ألي المشرق للحج وأقامته بعد رجوعه من الحج في برقة .وقيل أن عمر باشا المنتصر قال للأيطاليين لوأعطيتموني الدنيا وما فيها فلن أحارب الأشراف السنوسيين وكان معروفا بأنه يحترم ويخاف من الأشراف و(المرابطين ) .وبعد ذلك لجأ الأيطاليون الى رمضان السويحلي خصم عمرباشا المنتصر واولاده وهو رمضان الشتيوي وعرضوا عليه قيادة المجندين الليبيين فأستغل الفرصة وقبلها للتخلص من مضايقة خصومه وبع ذلك انقلب على الجيش الأيطالي مع غيره من المجندين الطرابلسيين في معركة القرضابية المشهورة حيت هزم الجيش الأيطالي هزيمة نكراء ورجع رمضان الشتيوي منتصرا الى مصراتة مع السيد صفي الدين السنوسي ثم أختلف معه مما دفع صفي الدين الى السفر سرا ألى برقة تاركا مصراتة في أيدي رمضان الذي أعلن نفسه رئيسا للجمهورية . وقامت أيطاليا قبل أنسحابها من مصراتة تحت ضغط المجاهدين بنقل أعيان مصراتة كسجناء كما سافر عمر باشا المنتصر وأولاده الى طرابلس التي كانت تحت الحكم الأيطالي بينما بقي بعض أفراد عائلة المنتصر في مصراتة وتعاونوا مع رمضان السويحلي وحصل نزاع بينهم وأبناء عمرباشا المنتصر وصل الى درجة القطيعة والتأمروذهب بعضهم مع رمضان الشتيوي في حملته ضد ورفلة وعبد النبي بلخيرالتي قتل فيها رمضان بينما كان عبد القادر المنتصر وعبد العظيم المنتصر يحاربان مع عبد النبي بلخير ضد جيش رمضان الشتيوي وأحدتث وفاة رمضان الشتيوي الى خلاف كبيربين زعماء طرابلس من المجاهدين وأنقساما أستغلته أيطاليا التي كانت تشجع أحدهما على الأخر وتمدهم بالمال والسلاح وتخصص لهم مرتبات ومساعدات .
كان جدي أحمد السني المنتصركما ذكرت أعلاه يكره أيطاليا ويتمنى أن يخسر المحور الحرب وأنتهاء حكم ايطاليا ومجئ بريطانيا إلى التي كانت في رأيه تحب وتعرف العرب وستعمل على تحرير ليبيا وتحقيق إستقلالها وهو الأمل الذي كان يراود الليبيين في ذلك الوقت . كانت ايطاليا تسعى لضم ليبيا وجعلها جزءا من أيطاليا وقد هجرت لها فعلا قبل بداية الحرب العالمية الثانية مئات الالاف من ألأيطاليين واجبرت الليبيين من الموظفين والتجار على التجنس بالجنسية الأيطالية. واذكر أن جدي كان فرحا يوم قتل المرشال بالبو نتيجة سقوط طائرته قرب طبرق وكان والدي قد سمع الخبر على الراديو وطلب مني أن أجري وأخبر جدي وكان بيته قريبا منا و أذكرأنه كان فرحا أيضا يوم أحتلال الأنجليز لمصراتة ونظرا لفقدان بصره الذي كان يعزيه الى ما قاساه في سجن أيطاليا والنوم على الأرض والبلاط البارد مدة طويلة فقد كان يصر على والدي أن يذهب الى المتصرف البريطاني ويهنئه باسمه ويقدم نفسه له بهدف أعداده للمشاركة في النشاط السياسي الذي كان متوقعا بعد أنتهاء الحرب. الا أن والدي كان يختلف عن جدي وكان مخلصا لمهنة التدريس التي أختارها لنفسه وليست لديه أحلام سياسية رغم المغريات والفرص المتاحة لأمثاله من المتعلمين خاصة من العائلات المعروفة ذات النفوذ بين المواطنين وقد بقى طوال حياته بعيدا عن السياسة مدرسا ثم اداريا في التعليم حتى بعد الأستقلال الذي أتاح الفرصة للمتعلمين من أمثاله لأستلام مناصب هامة وواصل مهامه في التعليم حتى تقاعده سنة 1969 من منصبه كوكيل لكلية العلوم بالجامعة الليبية . وقد توفي جدي أحمد السني بعد الأحتلال البريطاني بفترة وجيزة وأنتقلنا بعد ذلك الى بيت العائلة الكبير للعيش مع عماتنا.
بعد انتهاء الحرب عدت وأخي علي الى المدرسة الأبتدائية بمصراتة وقد اصبحت الدراسة فيها باللغة العربية بعد أن كانت بالايطالية في العهد الايطالي مع تدريس العربية كلغة ثانية والدين فقط . كان مستوى الدراسة في مدرسة مصراتة الأبتدائية بعد الحرب فوق المستوىالأبتدائي العادي بعد أمضى الطلاب عدة سنوات في تعليم خارج المدرسة كما كان أساتذتنا من الليبيين المتقفين وكانوا يعلموننا ما يعرفون من العلوم الدينية واللغوية فقد كنا ندرس النحو والصرف والأدب والشعر و المنطق والحساب والجبر والهندسة والطبيعة الخ ولازلت أذكر بعض أساتذتنا الذين درسونا ومنهم الأستاذ محمد بن مسعود فشيكه ووالدي أبراهيم السني المنتصر والاستاذعبد الله الترجمان والاستاذ محمد الطبولي وبدأنا بعد الحرب في الصف الثالت وكان عددنا محدودا وكان بعض فقهاء الجوامع يعارضون وينصحون الناس بعدم أرسال أولادهم الى المدرسة ويقولون أنها حرام ضد الدين كما كان الحال في العهد الأيطالي عندما تبنى فقهاء الجوامع ورجال الدين حملة ضد التجنس بالجنسية الأيطالية والتعليم الأيطالي خوفا من القضاء على الهوية العربية والأسلامية لليبيين.
كانت ليبيا بعد الحرب تختلف عن عهد أيطاليا حيث تمتع الناس بالحرية وأظهار شعورهم الوطني وبدأوا في تأسيس النوادي الرياضية والأدبية وجمع التبرعات لفلسطين كما بدا التطوع للجهاد في فلسطين وأذكر أن يوم ذهاب متطوعي مصراتة الى فلسطين كان أحتفالا عظيما لم تشهد المدينة له بديلا . وكانت الحياة الاقتصادية صعبة ومرت سنوات جفاف في غرب ليبيا وقل المعروض من الحبوب كما كانت المواصلات صعبة بين غرب ليبيا وشرقها حيت تتوفرالمحاصيل الزراعية.
تطور الأمور في فلسطين شجع اليهود الفقراء على الهجرة الى فلسطين وكانت الادارة البريطانية قد سمحت برسل الصهيونية دخول ليبيا لأعداد اليهود للهجرة وأتوا بالأطباء الاخصائيين لمعالجة فقراء اليهود وخاصة مرض التراخوما قبل شحنهم الى اسرائيل .وقد تعكر الجو بين اليهود والعرب بشكل ملحوظ أدى أى أحدايث دموية أحيانا الا أن وضع اليهود قد تحسن في عهد الادارة البريطانية وأصبح منهم الموظفين وضباط ورجال البوليس كما تقوى مركزهم التجاري وأستولوا على السوق وتمتيل جميع الشركات الاجنبية وشراء الأراضي من الأيطاليبن الذين بدأ ملاكها في الهجرة الى أيطاليا بعد الأحتلال البريطاني تحسبا للمستقبل وكانت الهجرة الأيطلية جماعية وكلية في برقة اما في طرابلس فقد بقى بضعة الأف منهم انتظارا لتقرير مصير ليبيا بعد الحرب وبقوا بعد الأستقلال حتى الفاتح من ستمبر .
كان أخي علي يسبقني في الدراسة بسنة وتخرج من الأبتدائية ولم تكن هناك فرصة
لدخوله مدرسة ثا نوية لعدم وجود تعليم ثانوي في كل أقليم طرابلس ولم تكن الحالة المالية لوالدي تسمح بأرساله الى مصرأو أي بلاد أخرى خارج ليبيا لمواصلة تعليمه ولهذا تفرغ لحفظ القرآن ودراسة العلوم اللغوية والدينية واعد نفسه للأمتحان لشهادة التدريس وفعلا نجح في الأمتحان المعلمين وتم تعينه كمدرس أبتدائي في زاوية المحجوب وكان يقطع المسافة بين البيت ومدرسة زاوية المحجوب(12 كم) بالدراجة . وأنتقل بعدها الى مدرسة مصراتةالأبتدائية.
وبعد أتمامي للدراسة الابتدائية في صيف 1946 علمنا بافتتاح اول مدرسة ثانوية في طرابلس فقرربعض زملائي الميسورين الالتحاق بها وهم أحمد محمد بن لامين
وعبدالله أسماعيل بن لامين ومحمد سالم القاضي ومحمد العريفي وكان الاولان من أبناء كبارتجار مصراتة وكان الثالت إبنا لعميد بلدية مصراتة والثالت أبنالأكبر موظف أداري في مصراتة وقررت أيضا المحاولة مع والدي للموافقة على سفري معهم لمواصلة دراستي ولم يكن الأمر سهلا فمصاريف الدراسة في طرابلس كانت باهضة بالنسبة لوالدي الذي كان مدرسا ولم يستطع أرسال اخي علي للدراسة قبلي وكانت الأقامة في القسم الداخلي تكلف 1500 مال ( عملة أصدرتها الأدارة البرطانية لتحل محل العملة الأيطالية ) شهريا ومصاريف المدرسة 1000 مال على قسطين وهذه مبالغ كبيرة ولكن تحت إصراري ودعم والدتي وافق والدي على السماح لي بالسفر مع زملائي للألتحاق بمدرسة طرابلس الثانوية في أول سنة دراسية لها .
لم يكن هذا قرارا سهلا بالنسبة لوالدي وكان محرجا مع اخي علي الذي لم يتمكن من مواصلة دراسته الا أن اتمام دراستي الأبتدائية صادف أفتتاح المدرسة الثانوية في طرابلس ولم أضطر كما أضطرأخي علي دخول التدريس مبكرا لعدم توفر تعليم ثانوي عقب تخرجه من الأبتدائية . ولم يكن هذا القرار سهلا بالنسبة لوالدتي أيضا فلم تتعود البعد عن أبنائها وكان معروفا أني لن أستطيع زيارة العائلة الا في مناسبات الأعياد لأ نه رغم أن طرابلس لا تبعد عن مصراتة الا 200 كم الا أن المواصلات في تلك الايام كانت صعبة وتكلف كثيرا وقد خفف من حدة فراقي لوالدتي أن أختها كانت تعيش في طرابلس وكانت زوجة لأبراهيم سالم عمر باشا المنتصر الذي كان يعيش مع والده عميدعائلةالمنتصرومن كبار الساسة في ولاية في أقليم طرابلس وتولى رئاسة الجبهة الوطنية بعد تاسيس الأحزاب السياسية ثم ترأس حزب الأستقلال وكان مفروضا ان أزورخالتي أثناء أقامتي في طرابلس وأن تشملني بعنايتها خاصة أنها لم تنجب أطفالا وكانت مشرفة على بيت عمها سالم المنتصر المذكور.


الدراسة الثانوية
وهكذا سافرت الى طرابلس وأقمت في القسم الداخلي وبدأنا الدراسة وأفتتحت المدرسة الثانوية رسميا في احتفال حضره الأعيان وكبار ضباط الادارة البريطانية
وكان يتولى مهمة مدير المدرسة الأستاذ عبد الحكيم جميل وهو سوداني بالأضافة ألى مهامه الأصلية كمدير لادارة المعارف العربية في ولاية طرابلس وكان المدرسون ليبيين وأذكر منهم الاساتذة محمد بن مسعود فشيكه ومحمود فرحات وفؤاد الكعبازي والمهدي الحجاجي والهادي عرفة والأمين الحافي ومظفر فوزي الأميروالأستاذ نصر الدين الأسد وكان من فلسطين وقد أشتهر بعد ذلك وأصبح عميدا لكلية الأداب في جامعة القاهرة ثم مديرا للجامعة الأردنية ووزيرا للتعليم في الحكومة الأردنية وكان له الفضل في تمكننا من تعلم اللغة العربية إذ كان معروفا ومشهورا في مجال تخصصه . هذا وكان بعض موظفي الأدارة البريطانية من العرب يأتون مساء لتعليمنا اللغة الأنجليزية وأذكر منهم الأساتذة موسى إبشوتي ومنير الطيبي وقد إشتهرا أخيرا في الأذاعة البريطانية والأستاذ شكال وكان يعلمنا اللغة الفرنسية .
وفي السنة الثانية قام بالتدريس الى جانب هؤلاء أعضاء بعثة التدريس المصرية وتولى رئيسها مهام مد ير المدرسه وكان أسمه الاستاذ مصطفى فهمي .
كانت حياة القسم الداخلي شيئا جديدا بالنسبة لنا فلم نتعود الحياة بعيدا عن اهالينا في الماضي وكان طلاب القسم الداخلي من مدن الدواخل في أقليم طرابلس وأذكر منهم عبداللة سويسي وعون رحومة ومبروك العجيل ويحيي عمرو ومسعود المقدمي ومسعود قنان وعمران العزابي ونوري بازيليا وخيري الصغير ومحمد قويدربالأضافة الى طلاب مصراتة السابق ذكرهم وكان المسئول على القسم الداخلي الأستاذ محمود فرحات يساعده السيد خيري فرحات وبأشراف مدير المدرسة .
وتكرمت خالتي زوجة أبراهيم سالم المنتصر بدعوتي لتمضية نهاية الاسبوع معهم والاهتمام بتنظيف ملابسي وكنت أنام في بيت سالم المنتصر يوم الخميس وأرجع الى القسم الداخلي مساء الجمعة وكنت أتناول العشاء والغذاء رغم ضغر سني على مائدة سالم المنتصروكانت دائما تضم كبار رجال البلد والضيوف العرب وكان بعضهم يلازمونه باستمرار وأذكر منهم السادة عون سوف والدكتور خيري بن قدارة والعيساوي بوخنجر وابنه أبراهيم المنتصر وكان من ضيوفه كثير من زعماء البلاد وكبار زوار ليبيا العرب ومنهم الزعيم التونسي الحبيب ابو رقيبة وغيرهم الذين لم تسعفني الذاكرة بتذكرهم . وقد أستفدت من مشاركتهم المائدة والأستماع الى أحاديتهم فقد كانوا يتناولون الشئون السياسة الليبية والعربية والعالمية وكانت ليبيا في فترة الأربعينات تمر بفترة هامة وتنتظر البت في مستقبلها من طرف الدول الكبرى المنتصرة في الحرب تم من طرف الأمم المتحدة التي أحيلت عليها مسئولية البت في مستقبل المستعمرات الأيطالية .
وكانت تصرفات الأدارة البريطانية والنشاط السياسي للأحزاب والشخصيات السياسية دائما في طليعة مواضيع التعليق وكان ابنه أبراهيم ذا ثقافة إيطالية عالية ومطلع على ما يجري في العالم بمتابعة الأذاعات والصحافة الأيطالية وكان يحدثهم عما يجري في العالم الخارجي والأحداث الدولية . ولما كان طلاب المدرسة الثانوية في تلك الفترة يشاركون في النشاط السياسي على أوسع نطاق فقد كان دوري على المائدة أعطاء فكرة عما يجري من مظاهرات وخطب خاصة بعد أستقالة السيد سالم المنتصر من رئاسة الجبهة الوطنية وعزلته المؤقتة عن المشاركة في النشاط السياسي وانفراد السيد بشير السعداوي بزعامة الحركة الوطنية على رأس هيئة التحرير الوطنية والتفاف جماهير الشعب حوله .
كانت المدرسة الثانوية بطرابلس في مبنى المدرسة الأسلامية العليا التي أسسها الأيطاليون وأنتهى نشاطها بعد زوال الحكم الأيطالي وقد أستخدم المبنى أيام الحرب كتكنة عسكرية للقوات البريطانية وقد خصص قسم منها للمدرسة الثانوية وبقى معظم المبنى محتلا من طرف الجنود الأنجليز وكان الطلبة الليبيين الصغار في القسم الداخلي يشاركو ن الجنود البريطانيين نفس المبنى و الجلوس على سطح المبنى جنبا ألىجنب في أوقات الفراغ والعطلات للتمتع بشمس الشتاء. كما كان طلاب القسم الداخلي يساهمون في عملية رفع الأنقاض من بعض أجزاء مبنى المدرسة المهدم نتيجة لتعرضه للقنابل أثناء الحرب.
كانت الدراسة في المدرسة الثانوية حقل تجارب للمناهج الدراسية فقد استورد الأنجليز المناهج الدراسية من فلسطين ومصر والسودان التي كانت تحت السيطرة البريطانية وكذلك كان المدرسون متعددي الجنسيات وقد كان هذا التعدد في المناهج وفي المدرسين مصدر ضعف وقوة في آن واحد فكان مستوى التعليم ممتازا يفوق غيره في البلاد التي أستوردت منها هذه المناهج وكانت رغبتنا كطلاب ليبيين في تعلم المزيد كبيرة وكنا نشعر بحاجة بلادنا ألى متعلمين ولم يزد عدد المتعلمين الجامعيين في ليبيا في تلك الفترةعن بضعة أفراد وكانت رغبتنا في مواصلة تعليمنا الجامعي قوية وأذكر أنه في السنوات الأخيرة 1949ـ1950 كانت الأدارة البريطانية مشغولة بتعيين و تدريب الموظفين الليبيين لتلييب الوظائف الأدارية والفنية الرئيسية أستعدادا لأستقلال البلاد المقرر له نهاية 1951 وأتجهت أنظار والي طرابلس الأنجليزي أنذاك المستر بلاكلي الى طلاب مدرسة طرابلس الثانوية بصفتها أعلى معهد تعليمي في البلاد وقد زارنا شخصيا وعرض علينا وحاول أن يقنعنا بدخول دورة تدريبية وقبول وظائف أدارية عالية ولكن معظمنا رفض عرضه وأصر كل مناعلى مواصلة دراسته الجامعية .
في سنة 1949 عندما كنت في السنة رابعة ثانوي نقل والدي من وظيفة مدير التعليم بمصراتة الى طرابلس كمدير للتعليم بها وهكذا أنتقلت العائلة الى طرابلس وغادرت أنا حياة القسم الداخلي في المدرسة للعيش مع العائلة من جديد وكان أخي علي قد نقل بدوره كمدرس من مدرسة مصراتة الأبتدائية الىمدرسة طرابلس الأبتدائية بشارع ميزران وعشنا في أول الأمر في شقة صغيرة خلف ميدان الشهداء ثم أنتقلنا ألى شقة في أخر شارع ميزران حتى أشترى والدي بيتا كبيرا في شارع حلب خلف شارع الأستقلال والمحادي لشارع حسونة باشا هذا وقد ولد في يناير سنة950 1 أخينا الأصغر عبد العظيم وكان اخي أحمد السني قد ولد سنة1947في مصراتة وكنت غائبا في المدرسة في طرابلس أنذاك ولما رجعت في عطلة الصيف وجدت القادم الجديد في حجر أمه . وهكذا أصبحنا ستة أبناء خمسة أولاد وبنت على قيد الحياة وقد مات أخ لنا وأختان وهم أطفال قبل وبعد الحرب لعالمية الثانية مباشرة. أنتقلت المدرسة الثانوية بدورها الى مبنى جديد يشارع ميزران وكان هو بدوره تكنة عسكرية بريطانية وكانت مجاورة للبيت الذي كنا نسكنه وقد اصبحت أشارك أخي حجرة نوم واحدة وكان يدرس اللغة الأنجليزية ويتعلم خارج المدرسة ألى جانب عمله كمدرس ويحاول بجد رفع مستواه العلمي كما كان بفعل غيره من الذين لم تتح لهم فرص مواصلة التعليم العالي وكان ألى جانب كبير من الذكاء ومزايا عديدة أخرى وله أسلوب ممتاز في الأنتقاد وطلاقة اللسان و يملك موهبة للنكات اللاذعة. كلها صفات كانت تبشر بمستقبل ناجح وفعلا تحقق هذا فقد قضى كل حياته بعد التدريس في الخارج كدبلوماسي ليبي في لندن وروما وتدرج حتى وصل ألى درجة قائم باعمال أول سفارة ليبية في الجزائر ثم سفيرا في يوغسلافبا في العهد الملكي ثم سفيرا في فنزويلا وسيرنام والبرازيل وكوبا والأرجنتين وفي البعثة الليبية في نيورك في الأمم المتحدة بعد الفاتح من سبتمبرالثورة وقد أستمر في نيورك حتى 1994 . وقد أنتخب رئيسا للجنة الخامسة للجمعية العامة للامم المتحدة مرتين وترأس عدة لجان تابعة للامم المتحدة .
كانت سنوات دراستي في طرابلس تتميز بفترة نشاط للحركة الوطنية في ليبيا إذ بدأت الحركات الوطنية تنادي بالأستقلال ووحدة ليبيا وكان مستقبل المستعمرات الأيطالية السابقة لا زال تبحثه الدول الكبرى المنتصرة في الحرب وقد عجزت على إتخاذ قرار بشأنها فقد كانت روسيا تحاول الحصول على الوصاية على طرابلس ولم تكن أمريكا وبريطانيا راغبتين في توسع روسيا جنوبا في البحر المتوسط وقد أحيل الموضوع للأمم المتحدة . كان النشاط الوطني في الأول يتركز في النوادي التي أسست في عهد الأدارة البريطانية وكان نشاطها أجتماعيا موجها نحو الأدب والرياضة . ثم بدا تأليف الاحزاب السياسية كالحزب الوطني وتراسه الحاج مصطفى ميزران وحزب الكتلة الوطنية وكان رئيسه الاستاذ على الفقيه حسن وحزب العمال وترأسه السيد بشير بن حمزة وحزب الاتحاد الطرابلسي المصري وتراسه الاستاذ علي بن رجب ثم تألفت الجبهة الوطنية من معظم الأحزاب وترأسها السيد سالم المنتصر وقد تأسس بعد ذلك حزب المؤتمرالذي حل محل الجبهة الوطتنية برآسة السيد بشير السعداوي وضم زعماء الحزب الوطني ومعظم الشخصيات الهامة من مدينة طرابلس والدواخل وكبار التجار وموظفي الأدارة البريطانية وعمداء البلديات وتمتع بشعبية كبيرة لدى الجماهيرأيضا . وأخيرا تالف حزب الاستقلال الذي ترأسه السيد سالم المنتصر بعد إستقالته من الجبهة الوطنية بسب خلافه مع السيد بشيرالسعداوي . كان السيد بشير السعداوي قد جاء على رأس هيئة تحرير ليبيا التي أسستها الجامعة العربية وأمينها العام عبد الرحمن عزام باشا الذي أختار السعداوي لرئاستها وضمت عددا من الزعماء وكان من ضمنهم السيد محمود المنتصر أبن أخ سالم المنتصر .وكان هدف هيئة التحريرأعداد الشعب الليبي لعملية الأستفتاء التى وافقت الجمعية العامة على أجرائه وأرسال بعثة تشرف على ذلك لمعرفة ماذا يريد الليبيون لمستقبلهم وكانت هيئة التحرير تنادي بالأستقلال ووحدة ليبيا بين طرابلس وبرقة وفزان التي كانت تخضع لأدارات عسكرية منفصلة . وقد استقبل السعداوي شعبيا في طرابلس كما رحبت به الأدارة البريطانية لرغبتها في توحيد ليبيا تحت أمارة السيد أدريس السنوسي الذي ترتبط بعلاقات صداقة معه عندما كان لاجئا سياسيا في مصر ولهذا أعدت للسعداوي أستقبالات في المدن الطرابلسية نظمت شعبيا ورسميا من طرف رجال الا دارة البريطانية . كانت بريطانيا قد أتفقت مع أيطاليا تحت ضغوط أمريكية وقطع الطريق أمام روسيا التي كانت تطالب بالوصاية على طربلس , على تقديم مشروع بيفن سفورزا الى الجمعية العامة للأمم المتحدة لتقسيم ليبيا الى ثلات مناطق بحيت تبقى برقة تحت الوصاية البريطانية وفاء بالوعد الذي أعطته بريطانيا للسيد محمد أدريس السنوسي قبل الحرب بعدم رجوع برقة تحت الحكم الأيطالي . وتوضع طرابلس تحت الوصاية الأيطالية وتوضع فزا ن تحت الوصاية الفرنسية . وكانت السياسة البريطانية غير المعلنة هي السعي للسيطرة على كل ليبيا والحيلولة دون عودة ايطاليا الى طرابلس الشئ الذي لم تستطع المطالبة به دوليا خوفا من رفض الدول الكبرى الأخرى وكان الحل الوحيد لتحقيق هذا الهدف هو تشجيع الليبيين على المناداة بأستقلال كل ليبيا تحت أمارة السيد أدريس السنوسي مما سيسهل عليها ربطها ببريطانيا بأتفاقية تحالف تمكنها من السيطرة علىكل ليبيا بعد الأستقلال ولهذا عندما فشلت المباحتات بين زعماء طرابلس وبرقة على الوحدة وأمارة السيد ادريس السنوسي رحبت الأدارة البريطانية بقدوم هيئة التحرير للدعوة ألى الأستقلال والوحدة وشجعت السيد بشير السعداوي لتوحيد كلمة الطرابلسيين على هذ ه السياسة التي هي في صالح ليبيا وتخدم أهداف بريطانا الخفية.
وقبل ذلك قامت الجبهة الوطنية بأرسال وفد يمثل طرابلس للاجتماع بممثلي برقة المتمتلين في مِؤتمرهم الوطني لدراسة مستقبل ليبيا وتنسيق الجهود بينهم لتحقيق الأستقلال والوحدة وكانت برقة تتمتع برعاية خاصة من بريطانيا التي وعد ت قبل الحرب الأمير محمد المهدي السنوسي بعدم عودة أيطاليا الى حكم برقة مقابل تأسيس الأمير أدريس لجيش التحرير السنوسي من الليبيين المقيمين في المهجر والذي أشترك مع الجيش البريطاني في تحرير ليبيا مما دفع وزير خارجية بريطانيا المستر أيدن بأصدار تصريح في البرلمان البريطاني بالتزام بريطانيا بعدم السماح لرجوع إيطاليا الى برقة تقديرا لمشاركة جيش التحرير السنوسي لبريطانيا في تحرير ليبيا وهذا دفع بريطانيا الى الموافقة على أستقلال برقة تحت ألحاح الامير أدريس دون الأنتظار لقرار الامم المتحدة . ولم يستطع وفد الجبهة الوطنية الطرابلسية الذي سافر الى بنغازي الأتفاق مع ممثلي برقة . فقد أصر ممثلوا طرابلس على المطالبة بالأستقلال ووحدة ليبيا تحت أمارة الامير محمد أدريس السنوسي المشروطة بنظام ديمقراطي برلماني السلطة فيه للشعب ورفض أي قرار بتقسيم ليبيا ولكن ممثلي برقة اصروا على مبدا أمارة السيد أدريس السنوسي بلا قيد أو شرط وأنقاذ ما يمكن أنقاده أي أذا تعذرالموافقة على أستقلال كل ليبيا و الوحدة يتم أستقلال برقة تم العمل على أستقلال طرابلس وفزان وتحقيق الوحدة تحت التاج السنوسى دون قيد أو شرط بعد ذلك . ولم تنجح هذه المباحثات بين الوفدين الطرابلسي والبرقاوي. بعد تقديم مشروع بيفن سفورزا الى الجمعية العمومية قامت المظاهرات الصاخبة في المدن الليبية ضده وكانت الأدارة البريطانية كما بينت تشجعها رغم أن بيفن وزير خارجيتها هوأحد مقدمي المشروع للأسباب التي أوضحتهاأعلاه. كانت هذه المظاهرات تستوعب معظم وقتنا وكنا طلاب المدرسة الثانوية في طليعة الطلاب الذين كانوا عصب المظاهرات والأحتجاجات ضد هذا المشروع ولم نكن نجد معارضة من هيئة التدريس المصرية أو رجال الشرطة بقيادة الضباط الأنجليز بل بالعكس كنا نجد التشجيع وخاصة من مدير المدرسة السيد مصطفى فهمي المصري الجنسية وكان ضباط الشرطة البريطانيين يشجعون و ينظمون سير المظاهرات ولا أذكر ان قامت الشرطة بأي عمل ضد المتظاهرين.
الى جانب معارضة الشعب الليبي لمشروع بيفن سفورزا كانت الشعوب والدول العربية والجامعة العربية تقف كلها الى جانب الشعب الليبي . وكما ذكرت قامت الجامعة العربية بدعم من مصر بأرسال هيئة التحرير برآسة بشير السعداوي الذي أستطاع كسب تأييد الشعب الليبي الذي كان يرى في الجامعة العربية و القاهرة مصدر دعم وقوة له خاصة أنه على رأس الحامعة العربية أنذاك شخص مشهور بجهاده مع الليبيين ضد أيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى الا وهو السيد عبد الرحمن عزام باشا .وبعد فترة أسس السعداوي المؤتمر الوطني بعد خلافه مع بعض زعماء طرابلس على مبدا الامارة التي كان يراها ضرورة ولا تحتاج ألى أستفتاء شعبي رغم أن هذا المبدأ لم يكن في برنامج هيئة التحرير التي ألفها عزام باشا وترأسها السعداوي . وقد أستطاع المؤتمر الوطني برأسة السعداوي الحصول على تاييد أغلبية الشعب وخاصة في المدن . وكان المؤتمر يضم كل الشباب الطرابلسي المتحمس وموظفي الحكومة والتجار والطبقة المثقفة ويتمتع بتشجيع الأدارة البريطانية وخاصة بعد فشل مشروغ بيفن سفورزا وموافقة الجمعية العامة على أستقلال ليبيا بعد انتهاء لجنة التحقيق من زيارة ليبيا وتقديم تقريرها الذي أكد اصرار الشعب الليبي على أستقلاله ووحدته.
كان تأييد السعداوي لمبدأ امارة السيد أدريس السنوسي قبل أقرارها رسميا من الشعب الليبي ودون قيد أو شرط قد جر عليه معارضة الاحزاب الطرابلسية حزب الأستقلال وحزب الكتلة وألجامعة العربية وأمينها العام السيد عبد الرحمن عزام باشا الذي سبق وأن عين وايد السعداوي كرئيس لهيئة التحرير الليبية , كان عزام باشاعلى معرفة بتاريخ الكفاح الليبي وبعلاقات الأمير أدريس السنوسي السابقة وتحالفه مع بريطانيا منذ الحرب الليبية الايطالية . وقد عاش عزام باشا طوال حياته يحارب الأنجليز في ليبيا ثم في مصر ويعارض نفوذهم في المنطقة العربية ولهذا كان يرى أن وضع كل السلطات في أيدي الأمير أدريس السنوسي لحكم ليبيا معناه في رأيه تمكين الأنجليز من جر ليبيا المستقلة الى التحالف مع بريطانيا وأبعادها عن مصر والدول العربية وكانت مصروبعض الدول العربية ترى نفس السياسة ولهذا عندما قبل السعداوي بأمارة السيد أدريس دون قيد أوشرط أعلن عزام باشا معارضته له بل أصبح يساند حزب اللأستقلال المناوئ للسعداوي كما أن أيطاليا أصبحت تساند وتدعم حزب الأستقلال بعد أن شعرت بان بريطانيا خذلتها فرغم أشتراك بريطانيا مع أيطاليا في تقديم مشروع بيقن سفورزا الا أنها كانت تسعى من وراء ستار الى تشجيع وحدة ليبيا وأستقلالها و ربط ليبيا المستقلة بتحالف مع بريطانيا والأنفراد بها مستغلة علاقتها الوثيقة مع السيد أدريس السنوسي . وقد تجلى ذلك كما أوضحت في تشجيع المظاهرات داخل ليبيا للمطالبة بالأستقلال والوحدة تحت التاج السنوسي بعد فشل مشروع بيفن سفورزا الذي حال دون تولي أيطاليا الوصاية على طرابلس . لم ينجح حزب الأستقلال ولا أيطالي ولا الجامعة العربية في أضعاف زعامة السعداوي بعد أن حاز على ثقة أغلبية الشعب في طرابلس بدون منازع ودعم الأدارة البريطانية له .
وبعد شعور السعداوي بمعارضة الجامعة العربية وعزام باشا والعرب وتأييدهم لخصومه حزب الأستقلال عقد مؤتمر تاجوراء الشعبي الكبير الذي أعلن تأييده لأمارة أدريس السنوسي وتنديده بعزام باشا وسياسته المناوئة للسعداوي وللمؤتمر الوطني الطرابلسي وكان دافع السعداوي من هذه السياسة الجديدة هو تحقيق وحدة حقيقية لليبيا بتولى فيها هو مسئولية رئاسة الحكومة بعد الأستقلال ولكن ظنه خاب عندما شعر أن بريطانيا قد خذلته وأصبحت تحارب سيطرته على المؤتمر وتقف عثرة في توليه السلطة خاصة وأن شعبيته الكبيرة في طرابلس أثارت مخاوف الأدارة البريطانية ومخاوف الأمير أدريس ملك المستقبل وهكذا بدأ السعداوي في محاربة النظام الأتحادي الذي وافقت عليه الجمعية التأسيسيةالليبية رغم أنه هو الذي كلف من قبل الدارة البريطانية والمستر بلت مندوب الأمم المتحدة بتعين مندوبي طرابلس في لجنة الواحد والعشرين والتي قررت تأليف الجمعية التأسيسية بالتعيين والتي وافقت على النظام الفيدرالي الذي يعطي الملك السيطرة الكاملة على مجرى الأمور في البلاد بتوزيع السلطلت بين الولايات كما أنه يعني في الواقع تقسيم ليبيا ألى ثلات دول . وقد عملت الأدارة البريطانية بعد معارضة السعداوي للنظام الفدرالي على تفتيت وأضعاف المؤتمرالوطني وتشجيع بعض اعضائه على الانشقاق عن السعداوي خاصة أن أهم أعضاء المؤتمر الوطني رغم شعبيته هم من كبار الساسة و التجار وكبار موظفي الدولة الذين كانوا يرون في تأييد الأدارة البريطانية للمؤتمر ما يخدم مصالحهم ولكن معظم جماهير الشعب في طرابلس والشباب والمثقفون بقوا مخلصين للمؤتمر الوطني و للسعداوي حتى النهاية . ورغم أن السعداوي اختير من طرف المندوب السامي للأمم المتحدة والأدارة البريطانية لتعيين العضو الليبي في مجلس الأمم المتحدة الأستشاري التابع للمسترأدريان بلت المندوب السامي للامم المتحدة في ليبيا وكذلك تعيين أعضاء طرابلس السبعة في لجنة الواحد والعشرين وهو أعتراف ضمني بزعامته على أقليم طرابلس الا أنه بعد معارضته للنظام الاتحادي وبموافقة من السيد ادريس السنوسي أعطيت مسئولية تعيين اعضاء طرابلس العشرين في الجمعية التاسيسية (جمعية الستين) لمفتي ليبيا الشيخ محمد أبو الأسعاد العالم نائب رئيس المؤتمر الوطني وزعيم الفريق المنشق عن السعداوي في المؤتمر الوطني . وهكذا أبعدالسعداوي عن المشاركة الرسمية في النشاط السياسي لتأسيس الولة الليبية وبقى في المعارضة حتى انتخابات مجلس النواب ونفيه خارج البلاد بعدها .
كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد رفضت مشروع بيفن سفورزا بصوت واحد هو صوت دولة هايتي الذي صوت مندوبها سان لو ضده رغم تعليمات حكومته بالموافقة وقررت الجمعية العامة بعد ذلك أستقلال ليبيا قبل أول يناير 1952 وأرسال المستر أدريان بلت مندوبا ساميا للأمم المتحدة لمساعدة الشعب الليبي على تنفيذ هذا القراروعين له مجلس أستشاري يتالف من بريطانيا وفرنسا وألولايات المتحدة الأمريكية وايطاليا ومصر وباكستان ومندوب عن كل من طرابلس وبرقة وفزان والأقليات .وكان الخلاف في المجلس الأستشاري كبيرا بين بريطانيا وفرنسا تدعهما الولايات المتحدة ويساند هذه المجموعة ممثل الأمم المتحدة المستر أدريان بلت و في الجانب المعارضة مندوبي مصر وباكستان حول أنشاء الجمعية التأسيسية و تعيين أعضاء لجنة الستين وأختيار النظام الأتحادي وكان ممثل أيطاليا وكذلك ممثل الأقليات محايدين بين المجموعتين حرصا على مصالح الأيطاليين المقيمين في ليبيا . وكان ممتل طرابلس السيد مصطفى ميزران لسان حال المؤتمرالوطني برئاسة بشيرالسعداوي يؤيد مجموعة مصروباكستان بينما كان ممثل برقة السيدعلي الجربي وممثل فزان السيد سوف يؤيدان الجمعية التأسيسية والنظام الفدرالي حسب أوامر الأمير ادريس السنوسي والسيد احمد سيف النصر .
كانت المعارضة في طرابلس قوية ضدتدخل الأدارة البريطانية وضد النظام الفدرالي وتتجاوب مع سياسة السعداوي وحزب المؤتمر والجامعة العربية والدول العربية . وتم أنشاء الجمعية التأسيسية بالتعيين والمساواة بين الأقاليم الثلات وكما ذكرت عين أعضاء طرابلس سماحة مفتي ليبيا ئائب رئيس حزب الموتمر الذي أستعان بحزب الاستقلال وكان زعماء حزب الاستقلال من المعارضين للسياسة البريطانية الا أن زعماء الحزب وجدوا أنفسهم في عزلة بعد سيطرة السعداوي على الرأي العام في طرابلس وأتهموا شعبيا بالتعاون مع أيطاليا وهي العدو القديم لليبيا وكان عليهم أما تأييد السعداوى الذي أصبح معارضا لسياسة الملك والادارة البريطانية والمندوب السامي للأمم المتحدة مما يعرضهم الى لاصطدام مع الأدارة البريطانية والحكومة الليبية القادمة وفقدان نفوذهم ومكانتهم السياسية بين أنصارهم أو الأتضمام الى المنشفين عن السعداوي من أعضاء المؤتمر الوطني برآسة سماحة الشيخ مفتي ليبيا محمد أبو الأسعاد العالم والمشاركة في عملية الأعداد للأستقلال حماية لمصالحهم خاصة أنهم من العائلات القديمة ذات النفوذ القبلي وفي حاجة للأحتفاظ بنفودهم . وهكذا شمل الشيخ المفتي بعض أعضاء حزب الأستقلال في قائمة أعضاء طرابلس في الجمعية التاسيسية رغم أن الأغلبية من الأعضاء المختارين العشرين كانوا من أعضاء المؤتر الوطني المنشقين عن السعداوي . . أما بخصوص موقف المستر بلت المندوب السامي للأمم المتحدة فقد حاول التوفيق بين أعضاء مجلسه الا أنه خضع في النهاية لسياسة بريطانيا المدعمة من أمريكا والملك ادريس ورأيه حسب ما سمعت منه في فترات تالية انه كان حريصا على تحقيق أستقلال ليبيا في موعده المحدد و لم يكن في الامكان ارغام برقة والملك أدريس على قبول الوحدة الكاملة او اخضاع امارة أدريس لأستفتاء شعبي والحل الفيدرالي تحت التاج السنوسي كان في رأيه الحل الممكن لأن البديل هو أعادة القضية الليبية الى الامم المتحدة وعندئد قد يقترح وضع ليبيا تحت الوصاية من جديد وهذا ليس في صالح الشعب الليبي .
وافقت الجمعية التاسيسية الوطنية على الدستورالليبي الأتحادي وأعلنت مبايعة الأمير أدريس ملكا على البلاد . كما أختير السيد محمود المنتصر رئيسا لأول حكومة أتحادية وعين ولاة لطرابلس وبرقة وفزان .
وحال أستقلال ليبيا بدأ العمل لتوقيع معاهدة تحالف مع بريطانيا لضمان موارد
مالية خاصة أن ليبيا كانت افقر بلاد في أفريقيا بحسب تفارير الامم المتحدة وليس لها دخل لتغطية حتى مصروفاتها الأدارية كما ان الدول العربية لم تتقدم بأية مساعدة في ها الشأن وحسب ما ذكر أن الحكومة المصرية أشترطت ضم منطقة الجغبوب أليها مقابل تقديم بعض المساعدة .
كان الرأي العام الشعبي السائد في منطقة طرابلس يؤيد السعداوي وكان الجميع يرى أن وضع الدستور من طرف جمعية تأسيسية غير منتخبة غير قانوني وغير ملزم وخطأ لا يغتفر وأختيار النظام الفدرالي سيؤدي الي تقسيم البلاد وأن توقيع المعاهدة مع بريطانيا سيجعل أستقلال ليبيا شكليا وأن المساعدات المالية يجب أن تطلب من الدول العربية أو الأمم المتحدة وليس من أية دولة أو دول معينة ومشروطة بتقديم تسهيلات دفاعية ولهذا
فأن النظام السياسي الليبي الفيدرالي أقيم بدون موافقة الشعب وأتجه الشعب الليبي الى جمال عبد الناصر في مصر واصبح معبود الجماهير الليبية .
كان الدستور الليبي من أحدث الدساتير في العالم اعده خيرة خبراء القانون الدولي والدستوري في ذلك الوقت وفصلت فيه السلطات التشريعية والتنفيدية والقضائية وضمنت فيه كل الحريات وحقوق الأنسان ولكنه أعطى للملك سلطة حل البرلمان مما يمكنه من فرض أرادته بشتى الحجج كما أن الدستوركان يحتاج ألى جهاز تنفيدي متقدم تفقده ليبيا في ذلك الوقت وكان الملك رغم نزاهته وزهده من الجيل القديم رغم خبرته السياسية الطويلة الا أنه لم يكن قادراعلى تفهم الأدارة الحديثة وهذا ما قاله لي بعد ذلك المستر أدريان بلت مندوب الأمم المتحدة . بدأ الملك بعد تقلد العرش رسميا يحكم البلاد بأسلوب الحكام العرب من جيله ولم يكن الدستور في رايه ملزما له في أتخاذ القرارات . وشهادة للتاريخ فأنه رغم كل تلك السلبيات فان النظام الملكي كان يحمل بذور الديمقراطية والتطور مع تطور البلاد وتوفر الخبرات الوطنية وحاول المسئولون الأوائل من رؤساء حكومات ووزراء وموظفين تسيير الأمور في حدود أمكانياتهم
المحدودة على كل الأصعدة العلمية والسياسية. وساتعرض بشئ من التفصيل اثناء سردي للأحداث في هذه المذكرات عن الحكومات التي سنحت لي الظروف العمل فيها و الحكومات التي عملت فيها قريبا من رؤسائها في الفترة التي تبدا باول 1964والىالفاتح من ستمبر 1969 .ولا أريد التعرض بالتفصيل للفترة بين 1951 ـ 1956 التي كنت فيها غائبا عن البلد في القاهرة لمواصلة دراستي الجامعية وكذلك الفترة ما بين 1956 ـ 1963 التي كنت فيهاموظفا في وزارة الخارجية وفي السفارات الليبية بعيدا عن أصحاب القراروشئون الحكم في البلاد مع التعرض الى أحداث الفترة الأولى للأستقلال بشئ من الأختصار بهدف التسلسل التاريخي لأحداث العهد الملكي منذ أنشائه وحتى نهايته .


الدراسة الجامعية
بعد التخرج من السنة التوجيهية بمدرسة طرابلس في يونيو 1951ارسلنا الى القاهرة من قبل حكومة ولاية طرابلس المؤقتة في بعثة دراسية بمخصصات ضئيلة لا تتجاوز60 جنيها مصريا في السنة للطالب وهو مبلغ لا يفي بحاجاتنا بينما كان زملاؤنا الطلاب المبعوتين من ولاية برقة يحصلون على عشرين جنيها شهريا وقد كانت هذه المعاملة المختلفة لطلاب من نفس البلاد موضع نقد وتدمر لدى طلاب طرابلس ولكن الحكومة الأتحادية بعد تأليفها سوت بين الطلاب الليبيين في المعاملة . والاختلاف الثاني بين طلاب طرابلس وطلاب برقة هو عدم اعتراف مصر بشهادة التوجيهية للطلاب القادمين من طرابلس لان المنهج المقرر فيها ليس مصريا كما هو الحال في برقة وهذا يمثل التفرقة التي فرضتها الأدارة البريطانية بين طرابلس وبرقة في المناهج الدراسية والعملة والنظم الأدارية . وهكذا كان علينا طلاب طرابلس أعادة السنة التوجيهية في مصر وخسر جيلنا سنة أخرى بعد خسارة ثلات سنوات الحرب في الأبتدائية وكان عدد أفراد الفوج الأول من طلاب البعثة ثمانية طلاب هم خيري الصغير ،شعبان عريبي ، أحمد بن لامين ، عبدالله بن لامين ، علي الميلودي ، عز الدين المبروك محمد سيالة ، بشير السني المنتصر .وبعد ذلك لحقت بهم دفعة ثانية تتألف من عشرة واذكر منهم أبراهيم الفقي حسن ، أبراهيم محمد الميت ، المبروك العجيل ، سالم كوكان،شمس الدين بوشويرب راشد السراج ومحمد بن محمود وسالم عطية وعبد الحفيظ سليمان .
وقد رافق البعثة الأستاذ محمود البشتي مدير مدرسة طرابلس الثانوية انذاك وقرر اقامتنا في منطقة المعادي في شقتين ووزعنا على ثلات مدارس ثانوية الخديوية والخديوي أسماعيل والأبراهمية في القاهرة ودخلت أنا المدرسة الخديوية في حي السيدة زينب في السنة التوجيهية قسم رياضي وكانت السنة الدراسية 1951ـ1952 مليئة بالأحدات الوطنية في مصر وكانت حكومة مصطفىالنحاس باشا قد الفت في ظروف صعبة ووجود خلاف بين الملك وضباط الجيش تجلى في أنتخابات نادي الضباط وفي هذه السنة أعلن النحاس ألغاء معاهدة سنة 1936 في البرلمان المصري بالجملة المشهورة بأسم مصر وقعت المعاهدة وباسم مصر أطالبكم اليوم بألغائها وسرعان ما أصطدم الانجليز مع الحكومة المصرية والمقاومة الشعبية في منطقة القناة بعد أن جلا الأنجليز من ثكناتهم في القاهرة والأسكندرية وأصبحت المعارك اليومية بين القوات البريطانية والمقاومة المصرية في منطقة القناة الشغل الشاغل للشعب المصري وعلى رأسهم الطلاب وكانت المظاهرات تجتاح شوارع القاهرة والأسكندرية بأستمرار منادية بجلاء الأنجليز وسرعان ماتطورت الهتافات ضد الملك وكان حريق القاهرة وأقالة حكومة النحاس باشا وتعيين حكومات ضعيفة غير شعبية وصفت من طرف الطلاب بالحكومات العميلة .كان حريق القاهرة أنذارا بالثورة الشعبية ضد الأستعمار والملك والأقطاع وكان رد فعل لهزيمة مصر في سنة 1948 ضد أسرائيل وقضية الأسلحة الفاسدة التي أتهم فيها كبار المسئولين وعلى رأسهم الملك نفسه وزاد الأزمة تدخل الملك في أنتخابات نادي الضباط وطلاق الملك من زوجته الأولى فوزية وزواجه بناريمان وأنتشار أخبار أستهتاره وحياة المجون التي كان يعيشها وفي هذه الفترة ولد أبنه فؤاد وسط هذه الأحدات وقد أستغل الشعب الأحتفالات التي أقيمت بهذه المناسبة لأظهار سخطه على الملك . لا زلت أذكر هذه الأيام العصيبة التي عشناها وشاركنا فيها الشعب المصري أحداثه ومرحلة غليانه وما كان يجري في تلك الفترة و قد أثر هذا في حياتنا وكانت متابعتنا لما كان يجري في بلادنا ليبيا أمتدادا لما يجري في مصر وتسلط الأستعمار وتدخلاته في ما يجري في بلادنا وفلسطين والعالم العربي والاسلامي . كانت الدراسة شبه متوقفة خلال هذه السنة الدراسية وكان علينا الأعتماد على مراجعة دروسنا في البيت لد خول أمتحان الشهادة الثانوية في يونيو 1952وكانت أعادتنا للتوجيهية في مصر قد ساعدتنا على أستيعاب المنهج المقرر بسهولة .
بعد أمتحان يونيو رجعنا الى طرابلس للاجازة الصيفية وسمعنا هناك قيام ثورة 23 يوليو المصرية بقيادة الضباط الأحرار وقد أعلن محمد نجيب رئيسا لها وسرعان ما عدنا الى مصر بعد الثورة في ستمبر للألتحاق بالجامعات المصرية بعد نجاحنا في أمتحان التوجيهية . كنت أنوي دخول كلية الهندسة لأن مجموعي من القسم الرياضي كان عاليا يزيد عن 80% ويؤهلني لدخول الكليات العملية ألا أن تدخلات غير معروفة أدت الى تحويل طلبات جمبع الطلاب العرب غير المصريين المقدمة لجامعة القاهرة الى كليات جامعتي الأسكندرية وجامعة أبراهيم والغالب ان السبب كان تقدم عدد كبير من الطلاب العرب الحاصلين على مجموعات عالية الى كليات جامعة القاهرة يفوق عدد الطلاب المصريين الحاصلين من الحاصلين على تقدير عال . ولا زلت حتى اليوم لا أعرف السبب في تغيير رأيي في أخر لحظة فحال ما سمعت رغبة جامعة القاهرة تحويل كل طلباتنا الى كليتي الهندسة بجامعتي الأسكندرية وعين شمس قررت سحب أوراقي والتقدم بها الى كلية التجارة جامعة القاهرة وكان هدفي أن أتخصص في الاقتصاد والعلوم السياسية خاصة وأن مجال العمل سيتيح لي الدخول في السلك الدبلوماسي الليبي بسهولة وأن زميلين لي قررا الدخول لنفس الكلية للغرض نفسه الا أن وضعهما كان يختلف عن وضعي فاحدهما ابن وزير والثاني أبن نائب يرلماني أصبح وزيرا بعد ذلك وقد ساعد هذا عدم منعنا من طرف الحكومة الليبية دخول قسم العلوم السياسية فقد كانت الحكومات العربية بما فيهم ليبيا ضد دخول الطلاب الى كليات العلوم السياسية . وقد وجدت صعوبة في سحب أوراقي من ادارة الجامعة بعد أن قدمتها السفارة الليبية رسميا لتحويلها الى كلية الهندسة خاصة بعد أن أنتهى موعد تقديم الاوراق ولكن أمام أصراري سلملها لي سكرتير الجامعة على أن أتحمل مسئولية عدم قبولها وأسرعت بها ألى كلية التجارة فعارض مسجل الكلية قبولها لأنقضاء الموعد المحدد للقبول ونصحني بأرجاع أوراقي الى أدارة الجامعة لتحويلها لكلية الهندسة بجامعة أبراهيم كما تقرر.ولكنني لم افشل وصمت على مقابلة عميد الكلية وبقيت أمام مكتبه ساعات طويلة حتى تمكنت من الكلام الى وكيل الكلية الدكتور عز الدين فريد وهو خارج من مكتب العميد وشرحت له وضعي ورغم أنه بدوره أبدى شكه في قبولي لتاخر الوقت الا أنه عطف على رجائي وتوسلاتي وعدني بالمحاولة مع العميد واخذ أوراقي ودخل بها على العميد وانتظرته على أحر من الجمر وما هي الا دقائق حتى رجع بأوراقي مؤشرا عليها من العميد بالقبول وطلب مني الاسراع بتسليمها الى المسجل الذي أستغرب هذا الاجراء الأستتنائي وطبعا قبل المسجل اوراقي وعدت مطمئنا الى البيت وقد استغرب زملائي الليبيين على تركي لكلية الهندسة وكان عذري أن الطبيب نصحني بعدم دخول كلية الهندسة لضعف نظري وفعلا لم يقرر الدكتورنجاحي في الأمتحان الطبي الا بعد أن أستعملت نظارة للقراءة لأول مرة .
هكذا بدأت دراستي الجامعية في كلية التجارة جامعة القاهرة ,اقمت مع زميلين لي هما أحمد بن لا مين وقد أصبح صهري بعد ذلك وتزوج أختي فاطمة وكان قد دخل كلية الحقوق والثاني كان عبدالله بن لامين ودخل معي كلية التجارة .وقد عشنا معا حتى أنهينا الجامعة معا .
كانت سنوات الدراسة بالجامعة حافلة بالأحداث السياسية في مصر وليبيا فقد كان دخولنا للجامعة في الأسابيع الأولى للثورة المصرية فقد عاصرنا الغاء النظام الملكي وقضية مهنا والخلاف بين أعضاء مجلس الثورة ومحمد نجيب ورد فعل تنحيته لدى الرأي العام المصري ونشاط الأخوان المسلمين في الجامعة وسيطرتهم على أتحادات الطلاب ونشاط الاحزاب السياسية الأخرى داخل الجامعة كما كانت الحركات السياسية العربية القومية والبعثية والشيوعية نشطة الى حد كبير بين الطلاب الا أنني كنت من الذين لم تبهرم الأنشطة الحزبية التي لا يستفيد منها سوى زعماء الأحزاب السياسية الذين يسخرون الطلاب لمصالحهم الخاصة وكان ضغط زملاؤنا من الأخوان المسلمين كبيرا علينا وعلى الطلاب العرب وكنت أشعر بضيق لمحاولتهم أقناعي بالأنضمام اليهم وفصلي عن الطلاب المصريين الحزبيين وخاصة في الرحلات الجامعية التي كانوا يخصصونها للعبادة والأرشاد بدلا من المتعة ولهو الشباب وقد أستطعت تجنب الانضمام أليهم مع عدم المساس بعلاقات الصداقة معهم حتى بعد اشتعال الخلاف بين الاخوان المسلمين والثورة المصرية و محاولة أغتيال عبد الناصر وحل جمعية الأخوان المسلمين وعزل محمد نجيب للمرة الثانية وقد أختفت وجوه الأخوان المسلمين من مدارج الجامعة بعد هذه الأحداث وقتل من قتل وسجن الباقي وقدموا للمحاكمة مع غيرهم من زعماء وأعضاء جمعية الأخوان المسلمين وحمدت الله أني لم أنضم أليهم وزادني ذلك أيمانا بعدم الأنضواء تحت اي تنظيم حزبي مستقبلا رغم أن كثير من زملائي الليبيين أنضموا الى هذا التنظيم أوذاك وقد ساعدني هذا على التفرغ لدراستي ونجاحي أول مجموعتي دائما طوال سنوات الدراسة في الجامعة . وقد كانت دراستي للعلوم السياسية للعمل الدبلوماسي وليست سلما للعمل السياسي أوخدمة فكرة معينة أو مذهب سياسي معين .وكنت رغم عدم نشاطي الرياضي والأجتماعي في الجامعة أنال دائما ثقة كل زملائي ومن عرفني عن قرب وثقة كل من أشتغلت معهم بعد ذلك في حياتي العملية وكنت متسامحا ومجاملا ألى درجة الأفراط و كان رؤسائي في العمل في حياتي العملية يثقون في وفي طريقتي لمعاملة الناس . ولا أذكر ان أحدا أشتكى من معاملتي له أوأني أسأت الى أحد أو قصرت مع طالب حق وهذا كان دائما مبعت رضى لي وراحة لضميري كنت أومن بان الانسان يجب أن يكون مستمعا أكثر من أن يكون متكلما وأحزن كثيرا عندما أفشل في أقناع الأخرين بوجهة نظري التي أبديتها لهم بأخلاص وحسن نية وأحيانا عن تجربة ودراية بالموضوع الذي يثار. ورغم أني وجدت تجاوبا وتفهما من البعض وجدت أن معظم الناس تحب المديح وسماع كلمات الأعجاب بهم أكثر من سماع النقد والنصيحة .ووجدت بعض الناس يقول ما لا يفعل ويوافق على ما يسمع ولايغير رٍايه في ما يريد عمله .هذه أنطباعات سريعة في غير موضعها في المذكرات عن تجربتي في عملي قريبا من أصحاب القرارفي الحكومة . الشئ الأخر الذي أود الأشارة أليه في هذه العجالة هو أن المناصب والمهام والوظائف التي توليتها أو اسندت الي لم تكن موضع طموحي أو هدفي في الحياة ولم أسع أليها علنا أو ضمنا بل كلها كانت تسند لي قبل أخذ رايي مقدما وكثيرا ما قبلتها غير راض عنها وأعتقد الأن أن الأنسان مسير في حياته وفقا للظروف التي تحيط به والفرص التي تتاح له وليس بما يقرره المرء أويخطط له مسبقا .
كانت دراستي في القاهرة تجربة مفيدة وقصة طويلة للفترة من ستمبر 1951 الى يونيو 1956 . إن الحديث عن هذه الفترة لا يمكن إختصاره في صفحات معدودة فهي فترة قيام ثورة 23 يوليه ومرحلة ارساء الأساس للحكم الناصري وبناء صرح الجمهورية العربية المتحدة وكانت تحولا تاريخيا في تاريخ مصر والعرب والشرق الأوسط والعالم . كان صراع ثورة يوليو مع الاستعمار والقوىالداخية عنيفا وكانت دعوة عبد الناصر الىالقومية العربية والوحدة العربية شرارة أمتد لهيبها الى كل أرجاء العالم العربي من الخليج الى المحيط و دفعة قوية لحركات التحرير والأستقلال في أفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتنية ساعدت على أشتعال الحرب الباردة بين الغرب والأتحاد السوفييتي . أن من عاش هذه الفترة في مصر وفي جامعة القاهرة بالذات عاش تاريخ إنبعات القومية العربية والأمة العربية وبداية العمل من أجل قيام الوحدة العربية الشاملة والصراع والمواجهة مع الأستعمار القديم لفرنسا وبريطانيا وأسبانيا ومع الهيمنة وسياسة الاستحواد الأمريكية . كانت جامعة القاهرة إحدى قلاع الثورة فقد كانت تضم كبار رجال العلم في مصر في جهاز التدريس وميدان النشاط الوطني للشباب والطلاب والصراع الحزبي والمذهبي .وكانت كلية التجارة في تلك الفترة تضم نخبة من أساتذة الاقتصاد وأدارة الأعمال والعلوم السياسية والقانون . وكان من ضمن أساتذة الكلية الدكتور عبد العزيز حجازي الذي أصبح بعد ذلك رئيسا للوزراء في عهد عبد الناصر والدكتور بطرس غالي الذي تولى الوزارة وعين بعد ذلك سكرتيرا عاما للامم المتحدة والدكتور عبد الجليل العمري والدكتور عبد المنعم البنا والدكتور فتح الله الخطيب والدكتور إبراهيم صقر والدكتور وهيب مسيحة أب الأقتصاد في مصر والدكتور عبد الله مرزبان والدكتور حسين الشافعي أب علم الأحصاء في مصر والك وغيرهم كتيرون ومعظمهم تولو الوزارة ومناصب هامة في سنوات تالية حيت كان الرئيس عبد الناصر يركز على الأقتصاد ويستعين برجال الأقتصاد في جهازه الحكومي. وكان قسم العلوم السياسية يضم عددا قليلا من الطلاب العرب والمصريين لأن الطلاب المصريين كانوا لا يقبلون على قسم العلوم السياسية ويفضلون قسم المحاسبة وقسم أدارة الأعمال لان فرص العمل بعد التخرح منهما اوسع واضمن بينما لا يقدم طالب مصري على الدخول قسم العلوم السياسية الا أذا كان من عائلة سياسية أوثرية أودبلوماسية وله طموح في دخول السلك الدبلوماسي المصري أو العمل السياسي وكانت هذه الفرص محدودة وتتطلب أستعدادا علميا ولغويا غيرعاديين . وكنا ثلاتة طلاب من ليبيا في هذا القسم وكان بيننا طلاب من سوريا والسودان والعراق والأردن وفلسطين وأذكر أن معظم الطلاب الذين كانوا معنا بما فيهم المصريين دخلوا السلك الدبلوماسي وقد سنحت لي الفرص للقائهم بعد ذلك في الحياة العملية كسفراء لبلادهم في الخارج منهم عبد العزيز الكباريتي من الأردن وسعد الدين الفرارجي من مصر والذي أصبح سفيرا لمصر لدى الأمم المتحدة في جنيف عندما كنت أعمل مع الأمم المتحدة ثم أصبح مساعدا لسكرتيرعام الأمم المتحدة ورئيسا للقسم العربي في برنامج التنمية في نيويورك وبعد ذلك عين سفيرا للجامعة العربية لدى الامم المتحدة في جنيف . وغيرهم كثيرون غابوا عن الذاكرة . وكان معنا في قسم العلوم السياسية بعض ضباط الجيش وأذكر منهم الرائد حسن مهران والرائد علي إبراهيم أخ السيد حسن إبراهيم عضو مجلس قيادة الثورة المعروف .وكان حسن ابرهيم في تلك الفترة وزيرا لشئون الرئاسة ومكتبه بقصر العابدين وكان مختصا بشئون ليبيا وقد أخذنا نحن الطلبة اليبيين إليه زميلنا اخوه علي الى مقابلته في قصر عابدين ورحب بنا وأعرب عن إستعداده لحل أية مشاكل قد نواجها فشكرناه وأكدنا له أننا نعيش في بلدنا الثاني مصر مكرمين وليس لدينا أية مشاكل . هذا وأذكر إننا دعينا في سنة1953 الى مأدبة أفطار في رمضان في نادي الضباط في الزمالك من طرف أعضاء مجلس قيادة الثورة برآسة جمال عبد الناصر الذي لم يصبح رئيسا بعد مع مجموعة من الطلاب العرب في الجامعة المصرية وكان ضباط الثورة لا زالوا غير معروفين لدى كل الناس وقد جلس كل واحد منهم على مائدة ضمت مجموعة من الطلاب العرب كما تبادلوا مقاعدهم على الموائد حتى يمكنوا جميع الطلاب العرب الحاضرين من مجالستهم جميعا وكان الحديت عن الكفاح ضد الأستعمار والقومية العربية والوحدة العربية وقد أعربوا جميعا عن سرورهم لوجودنا بينهم في مصروأننا سنكون رسل القومية العربية والوحدة العربية عندما نعود الى أوطاننا.وكان سرورنا عظيما لرؤية ضباط الثورة المصرية وخاصة جمال عبد الناصر في اوائل عهد حكومة الثورة ولم يحضر معهم الرئيس محمد نجيب . وفي عجالة كانت دراستي الجامعية في مصر من أهم فترات حياتي وقد بذلت جهدا كبيرا للأستفادة من وجودي في الجامعة وكنت اول دفعتي وموضع تقدير من رجال التدريس وأحترام من زملائي الطلاب وكانوا خليطا من الشباب العربي وكان عدد المصريين بيننا نسبيا أقل من نسبتهم العادية في أقسام الكلية والكليات الأخرى وكانوا رغم قلة عددهم يتمتعون بمقدرات خاصة في اللغات الأجنبية لأن بعضهم كان أما من أمهات أجنبيات أو من أبناء الدبلوماسيين الذين قضوا شطرا من حياتهم في الخارج وتعلموا في مدارس أجنبية قبل ثورة يوليوكما كان بعض ضباط الجيش ضمن الطلاب كما بينت وقد دخلوا الكلية بعد الثورة لأعداد أنفسهم للعمل السياسي . وكانت المحاضرات ممتعة وكان الخوض في علوم وشئون السياسة شيئا جديدا على الطالب العربي بعد أن كانت حراما عليه وكان الفكر الثوري ظاهرة جديدة أيضا كما كانت دراسة المذاهب الاقتصادية الرأسمالية والأشتراكية والشيوعية تطورا للفكر العربي في علوم كان غير مسموح بها في العهد الملكي المصري وكانت الكتب العربية في هذا المجال نادرة إن لم تكن مفقودة ولهذا كان علينا الأعتماد على المصادر الأجنبية وخاصة الأنجليزية والسياسة كانت ممارسة أكثر منها علم يدرس في الجامعة . هذا الأتجاه الجديد في الفكر السياسي هو أمتداد لفكر فلاسفة اليونان القدماء مثل أفلاطون وسقراط الذين قدموا للبشرية نظريات الحكم والديمقراطية والتي كانت أساسا للنظريات الحديثة في علم السياسة والأجتماع والفلسفة و لعبت الديانات دورا هاما في مجال السياسة وتنظيم الحياة الأجتماعية وعلاقات الناس بعضهم ببعض . كما أن النظريات الأقتصادية الحديثة قامت على تطور السلوك الأنساني في مجالات الحياة فقد عرف الانسان نظام المقايضة لتبادل السلع والخدمات منذ الأزل وانشئت العلاقات التجارية والتمتيل القنصلي والدبلوماسي لتطوير التجارة بين الدول وللمحافظة على مصالحها وتحسين علاقاتها بعضها ببعض وجاء القانون ليبين العلاقة بين الأفراد وبين الأفراد والدولة وبين الدول من أجل أمن ورفاهية الجميع وساعدت العلوم السياسية والأجتماعية الحديثة على تطور التشريعات القانونية بدراسة سلوك الأنسان في المجتمع وعلاقاته بغيره بحيت يكون التشريع تعبيرا عن حاجات الناس ومصالهم وليس مفروضا من طرف طبقة معينة لحماية مصالحها كما كان عليه الحال . في الماضي. أن علوم الضريبة والتجارة الدولية والحريات الأقتصادية وتنظيم الحركات العمالية ساعدت على أقامة أنظمة حكم تراعي مصالح الشعوب وتبادل المنافع بينها بعد أن أصبح العيش في العزلة أمرا مستحيلا ., وفي العقود الأخيرة أدى التصادم بين الأنظمة السياسية والأقتصادية الرأسمالية والأشتراكية الى ظهور نظريات أقتصادية حديثة عرفت بنظرية التوجيه الأقتصادي وأعترف في النظام الرأسمالي بحق تدخل الدولة لتنظيم الأقتصاد بالضرائب وسعر الصرف والتأمين الصحي والأجتماعي لحماية اصحاب الدخل المحدود والعجزة وكبار السن والمتعطلين وكان لهذا التغييراثارة في تجنب الثورات السياسية وتجنب التناقضات الطبقية بالطرق السلمية داخل الدولة الواحدة وبينها وبين الدول الأخرى.
لقدكانت فترة دراستنا في القاهرة قد شهدت مرحلة دخول الفكر الأشتراكي ألى مجال الدراسة في عالمنا العربي تم مرحلة التطبيق في عهد الثورة المصرية و قد تم تحديد الملكية الزراعية بعد أن كان نظام الأقطاع سائدا وتأميم الصناعة والتجارة وتدخل الحكومة في كل شئون الأقتصاد والتجارة وأصبحت الأستعانة برجال الأقتصاد أمرا ضروريا وأحتلوا المناصب الوزارية والقيادية في الحكومة المصرية بعد أن كانت هذه المناصب مقصورة على رجال السياسة والقانون في ظل النظام الملكي السابق .هذا التطور في عالم الأقتصاد والمال والتجارة زاد من أهمية دراسة العلوم التجارية والأقتصادية والمالية في الجامعات المصرية والعالمية بصفة عامة .

.
الفصل الثاني
العمل الحكومي بوزارة الخارجية
أنهيت دراستي الجامعية في يونيو1956 وتحصلت على بكارليوس التجارة في العلوم السياسية بدرجة جيد جدا وكنت أول دفعتي بين عدد من الطلاب العرب والمصريين الأكفاء الذين كانوا يأملون في هذا الشرف .
بتخرجي من الجامعة بدأت مرحلة جديدة في حياتي ورجعت الى الوطن بعد قضاء فترة خمس سنوات في مصر وقد جرت خلال هذه الفترة أحداث كثيرة في ليبيا كنت أتابعها عن بعد منالقاهرة وعن قرب خلال فترات العطلة الدراسية الصفية في طرابلس وكانت أخبارليبيا غير مرضية فالشعب كان يتعرض لأجراءات غير ديمقراطية حيث الغيت الأحزاب وزورت الأنتخابات البرلمانية ووقعت معاهدة تحالف مع بريطانيا واتفاقيات عسكرية مع بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ضد رغبات الشعب كما أن الحالة الأقتصادية كانت سيئة للغاية ومستوىالحكم كان متدنياعلىالصعيدين السياسي والثقافي وأنعكس هذاعلى أدارة البلد وكانت العلاقات الليبية العربية سيئة كل دلك أنعكس على تفكيرنا ونحن نعود الى الوطن لنبدأ العمل مع الحكومة الليبية وكانت بعتتنا أول بعثة ليبية تنهي دراستها بعد اللأستقلال وكان قد سبقنا من درس على حسابه الخاص .
حال رجوعنا ألى أرض الوطن عينتنا الحكومة حسب تعهدنا بالعمل معها بالدرجة الرابعة ووزعنا على الوزارات المختصة حسب وعينت أنا وزميلي السيدين عبد الله بن لامين وأبراهيم محمد الميت المتخرجين من كلية التجارة قسم العلوم السياسية في وزارة الخارجية .وكنا طبعا غير راضين عن المستوى الذي عينا به وكنا فخورين بالشهادة الجامعية وفاتنا أن ان الخبرة عامل مهم في العمل الوظيفي . وقد طلبنا من الحكومة أرسالنا الى الخارج لمواصلة دراستنا العليا والحصول على الماجستير والدكتوراه ولكن طلبنا رفض بحجة حاجة الحكومة الى العناصر المؤهلة . وهكذا بدأنا العمل .
ورغم أن الجو بيننا وبين زملائنا القدامى في الأيام الأولى لم يكن مرضيا لأن زملائنا القدامى شعروا بتخوف من منافستنا على الوظائف التي كان من المتوقع أنشائها بعد التوسع في كادر الوزارة لكن سرعا ما أندمجنا معهم وسادت روح ودية وتعاون بيننا واستفدنا من خبرتهم العملية وعاملونا بأحترام . وقد أسندت لي وظيفة مساعد لقسم الشئون العسكرية والسرية وكان رئيس القسم أنذاكهو السيد منصور عثمان .
كان رئيس الحكومة في تلك الفترة السيد مصطفى بن حليم وكان يتولى وزارة الخارجية بالأضافة الى منصبه وكان وكيل الوزارة هو السيد سليمان الجربي ولم تكن لي معرفة مسبقة بهما وبعد فترة أسندت لي وظيفة رئاسة قسم الشئون العسكرية بعد فصله عن القسم السري . وكانت مهام القسم هو تنفيذ الأتفاقيات العسكرية مع بريطانيا وأمريكا وتنسيق العمل بين السلطات الليبية والقوات الاجنبية عن طريق السفارتين البريطانية والأمريكية فيما يتعلق بالتدريبات العسكرية وتخصيص الاراضي وتعويضات الملاك والمتضررين من التدريبات والحوادث وهي أجراءات طويلة ومشاكلها كثيرة .
وفي هذه الفترة وقع الأعتداء الثلاتي على مصر سنة 1956 وهب الشعب الليبي غاضبا في مظاهرات عارمة ودخلت القوات البريطانية شوارع طرابلس لقمعها وفرضت الأحكام العرفية بما في ذلك منع التجول وقد زاد هذا التدخل الواضح في الشئون الداخلية لليبيا غضب الشعب بعد فترة هدوء نسبيا تلت حوادت الأنتخابات الأولى .وكان أعتقاد الشعب أن الاستعمارالذي تخلى عن الحكم المباشرأصبح يباشر سلطاته عن طريق الحكومة الوطنية التي تعمل بمقضى توجيهاته .ولم يكن أمام الشعب سوى الأستمرار في كفاحه ضد الأحتلال الأجنبي والمطالبة بالجلاء خاصة بعد الأعتداء الثلاتي وقد بتت وسائل الأعلام المصرية ان بريطانيا استعملت قواعدها في ليبيا في هجومها على مصر رغم نفي السلطات الليبية ولم يتبت هذا في أية وثائق رسمية بعد ذلك.أما بالنسبة لنا الذين درسنا في مصر ودخلنا العمل الحكومي فقد كانت السلطات تشك في أخلاصنا خاصة أن بعض الطلاب العائدين من مصر كانوا قد أنظموا الى حركات وطنية مثل حزب البعت والقوميين العرب والشيوعيين . وكانت تتقادفنا تيارات كثيرة والسؤال كان هل يجب علينا أن التفرغ للعمل لبناء الدولة الليبيةأو التفرغ للكفاح الداخلي من أجل تحرير البلاد أولا من الأستعمار والقوات الأجنبية وذلك بالعمل مع القوى الوطنية .
لقد كنت ولا زلت ، من الفئة التي تؤمن بأن الاصلاح الاداري والتنمية في جميع مجالاتها لها الأولية لتعزيز الحرية والديمقراطية وجلاء القوات الأجنبية . فالأصلاح الأداري وتنمية الفرد وحريته عوامل هامة لخدمة الأهداف الوطنية . من السهل على السياسي في الوطن العربي ان يكون بطلا وطنيا اذا جعل من القضايا الوطنية مثل المطالبة بالجلاء ومحاربة الاحتلال الاجنبي وسيلة لكسب الجماهير من النادر أن تجد السياسي العربي الذي يصارح مواطنيه بالصعوبات التي تعترض طريق الاصلاح وبناء صرح الأستقلال والتنمية والوقت اللازم لتحقيق ذلك . وكنت ولازلت ضد تحريض الجماهير لكسب تأييدها على حساب المصلحة العامة. وقد أدت السياسة العربية المتطرفة الى خلق رأي عام غير متعاون مع السلطة فرغم الهزائم المتكررة في فلسطين وغيرها لم يقم القادة بمصارحة الشعب بالاسباب الحقيقية لمثل هذا المصير وهي التخلف والجهل والمرض .
* أن الظروف السياسة الدولية وللاسف لازال لا يفهمها المواطن العادي لأن تفكيره يقوم على المبادئ الأخلاقية والوطنية بينما يجد السياسي أوضاعا سياسية داخلية وأخرى خارجية تقوم علىالمصالح وعامل القوة خاصة في ضوء التقدم التيكنولوجي . فالدول الكبرى جعلت من المبادئ النبيلة مثل حقوق الأنسان والحريات والعدالة وسيلة لاخفاء سياساتها الحقيقية المبنية على المصالح والسيطرة .
كانت التيارات السياسية في العالم العربي تعصف بالشباب العربي في مقاعد الدراسة وفي مجالات العمل وأنضم الكثيرون الى الأحزاب والحركات السياسية التي قامت في الوطن العربي في الخمسينات والستينات مثل حزب البعث والقوميين العرب والشيوعيين وغيرهم ووصل بعضهم الى السلطة وبقى البعض الأخر يعمل سرا للوصول ألى الحكم. وقد زاد هذا الاختلاف في المبادى من حيرة الشباب وسط الضباب الفكري الذي عم الوطن العربي . وقد عرفت الحكومة الليبية بالحزبيين ونشاطهم السري فسجن من سجن وأبعد عن العمل الحكومي الكومي من أبعد وساعد هذا على خلق جو من عدم الثقة بين الطبقة المثقفة والمسئولين في الحكومة.
بعد قضائي فترة في قسم الشئون العسكرية بوزارة الخارجية أسس في الوزارة قسم للشئون التجاريية والأ قتصادية وأسندت رئاسته لي وقد سررت بذلك لأنه يتناسب مع تخصصي ويساعدني على الأستعداد لمواصلة دراستي عندما يحين الوقت .
وفي نفس الوقت حدث تغيير وزاري أثر صراع بين الحكومة الأتحادية برآسة السيد مصطفى بن حليم وأصدقاء وأنصار السيد البوصيري الشلحي ناظر الخاصة الملكية في الوزارة مثل الدكتور علي الساحلي وزيرالخارجية والدكتور محي الدين فكيني وزير العدل وقد عين في هذا التعديل الجديد السيد عبد المجيد كعبارالذي كان رئيسا لمجلس النواب نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للخارجية .
كما ذكرت سابقا لا أريد التعرض بالتفصيل لفترات الحكومات الليبية السابقة لدخولي العمل الحكومي برآسة السادة مصطفى بن حليم ومحمد الساقزلي ومحمد بن عثمان ومحمود المنتصر الأولى و كذلك حكومة الدكتو محي الدين فكيني وعبد المجيد كعبار لانني كنت في هذه الفترة في الخارج أما للدراسة الجامعية في القاهرة 1951ـ 1956 أو للعمل في الخارج في سفارتي ليبيا في لندن والقاهرة من 1958ـ 1962 .وحرصا على تسلسل الاحداث في العهد الملكي فاني ساتعرض لبعض الأحداث في هذه الفترة والتي عرفت عنها بعض المعلومات أثناء أطلاعي على الوثائق التي حفظت في خزائن رئاسة مجلس الوزراء.بعد أن تولى السيد عبد المجيد كعبار وزارة الخارجية عين السيد وهبي البوري وكيلا للوزارة بدلا من السيد سليمان الجربي ونائبه الاستاذعمر الباروني الذين نقلا ألى سفارتي ليبيا في واشنطن ولندن على التوالي . وبقيت أنا في قسم الشئون التجارية والأقتصادية خلال هذه الفترة وكانت أهم أعمال القسم التجاري والأقتصادي هي المشاركة والتنسيق للمباحثات التجارية بين ليبيا والدول الأجنبية وأذكر أن أول عمل قمت به في هذا الشأن كان مشاركتي في المباحثات التجارية بين ليبيا واليونان وكان الوفد الليبي يتألف من مستشار وزارة المالية المستر بيت هارديكروموظفين من وزارة المالية ونظارات المالية في الولايات والغرف التجارية فيها ووزارة الخارجية التي أمتلها . ولأول مرة أشارك في موضوع هام حاولت فيه اظهار أجتهادي كمبتدئ في معالجة الأمور عمليا . كان مستشار وزارة المالية المستر بيتهارديكر أنذاك يتمتع بنفوذ كبير ورغم أنه موظف ليبي الا أنه منتدب ضمن الخبراء الذين تعتمد عليهم بريطانيا في الأشراف على تنفيد الاتفاقية المالية بين بريطانيا وليبيا . لهذا كان دوره هاما في أي عمل يشارك فيه. ورغم أنه قبل بعض مقترحاتي في مشروع الأتفاقية ألا أنه لم تعجبة جرأتي في حضوره للتدخل في النواحي الفنية. وكنت دائما مؤيدا من اعضاء الوفد الليبي وأذكر ان أهم مداخلات اعضاء الوفد الليبي كانت من جانب السيد عوض لنقي رئيس الغرفة التجارية ببرقة وقد أعجبت بصراحته وأنتقاده لتصرف التجاراليونانيين في تعاملهم مع التجار الليبيين وكان يتكلم عن خبرة عملية كتاجر له علاقة بتجارة ليبيا مع اليونان في مجال الأغنام.
وأود في هذه العجالة أن أسجل بأن المستر بيت هارديكر كانت له مواقف حميدة في السنوات الأخيرة للعهد الملكي بعد أن أستدعي من النمسا حيت تقاعد هناك بعد أنتهاء عمله مع الحكومة الليبية من طرف رئيس الوزراء لسيد محمود المنتصر عندما ألف وزارته الثانية سنة 1964وعينه مستشارا أقتصاديا لرئيس مجلس الوزراء وكان في هذه الفترة غير مرتبط بحكومته في عمله رغم أن الأنجليز رحبوا بهذا التعيين ليكون قناة وصل للمعلومات و للأتصال غير رسمية بين السلطات الليبية والسفارة البريطانية. وهنا أود أن أسجل أنه أستطاع أن يقف في وجه بعض الشركات البريطانية التي حاول مدراؤها ووسطاؤها أستغلال علاقتهم مع الملك للحصول على عقود لمشاريع كبيرة دون دراستها مع الوزراء المختصين ومستشاري الحكومة مقدما وذلك بلفت نظر الحكومة البريطانية عن طريق السفير البريطاني في ليبيا الى خطورة مثل هذه المحاولات والتدخلات وتضا يق المسئولين الليبيين منها فمثلا كانت بعض الشركات البريطانية غير راضية عن سياسة الدكتور علي عتيقة وكيل وزارة الاقتصاد و وزيرا التخطيط الليبرالية وكان يعارض مثل هذا التدخل وفي نفس الوقت يحظى بأحترام المستر بيت هارديكر والمستشارين الأنجليز.وفي الحقيقة كان معظم المستشارين الأنجليز مخلصين في عملهم مع الحكومة الليبية وحرصوا على حيادهم كفنين قبل أن يكونوا بريطانيين وكان يهمهم تنفيذ مشارع التنمية بشكل سليم لخدمة الأقتصأد الليبي والتجاوب مع مصالح الشعب الليبي .
لقد تغيرت سياسة الحكومة البريطانية في المجال المالي والتجاري في الفترة الأخيرة فبعد أن كانت تشجع الحكومة الليبية على الأقتصاد في النفقات عندما كانت ليبيا تعتمد على مساعدات بريطانيا المالية أصبحت تشجع الحكومة الليبية على الأنفاق والتعامل مع الشركات البريطانية بعد تزايد الدخل من النفط .
في تلك الفترة التي كنت فيها في القسم التجاري في وزارة الخارجية كانت ليبيا تعمل على تشجيع صادراتها من المنتوجات الزراعية والحيوانية وكان جل صادراتها من الخضراوات والفواكه وزيت الزيتون الى أيطاليا والأغنام الى اليونان ومصر وأستغلال الشواطئ الليبية لصيد السمك وجمع الاسفتج وكانت تقوم بها السفن اليونانية التي تهرب معظمه ألى اليونان دون المرور بليبيا .. وكانت صادرات ليبيا ألى أيطاليا من المنتوجات الزراعية تتمتع بمعاملة الدولة الأكثر رعاية ومعفية من رسوم الأستيراد بأذن من منظمة الجات (GATT) للتعريفة الجمركية التي ترتبط به الأطراف المتعاقدة من الدول الأوربية والامريكية التي تتبع التجارة الحرة وكانت أيطاليا تشجع الصادرات الليبية خدمة للمزارعين الأيطاليين الذين بقوا في ليبيا بعد الأستقلال وكانت ليبيا من أفقر الدول الأفريقية وتحتاج الى مساعدات على المستوى الثنائي وعلى المستوي الدولي وكان على ليبيا تقديم تقرير سنوي الى الأجتما ع السنوي لمنظمة الجات في جنيف حول الصادرات الليبية ألى أيطاليا لتتأكد الدول المصدرة لنفس المنتوجات من حاجة ليبيا لهذه المساعدة قبل الموافقة على تمديدها وأذكر أني حضرت معظم أجتماعات الجات (GATT) حتى عندما كنت في السفارة الليبية في لندن مع مدير الجمارك الليبية أنذاك السيد خليفة موسى وكانت مهمة الوفد اللبي ثقديم التقرير الليبي والقاء كلمة لشكرالحكومة الأيطالية ومنظمة الجات على مساعدتهما والمطالبة بتمديد الأعفاء الجمركي في أيطاليا للصادرات الليبية واّذكر أن أكثر الدول المعارضة لأسنمرار الاعفاء كانت البرازيل وهي اكبر دولة مصدرة للمنتوجات الزراعيةأنذاك .
ومن المهام التي طلب مني القيام بها في القسم التجاري المشاركة في المباحتاث التجارية بين ليبيا وتونس التي نجمت عنها أتفاقيات ثنائية في ميادين مختلفة.

حكومة عبدالمجيد الهادي كعبار 17 مايو 1957
بعد أستقالة السيد مصطفى بن حليم كلف الملك السيد عبد المجيد كعبار بتأليف الحكومة ولم أكن أتوقع أن يؤتر هذا الحدت في حياتي الوظيفية وأن أواجه قرارا صعبا. السيد عبد المجيد كعبار كان يعرف أني في وزارة الخارجية التي كان وزيرها في فترة حكومة السيد مصطفى بن حليم الأخيرة وكنت أعرفه جيدا من قبل للعلاقات العائلية فهو متزوج من شقيقة السيد محمود المنتصر وأبنة عم والدتي وكان أحد أركان حزب الاستقلال وقد تعرفت به على مائدة السيد سالم المنتصر رئيس حزب الاستقلال عندما كنت طالبا في المدرسة الثانوية.
أرسل لي السيدعبد الجيد كعبار عن طريق والدي عرضا بان أعمل معه كسكرتير خاص وقد فوجئت بهذا العرض خاصة وأني كنت أريد مواصلة دراستي العليا في الأقتصاد بالاضافة الى عملي في السلك الدبلوماسي في سفارات ليبيا في الخارج وكنت أعتقد أنني أستطيع الجمع بين العمل فيها والدراسة وخاصة أذا عينت في القاهرة أو لندن ولكن عرض رئيس الوزاء كان مغريا فقبول وظيفة السكرتير الخاص لرئيس الوزراء سيحسن وضعي الوظيفي من الدرجة الرابعة ألى الثالتة ولو بالوكاكة لأنني سابقى منتدبا من الخارجية كما أن الوظيفة تتيح لي الأجتماع والتعرف على الوزراء وأعيان البلاد وأكون قريبا من أصحاب القرار وهو ما قد يسهل موضوع أتمام دراستي العليا والعمل الدبلوماسي . كانت أحلام شباب.
بعد قبولي العرض رسميا تمت أعارتي من وزارة الخارجية ألى رئاسة مجلس الوزراء وعينت سكرتيرا خاصا لرئيس مجلس الوزراء بالدرجة الثالتة بالوكالة وأستلمت العمل من السكرتير السابق للسيد مصطفى بن حليم السيد عبد الستار الثلتي وكان الجو في رئاسة مجلس الوزراء يختلف عن أجواء الخارجية فمعظم العمل موجه للشئون الداخلية والتعامل مع الوزراء وكبار الموظفين وأعضاءالبرلمان ومشايخ القبائل ومستشاريها وكان الكل يمر بمكتبي قبل الدخول على رئيس الوزراء.
كانت أدارة شئون الدولة في تلك الفترة محدودة الأمكانيات في جميع المجالات وكانت الحكومة الأتحادية محدودة الأختصاصات الدستورية ولم تكن تسيطر على الولايات التي كانت تتمتع بسلطات واسعة في الشئون الداخلية والأمن وفي الأقتصاد
والتجارة والأشغال العامة ولها السيطرة على كل المجالات الداخلية وتسيير العمل في مثل هذه الحالات يتوقف على مقدرة رئيس الوزراء في التعامل مع الولاة ومدراء
الأمن وكسب ثقتهم وصداقتهم للعمل سويا للصالح العام , وكذلك تمتع رئيس الوزراء بثقة الملك ودعمه له لأنه كان السلطة الوحيدة التي لا يستطيع أحد مخالفتها.
كان معظم المسئولين في تلك الفترة من الجيل القديم الذين لوأوتيحت لهم فرص التعليم العالي في العهد الأيطالي لكان دورهم أكثر فعالية أذ كانوا يتمتعون بذكاء فطري وخبرة في التعامل مع الناس ومشاكلهم والتعاطي مع الأزمات وأقتراح الحلول وهو ما يستحقون عليه كل الاعجاب والتقدير فقد أستطاعوا تسيير أمور البلاد بكفاءة وأخلاص وكانوا أقدر من الشباب على أبداء أراؤهم بصراحة للملك وكان هو بدوره يستمع الى أرائهم ويتقبل مقترحاتهم بصدر رحب وكان في نفس الوقت صارما لا يقبل من أحد التساهل أو التغاضي عن تعليماته التي قد تشمل في بعض الأحيان صغائر الأمور ولكنه في الفترة الاخيرة من حكمه اصبح أقل تقبلا للرأي الأخر ويشك في أقرب الناس أليه ولا يعطي الوقت الكافي لشئون الدولة والتشاور مع رؤساء وزرائه ونادرا ما يطلب المشورة من وزرائه على أنفراد أو مجتمعين ويتم الأتصال بينه وبين رئيس الوزراء عن طريق سكرتيره الخاص وليس عن طريق رئيس الديوان وجهازه القانوني ومستشاريه كما كان العمل به في السنوات الأولى للأستقلال ولا يعطي أهتماما لراي الشعب في الشارع الا متاخرا وقت الازمات وكثيرا ما يختلف مع حكوماته في الحلول المطروحة للمشاكل القائمة رغم موافقته على ما يقترحون عليه دون التقيد بها مما جعل بعض السفراء الأجانب الذين يتعاملون مع الحكومة ويتشاورون مع الملك في حيرة من مصدقاية القرار الليبي ويضطروا للتعامل المزدوج مما يحرج رؤساء حكوماته ووزرائه .وكثيرا ما تتم استقالة رؤساء الوزارات بسبب مثل هذه الحالات .
عندما أستلمت عملي كسكرتير خاص لرئيس الوزراء أكتشفت أن مستوى العمل لا يزيد عن شئون سكراتيرية وتشريفات كتحديد مواعيد رئيس الوزراء ومقابلاته واعداد مراسلاته الخاصة والسرية مع الملك والولاة ومدراء قوات الأمن فيها ورئيس أركان الجيش ومدير البوليس الاتحادي ,كانت معظم هذه المراسلات تتم بطريق رموزالشفرة لأن خدمات الهاتف لم تكن في مستوى فني متقدم لضمان سريتها . وكان عمل رئاسة الوزراءفي ما عدا ذلك يتولاه مدير مكتب رئيس الوزراء وكان في تلك الفترة هو الأستاذ سلطان الخطابي وسكرتير عام مجلس الوزراء السيد مصطفى بن سعود الذي تولى هذا المنصب بعد ذلك مع جميع رؤساء الوزارات حتى الفاتح من ستمبر باستتناء فترة الدكتور محي الدين فكيني .
ولا شك أن طبيعة عملي لم تكن في المجال الذي كنت أصبوا اليه وكنت أطمح في القيام بوظائف فنية تعدني لحياة أكاديمية في المستقبل وصارحت رئيس الوزراء وأقترحت توزيع الأختصاصات في الرئاسة وأنشاء وظائف فنية وتنسيق تتولى دراسة ما يعرضه الوزراء وتقديم المشورة لرئيس الوزراء الا أنه رفض ذلك بحجة انها سابقة قد يعارضها الوزراء المختصين بحجة تدخل المستشارين في شئونهم .
كان عمل الحكومة محدودا ودورها في الشئون الخارجية والدولية ضئيلا فلم تكن لليبيا مشاكل مع دول الجوار أو دول التحالف كذلك كان دورها في مجال الأقتصاد والتجارة والأقتصاد لا يكاد يذكر فليبيا دولة فقيرة تعتمد ميزانيتها الأدارية على المساعدات البريطانية وميزانية التنمية على المساعدة الأمريكية وما تجود به الدول المانحة والأمم المتحدة وهذ قليل لا يكاد يذكر .ودورها في شئون الدفاع كان في بدايته ورغم ذلك كان رؤساء الحكومات والوزراء وكبار الموظفين متحمسين لبلادهم وحريصون على مصالحها وعلاقاتها وليس هناك صحة لما يقال أن الحكومات الليبية في العهد الملكي كانت مسيرة من طرف بريطانيا وأمريكا فلا يوجد تدخل بالمعنى المعروف وكان التعامل مع الحكومة اللبية يتم في حدود السيادة ويقتصر على النصائح على مستوى السفراء للحفاظ على الصداقة والمصالح المتبادلة وكان المسئولون الليبيين حريصون أكثر من حلفائهم الأنجليز والأمريكان على حماية بلادهم من الحركات الناصرية والقومية والبعتية ودول الجوار ولم تكن لأمريكا مشاكل مع عبد الناصر الذي كان يتجنب الضغط عليها لمساعدته في نزاعه مع أسرائيل وحتى بريطانيا لم تعد ليبيا في رأيها مركز حماية لمصالحها في المنطقة بعد فشل الأعتداء الثلاتي على مصر وفقدان قناة السويس وتحجيم دورها في شئون المنطقة ولهذا كان التحالف الغربي الليبي في صالح الطرفين وغير مفروض كما كانت الدعاية العربية تثير الشعب الليبي وتتهم الحكومات الليبية بالعمالة .
بعد أن تولىالسيد عبد المجيد كعبار الوزارة تقرر نقل الحكومة الأتحادية الى مدينة البيضاء ثم الى بنغازي وكانت مدينة البيضاء في تلك الفترة مدينة صغيرة جميلة تتوسط الجبل الاخضر الجميل وتشعر فيه كأنك في جبال وغابات أوربا وقد بنيت فيهابضعة فيلات لأقامة اعضاء الحكومة كما خصص مبنى عادي قديم من عهد أيطاليا ليكون مقرا للحكومة .

كانت الشؤن المالية في الدولة يتولاها وكيل وزارة المالية السيد عبد الرزاق شقلوف وكان له القدح المعلى لعلاقته بالملك الذي كان يحبه ويعطف عليه ولا يقبل فيه كلمة سوء وكان مديرالمالية الأنجليزي المسترديفز الذين عين في أوائل الأستقلال لتتأكد بريطانيا على أن مساعداتها تصرف وفقا للوائح والقوانين قد أستمر في العمل مع النظام الملكي ، بعد أن انتهت علاقاقته الرسمية مع حكومته بريطانيا . كات لا يستطيع أحد التدخل في سلطات السيد عبد الرازق شقلوف أوفي تصرفه ومستقلا في أتخاذ القرار وكان هذا موضع تعليق في المجالات الحكومية والشعبية وكان في نفس الوقت يتمتع بثقة جميع رؤساء الحكومات الذين عمل معهم لطبيعته السمحة وأخلاصه ونزاهته شخصيا.وكان يؤخذ عليه أفراطه تصرفه الخاص رغم أنه كان شهما ومتعلما وملما بعمله ويحبه الجميع وكان نشاط التنمية والمساعدات الأمريكية يدخل ضمن أختصاصاته . ورغم أن الأمريكان كانوا غير راضين عن تصرفاته الا أنهم كانوا يعرفون نفوذه عند الملك ويتعاملون معه وفقا لذلك.كما كان موضع ثقة وزراء المالية جميعا الذين عمل معهم .
بعد أنتهاء الصيف أنتقلت الحكومة ألى بنغازي وأقمنا فيها وكانت لا زالت تعاني
من دمار الحرب وكانت الحركة فيها محدودة خاصة بعد أن هجرها الطليان واليهود منذ الحرب وكانت عليها الصبغة العربية الشرقية لوجود عدد من العمال العرب . كان فندق البرنيتشي المتنفس الوحيد للسفراء وغيرهم رغم أن السفارات الكبيرة كانت تحتفظ ببيوت ضيافة لموظفيها وضيوفها .
كان معظم المراجعين لرئيس الوزراء في البيضاء وبنغازي من مستشاري ومشايخ
قبائل برقة للحصول على مزايا لهم ولقبائلهم ويعتبرون أنفسهم هم أهل الدار وحصن البلاد وسند ملك البلاد ولهم الحق في قطف ثمارالأستقلال. وكان رجال القبائل في برقة الذين أستولوا على مزارع الايطاليين وتقاسموها جعلوها مرتعا لأغنامهم وأبقارهم وجمالهم وأعتمدوا على المساعدات والمعاشات الحكومية في حياتهم .
كان تجار بنغازي أحسن حالا من تجار طرابلس الليبيين فقد ترك الطليان واليهود
مدينة بنغازي واستولى التجار الليبيين فيها على جميع الوكالات التجارية والمشئات الزراعية والصناعية الخفيفة التي كانت قائمة وقد أصبح منهم في وقت قصيرعدد من كبار الأثرياء وملاك الأراضي كما كان نقل الحكومة من طرابلس الى بنغازي مصدرا هاما لنمو التجارة واعمال البناء والصيانة بينما بقت كل الوكالات التجارية والمشئات الصناعية وحتى المزارع الكبيرة في مدينة طرابلس في أيدي الأيطاليين واليهود مما جعل المدينة ذات طابع أوربي ومكان أقامة السفراء ورجال السلك الدبلوماسي ومقرا للشركات النفطية التي بدأت تأتي بحثا عن النفط .وزادها وجود قاعدة الملاحة الامريكية فيها ألى تضاعف النشاط التجاري .

من أهم الأحداث العربية التي حصلت في أول فترة حكومة السيد كعبار هو الأنقلاب في العراق بقيادة عبد الكريم قاسم وقد أثار هذا الانقلاب غضب وسخط الملك على الطريقة التى قتل بها الملك فيصل وولي العهد و السيد نوري السعيد ومنع الملك الحكومة الليبية من الأعتراف بالحكومة العراقية الجديدة حتى بعد أعتراف كل دول العالم بما فيها الدول العربية ولا زالت أذكرملابسات هذا الحدث فقد استطاع رئيس الوزراء السيد عبد المجيد كعبار الأتفاق مع الملك على الأعتراف بالنظام العراقي الجديد بعد فترة من الزمن اثناء مقابلته له في طبرق وقد رجع رئيس الوزراء مسرعا ألى بنغازي ودعى مجلس الوزراء للأنعقاد على عجل وتقرر اعتراف ليبيا بالنظام الجمهوري في العراق وأعددت بدوري للرئيس برقية تهنئة لعبد الكريم قاسم و تم ستدعاءالقائم بألاعمال العراقي , الذي لازال باقيا في ليبيا رغم عدم الأعتراف بالنظام الجديد وأبلاغه أعتراف المملكة الليبية رسميا لنقله بالنظام الجديد في العراق والحكومة العراقية العراقية وأثناء هذ الأتصالات وصلت برقية مستعجلة من الملك بالشفرة الى رئيس الوزراء قمت أنا بفتح رموزها كالعادة وما أن قرأتها حتى ذهلت من محتوياتها وأسرعت بها لرئيس الوزراء ولا زلت أتذكرها حرفيا وهي ( بعد الأشارة الى موضوع العراق الذي تكلمت معكم حوله أود أفادتكم بأني فكرت البارحة مليا ولم يغمض لي جفن وبعدها قررت بعون الله عدم الأعتراف بحكومة القتلة ووجدت أن مخالفة العالم أهون علي من الأعتراف بالباطل ولهذا يطلب منكم عدم الأعتراف بالنظام العراقي).
وفورا دعي مجلس الوزراء الى الأنعقاد وقررت الحكومة تقديم أستقالتها أذا أصر الملك على رأيه ودعي ألى أجتماع مجلس الوزراء الدكتور عبد السلام البوصيري رئيس الديوان الملكي أنذاك وطلب منه أبلاغ قرار المجلس بالأستقالة ألى الملك وأعلامه بأن قرارالأعتراف قد أبلغ رسميا لحكومة العراق وليس من المستطاع التراجع فيه وبعد أتصالات مكتفة وتدخلات رئيس الديوان وجد الملك نفسه في موقف لا خيار فيه سوى سحب أعتراضه على قرار الحكومة بالاعتراف فقبول استقالة الحكومة وألغاء قرارالأعتراف بالنظام العراقي الجديد يجعله في موقف محرج لمكانته لدى الشعب الليبي والدول العربية
والموقف الآخر المماثل الذي لا زلت أذكره هو أن الملك غضب غضبا شديدا على مظاهرة وطنية قام بها طلبة معهد المعلمين بطرابلس وارسل برقية لرئيس الوزراء بالشفرة طالبه فيها بتسفير جميع المدرسين المصريين حالا لأنه قيل له من طرف الحاشية ان المدرسين المصريين شجعوا الطلاب على المظاهرة وقد جرت عقب ذلك أتصالات مكثفة بين والي طرالس والقصر الملكي وشرحوا للملك صعوبة تسفير المدرسين في منتصف السنة الدراسية وقد وافق الملك على عدم تسفيرهم بشرط عدم أنتدابهم مستقبلا في السنة الدراسية القادمة ومنذ ذلك الحادث حرص الملك على عدم الموافقة على زيادة المدرسين المصريين رغم حاجة البلاد أليهم وأصطرت الحكومة ألى البحث عن مصادر عربية اخرى للحصول على المدرسين .

والموقف الأخر الذي أذكره من المراسات السرية بالشفرة بين الملك ورئيس الوزراء هو أن الملك غضب مرة على رئيس المجلس التنفيذي لولاية فزان السيد عبد الجليل سيف النصر لكثرة سفره ألى مصر فأرسل له برقية عن طريق رئيس الوزراء وليس عن طريق والي فزان يأمره فيها بالعودة حالا الى مقر عمله في فزان وألا فأنه أي الملك ليس في حاجة الى خدماته .

من الأحداث الهامة أيضا في هذه الفترة أنعقاد مجلس الجامعة العربية في بنغازي لفض الخلاف بين سوريا ومصر وكان أجتماعا فاشلا وتعذر فيه الوصول ألى أية نتيجة رغم مساعي رئيس الوزراء السيد عبد المجيد كعبار الذي ترأس الأجتماع والسيد عبد الخالق حسونة الأمين العام للجامعة العربية .

في سنة 1958 حان موعد أعادة النظر في الأتفاقية المالية مع بريطانيا التي تنص على أعادة النظر فيها كل خمس سنوات وكانت بريطانا تريد التخلص من بعض العبء المالي لتغطية عجز الميزانية الليبية لأسباب كثيرة أهمها تناقص حاجة بريطانيا الىقواعدها العسكرية في ليبيا بعد فشلها في حرب السويس وفقدانها
السيطرةعلى القناة وتقلص نفوذها في الشرق الأوسط وتولي أمريكا المركز القيادي للنفوذ الغربي في المنطقة . ولهذا شعرت بريطانيا بأنه على أمريكا تحمل العجزفي الميزانية الليبية نظرا لقلة ما تدفعه لها مقابل منشئاتها العسكرية الكبيرة فيها . ونظرا لأهمية هذه المباحثات تقرر أجراؤها في لندن قريبا من أصحاب القرار فيها.
ألف الوفد الليبي للمفاوضات برآسة السيد عبد المجيد كعبار رئيس مجلس الوزراء وعضوية السيد عبد الرزاق شقلوف وكيل وزارة المالية والاستاذعمر الباروني وكيلوزارة الخارجية وتولى السيد حسن أبو خريص من الخارجية سكراترية الوفد ورافقت بدوري رئيس الوزراء كما رافقه ياوره الخاص العقبدعبدالسلام الكتاف.
وكانت هذه هذ أول زيارة لرئيس وزراء ليبيا السيد عبد المجيد كعبار ألى بريطانيا وأوربا بصفةعامة.وفي لندن انضم الى الوفد السفير الليبي الدكتور علي الساحلي ونزلنا ضيوفا على الحكومة البريطانية في فندق(جروفنرهاوس) بارك لين وبدأت المفاوضات في وزارة الخارجية البريطانية وتولى وزير الخارجية البريطاني المستر سلويد لويد رئآسة الوفد البريطاني يساعده عضوان من وزارة الخارجية والمالية .وكان رئيس الوزراء (السيد كعبار يملي علي بعد كل جلسة تفاصيل ما جرى في المفاوضات ويطلب مني أرساله الى الملك وكثيرا ما كان يطلب رأيه وتعليقه في بعض المقترحات التي تقدم من الجانب البريطاني وكما كان متوقعا كان الوفد البريطاني مصرا على تخفيض قيمة المساعدة البريطانية بحجة وضع بريطانيا المالي وأستعداد الولايات المتحدة بتغطية أي عجز لليبيا في ميزانيتها وكان الملك يبعث ببرقياته اليومية الى رئيس الوزراء بالشفرة يحثه فيها على التمسك بالمبلغ الذي تعهدت به بريطانيا عند توقيع الأتفاقية لأن ليبيا لا زالت في حاجة ماسة الى المساعدة المالية وثقة ليبيا في بريطانيا كبيرة أما الأقتراح البريطاني بقيام أمريكا بتغطية عجز الميزانية الليبية فيجب رفضه ويمكن لبريطانيا أن تسترد من أمريكا ما تريد دفعه بعد ذلك لليبيا لأننا لا نريد أن نكون مباشرة تحت رحمة أمريكا فهي تقدم مساعداتها بشروط ولا تدفع مخصصات المساعدة الى الخزينة الليبية مباشرة ولا تستطيع ليبياالأعتماد عليها لأدراجها في الميزانية التي تقدم للبرلمان وفق حاجات البلاد ومقترحات البرلمان وجملة ما تقدمه أمريكا لليبيا من مساعدات حتى الأن هو دفع مرتبات الخبراء الأمركيين العاملين في مشارع التنمية في ليبيا وقيمة ما يستورد منها من ألات ومواد لهذه المشاريع .بينما تخصص المساعدة البريطانية لتغطية عجز الميزانية للمصروفات التي لا يمكن تغطيتها من أيرادات الدولة وتدفع على اربع دفعات سنوية الى الخزانة الليبية نقدا . ورفع الوفدالبريطاني في الجلسات الأخيرة مبلغ المساعدة الى خمسة ملايين جنيه أستيرليني وهو أقل من المبلغ الذي ألتزمت به بريطانيا في سنة 1953 ولكنه أعلى مما كان متوقعا مع تعهد بريطانيا بالسعي لدى الولايات المتحدة لتغطية ما تبقى من العجز في ميزانية ليبيا .
وكانت أخر تعليمات الملك لرئيس الوزراء ن يحاول زيادة المساعدة الى ما كانت عليه فأذا أصر الأنجليز على هذا المبلغ المقترح فيقبل من الجانب الليبي وعدم رجوع الوفد الليبي دون التوصل ألى أتفاق معهم ورفض فكرة احلال المساعدة الأمريكية محل المساعدة البريطانية بأية شكل من الأشكال, وتصميم الملك على استلام المساعدة من بريطانيا بدلا من أمريكا يدل على عدم ثقته في الولايات المتحدة الأمركية لأسباب كثيرة لديه وكان يخشى تخلف بريطانيا عن الدفع فيصبح تحت سيطرة امريكا سياسيا وماليا وهو ما لا يريده لأنه يعتقد أن أمريكا كانت وراء الأنقلابات العسكرية ضد الملوك في البلاد العربية . هذا وقد تناولت المحادثات أستعراض الوضع السياسي في الشرق الأوسط وموقف الرئيس عبد الناصر المتصلب ضد المصالح البريطانية ورغبة بريطانيا الجادة في تحسين علاقاتها مع جميع الدول العربية بما فيها مصر وقد شرح رئيس اوزراء بدوره سياسة ليبيا وأملها في تحسن العلاقات البريطانية المصرية لأن ذلك يساعد على أستقرار المنطقة ومن بينها استقرار الوضع في ليبيا كما أكد ألتزام ليبيا بأي قرار يجمع عليه العرب بشأن فلسطين وطلب من بريطانيا بدل جهودا مع أمريكا لمساندة الحقوق العادلة للشعب الفلسطيني وأيجاد حلول عادلة لقضيته وكذلك طلب من بريطانيا مساعدة الشعب الجزائري وبدل مساعيها لدى فرنسا للأعتراف بأستقلال الجزائر بدلا من أستمرار الحرب ونشر عدم الأستقرار في المنطقة وأوضح المستر سلويد لويد أهتمامه الخاص بتحسين علاقات بريطانيا مع الدول العربية وبدل جهوده مع حلفائها لتحقيق هذا الهدف .
رجع الوفد الليبي المفاوض الى بنغازي وأعتبرت الحكومة نتيجة المفاضات نجاحا فقد كان هناك شك في قبول بريطانيا الأستمرار في دفع مساعدات للميزانية الليبية بعد تعهد أمريكا بتقديم المزيدمن مساعداتها لليبيا ورحب البرلمان بمجلسيه بالأتفاق رغم تخفيض مبلغ المساعدة البريطانية و كان الأعتفاد السائد أن نجاح المفاوضات الليبية البريطانية سينعكس في زيادة المساعدة الأمريكية كما وعد الوفد البريطاني .
برجوي من لندن مع الوفد الليبي للمفاوضات قررت مفاتحة رئيس الوزراء برغبتي في العودة الى وزارة الخارجية خاصة أني علمت بقرب حركة تنقلات بين الوزارة والسفارات ولا أريد أن أفقد دوري في العمل في الخارج وعندما صارحته برغبتي أعرب عن أسفه وعدم رضاه لانني لم أتم في عملي معه سنة كاملة وبعد أن شرحت له الأسباب ورغبتي في مواصلة الدراسة أذا تمكنت من الأنتقال ألى أحدى السفارات بحيث أجمع بين الدراسة والعمل لدبلوماسي كما أن وظيفة السكرتير الخاص لا تتيح لي العمل في مجال تخصصي الدراسي رغم أني حظيت بمعاملة أبوية أثناء عملي معه وشكرته على ثقته . وقد طلب مني أختيار شخص أثق فيه وقادر على القيام بمهام الوظيفة وكنت قد عينت مساعدا لي هو السيد فوزي الغرياني والسيد عبد المجيد كعبار يعرف أباه وهو من غريان وعاش في مصر كل حياته الا ان السيد فوزي الغرياني لا زالت تنقصه معرفة ما يجري في البلاد وسيرالعمل الحكومي فيها فأقترحت عليه تعينالسيد حسن أبو خريص من وزارة الخارجية والذي كان سكرتير الوفد الليبي في مفاوضات لندن والذي يعرفه رئيس الوزراء جيدا وبعد أصراري على قراري رغم المحاولات المتكررة معي للعدول عن رأيي وافق رئيس الوزراء على طلبي وتقرر أنهاء أنتدابي ورجوعي الى وزارة الخارجية وأنتدب السيد حسن أبو خريص كسكرتير لرئيس الوزراء .
وعلى أتر أنتقالي الى وزارة الخارجية تم تعييني سكرتيرا ثانيا في السفارة الليبية في لندن ضمن الحركة الدبلوماسية التي تمت بعد ذلك وشكرت رئيس الوزراء على معاملته النبيلة ومساعدتي في الأستجابة لطلبي .
ومن الصدف أني عينت في نفس الوظيفة التي كان أخي علي يشغلها في السفارة الليبية في لندن بعد نقله الى الوزارة في نفس الحركة الدبلوماسية .وكان أخي علي ولا يزال مشهورا بنكاته اللاذعة فقال مازحا أن أخيه بشير اعجبته لندن أثناء زيارته لها مع رئيس الوزراء فقرر أخذ مكاني .وفي أول ستمبر 1958 غادرت ليبيا ألى لندن عن طريق روما وبسفري الى لندن تنفست الصعداء وتطلعت الى نوع من الحياة مختلف ومجال أوسع للدراسة والأطلاع . ورغم سروري بالعمل في لندن كنت راضيا عن عملي مع السيد عبد المجيد كعبارفقد مكنني من التعرف على الكثيرين من الناس وكبار رجال الدولة وأعيان البلاد وزعمائها ومراكز القوى فيها وظروفها ومشاكلها الشئ الذي كان له تأتيرفي عملي مستقبلا .
ومن الأحداث التي عاصرتها في عهد حكومة السيد كعبار هي ازمة ألاعتداء الفرنسي على قرية (أسين) في فزان على الحدود الليبيةالجزائرية فقد كانت حكومة السيد عبد المجيد كعبار متعاونة مع ثورة الجزائر بموافقة الملك الذي كان يعطي الكفاح الجزائري أهتماما خاصا ودعما لا حدود له فالجزائر هي بلد عائلته الأصلي قيل قدوم جده الى ليبيا . وكان السلاح يهرب من مصر عن طريق ليبيا الىالجزائر وقد أهتمت الحكومة الليبية بهذا الأعتداءالذي كان نتيجة لمتابعة الجيش الفرنسي لمجموعة من الثوارالجزائريين داخل الحدود الليبية وأرسلت الحكومة تعزيزات من الجيش الى فزان لحماية الحدود رغم قلة أمكانياته وقد أظهر الحادث ضخا مة أحتياجات ليبيا الدفاعية لأتساع رقعتها وطول حدودها وعدم الأعتماد على الحليف الأجنبي في حماية نفسها .
كان هدف العدوان الفرنسي هو الضغط على ليبيا لوقف نشاط الثوارالجزائريين في ليبيا ووقف تسرب الاسلحة والمعدات الى الجزائر الا أن ليبيا رغم أخذها للحيطة والحذر من النشاط الجزائري في ليبيا الا أنها لم تحد من أستمرارالمساعدات على المستوى الرسمي والشعبي الى هيئة التحرير الجزائرية والسماح بمرور السلاح تحت أشراف رجال الأمن الليبيين عن طريق الجو والبر. وكنت أثناء أزمة الأعتداء أنام في مكتبي برآسة مجلس الوزراء واوافي رئيس الوزراء بتفاصيل ما يحدث بالتنسيق مع رئيس البوليس اللأتحادي أنذاك الزعيم محمد الزنتوتي وأبلاغ تعليمات رئيس الحكومة اليه والى رئيس أركان الجيش .وكان الملك شديد الأهتمام بثورة الجزائر كما أظهر الشعب الليبي تضامنا كاملا مع الشعب الجزائري وقدم مساعداته بسخاء منقطع النظير الى أخوانه الجزائرين رغم ضيق اليد وقلة الأمكانيات .
قيل الأسترسال في قصة أنتقالي الى السفارة الليبية في لندن أود أ أقف قليلا *لأعطاء بعض الضوء عن أحداث أخرى جرت في فترة حكومة السيد عبد المجيد كعبار ورأيي فيما كان يجري حسب أنطباعتي أنذاك .أن حكمي على تلك الاحداث قد يختلف الان نتيجة لاطلاعي على مئات من الوثائق البريطانية عن ليبيا عن تلك الفترة وقراءة العديد من الكتب التي الفت حتى الأن عن النظام الملكي الليبي . وبعد خبرة العمر الطوية في الحياة .
في اول عهده عين السيد عبد المجيد كعبار السيدين محمود المنتصر ومصطفى بن حليم مستشارين خاصين للملك مراعاة لمكانتهما ومحافظة على مركزهما لما قد يتعرضا له من مضايقات من خصومهما . وقد رحبا بدورهما بالقرار لأنه يسبغ عليهما الصبغة الرسمية التي فقداها بعد تركهما للحكم ولكن ما أن أعلن مرسوم تعيينهما حتى هبت زوبعة معارضة قوية تزعمها والي برقة أنذاك السيد حسين مازق وناظر الخاصة الملكية السيد البوصيري الشلحي وكان هدف هذه الحملة عدم تمكينهما من التدخل في شئون الدولة وهما خارج الحكم وفعلا غير الملك رأيه كعادته عندما يتدخل ناظرخاصته وأرسل رسالة لكل من السيد محمود المنتصر والسيد مصطفى بن حليم توضح لكل منهما بأن تعيينهما كمستشارين للملك لا يعطيهما حق ممارسة اي عمل أو تدخل في شئون الحكومة وأن عملهما يقتصر على أبداء المشورة عندما يطلب الملك منهما ذلك .وقد أعتبرا المذكوران الرسالة ما هي الا الغاء ضمني لمرسوم تعيينهما وعلى هذا سعى رئيس الوزراء لتعيينهما كسفيرين فعين السيد )محمود المنتصر في روما و السيد مصطفى بن حليم سفيرا في باريس.
كذلك لم يكن السيدعبد المجيد كعبار على وفاق مع السيد الصديق المنتصرالذي عين وزيرا للدفاع حلا للمشكلة التي خلقها للسيد مصطفى بن حليم . وتتلخص هذه المشكلة في أن السيد مصطفى بن حليم لما كان رئيسا للوزراء أستغل فرصة أعتصام الطلبة الليبيين في السفارة الليبية في القاهرة وأوعز للملك بأن السفير الصديق المنتصر شجعهم على الأعتصام لغاية في نفسه ومعارضة الحكومة وطلب نقله من القاهرة الى الوزارة تحت الطلب وفعلا أصدر الملك مرسوما بهذا ولكن السيد الصديق المنتصر أستطاع أن يقنع الملك بمساعدة صديقه السيد البوصيري الشلحي ناظر الخاصة الملكية بأن ما أدعاه رئيس الوزراء غير صحيح وأن سبب نقله هو أهتمامه بزيارات السيد البوصيري الشلحي نفسه الى مصر الذي كان تربطه علاقات صداقة خاصة مع الرئيس جمال عبد الناصر وأعطاء هذه الزيارات الطابع الرسمي وفعلا أقتنع الملك برأي السفير الصديق النتصر والغى مرسوم نقله من مصر وتكرر أصدار المرسوم تلات مرات وألغائه بعد أغلام الحكومة المصرية رسميا مما أحرج السيد مصطفى بن حليم ودفعه الى تقديم أستقالته من رئاسة الحكومة أو عزله ؟ وقد تم ذلك حينما كان السيد عبد المجيد كعبار وزيرا للخارجية ولهذا لم تكن العلاقة بين السيد الصديق المنتصر والسيد عبد المجيد كعبار حسنة وحتى يمكن نقل السيد الصديق المنتصرمن مصر وأنهاء الأزمة التي خلقها أقترح السيد عبد المجيد كعبار تعيينه وزيرا للدفاع عندما ألف حكومته وفعلا وافق الملك وأعتبرذلك السيد الصديق المنتصر تعويضا معنويا لحفظ سمعته مع الحكومة المصرية . وكان السيد لصديق المنتصر صعب المراس يعتقد أنه أولى من غيره لمناصب الدولة الهامة لخبرته طويلة في الأدارة البريطانية السابقة لطرابلس ونفوذ عائلته السياسي ولهذا وطد علاقته بالسيدالبوصيري الشلحي وأستخدمه في صراعه مع خصومه وقد كان يضا صديقا لوالده السيد ابراهيم الشلحي الذي سعى لتعيينه واليا على طرابلس ليكون عقبة تحد من نفوذ أبن عمه السيد محمود المنتصررئيس الوزراء أنذاك والذي كان بدوره في نزاع مع السيد أبراهيم الشلحي الأب حول أختصاصات الحكومة الأتحادية والولايات الدستورية ودور رجال القصر في شئون الدولة وقد أدى هذا الخلاف الى أستقالة السيد محمود المنتصرمن رئاسة الحكومة .
ومن الأحداث ذات العلاقة بمجرى السياسة في عهدالسيد كعبار زواج الأمير حسن الرضا ولي العهد من أبنة السيد الطاهر باكير والي طرابلس وقيل أن الملك الذي صادق على هذا الزواج كان يهدف الى ربط ولاية طرابلس مع ملك ليبيا المقبل ولم أحضر تفاصيل هذا الزواج لأني كنت خارج ليبيا وقد أستقبل هذا الزواج بعدم الرضا من سكان برقة وكان يفضل عندهم أن يصاهر الأمير السيد حسين مازق والي برقة بالزواج من أبنة هذا الأخير للمحافظة على برقاوية الملك في ليبيا وهو التقل السياسي الذي يعوض الفارق السكاني بين الأقليمين طرابلس وبرقة.
كانت بريطانيا وأمريكا مهتمتين بتوطيد العرش السنوسي وتسهيل أنتقاله من الملك أدريس الى ولي عهده بعد وفاته بدون مشاكل بين طرابلس وبرقة قد تعرض مشاكل الدولتين للخطر خاصة وقد كثر الكلام عن ضعف ولي العهد وعدم درايته بشون البلاد وعدم تحمس الملك له واهماله له بعد تعيينه خاصة بعد أغتيال السيد أبراهيم الشلحي لهذا كان زواجه من طرابلس لبنة في تقوية فرصته في تولي العرش.
إن العلاقات التاريخية بين الملك وأفراد عائلته كانت متأزمة مما جعل الملك يشك في نياتهم خاصة بعد إغتيال صديقه وناظر خاصته السيد أبراهيم الشلحي ، على يد حفيد السيد احمد الشريف السنوسي وأنعكس ذلك في الاجراءات التي أتخذها ضد أفراد العائلة السنوسية .
ورغم أن الملك عين أبن أخيه الأصغر الأمير حسن الرضا وليا للعهد الا أنه كان يفكر في تغيير الدستور الليبي وتحويله إلى نظام جمهوري لحرمان العائلة السنوسية من حكم البلاد بعده وهذا شئ غريب , ففي عالمنا العربي يعتمد الحاكم على الولاء العائلي والقبلي في تقوية حكمه لأن فقدان متل هذا الدعم العائلي يشجع أصحاب الطموح في السلطة للسعي للوصول أليها بشتى الطرق دون خوف . وأعتقد ان هذا ما حدث في ليبيا فلم يجد الملك من يقف للدفاع عنه وقت حاجته ألى من يحمي عرشه خاصة أنه لم يكن ملكا شعبيا على رأس نظام ديمقراطي يحميه فقد ألغى الأحزاب ولم يعد في البلاد أي تنظيم شعبي له دورفعّال في شئون البلاد ولم يكن الملك يعايش مواطنيه كفرد منهم يشاركهم افراحهم وأحزانهم ويزورهم ويستمع الى شكواهم وأراؤهم ويلبي طلباتهم العامة ويعطف على حاجاتهم الخاصة كما يعمل حكام العرب ، كما أنه لم يكن يشرف مباشرة على الجيش أويختلط بضباطه ويجتمع بهم لمعرفة مشاكلهم وحاجاتهم كما يعمل ملوك العرب. أنتهى حكمه لليبيا غير مأسوف عليه من الطبقة الحاكمة بما فيهم كبار ضباط الجيش والعائلة السنوسية وكل السياسيين الذين خدموا البلاد والنظام والملك ثم وضعوا على الرف دون تقديرأو رعاية أو حماية بعد خروجهم من الحكم بل أن بعض رؤساء الحكومات والوزراء السابقين لم يحظوا بمقابلة الملك أو دعوتهم في المناسبات الوطنية منذ خروجهم من السلطة وتركوا معزولين في بيوتهم وتفرغ بعضهم لأعماله الخاصة .
لم يكن تفكير الملك بتغيير النظام الملكي ألى نظام جمهوري أو ملكي دستوري شرفي راجعا ألى تجاوب مع رغبات شعبية أو حبا في الديمقراطية بل كان مبنيا على رغبة الملك في حرمان العائلة السنوسية من حكم البلاد أو لعب أي دور فيه بعد وفاته.
أثارموضوع رغبة الملك في تغيير النظام رد فعل معارض من أنصار النظام الملكي بينما لم يعرف الشعب بشئ مما يجري بهذه الرغبة لأنه يجري في الخفاء ولو أعلن ذلك رسميا لقامت المظاهرات تأييدا للملك وللتغيي . كان كل شئ يجري في الخفاء حول رغية الملك في تغيير النظام وسط تكهنات دولية ووطنية حول مستقبل النظام حتىالذين شاركوا في أعداد المشاريع الخاصة بالتغيير كانوا لا يعرفون ماذا يريد الملك في قرارة نفسه وكان كذلك سفراء بريطانيا وأمريكا اقرب الناس الى الملك لايعرفون ماذا يريد الملك ما زاد من حيرتهم جميعا . أسهبت الصحف البريطانية والأمريكية بالكتابة عن العوائق التي تقف في وجه استمرارية النظام الملكي في ليبيا حتى ان بعضأعضاء البرلمان البريطاني حذر الحكومة من أستمراربريطانيا في دعم النظام الملكي القائم و عارضوا تسليح الجيش بالدبابات الحديثة أنذاك حتى لا تقع في أيدي معادية للغرب في حالة قيام حركة ضد النظام في ليبيا ولم تستطع الدول الحليفة التدخل لفرض رأيها على الملك لحماية عرشه لأنه كان واثقا من نفسه وأخلاص الشعب له و سيطرته على الأمور حتى في غيابه وكان يغضب لسماع أية معارضة حتى في شكل مناشير توزع ضده . وكان يعتقد أن الولايات المتحدة الامريكية غير مخلصة له وأنها تعامله بصداقة حرصا على مصالحها في ليبيا وانها لن تتردد في التضحية به لتأييد أية حركة ناجحة ضده كما فعلت في مصر والعراق و اليمن. وكان بالعكس يثق ببريطانيا ثقة عمياء ويعطف على علاقات ليبيا معها ولم تتزعزع هذه الثقة حتى بعد تغير السياسة البريطانية بقدوم حزب العمال ألى الحكم الذي لم يعطي الأنظمة الملكية التقليدية اية أهمية تذكر بل بالعكس كان يؤيد الحركات الأشتراكية في العالم وفي المناطق الخاضعة للنفوذ البريطاني على وجه الخصوص وكانت حكومة العمال لا نعطي النظام الملكي في ليبيا أهتماما يوازي أهتمامها بمصالح بريطانيا فيها وضمان الصفقات التجارية المتزايدة نتيجة لبدء تصدير النفط . اما الولايات المتحدة الأمريكية فكانت تعرف جيدا أن الملك لا يثق فيها ولكنها كانت تعتمد على بريطانيا في التعامل مع النظام الليبي وكانت تؤيد بريطانيا لأعداد ولي العهد لحكم ليبيا بعد وفاة الملك .وكانت تتشاور في هذا الشأن مع الدول الأخرى الصديقة التي لها مصالح في ليبيا مثل فرنسا وأيطاليا وتونس والمغرب لأن الأخطار التي قد تعرض ليبيا للخطر قد تعرض مصالح هذه الدول للخطر خاصة ان الأتحاد السوفييتي كان قوة عظمى تنافس النفوذ الامريكي وأن النفوذ الناصري وأستقلال الجزائر وسيرها في الركب الناصري يعرض المنطقة الى سيطرة الأتحاد السوفييتي. وفي ضوء هذه الصورة لما يجري في ليبيا كانت أمريكا تعطي مستفبل ليبيا أهتماما متزايدا للمحافظة على مصالحها ودورها في المنطقة في حالة قيام بديل للنظام القائم في ليبيا لذلك أتجهت مخابراتها الى الوضع الداخلي في ليبيا والبحث عن زعامات في صفوف المعارضة والجيش لتتولى الحكم في حالة أنهيار النظام الملكي .و كانت السفارة الأمريكية تفتح أبوابها سرا وعلانية لرجال المعارضة وضباط الجيش وزعماء التنظيمات العمالية والنقابية وحتى لأفراد الشعب العاديين لمعرفة ما يجري في صفوف الشعب وكانت الحكومات الليبية الملكية المتعاقبة في ذلك العهد رغم عدم رغبتها في أثارة مشاكل مع أمريكا كانت تعبر عن قلقها من هذا السلوك الأمريكي لسفراء بريطانيا في ليبيا الذين سجلوا هذا في تقاريرهم الى حكوماتهم سرا . كانت بريطانيا وأمريكا تتابع حركة التغيير في الرأي العام الليبي واصبح واضحا أن جيلا جديدا قد بدأ في الظهور وان الجيل القديم من السياسيين قد أصبح عاجزا عن السيطرة على البلاد وتقديم الحلول للمشاكل الناتجة عن تطورالاقتصاد بعد اكتشاف البترول و تطورالوضع الثقافي والاجتماعي ورغم أستعانة النظام بالشباب المتعلم للقيام ببعض المهام الفنية على المستوى الوزاري والأداري ألا أن الوضع أصبح يستدعي تغييرا جوهريا .ولم يكن الملك بغائب عما يجري في ليبيا وما يسعى أليه حلفاء ليبيا الأجانب ولهذا بادر بدوره ألى أدخال الشباب في أواخر حكمه وتعيين عناصر شابة متعلمة في مراكز هامة على المستوى الوزاري وضمن كبار الموظفين ولكنه عمل على الأبقاء على بعض العناصر القديمة المخلصة في الحكومة للسيطرة على وزارات الدفاع والداخلية والمالية والخارجية. وقد أستقبلت الدوائر الغربية هذا التغيير والتحول نحو الشباب بترحيب كبيرلان ذلك في رأيها سيساعد على الأستقرار وضمان مصالحها ولهذا سارعت بعض السفارات الأجنبية ألى التقرب من هذه الصفوة الشابة الجديدة لمعرفة سياساتها وتوطيد علاقاتها بها خدمة لمصالحها مما أثارمخاوف الملك والجيل القديم الذي لا زال يسيطر على المناصب القيادية المهمة وضمن الحاشية الملكية ذات النفوذ الكبير ورجال القبائل في برقة الذين لهم وضع خاص . وفعلا خرجت زعامات شابةأستطاعت أقناع الملك بأستحدات أصلاحات حديثة مثل تعيين السيد عبد الحميد البكوش رئيسا للحكومة الذي أستطاع بذكائه أن يستفيد من هذا التغيير والأتجاه نحو الشباب وتجاوب الملك معه ورحب الأنجليز والأمريكان به وسارعوا ألى تاييده أثناء توليه الحكومة ولكن السيد عبد الحميد البكوش ا في رأيي كانت تنقصه صفات التروي والألمام بالتركيبة السكانية في ليبيا وخاصة القبلي منها فهو أبن مدينة كما يقال في ليبيا . فقد أندفع في سياسة التغيير والأرتباط بالغرب والأبتعاد عن العرب ومشاكلهم والتركيز على مشاكل ليبيا الأقتصادية والأجتماعية ورفع مستوى المعيشة لسكانها ومناداته بالشخصية الليبية والتقدم الحضاري والقضاء على التخلف واللحاق بالركب الحضاري . كان يدافع عن رأيه وسياسته بان ليبيا يحب أن نكون متقدمة قوية لتفيد العرب لأنها في وضعها أنذاك لا تستطيع تقديم أي شئ لهم الا أن سياسته في التقرب من الغرب أتارت الشكوك لدى الجماهير الشعبية حول مصداقيته فالرأي العام في ليبيا كان قوميا ناصريا ولا يقبل التضحية بعروبته من أجل فوائد أقتصادية وثقافية لا تعرف أهدافها الحقيقية . .

أنتقالي ألى السفارة الليبية في لندن.
كما ذكرت تم تعييني سكرتيرا ثانيا بالسفارة الليبية في لندن وكان الأتفاق أن أتولى مهام السكرتير الأول بالوكالة بالدرجة الثالتة الى أن يحين موعد ترقييتي الى درجة السكرتير الأول ولكن علمت أن درجة السكرتير الأول ألغيت من كادرالسفارة نتيجة سعي بعض أصحاب المصالح لتعيين شخص أخر فيها ولم تنفع احتجاجاتي لدى رئيس الحكومة للوفاء بوعده وكان السفير أنذاك في لندن الدكتور علي الساحلي وكان السيد فتحي العابدية مستشارا للسفارة .
قبل استلامي لعملي بالسفارة قررت قضاء أجازتي المتراكمة في أوربا فسافرت ألى روما وبعد ذلك رافقت السيدين محسن عميرو فيصل السنوسي الأشهب في سيارة هذا الأخير الى لندن مرورا بألمانيا وباريس .وعند وصولي ألى لندن اقمت في شقة أخي علي التي تركها لي بعد نقله وسفره الى وزارة الخارجية في البيضاء وكانت في شارع (أدجوررود) وعلمت حال وصولي أنه تقرر أعادة أخي علي الى سفارة لندن كملحق ثقافي منتدبا من وزارة الخارجية لوزارة المعارف وقد سررت بذلك لأنها كانت فرصة لي لنقيم معا في شقة واحدة (في شارع هسكرأستريت بتشلسي) بعد أن فرقتنا ظروف الحياة أكثر من ثماني سنوات وفي نفس الوقت أستفيد من خبرته الطويلة في لندن . وقد أسندت لي مهام الشئون الصحفية بالسفارة الى جانب مساعدة مستشار السفارة السيد فتحي العابدية الذي كانت تربطني به روابط صداقة وأحترام متبادل . وقد أستفدت من هذه المهمة فقد كان علي أن أطلع يوميا على أهم الصحف البريطانية ومنها جرائد( التايمس والديلي تلغراف والجارديان وديلي ميل والأبزيفر والأكونمست وجويش كرنكل وجويش اوبزرفر اليهوديتان) وكنت أعد ملخصا يوميا للسفير وتقريرا أسبوعيا الى وزارة الخارجية يحتوي أهم ما نشر من أخبار وتعليقات عن أحداث العالم وخاصة عن ليبيا والعالم العربي وقضية فلسطين. وبعد فترة قصيرة تقررنقل السفير الدكتور علي الساحلي الى ليبيا وعين رئيسا للديوان الملكي وحل محله السفير الدكتور عبد السلام البوصيري ولا زلت أذكر يوم وصوله فقد أعلمنا وزارة الخارجية البريطانية بأن السفير الليبي وزوجته يحملان معهما خمس قطط خاصة وفوجئنا في المطار بقدوم رجال الحجز الصحي البريطاني في أنتظار القطط ونقلها لحجزها ستة أشهركاملة حسب القانون البريطاني ولم يكن ذلك هينا على زوجة السفير التي كانت تعتبرهذه القطط كأطفالها وقد حاولت أخفاء أحداها في محفظتها الخاصة لتهريبها دون حجز لكن رجال الحجز الصحي تنبهوا لذلك وأخذوا القطة منها مع الأعتذار .وقد حجزت القطط في مكان خارج لندن لفترة ستة أشهر وكانت زوجة السفير تزورها يوميا لتطمئن عليها.وقد ماتت أحدهن في الحجز .كانت هذة قصة ظريفة بالنسبة لنا نحن الليبيين ولكنها عادية بالنسبة للأنجليز فتعلقهم بالحيوانات الأليفة يفوق الوصف .
وقبل سفر الدكتور علي الساحلي قام بتوديع الملكة اليزابيت خلال الحفلة السنوية التي تقيمها الملكة لرجال السلك الدبلوماسي وقد كنت أنا والمستشار السيد فتحي العابدية وزوجته برفقة السفير .وفي هذه المناسبة تمر الملكة ومن ورائها أفراد العائلة المالكة على السفراء ومرافقيهم المصطفين حسب ترتيب الاقدمية للسلام عليهم والتفضل بالكلام معهم والأستفسار عن أحوالهم وعندما وصلت للدكتور علي الساحلي وقفت لفترة غير قصيرة للكلام معه لأنها كانت تعرف أنه منقول الى ليبيا وكانت فرصة للسفير لوداعها نطرا لأضطراره ألى السفر على عجل وعدم أمكانية تحديد موعد خاص له لمقابلتها للسلام قبل سفره وقد طلبت منه أن يبلغ تحياتها للملك أدريس كما ذكرت له بأنها تعرف مدينة طبرق حيث يعيش الملك لأنه سبق لها أن زارتها أثناء الحرب العالمية الثانية وتمنت للسفير له طيب الأقامة فيها . وقدم السفير لها مستشار السفارة فتحي العابدية وزوجته وكذلك قدمني لها ذاكرا بأني وصلت حديثا للعمل بالسفارة وقد تفضلت الملكة بالكلام معي معلقة بأني شاب صغيرومحظوظ لتولى مهام دبلوماسية في مدينة هامة مثل لندن . واذكر أن رجال البرتوكول الذين كانوافي رفقتها هنأوني على اللفتة الكريمة التي خصتني بها الملكة لأنها عادة تقتصر في تعليقاتها مع رؤساء البعثات وتكتفي بالسلام على مرافقيهم . وعندما مرت الأميرة ماجريت أشارت الى عدم أحضار زوجته أثناء وجوده في لندن كسفير وأنه الأن لا شك سعيد للعودة الى ليبيا ليلتحق بها هذا وقد قدمني السفير الىجميع أعضاء العائلة المالكة الذين كانوا خلفها في طابور طويل بما فيهم زوجها الأمير فليب والملكة الوالدة وأختها الأميرة مارجريت رغم أن رجال البروتكول طلبوا من السفير تقديم المستشار وزوجته فقط . وقد سنحت لي الفرصة مرة ثانية بمقابلة الملكة اليزابيت عندما رافقت السفير الجديد الدكتور عبد السلام البوصيري لتقديم أوراق أعتماده لها . ومن الجدير بالذكر هنا بأنه سبق لي أن تناولت طعام الغذاء على مائدة رئيس وزراء بريطانيا المستر هارولد ماكملان في 10 داون أستريت مع السيد عبد المجيد كعبار رئيس وزراء ليبيا أنذاك أ ثناء زيارته لبريطانيا في أوائل سنة 1958 والتي حضرها وزير الخارجية المستر سلويد لويد ووزير الدفاع المستر سومس وأعضاء الوفد الليبي في المفاوضات.
كان الدكتور عبد السلام البوصيري كبيرا في السن وقد درج علي تكليفي بكتابة تقاريره ومراسلاته الى الوزارة والجهات المعنية وكان المفروض أن يساعده في ذلك مستشار السفارة ولكن يظهرانهما على غيروفاق ويختلفان في تفكيرهما السياسي . وقد أدى هذا الخلاف في الراي بين السفير والمستشار الى وضعي في مركزمحرج في كتابة تقارير السفير التي كان يملي علي فحواها ودوري فيها يقتصر على صياغتها فالدكتور عبد السلام البوصيري البوصيري من الرعيل الأول والجيل القديم وعاش في تركيا وتزوج سيدة تركية تهوى القطط كما ذكرت أعلاه وسياسته غربية أسوة بعنان مندريس وكان يؤمن كباقي ساسة ليبيا القدامى في الحكم أنذاك بالحفاظ على صداقة بريطانيا وأمريكا والدول الغربية وأخذ الحيطة من الحركات القومية الناصرية والدول التي كانت على خلاف مع الغرب مثل مصر و صد سياسة الرئيس عبد الناصر التوسعية وكانت تقاريره ألى وزير خارجية ليبيا ورئيس الوزراء والملك تعبر عن تفكبيره الغربي و تتسم بالتحذير من السياسة المصرية العربية المتطرفة وما يسمعه من سفراء الدول العربية الصديقة لبريطانيا والدول العربية المتنازعة مع مصر ومن الساسة الأنجليز وسياستهم العدائية لمصر وعبدالناصر . هذا وفي نفس الوقت كان المستشار السيد فتحي العابدية قومي وناصري التفكير وزوجته سورية رغم أنها تنتمي الى عائلة الأمير عبد القادر الجزائري وكانت سوريا في تلك الفترة متحدة مع مصر وكان السيد فتحي العابدية غير راض عما يكتبه السفير من تقارير لا يتفق معه في الرأي فيها ورغم علاقات الصداقة التي كانت تربطني به فانه كثيرا ما أبدى لي لومه وعدم رضاه عما أكتبه للسفير ورغم أني كنت من الشباب المتحمس لناصرو للقومية العربية والوحدة وقد عشت السنوات الأولى لثورة 23 يوليو في مصر ولا أختلف مع السيد العابدية في أرائه القومية ألا أنني كنت أعتقد أن من حق السفيرأن يعبر عن رأيه كما أني أعرف من خلال علاقاتي العائلية وعملي السابق مع رئيس الوزراء أن الملك وروساء حكوماته ومعظم السياسيين في تلك الفترة يؤمنون بنفس ألاراء والسياسة التي يعبر عنها الدكتورعبد السلام البوصيري وقد حرصت في عملي مع أصحاب القرار في ليبيا أحترام الرأي الآخر والاستماع الى أصحاب الخبرة والمعرفة بتفهم وكذلك أفادتني دراستي للعلوم السياسية الى عدم الانسياق وراءالحماس الوطني في معالجة الشئون السياسية الدولية التي تعتمد على تبادل المصالح وتجنب الأصطدام وقبول اوساط الحلول .
من أهم الأحداث التي وقعت أثناء وجودي في لندن أعلان انفصال سوريا عن مصر
ونهاية أول وحدة عربية كانت مبعث الأمل للوحدة العربية الشاملة وقد أستقبلنا الخبر جميعا بالدموع وحسرات الأسف والغضب على من شجع هذا الأنفصال في سوريا .
كانت ولا زالت الوحدة العربية أمل العرب واحلامهم ومسعى لا حياد عنه رغم الصعاب الداخلية والخارجية ومعارضة ومحاربة الأستعمار لها .
كما ذكرت سابقا حال وصولي الى لندن سارعت الى مواصلة دراستي العليا حسب تخطيطي السابق وأنتسبت الى جامعة لندن وهي من أشهر الجامعات في مجال الأقتصاد والعلوم السياسية وتعتبر مدرسة الأشتراكيين وعلى راسهم الأستاذ لاسكي
مفكر حزب العمال البريطاني . وكنا في السفارة في لندن نتابع ما يجري في ليبيا وكان اهم نشاط تتوجه الأنظارأليه هو النشاط النفطي والاكتشافات النفطية وتزايد الأشاعات حول الفساد والأستغلال حتى أصدر الملك بيانا تاريخيا مشهوراعرف ببيان بلغ السيل الزبا ورغم شدة هذا البيان الا أن اثاره كانت محدودة لأن مصدر الفساد كان تدخل الحاشية الملكية في العطاءات الحكومية مما شجع الرشاوى بين رجال الدولة على مختلف مستوياتهم .ثم جاءت مشكلة طريق فزان ومعارضة مجلس النواب للحكومة وأستقالة السيد عبد المولى لنقي من حكومة السيد عبد المجيد كعبار وانطلاق الأشاعات والأتهامات حول الصفقات التي كانت تعقد في الخفاء.


فترة حكومة السيد محمد بن عثمان الصيد

أنتهت الحملة في البرلمان على رئيس الحكومة السيد عبد المجيد كعبار بأستقالته وكلف السيد محمد بن عثمان الصيد بتأليف الحكومة الجديدة التي أستقبلت بكثير من الاستغراب في الدوائر الشعبية والرسمية والشك في مقدرة السيد بن عثمان الصيد على تولي هذه السئولية الكبيرة ومسئوليته عن أعمال وزارة المالية في عهد وزارة السيد عبد المجيد كعبار المستقيلة التي ثارت حولها الاشاعات والشبهات .
*كان السيد محمد بن عثمان الصيد من الرعيل الأول ووزيرا مخضرما وعلى رأس ممثلي فزان في الجمعية الـاسيسية أثناء الأعداد للأستقلال وعضو مجلس الأمة وكان ذكيا بأفراط رغم عدم حصوله على تعليم عال وحياته البسيطة في فزان وتعيين الملك له كان يرجع الى رغبته في معاملة أقاليم ليبيا الثلاثة معاملة متساوية كما قيل وضرورة تعيين رئيس حكومة من فزان بعد تعيين أثنين من رؤساء الحكومات من كل من برقة وطرابلس.
وقد أستخدم السيد محمد بن عثمان الصيد ذكاءه واستطاع باساليبه السياسية القائمة على الترغيب بالمصالح الشخصية على الحصول على دعم بين اعضاء مجلس الامة وزعماء البلاد وكبار الموظفين مما زاد من الأشاعات لتفشي الرشوة والفساد في الحكومة خاصة وقد بدأ في هذه الفترة تصدير الشحنات الأولى من النفط .وقد *استطاع السيد محمد بن عثمان الصيد تجديدالأتفاقية المالية البريطانية الليبية لخمس سنوات اخرى دون ضجة كما تم في عهده تعديل الدستورالليبي وألغاء النظام الأتحادي وألغاء حكومات الولايات والولاة وأقامة نظام مركزي تتولى فيه الحكومة كل *لسلطات وهو مطلب قديم للشعب الذي عارض قيام النظام الاتحادي في أوائل اعلان الأستقلال ولهذ أستقبل التعديل الدستوري بترحيب شعبي كبير وبأستغراب أيضا أن يصدر هذا القرار بسهولة ودون ضجة أوضغط شعبي أو حتى برلماني مما أثارالشكوك في الهدف الحقيقي ومن وراء هذا التغييرالذي أمر به الملك الملك المعروف بحرصةعلى حفظ توازن القوى بين الولايات والمساواة بين برقة وطرابلس في التمثيل والمخصصات المالية وغيرها . وقد عرف السبب بعد ذلك والذي أتضح أن شركات النفط الأمريكية وجدت صعوبات من حكومة ولاية برقة في مد أنابيب النفط من بعض حقول النفط الواقعة في ولاية برقة الى مواني بترولية تقع داخل حدود ولاية طرابلس خاصة وأن معظم النفط يأتي من مناطق تقع في ولاية برقة ونتيجة لذلك سعت أمريكا تؤيدها بريطانيا باقناع الملك بأن الوحدة الليبية اصبحت ضرورية لمصلحة البلاد للأستفادة من ثرواتها البترولية على الوجه الأكمل خاصة أن وحدة البلاد تعززت بمرور السنوات ولم يعد هناك خطر يهدد سلطات الملك من ولاية طرابلس كما كان عليه الحال في الماضي ولكن رغم تحقيق الوحدة الليبية ألا أن الملك استمر في توزيع التمثيل في مجلس الشيوخ وفي المناصب الوزارية والقيادية الأخرى وفي المخصصات المالية بالتساوي بين الولايات وخاصة بين برقة وطرابلس ولم تظفر ولاية طرابلس بفائدة تذكر من الوحدة المعلنة بل خسرت المحافظة على كادرها ونظامها الأداريين المتسمين بالكفاءة والحداثة . ولم يعد لطرابلس دور في شئون حكم البلاد . وخلال فترة وزارة السيد محمد بن عثمان الصيدى ظهر الخلاف داخل الجيش الى العلن والكل كان يعرف أن ضباط الجيش ينقسمون الى مجموعات لا تقل عن ثلات أحدهما تحيط بالعقيدعبد العزيز الشلحي الابن المتبني عمليا للملك ومجموعة أخرى ضده ووالثالت غير منتم لهذا أوذاك وهم الاغلبية وقد توالى على رئاسة أركان الجيش الليبي ضباط عراقيين الى حين تعيين اللواء السنوسي الأطيوش رئيسا ليبيا للأركان وكان والده من كبار رجال القبائل في برقة وأنضم الى الجيش السنوسي الذي أسس أثناء الحرب العالمية في مصروشارك مع الجيش البريطاني في تحرير ليبيا من الأحتلال الأيطالي وكان اللواء الأطيوش قويا وشجاعا حاول خلق جيش قوي لكنه وجد من مجموعة العقيد عبد العزيزالشلحي مقاومة لأضعاف نفوذه وعقبة في طريق مشاريعه ونتيجة لتحريض الملك عليه تمت تنحيته وعين سفيرا بوزارة الخارجية وهو الاسلوب الذي كان يتبع مع من يراد ابعاده عن السلطة . وعين بدله اللواء نوري الصديق بنأسماعيل وهو من عائلة معروفة في مصراتة وكان لا يختلف مع سلفه في شكواه من تدخل العقيد عبد العزيز الشلحي وسلوك أنصاره في الجيش وكنت أعرفه جيدا كما أعرف السنوسي الأطيوش وكانا كثيرا ما يصارحاني بالمشاكل التي كانا يواجهانها في الجيش عند مرورهم بمكتبي أثناء زيارتهم لرئيس مجلس الوزراء وكنت أعرف كثيرا من ضاط الجيش أو من هم في درجة عقيد لأن بعضهم كانوا زملائي في الدراسة في مدرسة طرابلس الثانوية ثم الجامعية في مصر .وقد تمكنت مجموعة العقيد عبد العزيز الشلحي من التخلص من اللواء نوري الصديق أيضا وعين مكانه اللواء السنوسي شسس الدين وهو صهرالعقيد عبد العزيز الشلحي ورجل طيب ونزيه ولكنه واقع تحت تأثير صهره وأعوانه وعائلة الشلحي التي تصاهر أيضا اللواء محمود أبو قوبطين قائد عام الامن في برقة والسفير عبد السلام الغماري .وفي هذه الفترة أغتيل العقيد أدريس العيساوي وهو من ألمع وأقوى ضباط الجيش واشيع أن قاتله ضابط من مجموعة العفيد الشلحي وكان العقيد عون رحومة أشقيفه أول من وجده في سيارته مضروبا بالرصاص وحصلت في تلك الفترةأيضا أول محاوالة للسيطرة على البلاد في الجيش ولكنها فشلت وحوكم القائمين بها وأشيع بأن وراءها اللواء السنوسي الاطيوش .رئيس أركان الجيش السابق .
وأستمرت الأشاعات في عهد السيد محمدعثمان الصيد عن الكسب غير المشروع والفساد والاأتراء والأسراف في الأنفاق الحكومي والاعلام الموجه لخدمة الحكومة وكان على رأسه السيد أحمد الهمالي الذي ادخل الأعلام الدعائي لأول مرة في ليبيا وكان يقوم على الاشادة والمبالغة في المديح للملك والحكومة الشئ الذي لاقى أستنكار الشعب الذي كان يعرف الحقائق دون حاجة الى أعلام فالمجتمع الليبي كان صغيرا وأخباره تنتشر في سهرات المرابيع والمقاهي التي كانت أيضا مرتعا للأشاعات والتعليقات والنكات السياسية التي استوردت من مصر .لقد حاولالسيد محمد بن عثمان (الصيد أن يجعل من نفسه زعيما ليبيا متميزا بأساليبه المعروفة فهاجم رؤساء الحكومات السابقين وخاصة السيد مصطفىبن حليم وسعى لبناء شعبية عن طريق الترغيب والوعود وضم الى حكومته عددا من وزراء غير معروفين لمجرد أرضائهم أو أرضاء أقاربهم مما جعل تركيبته الحكومية غير متجانسة. وتميزت فترة حكمه بهدوء سياسي على المستوى الوطني والاقليمي فالساحة العربية كانت هادئة نسبيا كما أن انفصال سوريا عن مصر وفشل أول وحدة عربية أضعف) الدعوة القومية بين الجماهير العربية خاصة أن مصر تعرضت لضغوط أقتصادية من طرف الدول الغربية مما جعلها تتجنب الدخول في المزيد من المشاكل معها وتتفرغ لحل لمشاكلها الأقتصادية كما أن الأنقلاب العراقي وحكم السيد عبد الكريم قاسم ساعدا على ضعف الحركة القومية والأنقسام بين الدول العربية وفي الداخل تمتعت ليبيا بفترة هدوء نتيحة هذه الأوضاع العربية فالراي العام في ليبيا يتاثر ويتفاعل مع الأحداث العربية أكثر من الأهتمام بما يحدث في ليبيا لأن ما يحدث في ليبيا بالنسبة للشعب الليبي قضية خاسرة كما انه لم تجري في عهده أنتخابات نيابية رغم أن المجلس النيابي القائم اجبرحكومةالسيد عبد المجيد كعبار على الأستقالة ولكن السيد الصيد أستطاع أن يكسب تأيدهم ودعمهم بالأغراء المادي والقروض والمناصب وهو رئيس الوزراء الوحيد الذي لم يتخلى عنه أنصاره حتى بعد خروجه من الحكومة وخلق جبهة قريبة من الحزب السياسي .ويؤخذ عليه أنه أبعد ليبياعن الجزائر قفقد لوحظ فتور في العلاقات الليبية الجزائرية في عهده وأستطاع أن يقنع الملك أو يدعم الرأي القائل بأن السيد أحمد بن بلة يقف مع عبد الناصر وأن الجزائر خطر على ليبيا كمصر وكان هذا هو راي الأنجليز والأمريكان وكان الملك يتوقع تقديرا وعرفانا من زعماء الجزائر بتأييده لجبهة التحرير الجزائرية وتقديم الدعم لها على المستوى الرسمي والشعبي وهذا موقف غريب لم أستطع فهمه أو من كان) وراءه خاصة ان زعماء الجزائر وعلى رأسهم الرئيس بن بلة يكيلون الشكر دائما لليبيا ملكا وشعبا وحكومة لما قدموه من مساعدات للجزائريين أثناء كفاحهم ضد فرنسا وكان السيد أحمد بن بلة مندفعا في الأعراب عن هذا التقدير للشعب الليبي وقد مت الجزائر في عهده كل التسهيلات لليبيين وكان يقول أنه ليبيا قبل أن يكون جزائريا . صحيح أن بن بلا قومي ويؤيدالرئيس عبد الناصر لكن لا اصدق أنه يحمل شيئا ضد ليبيا أو الملك .
لقد أتهم السيد محمد بن عثمان الصيد بالمحسوبية والوساطة فبعد أن نظمت التعيينات والترقيات للموظفين في ليبيا بقوانين صارمة ومقيدة وفقا لأحدث التشريعات وأصبحت محترمة ومقدسة من جميع المسئولين في الحكومات السابقة جاء السيد محمد بن عثمان الصيد ليخرقهذه السياسة وفتح باب الترقيات والتعيينات لغير المؤهلين وكان ذلك بادرة سيئة أدت الى لهبوط المستوى الأداري في الفترات التالية بل أكثر من ذلك فتح الدخول الى السلك البلوماسي الذي كان مقصورا على موطفي الخارجية ومفصولاعن الخدمة المدنية بتعيين مجموعة في أعلى سلم الوظائف في الوزرارة كوزراء مفوضين دون تمتعهم بشروط المؤهل والخبرة لوظائف السلك الدبلوماسي الليبي الأمر الذي أثار تدمرا بين موظفي وزارة الخارجية . كما أستطاع أبعاد السيد عبد الرزاق شقلوف من وظيفته كوكيل لوزرة المالية بعد فترة كان فيها المتصرف الوحيد في الشئون المالية وأعتقد أن الأمريكان ساعدوه على ذلك عند الملك لأنهم لم يرضوا عن السيد شقلوف طوال فترة أدارته لوزارة المالية .

في ديسمبر 1962 أحتفلت ليبيا بمرور عشر سنوات على أستقلالها ودعت وفودا رسمية على مستوى عال لحضورالأستعراض العسكري والأحتفلات التي أقيمت *بهذه المناسبة والقى الملك فيها خطابا حذرفيه من مشاكل الرخاء الذي بدأت طلائعه تظهر وكان خطابا بليغا وقيل أن الذي أعده كان السيد سليمان الجربي وزير الخارجية أنذاك . وفي عهد حكومة السيد محمد بن عثمان الصيد تطورت مدينة البيضاء وتوسع بنيانها مما مكن الحكومة من الأقامة تهائيا ونقلت أليها وزارة الخارجية ورئاسة مجلس الوزراء وعدد كبير من أجهزة الوزارات الأخرى وأصبحت المقر الرسمي الدائم بعد أن كانت المقر الصيقي للحكومة .
*كانت أحداث السفارة الليبية في لندن أثناء وجودي بها عادية وقد زار ريطانيا في تلك الفترة الأميرالحسن الرضا ولي العهد زيارة رسمية واستقبل أستقبالا رسميا في المطار من قبل المستر بروفيمو وزير الدولة للخارجية الشهير وأقيمت له عدة حفلات هامة ودعي من طرف رئيس الوزراء والملكة الأم الى حفلة غذاء وحفلة عشاء وأجرى مباحثات هامة مع كبار المسئولين في الحكومة البريطانية وقد أقام الأمير حفلة عشاء فخمة في محل أقامة السفير اللببي حضرها المستر هارولد ماكملان رئيس الوزراء والمستر سلويد لويد وزير الخارجية والمستر كليمنت أتلي زعيم المعارضة البريطانية والمستر هيلي وزير خاريجية الظل في بريطا نيا من المعارضة وعدد كبير من الوزراء البريطانيين وأعضاء البرلمان البريطاني وأعضاء الوفد المرافق للأمير وأعضاء السفارة الليبية في لندن . ونظرا لعدم أحضار المترجم الرسمي لوزرة الخارجية البريطنية الذي كان يرافق الأمير أثناء زياراته أقترح السيد فتحي الخوجة كبير التشريفات الملكية المرافق للأمير أن أتولى أنا الترجمة للأمير مع ضيوفه وأذكر أن رئيس الوزراء البريطاني كان متحفظا على ذلك وسألني عن وظيفتي قبل أن أبدا بالترجمة بينه وبين الأمير وبدأ المستر ماكملان كلامه بتوجيه الشكر للأمير على زيارته وطلب منه أبلاغ الملك أدريس تحياته وتقديره للصداقة التي تربط بين ليبيا وبريطانيا وحرصه على تطوير وأستمرار هذه العلاقات التي تربط بريطانيا بالملك وليبيا واستمرار أواصر التحالف حسب المعاهدة المعقودة بين الدولتين وأستعداد بريطانيا للدفاع عن ليبيا ضد أي أعتداء خارجي كما سأل الأمير عن الأمور في ليبيا وما هي المشاكل التي تواجهها ومن هي الشخصيات الليبية التي تحظى برعاية وثقة الملك وسياسة الحكومة الليبية ومشاريعها من أجل أسستتمار الدخل البترولي المتزايد وللنهوض بالأقتصاد الليبي وعن الصناعة التي ترغب ليبيا في تطويرها وعلاقة ليبيا مع جيرانها وخاصة مصر وكان رد الأمير مختصرا ومتحفظا ويدل على عدم ألمام بتفاصيل المسائل التي أثارها المسئولون البريطانيين معه وذكر في جوابه عن الصناعات التي ترغب ليبيا في تطويرها أنها تشمل الصناعات الخاصة بالمنتوجات الزراعية والأهتمام بالريف ومجال النفط وبادل رئيس الوزراء البريطاني الشكر والأشادة بالعلاقة بين بريطانيا وليبيا وفي رده عن السؤال حول الشخصيات الليبية شدد على السيد مصطفى بن حليم كشخصية أساسية ثم ذكرالسيد محمود المنتصر والسيدمحمد بن عثمان لصيد وبانهم جميعا يتمتعون بثقة الملك .
أما حديث وزير الخارجية سلويد لويد فركز على السياسة الخارجية وعلاقات بريطانيا بليبيا ولم يخرج عن الأطار الذي تكلم فيه رئيس الوزراء و كأنهما أستعرضا سويا نقاط البحث مع الامير قبل القدوم الى الحفلة ولاحظت أن الأمير في اجاباته لم يتعرض بالتفصيل الى العلاقات الخاصة بين بريطانيا والملك ومخاوف ليبيا من جيرانها وخاصة مصر والجزائرومساعدة بريطانيا في حالة مواجهة أي أعتداء عليها وكذلك الموقف في الشرق الأوسط ومشكلة فلسطين والعلاقات العربية البريطانية والسياسة الأسرائيلية والوضع في العراق بعد زوال الحكم الملكي فيه والمعاملة الخاصة للصادرات والشركات البريطانية الى ليبيا وهي المواضيع التي تهم بريطانيا بشكل خاص الا أنه من المحتمل أن هذه المواضيع أثيرت بالتفصيل مع الأمير أثناء مقابلاته السابقة لرئيس الوزراء ووزير الخارجية في مكتبيهما أثناء المباحثات الرسمية . وكان أنطباعي أن رئيس الوزراء البريطاني و وزير الخارجية وجدا من أجابات العامة أنه غير مطلع على مجريات الأمور في ليبيا وأن الملك لم يشركه في أمور الدولة كما لاحظا ضعفه لثقافي وأهتزاز شخصيته وعدم ثقته في نفسه فلم يتكلم عن نفسه طموحاته وأفكاره واماله كملك في المستقبل .وقد يكون هذاهو السبب في محاولات بريطانيا وأمريكا في السنوات الأخيرة التي تلت زيارته الى واشنطن ولندن في التركيز على دور الأمير وأعداده للمستقبل وتدريبه ومشاركته في أمور الدولة وشعورهما بعدم الأطمئنان لموقف الملك وبعض الشخصيات الليبية منه ودوره غير الظاهر في مجريات الأمور في البلاد.
قال لي المستر هيلي وزير الظل للشئون الخارجية بعد الأنتهاء من الحفلة أني كنت الشخص الوحيد الذي أستفاد من الحفلة لأنني عرفت ما جرى بين الأمير ورئيس الوزراء ووزير الخارجية وهو الهدف لزيارة الأمير وهذه الحفلة .
في أواخر الفترة التي كنت فيها في بريطانيا تم نقل المستشار السيد فتحي العابدية الى واشطن وعين الدكتور عمر محمود المنتصر وزيرا مفوضا ومستشارا مكانه ولم تمضي شهورحتى تقرر نقلي من لندن وتعييني كسكرتير أول في السفارة الليبية في القاهرة . وهكذا انتهت أسعد فترة قضيتها في حياتي تناء عملي الحكومي .
فقد أستطعت في هذه الفترة مواصلة دراستي العليا ولكنني لم أستطع دخول أي أمتحان للماجستير كما كان متوقعا لأني لم أتمكن من مواصلة حضوري في الجامعة ومتابعة دراستي التي كنت حريص عليها لأسباب ضغط العمل وأندماجي في الحياة الأجتماعية الجديدة ولست نادما على ما فعلت فقد أستفدت من عملي الدبلوماسي أضعاف ما كنت سأستفيده من دراستي الجامعية كما أن أطلاعي على مجرى الصحافة البريطانية ومتابعة ما يجري فيها ووضع تقاريركتابية يومية وأسبوعية عنها عنها مكنني من توسيع معرفتي والأستفادة أكثر مما كنت استطيع أن استوعبه في قاعات الدراسة والبحث. كما مكنني عملي في لندن من التعرف بكثير من الشخصيات البريطانية ومقابلة ملكة بريطانيا والعائلة المالكة ورؤساء وزراء بريطانيا والوزراء في المناسبات التي ذكرتها وكذلك كثير من زعماء العالم الذين زاروا لندن في تلك الفترة وسفراء الدول و أعضاء السلك الدبلوماسي في لندن وهم خيار من خيار للسلك الدبلوماسي في العالم . كما أستطعت الاستفادة من الحياة الفنية في لندن ومشاهدة المسرح والأوبرا وحضور المحاضرات المتخصصة التي لا تتاح ألا للقلة من المثقفين ورجال الفكر ومشاهدة متاحف لندن النادرة التي يقطع الناس الاف الأميال من استراليا وامريكا للقدوم ألى بريطانيا لمشاهدتها وكذلك أتاحت لي لندن فرصة العمرللألتقاء برفيقة حياتي التي أصبحت زوجتي بعد ذلك رومي موست نهي المانية المولد والجنسية والتي لم أتمكن من الزواج منها في تلك الفترة لأسباب *قانونية نظرا لان قانون السلك الدبلوماسي الليبي يمنع الزواج من اجنبيه بالاضافة لعوامل اخرى اجتماعية وسياسية ولم يتم زواجنا *لا بعد زوال تلك العقبات وأنتقالي للعمل في الأمم المتحدة بجنيف.






الأنتقال الى السفارة الليبية في القاهرة

قي صيف 1961 أستلمت برقية من وزارة الخارجية بدون سابق أنذار بنقلي ألى السفارة الليبية في القاهرة وذلك في الوقت الذي كنت أنتظر فيه خبر ترقيتي الى درجة سكرتير أول التي طال أنتظاري لها بسبب تعديل الدرجات الدبلوماسية بجعل السكرتير الثاني بالدرجة الثالتة التي رقيت أليها *وأصبحت وظيفة السكرتير الأول الدرجة الثانية وهكذا قضيت فترة درجتين الرابعة والثالثةفي الخدمة المدنية تحت تسمية سكرتير ثاني .وقد علمت أن سبب نقلي المفاجئ هو صدور أمر ملكي ألى رئيس الوزراء بنقل جميع موظفي السفارة الليبية في القاهرة فورا وتغييرهم بأخرين وهكذا قامت الوزارة بأتخاذ قرار عاجل بأجراء حركة تنقلات استتنائية بتوزيع موظفي سفارة القاهرة على عدد من السفارات ونقل موظفين من هذه السفارات الى سفارة القاهرة وهكذا نقلت أنا من لندن كسكرتير ثان والسيد شمس الدين عرابي كمشتشار من روما والسيد محسن عمير كسكرتير أول والسيد يحي زكريا كسكرتير ثان الى السفارة الليبية في القاهرة دفعة واحدة وكان السفيرالليبي في القاهرة أنذاك هو السيد خليل القلال كان نقلي من لتدن قبل قضاء المدة المحددة وهي أربع سنوات صدمة لي لأسباب خاصة فقد كنت قد قررت دخول المستشفى للعلاج واجراء كشوفات عامة مما أضطرني الى طلب تاجيل نقلي الى نهاية1961 كفترة اجازة صحية وكذلك اجازاتي السنوية المتراكمة .وهكذا قضيت فترة في العلاج والأجازة و لم أستطع الأنتقال من لندن الى القاهرة حتى نهاية 1961وقد مررت بليبيا في طريقي الى مصر وقابلت وزير الخارجية السيد سليمان الجربي ووكيل وزارة الخارجية أنذاك الأستاذ مصطفى بعيو الذي تربطني به علاقات قديمة فقد كان أستاذي في المدرسة الثانوية وصديق لوالدي ومن مصراتة وكنت غاضبا لنقلي وكان لقاء عاصفا ولكنهما أستطاعا تهدئتي وشرحا لي الظروف الأستتنائية التي فرضت هذا النقل المفاجئ وسافرت بعدها الى القاهرة وفي هذه الفترة عين أخي علي الذي كان في ديوان الوزارة منذ نقله من لندن سنة 1959 في الجزائر كقائم بأعمال أول سفارة ليبية فيها اأثر أعلان أستقلالها وكانت تربطه روابط صداقة متينة بالرئيس بن بلة أثناء وجوده في طرابلس وزعماء ثورة الجزائروكانت فترة تعيينه قد تميزت بالصراع بين السيد بن خدة وجيش التحرير بقيادة السيد ين أبو مدين وبن بله . وكان اخي الأصغر الهادي الذي لا زال طالبا من العاملين النشطاء في تاييد جبهة التحرير الجزائرية وجمع المساعدات والتبرعات لها على المستوى الشعبي مع عدد من كبار أعيان طرابلس وتجارها وكان الجزائرون يقدرونه ويعتبرونه كواحد منهم وقد دعي بعد أستقلال الجزائرمع وفد شعبي كبير لزيارة الجزائر. وصلت القاهرة في يناير 1962 ولم أزرها منذ تخرجي من الجامعة في يونيو 1956 وقد وجدتها قد تغيرت في معالمها وأقمت في شقة بالزمالك جوار نادي الضباط مع الزملين السيدين محسن عمير ويحيي زكريا فقد كنا جميعا كلنا عزابا .
كان عملي بالسفارة الليبية في القاهرة ممتعا فقد أسندت لي مهام الشئون الصحفية فأتيحت لي فرصة التعرف على الصحفيين المصريين ومن بينهم زكريا نيل مراسل الأهرام الذي عرفته منذ حضوره لأجتماع الجامعة العربية في بنغازي عندما كنت سكرتيرا لرئيس الوزراء السيد عبج المجيد كعبارو كان كثير التردد على السفارة اللبية وأخرون من جريدة الجمهورية ودار أخبار اليوم ودار الهلال لم تسعفني الذاكرة بتذكرهم .
كان السفير الليبي في القاهرة السيد خليل القلال من الزعماء الليبيين الذين شاركوا في فترة الأعداد للأستقلال منذ الأربعينات وكان قوي الشخصية ويرتبط بعائلتنا بروابط الصداقة والقبيلة فهو من كوافي بنغازي التي تتفرع من كوافي مصراتة .
وكان على علاقات غير ودية بأبناء الشلحي السادة البوصيري وعبد العزيز وعمرالذين كاناوا يزورون الأسكندرية و القاهرة بأستمرار وأقام أخوهم السيدعمر افي القاهرة .وكانت زيارات السيد البوصيري الشلحي ناظر الخاصة الملكية تحضى باهتمام خاص من طرف السلطات المصرية فحال وصوله يستقبله الرئيس عبد الناصر وتذاع المقابلة على الراديو والتلفزيون كما يقابل السيد حسن أبراهيم و كبار المسئولين والوزراء المصريين ويناقش معهم العلاقات الليبية المصرية باسم الملك أدريس دون حضور السفير الليبي السيد خليل القلال مما جعل هذا الأخير يشعر بالاهانة ويكره الحكومة المصرية رئيسا ووزراء كما يكره النظام السياسي المصري وكانت علاقاته مع المسئولين المصريين على أسوأ حال . وأذكر أنه أثناء مرور الملك ببورسعيد على سفينة في طريقه للحج سنة 1962 ذهبنا جميعا السفير وأعضاء السفارة للسلام على الملك وتوديعه مع كبار المسئولين المصريين وقد سلمنا على الملك وقدمني السفير للملك تفديما حارا وقال له هذا السيد بشير المنتصر ومن عائلة المنتصر الشهيرة ودكتور في العلوم السياسية ومن أحسن موظفي السلك الدبلوماسي الليبي واضاف بأنه يعتمد علي في عمل السفارة في القاهرة معه وقد سر الملك بذلك ورحب بي ترحيبا حسنا وشد على يدي طوال حديث السفيرعني وكان السيد البوصيري الشلحي يرافق الملك ويعامل السفير بمنتهى العداء حتى في حضور الملك وعند أنتهى الجميع من السلام على الملك أختلى السفيرالقلال بالملك للتشاور دون أخذ أذن من السيد البوصيري الشلحي وقد رتب المقابلة للسفير السيد فتحي الخوجة كبير التشريفات الملكية وعندما علم السيد البوصري الشلحي بالمقابلة الخاصة أسرع الى الغرفة التي يستقبل الملك فيها ضيوفه وطلب من السيد فتحي الخوجة أنهاء المقابلة حالا وعند ما تردد هذا الأخير دخل السيدالبوصيري على الملك وطرق الباب بشدة معلنا أنتهاء المقابلة على مسمع الملك الذي أنهى المقابلة دون أعتراض وعلى مسمع من) جميع الحاضرين وكان السفير السيد خليل القلال قد تلقى رسالة من وزارة الخارجية في ذلك اليوم تعلمه بنقله من القاهرة الى وزارة الخارجية في البيضاء وقد استغل السفير هذه الفرصة وطلب من الملك نقله الى الرباط بدلا من وضعه دون عمل في الوزارة وقد وعده الملك بذلك وفعلا تم تعيينه فيها حال رجوع الملك الى ليبيا وكان السيد البوصيري الشلحي السبب في نقل السيد خليل القلال من مصرلانه كان يرفض استقباله في المطار عند قدومه الى مصر ولا يهتم بزيارته وهذا يحرج وضع السيد البوصيري أمام المسئولين المصريين كما أن السيد خليل القلال رفض حضور جنازة السيد الأخضر العيساوي صديق الملك ورفيق جهاده الذي توفي في لندن عندما كان فيها للعلاج على حساب الحكومة الليبية ودفن في القاهرة وكلف الملك السيد البوصيري الشلحي لحضور جنازته نيابة عنه مما اعتبره السيد خليل القلال أهانة له لانه يعتبر نفسه هو الممثل الشخصي للملك في مصر وهذا الاعتذار لعدم حضوره الجنازة أتاح الفرصة للسيد البوصيري الشلحي أن يقترح على الملك نقله من القاهرة ألى وزارة الخارجية وهو يعني في ليبيا بالنسية للسفراء أحالة على التقاعد لأن السفراء الليبيين كانوا من السياسيين ولا يتولون وظائف دبلوماسية في ديوان وزارة الخارجية ولهذا كان السيد البوصيري الشلحي عدم أعطاءه فرصة للأختلاء بالملك . هكذا كان الملك يعامل وزراءه وسفراءه يستمع من هذا وذاك ويرضي هذا وذاك في النهاية كالوالد الحنون يغضب أحيانا على بعض أولاده ولا يعادي أحدهم منهم من اجل أرضاء الآخرولا يهمل أحدا .كانت علاقتي مع السفير خليل القلال علاقة ممتازة وقد لاحظ في ذلك اليوم على سفينة الملك أني كنت أجلس بأستمرارألى جانب السيدج عمر الشلحي الذي جاء بدوره للسلام على الملك لأنه كان مقيما في القاهرة فلامني وديا قائلا لقد لاحظت أن أعضاء السفارة بما فيهم أنا يحيطون بالسيد عمر الشلحي تاركين سفيرهم بمفرده طوال اليوم وأمام الملك وحاشيته .
كما ذكرت أسندت ألي في السفارة الشئون الصحفية ولكن ما أن تقررنقل السيد خليل القلال حتى رجع السيد مبروك الجيباني لتولي منصبه كملحق صحافي و كان قد نقل ألى ليبيا ضمن الموظفين السابقين للسفارة الذين نقلوا جميع دفعة واحدة كما ذكرت أعلاه ولم يتمكن من العودة بسبب معارضة السيد خليل القلال ولما تقرر نقل السفير القلال من مصر سعى لدى الملك عن طريق أصدقائه أبناء السيد أبراهيم الشلحي للرجوع ألى وظيفته في القاهرة التي أستمر يتولاها منذ أنشئت السفارة الليبية في القاهرة وقد أستقبله السفيرالقلال عند عودته ببرود .
كانت علاقتي مع موظفي السفارة الليبية بالقاهرة ممتازة وبقدوم السيد مبروك الجيباني لتولي مهام الملحق الصحفي تفرغت لشئون الجامعة العربية التي كنت أقوم بها مع السيد محسن عمير والتي تشمل حضور جلسات مجلس الجامعة ولجانها العديدة وقد أتيحت لي الفرصة لدراسة الجامعة العربية ومشاكلها المختلفة المزمنة .
لم تطل فترة عملي بالسفارة الليبية في القاهرة فقد تقرر نقلي الى ديوان الوزارة في أواخر سنة 1962وقبل أن أباشر عملي في وزارة الخارجية في البيضاء أخذت أجازتي السنوية وقضيتها في لندن لأعادة ذكرياتي الجميلة بها . وطبعا لم أكن راضيا عن نقلي المتكرر وقد أدت أعتراضاتي المتكررة ألى سوء العلاقات بيني وبين المسئولين في وزارة الخارجية في ليبيا وقد حاولت أثناء مروري بالبيضاء من لندن الى القاهرة عند نقلي أليها مقابلة السيد محمد بن عثمان الصيد رئيس الوزراء أنذاك للشكوى من سوء معاملتي من طرف المسئولين كما كنت أعتقد وكنت أعرف السيد محمد بن عثمان جيدا اما كان وزيرا للصحة أثناء عملي مع السيد عبد المجيد كعبار رئيس الوزراء السابق لكن يظهر أنه كان يعرف مشكلتي وسبب طلبي للمقابلة ولهذا حاول الصديق السيد حسن أبو خريص الذي رشحت أنتدابه من وزارة الخارجية لوظيفة السكرتيرالخاص مع السيد عبد المجيد كعبار واستمر مع السيد محمد بن عثمان الصيد أن يقنعني بلطف بانشغال رئيس الوزراء ونصحني بعدم أنتظار مقابلته لأن ذلك قد يأخذ وقتا طويلا وفهمت من ذلك أن طلبي للمقابلة قد رفض .ورغم ذلك أخبرني السيد حسن أبو خريص أنه يسعى للخروج الى أحدى السفارات في الخارج وقد فكر السيد محمد بن عثمان في تعيينك لتحل محلي بعد سفري وكان هذا بعد نقلي من القاهرة الى ديوان الوزارة في البيضاء ولكن هذا لم يحدث لأستقالة حكومة السيد محمد بن عثمان بعد رجوعي مباشرة .

الأنتقال ألى وزارة الخارجية في مدينة البيضاء

بعد نقلي من القاهرة الى وزارة الخارجية في مدينة البيضاء أسندت لي مهمة رئاسة قسم الشئون العربية وجهاز فلسطين وكان أكبرالأقسام في الوزارة وكان يضم السيدة الوحيدة فاطمة عاشور والسيد محمد هويسة وعدد ا من الزملاء الجدد وكنت أعتقد أن أقامتي بالبيضاء سوف تكون لفترة قصيرة لأنقل بعدها من جديد الى أحدى السفارات الليبية ولم أعرف ما يخبئه لي القدر بأن اقامتي بها ستستمر حتى الفاتح من ستمبر 1969.
كان وزير الخارجية أنذاك هو السيد ونيس القدافي وكان معروفا بطيبة قلبه وأخلاصه للعمل وملازمته للمكتب ليل نهاروساتعرض للحديث عنه عندما اكتب عن الفترة التي كان فيها رئيسا للوزراء وكان الاستاذ مصطفى بعيو وكيلا للوزارة
وكانت علاقي به جيدة منذ كان استاذي في مدرسة طرابلس الثانوية رغم بعض المشاكل التي أترتها معه بشان نقلي المتكرر من السفارات ولكنني كنت على خطأ فالموظف الدبلوماسي معرض للنقل وهوأحدى شروط الوظيفة .
أتناء تولي الشئون العربية سافرت عدة مرات الى القاهرة لحضور اجتماعات الجامعة العربية وبعد رجوعي في أواخر سنة 1962 من السفارة الليبية في مصر سافرت الى جنيف سويسرا في الوفد الليبي الذي تراسه السيد خليفة موسى مدير عام الجمارك لحضور أجتماع الجات منظمة التعريفة الجمركية والتجارة وكان السيد خليفة موسى) و منذ 1959 وبالرغم من وجودي في السفارة الليبية في لندن يصرعلى ضمي للوفد الليبي لحضور هذا الأجتماع ويطلب ذلك رسميا عن طريق رئيس مجلس الوزراء رغم معارضة وزارة الخارجية التي ترى أن سفري لهذه المهمة قد يعطل بعض العمل الذي أقوم به في السفارة أو في وزارة الخارجية بعد ذلك.والهدف من حضور ليبيا لهذا الأجتماع هو تقديم تقرير سنوي عن الأعفاءات الجمركية التي تتمتع بها صادرات ليبيا الى أيطاليا ويستدعي موافقة منظمة الجات وتجديده سنويا للتأكد من حاجة ليبيا لمثل هذه المساعدة وكانت أيطاليا تعرف أن معظم المزارعين الكبار في ليبيا في ذلك الوقت كانوا من الرعايا الأيطاليين المقيمين في ليبيا ولهذا تحرص أيطاليا على الموافقة على الأعفاء كما أن ليبيا تصرعليه لأن صادرات منتوجاتها الزراعية الى أيطاليا كانت المصدر الوحيد للحصول على النقد الاجنبي ودول المغرب العربي الأخرى تتمتع أيضا صادراتها الزراعية الى فرنسا بالأعفاء لنفس السبب وقد أضطرت ليبيا للتنازل عن هذا الأعفاء بعد بدء صادرات ليبيا من النفط .
كا نت واجبات رئيس قسم الشئون العربية كثيرة وكان بريد الجامعة العربية يصل في أكياس كبيرة يقوم القسم باحالتها على الوزارات المختصة ويدرس معها جداول أعمال اللجان المختلفة هذا بالاضافة الى العلاقات الثنائية مع الدول العربية .كما كنت رئيسا لجهاز فلسطين وهو جهاز أسس في جميع الدول العربية مستقلا عن الأدارات الأخرى بقرار من الجامعة العربية لضمان متابعة القضية الفلسطنية والقرارات الخاصة بها واعطائها الأولوية .وكذلك حضور أجتماعات الجامعة العربية ولجانها العديدة بما فيه أجتماع أجهزة فلسطين ولما كنت في القاهرة حضرت أول أجتماع للجنة الدائمة للأعلام التابعة للجامعة العربية في الكويت بعد استقلالها سنة 1962 .وفي هذه الفترة رجع السيد فتحي العابدية من السعودية ليكون مديرا للأدارة السياسية بالوزارة وكانت علاقتي به وطيدة منذ كنا معا في السفارة الليبية في لندن ولهذا كان تعاوننا في الوزارة جيدا فالسيد العابدية وطني غيور وقومي مخلص لعروبته ولهذا فأن دراسة ومعالجة الشئون العربية معه كانت منتجة ومشجعةومتجاوبة .
وفي أواخر فترة حكومة لسيد محمدبن عثمان الصيد حصل تغيير وزاري تم بمقتضاه تعيين الدكتورعمر محمود المنتصر وزيرا للخارجية والسيد الطاهر باكير سفيرا لليبيا في القاهرة بدلا من السيد خليل قلال الذي عين سفيرا في الرباط كما أوضحت وكان الجو السياسي يضيق الخناق على حكومة السيد محمد بن عثمان الصيد فقد زادت الأشاعات حول فساد الوزراء وسوءالأدارة المتزايد ولم تدم حكومة السيد محمد بن عثمان الصيد بعد التعديل ألا أسابيع معدودة وحان الوقت للسيد محمد بن عثمان الصيد لتقديم أستقالته ولم يكن احد يعرف ما يدور في رأس الملك في تلك الفترة فدعوة الدكتورعمرمحمود المنتصرالوزير المفوض في لندن وتعيينه وزيرا للخارجية في حكومة السيد محمد بن عثمان الصيد التي كانت في أيامها الأخيرة أثار أشاعات عن أستقالة حكومة السيد محمد بن عثمانالصيد وأحلال الدكتور عمرمحمود المنتصرمكانه . وفعلا تمت أستقالة السيد محمد بن عثمان الصيد ولكن الملك أختار الدكتور محي الدين فكيني ليكون رئيسا للحكومة خلفا له وذلك بدعم من السيد البوصيري الشلحي صديق الدكتور فكيني . . وقد أبقى الدكتور محي الدين فكيني الدكتور عمر محمود المنتصر وزيرا للعدل في حكومته .



فترة حكومة الدكتور محي الدين فكيني

بعد تجربته مع الساسة المخضرمين لرئاسة الحكومة فكر الملك في تجربة الشباب المتعلم ولهذا لم يكن أجراء نقل لدكتور عمرمحمود المنتصر من لندن وتعيينه وزيرا للخارجية في أواخر حكومة بن عثمان سوى مؤشرا لأحتمال تعيينه خليفة للسيد محمد بن عثمان الصيد ألا ان الحاشية الملكية وعلى الأخص السيد البوصيري الشلحي باستتناء الملكة لم تكن تؤيد تعيين الدكتور عمر محمود المنتصر رئيسا للحكومة ولهذا فكرالملك في أختيار شاب أخر متعلم فأستدعي الدكتورمحي الدين فكيني أيضا من واشنطن وهو صديق البوصيري الشلحي وكلفه يوم 19 مارس 1963 بتأليف الحكومة بعد قبول أستقالة السيد محمد بن عثمان الصيد و على أثر ذلك نقل الأستاذ مصطفى بعيو وكيل وزترة الخارجية الى الجامعة الليبية وعين بدله السيد فتحي العابدية وكيلا للخارجية وعين السيد شمس الدين عرابي مديرا للأدارة السياسية وكانت الحكومة الجديدة تضم معظم الوجوه القديمة مع بعض التغييرات كما جرى العمل به منذ الاستقلال وكان الملك يحرص دائما عدم احداث تغيير شامل فجاة بل كان يجري التغيير تدريجيا حتى رؤساء الحكومات السابقين كانوا دائما وزراء في الحكومات المستقيلة السابقة بأسستتناء الدكتور محي الدين فكيني والسيد)محمود المنتصر الذي أختير رئيسا للوزراء بعد الدكتور محي الدين فكيني من خارج الحكومة المستقيلة .
الدكتور محي الدين فكيني شخصية معروفة وسمعته جيدة وهو يحمل ارقى الشهادات
في القانون من فرنسا ومن عائلة معروفة منذ أيام الجهاد الليبي وقوبل تعيينه بالترحيب وخاصة في ولاية طرابلس ولكنه لم يكن معروفا في برقة مما جعله موضع شك وحذر.كانت سنة 1963 مليئة بالأحداث العربية وكان الدكتورمحي الدين فكيني يعطي الشئون العربية أهتماما خاصا ولهذا كان السيد فتحي العابدية كثيرا ما يأخذني معه بصفتي رئيسا لقسم الشئون العربية في مقابلاته لرئيس الوزراء عندما يدرس معه الشئون العربية لثقته في وتقديره للحهود التي أبذلها في عملي .
أثناء هذه الفترة بين أستقالة السيد محمد بن عثمانالصيد وتعيين الدكتور محي الدين فكيني رئيسا للوزراء سافرت الى القاهرة لحضور أجتماعات مجلس الجامعة العربية وكان سفير ليبيا في القاهرة السيد طاهر باكير رئيس الوفد الليبي وكان من الرعيل الاول ومن المثقفين في العلوم الدينية واللغة العربية وهو من بيت علم في مدينة طرابلس ومن الساسة المحترمين شعبيا ويتظاهربأنه أرستقراطي النشأة فخورا بنفسه وعائلته ومدينته طرابلس وقد زاد غلوا في هذا بعد مصاهرة ولي العهد له الذي تزوج أبنته وكان السيد طاهر باكيرمعروفا بكثرة الكلام وبلاغة التعبير لا يحب مصر والمصريين مثل باقي الطبقة الحاكمة في ليبيا وكراهية مصر من طرف الساسة الليبيين ليست مبنية على كراهية للشعب المصري أومصرارض الكنانة بل على سياستها الليبرالية وطموح عبد الناصر للسيطرة والهيمنة على العالم العربي وتجاوب الشعب العربي معه من الخليج ألى المحيط .لكنه ولاسباب تقدم العمر وعدم الاهتمام والتحمس للجامعة العربية كان غيرمطلع على وثائق أجتماع مجلس الجامعة العربية الكثيرة مما جعل فرصه في الكلام محدودة وكان يعتمد علي لأنني قادم من ليبيا وقد درست جدول الأعمال وبحثه مع المسئولين في الوزارة مسبقا وكنت أساعده في الرجوع الى الوثائق و شرح سياسة الحكومة الليبية حولها وكان يتخوف من تهجم الوفد المصري ويتجنب الاصطدام معه فسياسة مصر ليبرالية وسياسة ليبيا محافظة غربية وكانت قضية الأعتراف بالانقلاب في اليمن على قائمة جدول الأعمال. كانت ليبيا الدولة الثانية بعد السعودية التي لم تعترف بالانقلاب في اليمن حتى ذلك الحين وكان السيد محمد بن عثمان الصيد يحاول قبل أستقالته الحصول على موافقة الملك للأعتراف بالوضع الجديد في اليمن لكنه لم ينجح في ذلك فموقف الملك من الأنقلابات العسكرية ضد الأنظمة الملكية معروف منذ موقفه من أنقلاب العراق كما كان السيد الصيد) بن عثمان) مشغولا بموضوع أزمة حكومته وقد غادرت البيضاء دون تعليمات محددة في هذا الموضوع لأننا لم نحصل في وزارة الخارجية على توجيهات الملك ورئيس الوزراء بعد أستقالة السيد الصيد محمد بن عثمان وتولي الدكتورمحي فكيني مهمة تأليف حكومته . وقد أدي الوضع الجديد ألى تأخري في السفر الى القاهرة دون جدوى وقد وصلت بعد جلسة مجلس الجامعة الأولى وأذكر أن السفير وأعضاء السفارة الليبية كانوا ينتظروني على أحر من الجمر لمعرفة تعليمات الحكومة في موضوع الأعتراف بالوضع في اليمن لتحديد موقف الوفد الليبي حول هذا الموضوع المدرج على رأس جدول الأعمال وعلمت من الوفد الليبي أنه فعلا عرض موضوع الاعتراف بالنظام الجمهوري في اليمن في اول الجلسة الأفتتاحية لمجلس الجامعة العربية وأقترح عضو الوفد الليبي السيد شمس الدين عرابي على السفير طلب تأجيل الموضوع حتى تصل تعليمات الحكومة الليبية ولكن السفيروهو رئيس الوفد تردد ولم يأخذ الكلمة وكان يخشى رد فعل لمثل هذا الطلب في الاعلام المصري وصوت العرب ولهذا اتخذ موقف الصمت ولم يطلب رئيس مجلس الجامعة التصويت على القرار بل أعلن موافقة جميع اعضاء المجلس بأستتناء المملكة السعودية على الأعتراف ولم يعلق السفير الليبي ولكنه في نهاية الجلسة أسر للأمين العام للجامعة العربية بأن وفده لم يعلن رأيه في القرار ويأمل أن تصله تعليمات من حكومته حول الموضوع وكان رد الأمين العام عبد الخالق حسونة باشا دبلوماسيا وقال للسفير نعم ما فعلت يا سعادة السفير. وما أن أنتهت جلسة المجلس في ذلك اليوم حتى بادرت الصحف المسائية في نفس اليوم والصحافة المصرية في صباح اليوم التالي معلنة في صفحاتها الأولى بالخطوط العريضة الحمراء خبر اعتراف ليبيا بجمهورية اليمن بالخطوط الحمراء وخصصت الأذاعات المصرية والعربية حيزا كبيرا للخبر . وعندما عرف السفير السيد طاهر باكير أني لا أحمل أنني تعليمات الحكومة في الموضوع أصيب بأنزعاج كبير خوفا من ردة فعل الملك عندما يسمع الأخباربالأعتراف وهو دائما يتابع أخبارالأذاعة المصرية .وأذكر أننا بقينا في السفارة ساعات طويلةلأعداد برقية مطولة الى وزارة في ليبيا نشرح فيها ما جرى في مجلس الجامعة وعدم أعطاء رئيس المجلس الفرصة للسفيرالليبي أبداء رأيه وأستغلال الأعلام المصري لهذا الموقف . ولم ينم السفير في تلك الليلة وفي صباح اليوم التالي وصلت برقية من وزارة الخارجية الليبية بموافقة الحكومة اللببية على الأعتراف بالنظام الجمهوري الجديد في اليمن وكان هذا أول قرار لحكومة الدكتور محي الدين فكيني الذي أستطاع الحصول على موافقة الملك عليه أثناء حلف اليمين ولم يكن من عادة الملك رفض أقتراحات روساء حكوماته في أيامهم الاولى في الحكم مهما كانت خطورتها .وهكذا تهلل وجه السفير بشرا وفرحا وأعتبره نصرا شخصيا وأن موقفه كان نصرا لليبيا وتحسينا لسمعتها والاشادة بدورها الفعال في السياسة والقضايا العربية ووجد في ذلك مجالا للكلام والتباهي أمام بقية أعضاء مجلس الجامعة العربية بقوة نفوذه كصهر لولي العهد لدى الملك والحكومة الليبية فقد ساعد على الأسراع بصدور قراربلأعتراف بجمهورية اليمن. وكان المسئولون بما فيهم الملك في ليبيا رغم اعترافهم بنزاهة السيد طاهر باكير ومكانته الأجتماعية ألا انهم كانوا لا يثقون في قدرته على التصرف السياسي والدبلوماسي وقت الازمات لان لسانه أسبق من عقله وتفكيره كما يقولون وكثيرا ما يخلق مشاكل غير مقصودة . تأخر اعتراف ليبيا (بالنظام الجمهوري في اليمن يعطي دليلا آخر على كراهيه الملك للحكومات العربية الليبرالية والثورات العسكرية ومناصرته للأنظمة الملكية والأسرة الهاشمية وأهل البيت بالذات كما يدل على أيمان الملك بدوره في حكم البلاد بما يعتقد أنه صحيحا ولا عبرة لرأي الأخرين وأن القرارات الهامة تجب موافقته عليها قيل صدورها مما يجرح شعور رؤساء حكوماته المسئولين دستورياعلى هذه القرارات أمام الشعب وخاصة أن الملك كثيرا ما يصدر تعليماته شفويا أوعن طريق سكرتيره الخاص دون مناقشتها مع رئيس الوزراء مقدما .
كانت سنة 1963 مثيرة بالقرارات الوطنية الشجاعة لحكومة الدكتور محي الدين فكيني الذي كان متواضعا في تسييره لأمور الدولة وكان يستعين براي كبار الموظفين الذين لم يتعودوا على هذه المعاملة على هذاالمستوى واذكر أنني أقترحـت بصفتي رئيس قسم الشئون العربية وفلسطين أكثر من مرة على وكيل الوزارة السيد فتحي العابدية أن يقترح على رئيس الوزراء أستدعاء السفراء الاجانب للأحتجاج على اجراء تعسفي أسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني أومساس بالقضايا العربية وأذاعة مثل هذه المقابلات عبروسائل الأعلام لأظهار مشاركة الحكومة الليبية لشعور الشعب الليبي والرأي العام العربي بما يجري فى المنطقة العربية، وهو ما كان يشكو منه الشعب الليبي في عهد الحكومات السابقة حيت كان مغيبا عما يجري من أحداث عربية هامة تجنبا لأية مظاهرات وما يتخللها من حوادث الشغب رغم أن الأذاعات العربية الليبرالية كانت تثير الشعوب العربية ضد حكامها وتستعمل القضية الفلسطنية وسيلة لهذا الهدف وأود هنا أن أذكر بأننا كنا كموظفين في مجالاتنا الدبلوماسية نتجاوب مع ما يحدث في فلسطين والعالم العربي والعالم الأسلامي وكنا نصارح الدبلوماسيين الغربييين وممثلي الدول الصديقة لأسرائيل بخطورة مثل هذه الأعمال التعسفية التي تقترفها أسرائيلة في فلسطين على العلاقات بين بلادهم وليبيا التي هي جزء من الوطن العربي الكبير ونطلب منهم بألحاح نقل ذلك ألى حكوماتهم و لفت نظرها الى الأثار السيئة التي تحدتها مثل هذه الأعمال الأسرائلية على مصالحها في المنطقة العربية وضرورة عدم ترك اسرائيل تتمادى في عدوانها على الشعب الفلسطيني وللتاريخ أقول كان هؤلاء السفراء يتجاوبون معنا في نقل كل ذلك ألى حكوماتهم وكانوا يصارحوننا بالصعوبات والضغوط التي تتعرض لها حكوماتهم وبرلماناتهم ووسائل الأعلام من اللوبي Lobby الصهيوني المؤيد لأسرائيل في العواصم الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية أمريكا. وكان الدبلوما سيون الأجانب دائما ينقولون صورة حية وحقيقة ما يجري في البلاد التي يمثلون بلادهم فيها . وكنا في وزارة الخارجية تنقصنا المعلومات الدقيقة عما يجري في العواصم العربية والغربية نتيجة لضعف الجهاز الدبلوماسي الليبي في الخارج وكان الدبلوماسيون الأجانب مصدر معلومات بالنسبة لنا لأنهم كانوا يوفرون لنا المعلومات عما يجري في المنطقة العربية والعالم التي تصلهم تباعا من حكوماتهم وسفراتهم في دول العالم وخصة في الدول العربية وما ينشر في صحفهم اليومية والمتخصصة.

حاولت أثناء عملي كرئيس لقسم الشئون العربية تنظيم وثائق القسم وهي كثيرة وكان يساعدني موظفون أكفاء وعلى رأسهم السيدة فاطمة عاشور أول دبلوماسية في السلك الدبلوماسي الليبي والسيد محمد هويسة . وفي هذه الفترة وبطلب من وكيل وزارة الخارجية أشتركت مع المستشار السيد العارف بن موسى (،)الذي جمع حوله لفيف من الزملاء في الوزارة للأعداد لمؤتمرالقمة الأفريقي الأول الذي عقد في أدي سبابا الذي شاركت ليبيا فيه بوفد يرأسه الأمير حسن الرضا ولي العهد وكنت من ضمن أعضائه . وكان المستشار السيد العا رف بن موسى مشهورا بحرصه الشديد على انجاز ما يسند أليه من مهام بكل أخلاص وأثقان مبالغ فيهما فقد أعددنا بارشاداته أرشاداته أرشيفا كاملا لجميع قرارات المؤتمرات الأفريقية السابقة وقرارات الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة المتعلقة بالقارة الافريقية وقمنا بأجراء الدراسات الوافية على جدول أعمال القمة الأفريقية والمشاكل الأفريقية كما أعددنا التوصيات التي سيقترحها الوفد الليبي على مؤتمر القمة .
و تألف الوفد الليبي برآسة الأمير حسن الرضا ولي العهد نيابة عن الملك الذي أعتذر لظروفه الصحية وتعذرسفره جوا لأنه لم يركب الطائرة طوال حياته . وكان الدكتور وهبي البوري وزير الخارجية رئيسا للوفد الليبي الى مؤتمر وزراء الخارجية الذي كلف بأعداد جدول أعمال وتوصيات مؤتمر القمة وقد شارك الوفد الليبي مشاركة فعالة رغم الخلاف بين الدكتوروهبي البوري والسيد العارف بن موسى حول محتوى كلمة ولي العهد في المؤتمر فقد أصرالسيد العارف على أن تكون الكلمة بالصيغة التي أعدت في البيضاء وأطلع عليها مجلس الوزراء بينما رأى الدكتور وهبي البوري تعديلها حسب المستجدات في المؤتمر وفعلا تم ذلك لكن السيد العارف) بن موسى أصر على تقديم التوصيات الكثيرة التي أعدها الوفد الليبي الى القمة مباشرة بعد تعذر دراستها من طرف وزراء الخارجية وكان قرارهم يقتصر على الموافقة على ميثاق المنظمة وترك بقية القرارات في المجالات السياسية والأقتصادية والأجتماعية والثقافية الى دورة قادمة بعد التصديق على ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية من السلطات التشريعية للدول الأعضاء مما أثار غضب السيد) العارف بن موسى وأصر على تقديم توصيات الوفد الليبي العديدة كاملة وواصل مساعيه مع وزراء الخارجية الأفارقة دون موافقة الدكتور وهبي البوري ورغم عدم أدراجها في جدول الجلسة الختامية للقمةالا أن السيد العارف بن موسى طلب الكلمة في الأجتماع الختامي وأثارموضوع توصيات الوفد الليبي مما أحرج السكراتيرية وبعد مداولات جانبية أقترح رئيس المؤتمرالموافقة على أن تلحق التوصيات الليبية في المسائل الاقتصادية والثقافية على اللجان المختصة بعد أنشائها وأقتصر قرار المؤتمرعلى الموافقة اعلى الميثاق .وقدأعتبر السيد العارف بن موسى هذا نجاحا خاصا للوفد الليبي .
و قد كان المؤتمر عظيما ومهرجانا أفريقيا تاريخيا تصالح فيه الخصوم وضم الأباء المؤسسون لأفريقا الحرة أمثال نيكروما وهيلاسلاسي والحبيب أبورقيبة وعبد *الناصر ولومومبا)وطفاوة بن عليوة وغيرهم وكانت أمال وطموحات الأفريقيين في أوج ذروتها وقد حقق المؤتمرنجاحا بالموافقة على ميثاق منظمة الوحدة الأفربقية.
*وكان المؤتمر فرصة لنا جميعا لحضورهذه المناسية التاريخية العظيمة وأن نستلم مدالية المؤسسين للمنظمة التي وزعت على جميع أعضاء الوفود التي حضرت المؤتمر.
ومن أهم الأحداث التي عايشتها في هذه الفترة ان بعض زعماء الدول الأفريفية كانوا مهتمين بالنزاع المسلح في نيجيريا أكبر دولة أفريقية ،ولهذا قرر ستة من زعماء أفريقيا بينهم بن بلا وعبد الناصر وأمبرطور الحبشة عقد أجتماع لبحث النزاع المسلح في نيجريا في مدينة طرابلس لموقعها الجغرافي المتوسط وموقف ليبيا المحايد دون الرجوع الى الحكومة الليبية وأخذ رأيها مسبقا في الموضوع على أساس أن هذا الموضوع يهم الجميع وأذيع الخبر في الأذاعات العالمية ويطهر أن الملك كان يستمع الى أذاعة لندن التي أذاعت هذا الخبرفأتصل برئيس الوزراء مستفسرا عن صحة الخبر وعما كان قد وافق على مثل هذا المؤتمر وطبعا نفى رئيس الوزراء علمه بالموضوع وحتى لا تفاجأ ليبيا بالأمر الواقع ووصول الزعماء طلب الملك من رئيس الوزراء أبلاغ الرؤساء المعنيين بعدم أمكانية عقد هذا المؤتمر في طرابلس لعدم توفر الأمكانيات والحقيقة أن الملك خشي أن يتم هذا الأجتماع في طرابلس ويحضره الرئيس جمال عبد الناصر وما قد يؤدي أليه حضوره من قيام الشعب الليبي بالترحيب به بشكل قد يؤدي ألى عدم السيطرة على الأمن في البلاد وقيام مظاهرات يصعب السيطرة عليها وقد تؤدي الى نتائج وخيمة. وسرعان ما أتصل رئيس الوزراء بوكيل وزارة الخارجية السيد فتحي العابدية الذي بدوره أتصل بي والسيد محسن عمير وكان أنذاك مديرا للأدارة السياسية وطلب منا الحضور ألى مكتبه في ساعة متأخرة من الليل لدراسة الموضوع وتنفيذ تعليمات الملك ورغم أن العابدية كان قوميا متعصبا للعروبة والرئيس عبد الناصر ألا أنه كان ينفد تعليمات الملك ورئيس الوزراء دون أعتراضلذلك قام بألأتصال بالسفارات و العواصم المعنية والأعراب عن الأسف بعدم أمكانية عقد مؤتمرالقمة المقترح في طرابلس.وكان السيد فتحي العابدية قد طلب مني والسيد محسن عمير رأينا في الموضوع فأعرب السيد محسن عميرعن رأيه بصراحة قائلا أن عقد مثل هذا الأجتماع في ليبيا شرف لها ويدعم حيادها في النزاعات القائمة ودورها الأفريقي والأسلامي فأوضح له السيد فتحي العابدية بأن الاوامر صدرت بالأعتذار لكن اذا أصر السيد محسن عمير على رأيه فيمكننا رفعه الى الملك ولكن السيد محسن عمير سحب تعليقه وفعلا قمت أنا والسيد عمير بالأتصال بالسفراء المعنيين وأبلاغهم الأعتذار عن عقد المؤتمر المقترح في ليبيا وكان السفراء لا يعرفون شيئا عن الموضوع . وكان هذا الحدث صدمة لنا جميعا وللدكتور فكيني الذي كان يأمل في أنتهاز سياسة عربية متحررة لحكومته الجديدة .
كان الدكتور فكيني متحمسا وكان يأمل في أصلاح الوضع السياسي في ليبيا وتحسين الظروف التي كانت تعيشها البلاد وفعلا توحدت البلاد وانتهى النظام الأتحادي في عهده وحاول الوقوف في وجه الضغوط الخارجية والداخلية وتدخل الحاشية الملكية في شئون الحكومة وكان يامل أن يساعده صديقه السيد البوصيري الشلحي ولكن الاخير كان بدوره يواجه صعوبات من المسئولين في برقة ويتجنب الأصطدام بهم لنفوذهم لدى الملك ويامل من أن يتمكن رئيس الحكومة من السيطرة على البلاد واضعاف نفوذهم مما يزيد من نفوذه هوأيضا . وهكذا وجد الدكتورمحي الدين فكيني معارضة متزايدة من زعماء برقة يتزعمهم اللواء محمود أبو قويطين قائد قوة دفاع برقة والمدير العام للأمن في ليبيا وهو من أقوى الشخصيات التي كان لها نفوذ عند الملك وكان رئيس الحكومة يأمل الأقلال من مشاريع البناء الضخمة في البيضاء و يفكر في تحويلها الى مدينة جامعية وقد أصدر أوامره فعلا بتحويل بعض المباني لهذا الغرض مما زاد من قوة معارضة زعماء برقة له ولا أستطيع أن التعرض لمزيد من التفاصيل عن سياسته لأنني لم أكن قريبا منه ويقال عنه أنه كان واقعا تحت تأتير أخيه السيد علي فكيني الذي كانت له طموحات كبيرة في حكم البلاد ومطالب وتعويضات مادية من الحكومة عن أملاك عائلته التي صادرتها أيطاليا في الحرب الليبية الأيطالية ومنها بيتهم الكبير في شارع ميزران بطرابلس الذي بنته أيطاليا وجعلته بيتا لكبارموظفيها والذي أرجعه السيد محمد بن عثمان لهم عندما كان رئيسا للوزراء.
من مصادفات القدر أني سافرت في نهاية 1963 في أجازة الى لندن وكانت عادتي أن لا اعطي عنواني لأحد حتى لا أستدعى من الأجازة لأي سبب من الأسباب وكانت التحضيرات تجري لحضور ليبيا لمؤتمر القمة العربي في القاهرة الذي خصص لدراسة قضية فلسطين والقيادة العربية المشتركة وتنسيق جهود الدول العربية لمواجهة الصراع العربي الأسرائيلي في المرحلة القادمة وكانت فترة تتميز بغليان الشارع العربي لموقف حكوماته المتخادل والسلبي من القضية الفلسطنية منذ الأعتداء الثلاتي على مصر وكنت أنوي أخذ قسط من الراحة قبل عقد المؤتمر ولكن لظروف طارئة لم أكن أعرفها تم تقديم تاريخ موعد عقد المؤتمر ولم تتمكن وزارة الخارجية من معرفة عنواني لدعوتي للعودة فقد كنت رئيس قسم الشئون العربية وقسم جهاز فلسطين ودوري كان هاما للأعداد والمشاركة في مؤتمر القمة ولهذا لم أحضر المؤتمر الذي كان الرأي العام العربي يتابعه بأهتمام وكان الشعب الليبي من اكثر الشعوب العربية تحمسا واهتماما بالمؤتمر وأثار أعتذار الملك عن الحضور وأنابة ولي عهده غضبا شعبيا كبيرا وقامت المظاهرات الصاخبة في مدينة بنغازي وأصطدم الطلاب مع قوات الأمن مما ادى ألى سقوط ضحايا من الطلاب واتهمت فيها قوة دفاع برقة بأستخدام العنف المبالغ فيه الى حد دخول المدرسة الثانوية في بنغازي تعقبا للطلاب وقد أثارت هذه الحوادث غضبا شعبيا كبيرا في بنغازي وتجاوب الشعب والطلاب في طرابلس وبقية المدن الليبية مع أخوانهم في بنغازي وقامت مظاهرات عارمة لم تعرفها البلاد في الماضي وكان رئيس الحكومة في هذه الفترة في القاهرة لحضور مؤتمر القمة وحال رجوعه القى خطابا هاما في أحدى المظاهرات في مدينة طرابلس مؤكدا بأن التحقيق سيأخذ مجراه ضد ضباط الأمن المسئولين عن استعمال العنف في بنغازي وأصدر قرارا بأيقاف كبار ضباط القوة المتحركة في برقة مما أدى ألى أصطدامه مع مدير الأمن العام اللواء محمود أبو قويطن الذي وقف مؤيدا لضباطه كما رفض ضباط الأمن بطرابلس تنفيذ الأوامر الصادرة لهم من اللواء أبو قويطين بفض المظاهرات بأستعمال القوة خوفا من ملاقاة نفس مصير أخوانهم الضباط في برقة مما أضطر أبوقويطين للتدخل وأمرهم بالتدخل على مسئوليته الخاصة لأنه هو المسئول عن أمن البلاد وليست الحكومة بل أكثر من هذا أتهم رئيس الوزراء بمحاولة بلبلة الرأي العام وتعريض الأمن للخطر لأصدار أوامره الى قوات الأمن برفع الحراسة عن المسئولين السابقين ووقف كل المرتبات والهبات التي كانت تدفع لبعض المسئولين ومشابخ القبائل في برقة وامام هذا التحدي لسلطاته وجد رئيس الوزراء نفسه مضطرا الى أن يطلب من الملك الموافقة على مرسوم بأعفاء اللواء محمود ابو قوبطبن من منصبه ووجد الملك نفسه في موقف حرج بين رئيس وزرائه وأخلص أنسان أليه فاللواء محمود أبوقويطين يعتبر من أقرب الناس الى الملك وخدمه طوال حياته في المهجر وبعد الأستقلال وهكذا طلب من الدكتور محي الديمن فكيني تقديم أستقالته وتكليف السيد مجمود المنتصر برئاسة الحكومة الجديدة وقد سمعت من السيد أدريس أبوسيف سكرتير الملك الخاص بعد ذلك أن الملك قضى أياما عصيبة ولم يغمض له جفن أثناء هذه الأزمة وكان يصلي طوال ليله مستخيرا ألى الله أن يهديه القرار السديد . وقي الصباح بعد صلاته للصبح أبلغه بأنه بعد تفكيرعميق وجد أن البلاد في خطر وفي حاجة ألى رئيس وزراء حازم لينقذها مما هي فيه،كما أنقذها في السنوات الأولى للأستقلال ، وأن هذا الشخص في نظره هوالسيد محمود المنتصر.


االفصل الثالت
حكومة السيد محمود المنتصر
مقدمة
السيد محمود المنتصر من الشخصيات الليبية التي لعبت دورا هاما في أستقلال ليبيا فقد تركزت عليه الأنظار لوقوفه على الحياد بين الاحزاب والشخصيات السياسية المتصارعة فرغم أنه كان عضوا مع السيد بشير السعداوي في هيئة تحرير ليبيا ألا أنه لم ينضم الى حزب المؤتمرالوطني الذي ترأسه السعداوي كما أنه لم ينضم الى حزب الأستقلال الذي كان يرأسه عمه السيد سالم عمرالمنتصر ووجد فيه الملك أدريس (الأمير) والأدارة العسكرية الأنجليزية والمستر أدريان بلت المندوب السامي للأمم المتحدة الشخص المناسب الذي يمكنه الحصول على ثقة الاطراف المختلفة والتي كان التوفيق بينها مستحيلا وبالاضافة الى مكانته ونفوذ عائلته في طرابلس كان مقبولا من ساسة برقة ومن عائلاتها السياسية التقليدية وحتى من قبائل برقة التي تعرف ان عائلة المنتصر من الأخوان السنوسيين منذ أمد بعيدعندما حل السيد محمد بن علي السنوسي الكبيرضيفا على عائلة المنتصر في مصراتة وهو في طريقة من الجزائر الى برقة والأراضي المقدسة وبعد شر دعوته وأقام الزوايا السنوسية في جميع أنحاء ليبيا شمالها وجنوبها وفي أقليم طرابلس ذلك نوحل وأستقر في برقة في مدينة البيضاء . وكثيرا ما أشاد مشايخ ومستشاري قبائل برقة بهذه العلاقة التاريخية بين السنوسية وعائلة المنتصر كلما أجتمعت بهم أثناء أقامتي في مديتة البيضاء . ويجمع هذه الفئات الملتفة حول السيد محمود المنتصر الخوف من البديل السيد بشير السعداوي نظرا لشعبيته الواسعة في أقليم طرابلس والذي قد يتحول الى حاكم مطلق في ليبيا الموحدة .ألا أن السيد محمود المنتصر كان موضع شك أيضا لدى برقة فأنحيازه لولاية طرابلس وثقة الملك القوية به قد تساعده على تقوية الحكومة المركزية وتهميش أختصاصات الولايات كما حاول أتناء فترة حكومته الأولى وفشل كما أنه عمل على نقل الحكومة الأتحادية من البيضاء الى طرابلس نهائيا وكان مكروها من طرف والي فزان السيد أحمد سيف النصر بحجة علاقته السابقة مع أيطاليا لكن السبب الحقيقي تاريخي يرجع الى خلاف عائلي قديم بين السيدعمر باشا النتصر قائمقام سرت في العهد العثماني وعائلة سيف النصركما عارض السيدعمر باشا المنتصر محاولات آل سيف النصر ضم سرت الى أقليم فزان كميناء بحري للاقليم. و السيد محمود المنتصر لم يكن موضع ثقة مصر لعلاقته الوطيدة ببريطانيا ألا أنه كان يحظى بثقة الدول الملكية العربية المحافظة ولم يكن موضع ثقة الأمريكيين أيضا لكونه من الساسة التقلديين من أنصار الأنجليزوهو ليس زعيما جماهريا وخاصة في مدينة طرابلس لهذا ترى فيه أمريكا خطرا لأنه لن يستطيع السيطرة على القوى المعارضة ويعرض البلاد لانقلاب شيوعي وهو غير معروف من كثير من الشباب المثقف ويرون فيه شخصية تقليدية قديمة ومن أسرة محافظة لا تشارك جماهير الشعب مشاعرها ومشاكلها وغير مقبول من رجال الأعمال لأنه معروف بنزاهته المتناهية ولا يقبل مساومة أو واسطة لخدمة مصالحهم وهو أيضا غير محبوب من ولي العهد الأمير حسن الرضا لأنه يعتقد أنه غير مخلص له وضد ولايته للعرش لأنه يساند عائلة السيد أحمد الشريف السنوسي التي تعتقد أنها أحق بالعرش بعد وفاة الملك وتدعي بأن الملك أدريس عندما أستلم رئاسة العائلة والحركة السنوسية من السيد أحمد الشريف وعده بان تكون خلافته لأبناء هذا الأخير ألا أن الملك أدريس أعتبر أن ذلك العهد يختص برئاسة الحركة السنوسية وليس بولاية العهد لملك ليبيا . بالأضافة الى هذا كله فان السيد محمود المنتصر ليس على علاقات وثيقة مع بعض أفراد عائلته الذين يعتقدون أنه تسلق منصب رئاسة الوزارة بسبب أنتمائه الى العائلة وخاصة عمه السيد سالم عمر باشا المنتصر الذي كان رئيسا للجبهة الوطنية الطرابلسية وكانت أكبر تجمع لزعماء طرابلس ثم رئيسا لحزب الأستقلال حتى حلت الأحزاب بعد أول أنتخابات برلمانية وكان السيد سالم المنتصريعتقد بأن أبن أخيه السيد محمود تولى رئاسة الحكومة بفضل دعم حزب الأستقلال له وكان عليه أختيار معظم أعضاء وزارته وكبار موظفيه من أعضاء حزب الأستقلال وأنصار عائلة المنتصر بدلا من تعيين معظم وزرائه وكبار موظفيه من اعضاء حزب المؤتمر المنشقين عن بشير السعداوي . وأهم من ذلك كله كانت علاقته مع الحاشية الملكية وبالاخص أبراهيم الشلحي على أسوا حال وقد عمل هذا الأخير بالتدخل في شئون الحكومة الأتحادية وخلق مشاكل لها عن طريق الأيعاز ألى الملك بتعيين شخصيات معارضة في الولايات وفعلا عين الملك في طرابلس بأيعاز من أبراهيم الشلحي السيد أبراهيم سالم المنتصر وكيلا للديوان الملكي في طرابلس والسيد مختار المنتصر رئيسا لمعرض طرابلس وهو منصب فى مستوى وزير والسيد الصديق المنتصر واليا على طرابلس دون موافقة رئيس الوزراء ورغم أن السيد الصديق المنتصر ليس ضد السيد محمود المنتصر ألا أنه كان يعتقد أنه أحق بالولاية وأصبح يتصرف كأنه رئيس دولة مستقلة في أقليم طرابلس وزعيم شعبي مما أدى الى صراعة مع الحكومة الأتحادية في سلسلة من الخلافات الدستورية وصلت الى تحدي احكام المحكمة العليا وقد أدت في النهاية ألى أستقالة السيد محمود المنتصر من رئاسة الحكومة .
كما أن أنصار عائلة المنتصر في مصراتة وأنصار حزب الأستقلال في جميع أنحاء أقليم طرابلس شعروا بخيبة أمل عندما شغلت وظائف الدولة بعد الأستقلال بخصومهم السياسيين من أعضاء المؤتمر الوطني المنشقين عن السعداوي الذين كانوا يتولون مناصب هامة في الأدارة البريطانية والذين قاسوا على أياديهم الأمرين الأضطهاد والمضايقة لمجرد أنضمامهم لحزب الأستقلال أو مناصرة عائلة المنتصر ومعارضة المؤتمر الوطني .
السيد محمود المنتصر ينتمي ألى عائلة كان لها نفوذ كبير في مناطق مصراتة وسرت منذ العهد العثماني وهو حفيد عمر باشا المنتصر الذي كان قائمقاما على سرت في العهد العثماني وله نفوذ كبير في مناطق مصراتة من الخمس غربا وحتى سرت شرقا بما فيها القبائل البدوية العروفة وأتصالاته كانت تتم مع السلطان العثماني في الأستانة أو الوالي التركي في طرابلس ..
وكان والده السيد أحمد ضياء الدين المنتصر يتولى عدة مناصب هامة وله نفوذ في العهدين التركي والأيطالي بالأضافة ألى كونه شاعرا واديبا ومؤرخا . وعاش السيد محمود المنتصر حياة أستقراطية ودرس في الجامعة في أيطاليا وكانت نزاهته تمتل دور الأستقراطيين في خدمة المجتع والطبقة الفقيرة ومحاربة طبقة الرأسمالية والتجار التي تحاول بمالها مناقسة الطبقة الأستقراطية للمشاركة في مناصب السلطة التي كانت تحتكرها الطبقة الاستقراطية . ولهذا كان السيد محمود المنتصر يساند أبناء العائلات العريقة ورغم أنه لم يستعن بابناء عائلته في الحكومة الا انه كان يستعين باقاربه ومعظمهم من العائلات القديمة التي كان لها دور قيادي في العهدين العثماني والأيطالي وهو لا يرى في تعيينهم محسوبية لأنهم في رأيه مؤهلون وأصحاب حق في مثل هذه الوظائف والمناصب العامة مما عرضه للأنتقاد والطعن في نزاهته من خصومه السياسيين .
كان السيد محمود المنتصر يعتمد في الحكم على تقديره الشخصي للأموروالتشاور مع زملائه وثقة الملك أدريس ولم يحاول أن يستغل مركزه في السلطة لبناء شعبية كما يفعل الساسة المحترفون فلم يقم بزيارات داخلية ولقاء جماهير الشعب والأختلاط بهم والسؤال عن أحوالهم والأستماع الى شكواهم ومطالبهم ولم يفتح مكتبه أمام زوار الدعم والتأييد كما يفعل من يسعى الى النفود والحضوة الشعبية وأذكر أن نواب منطقة مصراتة الثلاتة قابلوه بعد توليه الحكومة لتهنئته ولما خرجوا سألني عن أسمائهم فلم يكن يعرف أحدا منهم بما فيهم السيد عبد اللطيف المنتصر عضو مجلس النواب وهو من عائلته.كما أنه لم يفتح مكنبه أمام الصحفيين أواصدار بيانات صحفية دورية عن سياسته ومناقشتها معهم ولم يخاطب الجماهير الشعبية مباشرة أو طريق وسائل الأعلام كما يكره المناقشة في البرلمان ويتجنبها أو اعطاء بيانات مفصلة عن ما تقوم به حكومته بأستتناء خطب العرش أو الردود على الأسئلة المكتوبة .وكان بذلك يخالف أسلوب السياسيين المحترفين الذين يقولون ما لا يفعلون لكسب ثقة المجالس النيابية والشعب . لهذا فلم يكن معروفا لدى جماهير الشعب وصفاته التي ذكرتها لا يقدرها الأ من كان يعرفه عن قرب كنزاهته الى حد المبالغة وحكمته النادرة وحنكته السياسية الثاقبة وخبرته الطويلة في الشئون العامة واخلاصه الأصيل للوطن وحبه للناس وصراحته الصادقة . وقد قوبل تعيينه رئيسا للوزراء للمرة الثانية بعدم الرضا من معظم طبقات الشعب واعتبرت الجماهيرتعيينه تحديا لأرادتها من طرف الملك خاصة أنه جاء بعد حكومة الدكتور فكيني الذي وقف في صف الشعب ضد الشرطة وسياسة العنف . كان الأعتقاد ان محمود المنتصر جاء لتجديد المعاهدة البريطانية وأنهاء الأنتفاضة الشعبية بل حتى الأنجليز والأمريكان لم يلاقي هذا التعيين ترحيبا لديهم ورغم أنهم لم يتوقعوا منه شرا على مصالحهم في ليبيا ألا أنهم كانوا يتخوفون بأن يتهموا من طرف الشعب الليبي بأنهم أتوا به خدمة لمصالحهم وللقضاء على الجو الوطني الذي نشره الدكتور فكيني مما يزيد من نقمة الشعب عليهم ولهذا كانوا غير راضين على أعادة تعيينه رئيسا للوزراء بعد حكومة الدكتور محي الدين فكيني الذي كانوا يعتبرونه الرجل المناسب لتصحيح الوضع في ليبيا والتفاعل مع الجماهير الشعبية وكانوا يؤيدون خطوات السيد فكيني التي أتخذها في الأزمة التي قامت أثناء أنعقاد مؤتمر القمة العربي ولهذا عندما اسثقال السيد فكيني كانت بريطانيا وأمريكا تتوقعان تعيين رئيس حكومة بديل من الشاب وشعبي حتى يسير على خطوات الدكتور فكيني ويقوم بأصلاح الوضع الداخلي الذي بدأ يتدهور ويعرض المصالح الغربية للخطر ووقف الفساد الذي بدأ ينتشر ويهدد مصالحهم التجارية التي أصبحت تنمو بعد أزدياد دخل ليبيا من النفط خاصة أن بريطانيا لم تعد في حاجة ماسة الى قواعدها العسكرية في ليبيا بعد حرب السويس وأنتهاء سيطرتها السياسية في منطقة الشرق الأوسط و هيمنة أمريكا على المنطقة وأصبحت قواعدها في ليبيا ألتزاما ماليا وعسكريا لا مقابل منه ولا تخدم مصالحها الأستراتيجية كما كان عليه الحال في سنة 1952 وكان عدم ترحيب بريطانيا وأمريكا بحكومة السيد محمود المنتصر لا يرجع ألى الشك في حرصة على المحافظة على علاقات الصداقة المتينة بين ليبيا وبريطانيا وأمريكا بل بالعكس فقد كانا يعتقدان أن هذه السياسة التي عرف بها بين الشعب الليبي و بأنه حليف وصديق لبريطانيا قد لا تجعله الشخص الذي يخدم المصالح البريطانية والأمريكية في الظروف الجديدة التي يمر بها الشرق الأوسط وليبيا .
في هذه الظروف قبل السيد محمود المنتصر تاليف حكومته الثانية على مضض فالظروف لم تكن عادية والشعب في أنتفاضة يتفاعل مع الأحداث العربية والرئيس عبد الناصر أتخذ من مهاجمة الأستعمار والصهيونية سلاحا لتوسيع نفوذه للسيطرة على المنطقة العربية . كما أن صحة السيد محمود المنتصر لم تكن على ما يرام فقد كان يشكو من مرض ضغط الدم وأمراض السكر .
أن السيد محمود المنتصر من الساسة القدامي الذين يؤمنون بالتعاون مع الدول الغربية خاصة بريطانيا ورغم أنه يعمل على أن تكون علاقات ليبيا مع أشقائها العرب قوية وفعالة ألا أنه غير مؤمن بقدرة العرب على مساعدة ليبيا فالعرب جميعا يعانون من التخلف والفقر والجهل والمرض وهم في حاجة للمساعدة وليس لديهم ما يقدمون الى ليبيا . و كان يثوق ألى فرصة لتصحيح سمعته لدى الشعب الليبي الذي ساءت بعد توقيعه المعاهدة البريطانية الليبية في حكومته الأولى ويرى أن فرصة عودته الى الحكم من جديد قد تمكنه من ألغاء المعاهدتين البريطانية والأمريكية أو تعديلهما وأنهاء وجود القواعد العسكرية في ليبيا خاصة أن الأسباب ألتي فرضت المعاهدة في سنة 1952 كانت حاجة ليبيا الماسة والضرورية الى المساعدة المالية لتمويل ميزانية الخدمات الأساسية للشعب ورغم ذلك كان يرى في قرارة نفسه أن الغاء المعاهدت والأتفاقيات البريطنية والأمريكية قد يعرض ليبيا لأخطار أقليمية عسكرية وهيمنة من دول الجوار وخاصة بعد أن أصبحت ليبيا دولة نفطية . ولكنه كان مصرا على أتخاذ هذا الأجراء تلبية للرغبة الشعبية العارمة . و الشئ الذي كان يخشاه هو مدى أستطاعته أقناع الملك بأتخاذ مثل هذا الأجراء الخطير فهو يعرف تمسكه بالعلاقات الليبية وتحالفها مع بريطانيا وخوفه من نفوذ مصر على حكمه . ومن حسن حظه فأن خطاب الرئيس جمال عبد الناصر ساعده على اتخاذ قراره حال توليه الحكم فقد هاجم الرئيس عبد الناصر القواعد العسكرية في ليبيا وطالب لبيبيا بألغائها . وقد سارع السيد محمود المنتصر حال توليه الحكم الى أعادة الأمن ألى نصابه في البلاد وتلطيف الحو الشعبي الملتهب في بنغازي ضد قوات الأمن وقد ساعدته على ذلك صداقته لمدير عام الأمن اللواء محمود أبو قويطين ويرى الأخير في محمود المنتصر الشخص الوحيد الأمثل من أقليم طرابلس المخلص للملك وحماية عرشه كما أن سياسته تختلف كثيراعن سياسة الدكتور فكيني االرامية الى أضعاف النظام الملكي وسلطات الملك وخلافه الوحيد مع السيد محود المنتصر كان حول نقل الحكومة الاتحادية من البيضاء الىطرابلس .أن اللواء أبو قويطين من قبيلة البراعصة التي تقطن البيضاء وبها يوجد مكتبه ويرى أن البيضاء مدينة صغيرة ونقل الحكومة منها سيؤتر في اقتصادها ونفوذها ومصالح قبيلته ومع هذا قبل التعاون مع السيد محمود المنتصرخاصة أنه أتى بزعيم برعصي هو السيد حسين مازق الى حكومته كوزير للخارجية بعد غيابه عن السلطة لفترة غير قصيرة مما يبعث الأمل في صعوده من جديد وتوليه رئاسة الحكومة الذي يضمن أعاد ة الحكومة الى البيضاء مستقبلا. وقد تم ذلك فعلا.

أنتدابي برآسة مجلس الوزراء
رجعت من أجازتي في بريطانيا حوالي منتصف يناير 1964 وعلمت بالأحداث التي وقعت في عهد حكومة الدكتور فكيني اثناء وجودي في الأجازة فقد قامت مظاهرات صاخبة في بنغازي وحدث تصادم بين الجماهير وقوات الأمن وسقوط قتلى وتجاوبت جماهير طرابلس وبقية المدن الليبية في التظاهر تضامنا مع بنغازي وكان الحماس على أشده لمؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة . بقيت في طرابلس لأقضي أسبوعا مع العائلة قبل سفري الى البيضاْء وكان ذلك في شهر رمضان المبارك وفي هذا الاسبوع أستقال الدكتور فكيني وكلف السيد محمود المنتصر بتأليف الحكومة ولم أعرف بعد ولم يكن هذا يعنيني كثيرا . وفي يوم 22 يناير وكنت أستعد للسفر ألى البيضاء جاءني المهدي أحد أبناء السيد محمود المنتصر وأبلغني بأن والده يرغب رؤيتي بصفة مستعجلة فأستغربت ذلك لأن السيد محمود المنتصر مبتعد عن الحكم منذ فترة وهو في حكم المتقاعد فما هو الداعي ياترى لأستدعائي بهذه الصفة المستعجلة قبل موعد الافطار بدقائق وحال ما ركبت السيارة مع المهدي أخبرني باستقالة الدكتور فكيني وتكليف والده بتأليف الحكومة الجديدة وأذاعة الخبر على الأذاعة وعندما سمعت هذه الأخبار جالت في خاطري تساؤلات هل يريد السيد محمود المنتصر تعييني في وظيفة ؟ هل سأعود ألى الوظيفة التي تركتها قبل سفري ألى لندن الى غيرها من الأحتمالات حتى وصلنا الى منزله فوجدنا معه بعض الضيوف من العائلة الذين جاءوا للتهنئة وأول سؤال فاتحني به بعد أن أعطاني قائمة وزراء حكومته ما رأيي فيهم وكان يمزح لأنه يعرف أني شاب ولا يعجبني تشكيل الحكومة من شيوخ السياسة المتقاعدين وأقول الحقيقة فقد ذهلت لما أطلعت على القائمة وعندما سألت لماذا هؤلاء قال أنه لا يعرف غيرهم وقد حاول أقناع الملك بأعفائه ثلات مرات ولم ينجح وذكر بأنه مريض ولا تسمح حالته بهذه المسئوليات العظيمة في مثل هذه الظروف لكنه دائما في خدمة الملك والوطن ولو كان على فراش الموت ولهذا قبل بعد أصرار الملك .وأضاف أن الظروف السياسية صعبة للغاية والامور تسير من سئ الى أسوأ والحكومة السابقة لم تعمل شيئا لأستتاب الأمن بل زادته غليانا ومن الله وحده أرجو التوفيق وكان أولاده غير راضين عن قبوله الحكم خاصة أبنه الأكبر عمر وزير العدل في حكومة الدكتور فكيني المستقيلة.
وأخيرا فأجأني وطلب مني القدوم غدا الى مكتب رئيس الوزراء وأستلام المكتب من السيد علي أبو سرويل سكرتير خاص الدكتور فكيني وكنت أعرف الأخ علي فهو زميل في الخارجية وكان طلبه صدمة لي فأنا كما بينت سابقا لا أريد هذه الوظيفة ولا أريد ترك عملي الدبلوماسي بالخارجية وقد صارحته بذلك وأصر بأنه لا يعرف أحدا غيري لهذه الوظيفة ويريد شخصا موثوقا فيه وأنه يمكنني تعيين مساعد لي لشئون التشريفات والمقابلات وقد بينت له وجود وكيل وزارة للرئاسة هو علي المسلاتي ومن واجباته مساعدة رئيس الوزراء في كل ما يحال عليه من مراسلات وهو شخصية قوية ويمكنه الأعتماد عليه كما أن تعيين السيد عمر الباروني وزير دولة لشئون الرئاسة يمكنه المساعدة في الأمور الموضوعية والسياسية وقال أنه يعرف علي المسلاتي وليس عنده شئ ضده ة لكنه كان من المقربين للرئيس السابق الدتور فكيني وهناك كثيرون لا يثقون فيه ولهذا يريدني الى جانبه,و رغم أني لم أعمل معه في الماضي في الحكومة أو السفارات الا أن كل الذين عملت معهم أكدوا له أني أتمتع بصفات الامانة والكفاءة والأخلاص كما ذكر لي .اخيرا شكرته وغادرت بيته ولم يلاقي قبولي لهذه المهمة رضاء أخوتي بسبب الاحوال السياسية السيئة التي تمر بها البلاد وغضب الناس من الحكومة بل أن أخي الهادي الذي كان يدرس في جامعة دمشق ومتحمس قومي عندما سمع بخبر قبولي العمل مع رئيس الوزراء أرسل ألي برقية يعرب فيها عن أسفه لقبولي . وفي صباح اليوم التالي ذهبت الى مكتب رئيس الوزراء وتعجب الموظفون من قدومي وكان موقفي من الأخ علي أبوسرويل محرجا خاصة أنه ذكرلي علاقات القرابة التي تربط عائلته أبو سرويل بالسيد محمود المنتصر وكنت أرغب الأحتفاظ به كمساعد أذا قبل رئيس الوزراء لكنه نظرا لعمله مع الرئيس السابق أصبح لا يستحسن بقاءه . وبعد ذلك قابلت السيد علي المسلاتي وكيل الوزارة الذي رحب بي الا أنه كان غير مطمئن لوجودي وبعد ذلك طلبت من السيد أحمد أبو شاقورعن طريق وكيل وزارة الخارجية أن يتولي مهام مساعدي لشئون المقابلات بمكتب رئيس الوزراء. كان السيدعلي المسلاتي في عهد الرئيس فكيني قد قام بأجراء تعديلات جوهرية في جهاز رئاسة مجلس الوزراء ونقل سكرتير مجلس الوزراء ووكيل الوزارة المخضرم السيد مصطفى بن سعود الى وزارة الشئون الأجتماعية وضم شئون مجلس الوزراء الى مكتب وكيل الوزارة لشئون الرئاسة وعين 12 مديرا عاما في رئاسة مجلس الوزراء وجعل كل مدير مسئولا عن مجال وزارة معينة ومدير لشئون مجلس الوزراء وعين فيه السيد سليمان الأسكندراني . وكان العمل جاريا على شغل وظائف بقية المدراء وكان الهدف أشرافهم على كل شئون الدولة وأخضاع الوزراء الى رقابة رئاسة الحكومة وتزويدهم بتوصيات بأسم رئيس الوزراء ومن المؤكد أن قرار التعديل هذا لم يعرض على مجلس الوزراء لأن الوزراء لن يقبلوا بأشراف جهاز عليهم في رئاسة مجلس الوزراء فهم مسئولون عن وزاراتهم أمام رئيس الوزراء والبرلمان ولكن يظهر أن رئيس الوزراء وقعه كقرار للمجلس دون عرضه على المجلس كما يجري عادة في السائل التي لا يريد رئيس الوزراء فتح نقاش فيها وك1لك بالنسبة للقرارات الت تتعلق بالشئون الأدارية.ولو تم تنفيذ هذا القرار بالكامل لاصبح وكيل وزارة شئون الرئاسة الرجل الثالت في الدولة بعد الملك ورئيس الوزراء .وقد أدى طموح السيد علي المسلاتي هذا الى خلق عداء له مع جميع الوزراء وكبار موظفي الدولة وفي البرلمان ورغم أني كنت أشاركه الرأي بشأن ضرورة أشراف رئاسة الوزراء على شئون التخطيط والتنمية و الأمن العام والمخابرات بجميع أنواعها والخارجية عن طريق جهاز مزود بالخبراء يلحق برئاسة مجلس الوزراء يتولى التنسيق مع الوزارات المختصة ومساعدة رئيس الوزراء في الأطلاع على تفاصيل ما يجري في هذه المجالات الحيوية وتمكينه من اقتراح ما يراه هاما وعدم الأعتماد على الوزراء المختصين .وفعلا تقدمت بمثل هذا الأقتراح عندما كنت وكيلا لرئاسة مجلس الوزراء ولكن كل روساء الحكومات الذين عرضت عليهم هذه الفكرة رفضوها وسيأتي الكلام عن هذا في موضعه .
أقسمت حكومة السيد محمود المنتصر اليمين أمام الملك وعقدت أجتماعها الأول بعد تكامل أعضائها الذي كان بعضهم في الخارج مثل السيدعمر الباروني الذي عين وزيرا للدولة لشئون الرئاسة وهو منصب وزاري مستحدث لأول مرة وتم في هذا الأجتماع أعادة السيد مصطفى بن سعود الى منصب وكبل الوزارة لشئون مجلس الوزراء مما زاد من قلق علي المسلاتي وخلق تصادما بين الوكيلين وتم أيضا ألغاء وظائف المدراء 12 في رئاسة مجلس الوزراء وتعيين سليمان الأسكندراني مساعدا لمصطفى بن سعود . ورفض وزير الدولة لشئون الرئاسة الجديد السيد عمر الباروني التدخل في أختصاصات وكيل شئون المجلس ووكيل شئون الرئاسة بحجة أنه وزير دولة ومسئوليته تتحدد بما يسنده له رئيس الوزراء أو المجلس من مهام
وبعد نقل السيدعلي أبوسرويل الى وزارة الخارجية وتعيين السيد أحمد أبو شاقور مساعدا لي لشئون التشريفات بقيت حائرا بين الوكيلين على المسلاتي ومصطفى بن سعود حول أختصاصاتي فهما لا يعترفان بمسئوليتي سوى كسكرتير لرئيس الوزراء ومراسلاته الخاصة والسرية .ولما كان معظم الوزراء في حكومة السيد محمود المنتصر ضد علي المسلاتي أتاروا ذلك في مجلس الوزراء وتقررعلى أتر ذلك نقله ألى وزارة العدل وتعييني وكيلا لشئون مجلس الوزراء بالوكالة بشكل أنتداب من وزارة الخارجية . وبعد فترة قصيرة عينت رسميا في المنصب قبل تنفيذ القانون الجديد للخدمة المدنية للحصول على الدرجة الخاصة( أ) بأفتراح من وزير الخدمة المدنية السيد عبد الله سكته الذي أقنعني وأقنع رئيس الوزراء بأن بقائي كوكيل وزارة بالوكالة سوف لا يتمشى مع القانون الجديد لان درجتي الأصلية في الخارجية هى درجة اولى لا تسمح لي بان أتولى مهام وكيل وزارة( أ) بالوكالة وأقترح تعبيتي رسميا في الوظيفة لأستفبد من القانون الجديد الذي يعطي الدرجات الجديدة لحاملي ألقاب الوظائف الحالية .
ورغم أني لم أسع للقرار لأن هذا معناه خروجي بمقتضاه من كادر وزارة الخارجية ولم يعد في أستطاعتي العودة أليها الا بمرسوم ملكي بدرجة سفيرأو وزير مفوض وهي المقابلة للدرجة الخاصة المدنية (أ) ولا يجوز نقلي بدرجة أقل من درجتي وكانت وظائف السفراء في تلك الفترة لا زالت حكرا على السياسيين والوزراء السابقين . .


تعييني كوكيل وزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء

حال صدور قرار مجلس الوزراء بتعييني وكيلا للوزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء قمت بدراسة التنظيم الأداري للرئاسة الذي أعده السيد علي المسلاتي الذي ألغي بعد أستقالة الدكتو محي الدين فكيني وتعيين وكيلين أحدهما لشئون الرئاسة ليحل محل مدير مكتب رئيس الوزراء سابقا والأ خر لشئون مجلس الوزراء ليحل محل سكرتير عام مجلس الوزراء سابقا ورغم أختلاف الألقاب فان الأختصاصا ت بقت على ما هي عليه و كما ذكرت لم يقبل السيد عمر الباروني وزير الدولة لشئون الرئاسة ( وهو منصب جديد أستحدث لأول مرة) التدخل في الشئون الأدارية وجهاز رئاسة مجلس الوزراء والتفرغ لما يسنده له رئيس الوزراء أو مجلس الوزراء من مهام . في ضوء هذا الوضع درست مع وكيل شئون المجلس ضرورة التعاون بين المكتبين ولم يكن لي طموح للسيطرة كالوكيل السابق السيد علي المسلاتي وطلبت من وكيل مجلس الوزراء التعاون مع رئاسة مجلس الوزراء وتحويل صور من مذكرات الوزراء قبل عرضها على مجلس الوزراء لدراستها مع مستشاري أدارة الفتوى والتشريع والمستشار الأقتصادي لرئيس الوزراء الذي عين حديثا برغبة من السيد محمود المنتصر وهو المستر بت هارديكر الذي كان سابقا مسئولا ماليا منتدبا من الحكومة البريطانية بمقتضى الأتفاقية المالية بين بريطانيا وليبيا وقد أنتهت مهمته هذه وعاش متقاعدا في النمسا وتم تعيينه في منصب المستشار الأقتصادي لرئيس الوزراء بالتعاقد معه رأسا كموظف ليبي ولا دخل للحكومة البريطانية في هذا التعيين. وكان هدفي من هذا الأفتراح هو التمكن من دراسة مذكرات مجلس الوزراء قبل عرضها على المجلس لأطلاع رئيس الوزراء برأي الخبراء وحتى لا تتعارض مع قرارات سابقة أو مع سياسة الحكومة المعلنة في مجلس الأمة . وكذلك طلبت أستلام نسخا من قرارات مجلس الوزراء ليتولى مكتبة متابعة تنفيذها مع الوزراء المختصين . وبعد محاولات وتدخل رئيس الوزراء وافق السيد مصطفى بن سعود على مقترحاتي ألا أنه لم ينفذها فقد كان معروفا عنه بالحرص على سرية شئون المجلس ويعتبرها حكرا عليه بينه وبين رئيس الوزراء والوزير المختص وهو المسئول عن الرجوع ألى المستشارين بشأنها وهكذا تعذر التنسيق ولم يكن رئيس الوزراء براغب في فرض المقترحات على وكيل الوزارة لشئون مجلس الوزراء الذي بتمتع بثقة جميع الوزراء ويساندونه الرأي بأن شئون مجلس الوزراء يجب أن تكون مستقلة عن رئاسة مجلس الوزراء . كما رفض الوزراء أرسال نسخ من مذكراتهم ألى مجلس الوزراء الى وكيل شئون الرئاسة رأسا لأنهم كما ذكرت سابقا لا يريدون تدخل جهات معينة في الرئاسة بينهم وبين رئيس الوزراء في ما يقدمون من مشاريع وقرارات وقوانين الى المجلس خوفا من تعرضها للتعديل أو معارضة رئيس الوزراء بناء على نصيحة مستشاريه في جهاز رئاسة مجلس الوزراء . وهذا الخلاف حول الأختصاصات بعتبر عاديا بين الدوائر الحكومية ليس في ليبيا فقط بل كل الأجهزة التابعة لرؤساء الوزارت ا أو رؤساء الجمهورية في أي بلد في العالم تتعرض لمثل هذه الصعوبات والمنافسات من طرف الأجهزة البيوقراطية المختلفة . ومن حسن حظ ليبيا أن الملك فصل مسئولية ديوانه عن مسئولية الحكومة ولم تكن للديوان الملكي أية سلطة رسمية وقانونية مباشرة على جهاز الدولة بعد وفاة السيد أبراهيم الشلحي . وفي ضوء هذه الظروف وعدم أمكانية التعاون المباشر بين رئاسة مجلس الوزراء وشئون المجلس قررت التركيز على علاقات الرئاسة رأسا مع الوزراء وما يرسل لرئيس الوزراء من تقارير ومقترحات في مرحلة الدراسة قبل تحولها ألى مشروع قرارات ترسل الى وكيل شئون مجلس الوزراء لعرضها على المجلس .كما قررت الأكتفاء بأنشاء ثلات أدارات بشئون الرئاسة تهتم الأولى بشكاوى أفراد الشعب والهيئات المدنية ودراستها وأحالتها على جهات الأختصاص والطلب بموافاة الرئاسة ما يتخذ بشأنها مع أعلام أصحابها بالجهة التي أحيلت أليها شكواهم لمراجعتها وقد لاقى هذا الأجراء أحتجاج الوزراء لأن هذه الشكاوى المحولة من الرئاسة أصبحت لها صفة رسمية و تأخد وقتا كبيرا من الوزراء والمسئولين في الوزرات المختصة . وكذلك أصرار أصحابها مقابلة الوزيرأو الوكيل بحجة أستلامهم رسائل من رئاسة الحكومة تطلب منهم مراجعة شكواهم مع المسئولين في الوزارة . ويلحق بنفس الأدارة قسم يختص بالأعلام ومتابعة ما ينشر محليا ودوليا في وسائل الأعلام والتقارير الأعلامية التي تصل من وزارة الاعلام والسفارات الليبية في الخارج وتقديم ملخصات لوكيل الوزارة ولرئيس الوزراء ولفت الجهات المختصة في الحكومة الى ما يثار في الأعلام و أية أنتقادات لأنشطتهم المختلفة .
والأدارة الثانيةتختص بالشئون المالية والادرارية للوزراءولموظفي الرئاسة وشئون المجلس وقد اقترحت ضم أدارة الخدمة المدنية سابقا أليها ألا أن أنشاء وزارة دولة مستقلة للخدمة المدنية في أول تعديل وزاري قد الغي هذ ه الفكرة . أما الأدارة الثالتة فتختص بالشئون الموضوعية ومجاللات الوزرات المختلة ومتابعتها مع الوزارات والهيئات الأخرى المستقلة والهدف منها دراسة مشاريع مذكرات الوزراء الى المجلس ومتابعة قراراته بشأنها وكما ذكرت تعذر تنفيذ ذلك لمعارضة وكيل المجلس والوزراء واقتصر العمل في هذه الأدارة على دراسة تقارير الوزراء والسفراء والمحافظين ومدراء الأمن وما يبعث به الوزراء وكبار المسئولين من أراء ومقترحات ومشاريع قوانين وقرارات لأخذ رأي رئيس الوزراء فيها مسبقا قبل أعداد مذكرات بشأنها ألى المجلس . وقد لاحظت أنه رغم هذا التنظيم فأن الوزراء يفضلون دراسة شئون وزاراتهم مع الرئيس شفويا أتناء مقابلاتهم معه الشئ الذي لا يسمح به غالبا وقت رئيس الوزراء مما يترتب عليه رأسا مع أضاعة وقته وعدم تمكنه من أبداء رأي مدروس علىالمقترحات والأراء التي يتقدم بها الوزراء شفويا كما أن نقل شئون الخدمة المدنية لوزارة مستقلة وكذلك شئون أمن الدولة والجنسية ومراقبة الأجانب الى وزارة الداخلية وشئون مجلس الأعمار والتنمية الى وزارة مستقلة التي أستحدتت بعد أقرارالوحدة والغاء النظام الفدرالي كل هذا ادي الى تقليل أختصاصات رئاسة مجلس الوزراء حتى المستشار الأقتصادي لم تعد حاجة له في الرئاسة وأصبح يقضي معظم وقته منتدبا في اللجان ومع وزراء التخطيط و النفط والمالية .

اضطراب الأمن في البلاد وخطاب عبد الناصر حول القواعد الأجنبية
بتولي حكومة السيد محمود المنتصر السلطة أستمرت المظاهرات في طرابلس وقد نتج عنها سقوط بعض الضحايا في الزاوية الغربية وقد غضب رئيس الوزراء بسبب أستعمال العنف المبالغ فيه وأذكر أنه أستدعى محافظ الزاوية بحضوري منصور كعبار ولامه على أعمال العنف وتصرف الشرطة التي أدت ألى مقتل مواطن وجرح أخرين فأخبره السيد كعبار بأن رجال الشرطة حاولوا تجنب الأصطدام مع المتظاهرين فأنسحبوا من السوق بعد عجزهم عن فض المظاهرات سلميا ولكن المتظاهرين أصروا على مطاردة رجال الشرطة الذين أنسحبوا حتى لجأواالى مبنى مركز الشرطة طلبا للحماية فلحق بهم المتظاهرون وأرادوا أقتحام المركز والأعتداء عليهم فأضطر رجال الشرطة الى أطلاق النار دفاعا عن النفس ولم يكن أمامهم خياروهذا عذر رجال الشرطة كلما سؤلوا عن المبالغة في أستعمال العنف في مثل هذه الحا لات والشرطة عادة لا تلام في الدفاع عن النفس أمام جماهير غاضبة تريد الفتك بهم أو أقتحام المكاتب الرسمية .
وبعد عودة الهدوء النسبي الى مدن المملكة ورجوع الطلاب ألى مدارسهم التي أغلقت أثناء أحدات الشغب فأجأ الرئيس جمال عبد الناصرالحكومة الليبية بخطاب قوي هاجم فيه القواعد الأجنبية في ليبيا مطالبا بجلاء القوات الأجنبية عن التراب الليبي وخوفا من تجدد المظاهرات وأعمال العتف أضطرت الحكومة الى اصدار بيان أعلنت فيه عدم رغبتها في تجديد المعاهدة البريطانية والأتفاقية الأمريكة بعد أنتهاء مدتهما التي كانت تقارب النهاية . ورغم رغبة السيد محمود المنتصر في المضي ألى أكثر من هذا وقراره مع نفسه بألغاء المعاهدة والأتفاقية وجلاء القوات الأجنبية كما بينت ألا أنه كان غير واثق من رد فعل الملك أذا أشار الى موضوع الألغاء وقد فوجئ الملك بتصريح الحكومة ألا أنه لم يأخذه بمحمل الجد وأعتبره للأستهلاك المحلي لتجنب رد فعل شعبي لخطاب الرئيس عبد الناصر . وبعد ذلك أثير الموضوع في البرلمان الذي طلب من الحكومة الغاء المعاهدات والأتفاقيات العسكرية وجلاء القوات الأجنبية وأعطاء الحكومة فرصة لأبلاع ذلك ألى بريطانيا وأمريكا وبذلك طلبت الحكومة الليبية من الحكومتين الأمريكية والبريطانية الدخول في مفاوضات للنظر في المعاهدة البريطانية والأتفاقية الأمريكية وفي مارس من نفس السنة أعلن السيد محمود المنتصر بدء المفاوضات في البرلمان ثم أعقبه بتصريح يوضح بأن الهدف من المفاوضات هو أنهاء المعاهدةالبريطانية والأتفاقية الأمريكية وتصفية القواعد العسكرية وتحديد موعد جلاء كل القوات الأجنبية عن ليبيا وكما يظهر من تصريحات السيد محمود المنتصرأنه لم يفصح عن كل هذا دفعة واحدة وواصل أصدار عدد من التصريحات تتفاوت مداها تجنبا لرد فعل الملك الذي كان يتابع تطورات الموضوع دون تدخل لمعرفة ماذا يستقر عليه القرار عليه البرلمان والحكومة ولكن تصريح رئيس الوزراء الأخير وتمشيه مع كل ما يطالب به البرلمان أثار شكوك الأنجليز والأمريكان لأنه يتعدى ما طلب منهم رسميا في المفاوضات التي بدأت فعلا على أساس التصريحات الأولية لرئيس الوزراء وهكذا اتصل السفيران الأنجليزي والأميركي بالملك لمعرفة رٍايه ويظهرأنه أخبرهما في أول الأمر بان الأمر متروك للحكومه والبرلمان ولا يريد التدخل . ولكنه بعد ذلك صارحهما برأيه ومعارضة ما توةصلت أليه الحكومة والبرلمان كما سنرى في الأحداث التالية .
كما ذكرت سابقا قبل محمود المنتصرالرجوع الى الحكم للمرة الثانية بحجة أن النظام الملكي كان في خطر وأن مهمته الأولى يجب أن تتركز على أستتاب الأمن في البلاد من هذا المنطلق بدا في تنفيذ سياسة حكومته الا أن تاريخه المرتبط بالمعاهدة البريطانية وسياسته الرامية الى التعاون مع الغرب كانت وراء شرارة أثارة موضوع جلاء القوات الأجنبية حال أستلامه للحكم وكان هذا مصدر خوف السفيريين البريطاني والأمريكي أثر تعيينه من جديد رئيسا للوزراء لأن رؤساء الحكومات السابقين أستطاعواعدم أثارة مو ضوع المعاهدات والأتفاقيات والخوض فيها علنا في مجلس الامة او على المستوى الأعلامي لفترة طويلة حتى أصبحت أمرا منسيا خاصة أن الظروف السائدة في الشرق الأوسط كانت هادئة ولكن ماضي السيد محمود المنتصر وتطور الأوضاع العربية بعد مؤتمر القمة العربي الأول وخطاب عبد الناصر ضد القواعد العسكرية جعل من الصعب على السيد محمود المنتصر تجاهل هذه الأحداث وكان من الصعب عليه الأنتظارواضطر الى أتخاذ القرار الحاسم بشان الغاء المعاهدات والأتفاقيات و جلاء القوات الأجنبية مع بداية توليه الحكم , وكما ذكرت كان هذا في الحقيقة أحد أهدافه في قبول العودة الى الحكم ولكنه كان يامل أن يتم ذلك في هدوء وتدريجيا وبموافقة الملك ومباركته .
بعد تصريحت رئيس الوزراء وموقف البرلمان شعرالملك بأن الموقف اخذ يخرج من سيطرته وأصبح قرار الألغاء وتحقيق الجلاء واردا لا محالة بعد أن سارع رئيس حكومته الأمين والمخلص والمفضل عنده الى الاستجابة لجميع مطالب مجلس الأمة وتصريحاته الصريحة بأنهاء المعاهدة البريطانية والأتفاقيات العسكرية وجلاء جميع القوات الأجنبية وانه أي رئيس الوزراء الوفي قد قرر السير مع التيار لتحسين سمعته لدى الرئيس عبد الناصر ومجاراة التيار القومي وأن شجاعته التي عرف بها أثناء حكومته الأولى قد خانته هذه المرة ولم يصدق الملك في أول الأمر السفيرين البريطاني والأمريكي الذين أوضحا له بأن السيد محمود المنتصر ليس هو الشخص الذي يعرفونه في أوائل الخمسينات وأن سياسته الجديدة في التخلص من المعاهدات والقوات الأجنبية هي بدافع التخلص من من ما يعتبره وصمة عار له ولعائلته بكونه هوالذي وقعها وذلك لكسب تأييد الشعب الليبي ومباركة سياسة عبد الناصروتجلى ذلك في تشجبعه للحملة الأعلامية الرامية الى ألغاء المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية في أقصر وقت مما يعرض ليبيا وأمنها للخطر . وأمام تطورات الأحداث أتخذ الملك قرارا حاسما في قرارة نفسه للوقوف ضد محاولات حكومته ومجلس الأمة ووضعهم في موقف لا خيار فيه ولم يعلن رأيه هذا يصراحة ضد الالغاء والجلاء لأ نه يصرح دائما بأنه ملك دستوري لا يحكم وأن القرار في شئون الدولة هو في أيدي الحكومة ومجلس الأمة .وفوجئ رئيس الوزراء ورئيسا مجلس الشيوخ والنواب بأستدعاء الملك لهم في بيته في مدينة البيضاء وابلاغهم بأنه قرر الأستقالة وانه سبق له وأن قدمها ألى السيد مصطفى بن حليم والسيد محمد الصيد عندما كانا في الحكومة وأنه قرر أن يستريح ولم يبدي سببا للاستقالة وطبعا رفض الحاضرون حتى مجرد التفكير في ما قاله الملك لهم وبينوا له بان البلاد لن تستقر بدونه وانها احوج الى زعامته في هذه الظروف والحوا عليه باعادة النظر في الوضوع ولكنه في نهاية المقابلة سلم الى رئيس الوزراء الأستقالة مكتوبة وموقعة ليؤكد اصراره وأذكر أن رئيس الوزراء السيد محمود المنتصررجع الى مكتبه مصفر الوجه وقد أرتفع ضغط الدم عنده وهو يرتعش من هول ما سمعه من الملك وطلب مني مساعدته على وضع الأستقالة في خزانة رئاسة الوزراء وبعد أقل من ساعة من وصوله الى مكتبه سمع بأن الملك سافر الى طبرق حال أنتهاء مقابلة الرؤساء الثلاتة له . وقد طلب من حرسه عدم مرافقته كما أنه رفض وضع علمه على السيارة وكان من المقرر أن يبقى فترة أطول في البيضاء لمتابعة مداولات مجلس النواب حول المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية وما أن وصل الملك الى طبرق حتى رن جرس التلفون في بيت رئيس الوزراء وكنت معه ورأيت علامات الرعب تظهر على وجهه وهو يستمع في التلفون الى الملك ولم تستغرق المحادثة ثوان ولما أنتهى أخبرني بأن الملك طلب منه تنفيذ أستقالته حالا ؟ كان المعتقد أن الملك سيسحب أستقالته كالعادة لأن الرؤساء الثلاتة (الوزراء والشيوخ والنواب )بعد خروجهم منه في البيضاء رفضوا الأستقالة وهو ليس بالشئ الجديد فقد رجع عن الأستقالة مرارا كما أن الأستقالة بشكلها الذي قدم لا معنى لها فهي لم تكن تنازلا عن العرش لولي عهده الوريث الشرعي حسب الدستور وهي في رأيهم لا تعدو أن تكون ألا أحتجاجا غبر معلن على تمادى وتسرع الحكومة والبرلمان في أعلان الغاء المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية رغم أن رئيس الحكومة أحاطه علما بهذا قبل أصدار تصريحاته بشأنها ولكن الملك كعادته لا يصارح رئيس حكومته يرأيه وقت الأزمة أوينتقده صراحة بل يعبر عن ذلك بالتصرف بما يراه صالحا . كان الملك يتوقع على الأقل من الحكومة والبرلمان في هذه الحالة أن لا يتسرعا لأن رأيه معروف لديهم وأنه حليف لببريطانيا فالمعاهدة في رأيه هي تحالف بينه وبين بريطانيا قبل أن تكون بين ليبيا وبريطانيا .
طلب مني رئيس الوزراء بعد أستلامه لمكالمة الملك أبلاغ رؤساء الشيوخ والنواب والمحكمة العليا والجامعة الأسلامية ورئيس أركان الجيش ومدير عام الأمن
والوزراء القدوم حالا ألى البيضاء لأجتماع عاجل اليوم لأمر هام جدا وعدم ذكر موضوع الأستقالة وكان الوقت بعد الظهر ورغم أن مثل هذه الدعوة المستعجلة تحدث كثيرا ألا أن كل الوزراء وبعض المطلوب حضورهم كانوا جميعا في طرابلس على مسافة تزيد على 1300 كم وقد طلب بعض الوزراء أعداد طائرة خاصة لهم للحضور ولما تعذر حضور الجميع ع طلب رئيس الوزراء من من لا يستطيع القدوم الى البيضاء اليوم الحضور الى طبرق في صباح اليوم التالي مبكرا .
كان موضوع الأستقالة لا زال سرا لا يعرفه ألا الرؤساء الثلاتة أو هكدا كنا نعتقد
والشعب لا يعرف شيئا بما حدث ولا يمكن أذاعة مثل هذا الخبر حتى ولو أصبح نهائيا دون أعلان الأجراءات الأمنية اللازمة.
وفي فجر اليوم التالي غادر البيضاء رتل السيارات الذي كان يحمل رئيس الوزراء ورئيسا مجلسي الشيوخ والنواب ومن كان موجودا في البيضاء من الوزراء و قد لاحظنا أن الطريق الى طبرق كان مزدحما بسيارات الجيش والشرطة والسيارات المدنية وما أن وصلنا ضواحي مدينة طبرق حتى وجدناها تعج بضباط الجيش والأمن ورجال قبائل برقة على بكرة أبيهم وبعض أعضاء مجلس الأمة من المنطقة الشرقية وكثير من جماهير الشعب من برقة ويظهر أن رجال القصر والحاشية الذين عرفوا الموضوع سارعوا بمعرفة من الملك أو بأيعاز منه او دون علمه بنشر خبر الأستقالة في جميع انحاء برقة وطلبوا من الجميع القدوم حالا الى طبرق وأعلام الآخرين للتواجد للطلب من الملك الرجوع عن أستقالته . كنت في السيارة مع السيد عمر الباروني وزير شئون الرئاسة وكنأ واثقين بأن كل شئ مرتب مسبقا وان الملك سيسحب أستقالته وتأ كد هذا بعد وصولنا ألى طبرق ووجود هذا الكم من المشايخ ورجال القبائل الذين كانوا يهددون الحكومة والنواب في مظاهرات عارمة ويتهمونهم بأنهم السبب في غضب الملك واستقالته باصرارهم على قرار أنهاء المعاهدة البريطانية وجلاء القوات الأجنبية وكانوا يلوحون بالسلاح في أياديهم ويهددون بانهم لن يتركوا أعضاء الحكومة ومجلس الأمة الخروج من طبرق أحياء ألا اذا تراجع الملك عن أستقالته . وطالبوا الحكومة بعدم ألغاء المعاهدة البريطانية وعدم جلاء القوات البريطانية وكانت هتافات الجماهير بهذه المطالب غريبة خاصة أن الملك لم يعلن سببا لأستقالته سوى حالته الصحية . ولهذا تأكد لنا بأن رجال القصر والحاشية وراء هذه الأحتجاجات.
كان الملك قد غادر قصره الرسمي بعد وصوله من البيضاء وطلب من حراسه ورجال حاشيته وسائقي سياراته أن لا يرافقوه وأن يبقوا في القصر تحت تصرف الحكومة وأمر بأنزال علمه الخاص من على القصر وذهب الى بيته خارج طبرق ولكن جماهير القبائل والشعب الذين وصلوا طبرق في ذلك اليوم ساروا أليه في مظاهرة كبيرة وأحاطوا بالبيت الذي كان فيه وأصروا على عدم مغادرة المكان حتى يجتمع بهم وأضطرالملك بعد ذلك الى ارسال سبحته لهم وهي عادة عربية قديمة حسب ما أعتقد للتعبير عن صدق وعده ووعدهم بالأجتماع بهم في صباح اليوم التالي في قصره الرسمي بطبرق وطلب منهم الذهاب للراحة والنوم وهكذا نامت مدينة طبرق تعج بالألاف من الناس الذين أفترشوا الأرض بعد أن ضاقت بيوت سكان طبرق بهم وقام سكن المدينة بأستضافتهم ونحروا الدبائح وأكرموهم وبعد رجوعهم من الملك ذهب جمهور القبائل الى مقر رٍئيس ألوزراء بطبرق وطلبوا منه أعطائهم ورقة أستقالة الملك لتمزيقها لعدم أعترافهم بها وهاجموا بعض النواب الذين جاءوا من بنغازي بعد سماعهم خبرأستقالة الملك عن غبر الطريق الرسمي.وقد حاول النواب الدفاع عن أنفسهم قائلين أن طلبهم لجلاء القوات الأجنبية لا يمس أخلاصهم للملك أو النظام الملكي وأنهم مع الجماهير لأقناع الملك بالرجوع عن أستقالته والبقاء في الملك مدى الحياة وخرج لهم رئيس الوزراء في شرفة البيت الذي يقيم فيه والقى فيهم كلمة مؤكدا لهم رفضه لأستقالة الملك وأنه أعد أستقالة حكومته لتقديمها ألى الملك أذا أصر على رأيه وقال أن ورقة استقالة الملك لا يمزقها الا الملك بنفسه وقد أحضرها معه لأعادتها له ووعدهم بأنه سيذهب معهم صباح اليوم التالي في مظاهرة الى القصر الملكي . وكان رئيس الوزراء فعلا قد مر صباح ذلك اليوم على مكتبه بالرئاسة وأخذ معه أستقالة الملك . وغادرت الجماهير مكان أقامة رئيس الوزراء بعد أقتناعها بصدقه فأخلاصه للملك يعرفه القاصي والداني وخاصة في برقة . وعاشت طبرق ليلة ليلاء في هرج ومرج والكل لا يصدق أن الأدريس سيتركهم . كل هذا كان يحدث في طبرق دون صدور أي بيان حكومي في الأذاعة مما جعل جماهير طرابلس وبنغازي ومدن ليبيا وقراها لا تعرف شيئا عما كان يجري في طبرق من أمر مهم.
وفي صباح اليوم التالي تجمعت حماهير القبائل والشعب وضباط الجيش والشرطة يتقدمهم رئيس الوزراء ورئيسا الشيوخ والنواب ورئيس المحكمة العليا ورئيس أركان الجيش ومدير عام الأمن العام والوزراء والنواب وكبار القوم وساروا في مظاهرة الى القصر الذي كان قد سبقهم أليه الملك وكان محاطا برجال حاشيته وعلى رأسهم السيد البوصيري الشلحي وأخترقت الجماهير سياج القصر واحاطت بالقصر وتعالت الهتافات مطالبة الملك أن يطل عليهم وأن يتراجع عن الاستقالة وكان بعض رجال الحرس الملكي مع المتظاهرين يتسلقون جدران القصر ليصلوا ألى الشرفة لتعليق العلم الملكي عليها بعد ما أنزل بأمر منه وبقى كبار رجال الدولة مع الجماهير ولم يسمح لهم بالدخول ألى القصر وكان رئيس الوزراء قبل تحركه الى القصر قد أملى علي أستقالته وأخذها معه لتقديمها حال ما تحين فرصة الأجتماع بالملك أذا أصر على أستقالته ولكن رئيس الوزراء والوزراء والنواب وبقية المسئولين كانوا واثقين أنها مجرد أحتجاج وأنها ستنتهي بسحب الملك لأستقالته وفرض شروطه المعروفة وبعد ساعات من الوقوف والهتاف في حر الظهيرةالذي كات صعبا على كبار المسئولين من كبار السن والمرضى , سمح الملك لرئيس الوزراء ورؤساء مجلسي الشيوخ والنواب والمحكمة العليا والوزراء وبعض كبار المسئولين بالدخول ألى القصر وتحدث معهم عن ظروفه الصحية التي دفعته الى الأستقالة وبعد سماع وجهة نظرهم وحاجة البلاد اليه في هذه الظروف وافق على سحب أستقالته وأمر حرسه برفع علمه على القصرفي الشرفة المطلة على الجماهير فتعالت هتافات الجماهير بالتأييد والدعاء له بطول العمربعد أن عرفت أن الملك تراجع عن أستقالته وخرج ألى شرفة القصر محاطا بكبار رجال الدولة وأعلن أنه أستقال لأسباب صحية وليس لأي سبب آخر وأن الحكومة تقوم بمهمتها على ما يرام ونزولا عند رغباتهم قرر الرجوع عن الأستقالة رغم ما يعانيه من مرض وضعف ووعدهم بأنه لن يموت الا بينهم وفي هذه الأثناء سلمه رئيس الوزراء ورقة أستقالته فأخذها منه وقطعها أربا أربا صغيرة لا تقرأ وبعدها فتحت أبواب القصر ودخلت الجماهبر بما فيهم الاطفال للسلام على الملك وتقبيل أياديه والدعاء له بطول العمروقد وقف الملك يصافح الجميع دون كلل ولم ادخل مع الداخلين لانني اعرف القصرجيدا وقد نمت فيه عدة ليال أثناء زيارات رئيس الحكومة الى طبرق ولهذا تجنبت الزحام .
رجعنا مع رئيس الوزراء الى البيضاء في نفس اليوم ولم يكن الشعب بأستتناء من كان في طبرق يعرف شيئا عما حدث . وفي اليوم التالي جاء رئيس الوزراء الى المكتب ومعه ورقة مكتوبة بخط يده وبدون عنوان يظهر أنها ملخص بما جرى بينه وبين الملك بعد رجوعه عن الأستقالة وطلب مني كتابة نسخة نظيفة من مسودته فكتبتها بخط جميل وسلمتها لرئيس الوزراء الذي وضعها في خزنته في المكتب لأهميتها وكانت تتلخص على ما أذكر فيما يلي :ـ
تستمر المحادتات مع الأنجلير لتعديل المعاهدة الليبية البريطانية بحيت يتم الأبقاء على التحالف الليبي البريطاني ويتم جلاء القوات البريطانية من طرابلس وبنغازيفي الوقت المناسب والأبقاء على القاعدة البريطانية في مطار العدم والسماح للجيش البريطاني بأجراء تدريبات الربيع والخريف في صحراء برقة أما الأتفاقية الأمريكية فهي متروكة للحكومة والبرلمان مع التمهل في المفاوضات مع بريطانيا وأمريكا وبعدم الأنسياق مع نواب المعارضة بالأسراع في جلاء القوات الأجنبية وعدم الاهتمام بضغوط الدول الأجنبية مثل مصر وغيرها . كما طلب الملك تقسيم قوات الأمن التي وحدت بعد أعلان الوحدة الى ثلات مديريات عامة مستقلة تتبع وزير الداخلية وبتسليح قوات الأمن وخاصة القوة المتحركة وقوات امن برقة بالأسلحة الحديثة والدبابات تم حل مجلس النواب وعدم السماح لنواب المعارضة بالعودة الى المجلس بأي حال من الأحوال .
وبعد ذلك عقد مجلس الوزراء جلسة قرر فيها أذاعة بيان على الشعب قرأ على الملك بالتلفون للموافقة عليه وكان الهدف من البيان هوأطلاع الشعب على ما جرى في طبرق ذلك اليوم ورغم تسرب الأخبارألا أن معظم الناس لم تسمع شيئا وخاصة في طرابلس ومدن ليبيا . وهكذا عرف الناس بأستقالة الملك وفهموا ما ورائها والهدف منها الذي يتلخص في القضاء على ماتم أنجازه من قرارات الجلاء والغاء المعاهدة البريطانية والاتفاقية الأمريكية . كان الشعب يعرف تفكير زعمائه وما يدور في الكواليس ولم يكن راضيا عما يحدث .وهكذا وقع السيد محمود المنتصر في المحظور فما كان يهدف أليه من تحقيق الجلاء الكامل قد تبخروأن أستمراره في الحكم الآن أصبح ملزما لأن أستقالته في هذه الظروف تعني أنه يسعى لناء شعبية على حساب الملك الأمر الذي لم يفكر فيه السيد محمود المنتصرطول حياته فأن أخلاصه للملك كان فوق كل أعتبارولهذا لم يجد مفرا من تنفيذ أوامر الملك .
أجرى السيد محمود المنتصر بعد ذلك تعديلا وزاريا أدخل فيه عددا من الشباب مما ساعد على الأهتمام بالمرافق العامة وخطط التنمية كما عين عددا من الشباب كوكلاء وزارات من بينهم الدكتورعلي عتيقة الذي عين وكيلا لوزارة التخطيط.
استؤنفت المفاوضات الليبية البريطانية والأمريكية في مدينة البيضاء لتحديد مواعيد الجلاء وكأن شيئا لم يحدث رغم ان بريطانيا وأمريكا كانتا على علم بما جرى بين الملك ورئيس الوزراء عن طريق سفيريهما الذين كانا يجتمعان بالملك بأستمرار
وكان الملك يصارحهما برأيه في سياسة الحكومة . بعدها أصدرت الحكومة بيانا بنتائج المفاوضات الأولية وفاء لوعدها بأعلام مجلس الأمة بها في مدة لا تزيد عن ثلاتة أشهر وأكتفت الحكومة بهذا الأعلان دون دعوة مجلس الأمة للأنعقاد خوفا من تجدد المناقشات بين الحكومة والنواب بشكل يخالف تعليمات الملك السرية الى رئيس الوزراء . وفي اليوم التالي لصدور بيان الحكومة صدر مرسوم بحل مجلس النواب وأجراء أنتخابات في موعد لا يتجاوز ثلاتة أشهر. ورغم أن المفاوضأت لم تغلق مع بريطانيا وأمريكا ألا أنها أخذت نهجا بطيئا وغير حاسم للأسباب التي أستعرضتها
واستمرت المفاوضا ت رغم أزدياد المعارضة لها بالشكل الذي رسمه لها الملك بعد أستقالته وقبلت بريطانيا وأمريكا مبدأ الجلاء ووافقت بريطانيا بعد ذلك على تحديد موعد الجلاء من طرابلس وبنغازي وقبلت أمريكا مبدأ جلاء قواتها لكنها ماطلت في تحديد موعد لها قبل انتهاء مدة الأتفاقية وقدمت أقتراحات مؤقتة بأعطاء قسم من مطار الملاحة الى القوات الجوية الليبية ورفع العلم الليبي الى جانب علم الولايات المتحدة الامريكية فوق مطار الملاحة وأوفت بريطانيا بوعدها بعد ذلك وأجلت قواتها عن مدينتي طرابلس وبنغازي وأبقتها في مطار العدم كما سمح للقوات البريطانية بأجراء تدريباتها في برقة وهي نفس تعليمات الملك لرئيس الوزراء وأستمرت الحكومات المتتالية في الأعلان في تصريحاتها وخطب العرش عن أستمرار مفاوضات الجلاء وأنهاء وجود القوات الأجنبية في ليبيا وهذا لم يقنع الراي العام الليبي وأستمر في موقفه السلبي مع الحكومات المتعاقبة .

مؤتمر القمة العربي الثاني في الأسكندرية
بعد اخذ العبرة من مؤتمر القمة العربي الأول قرر الملك حضور المؤتمر الثاني للقمة العربية وبوفد كبير يشمل رئيس الوزراء . وقد سافر الملك برا مرورا بمنطقة الحمامات شرقي الأسكندرية حيت كان يقيم في المهجر . وسافرت مع رئيس الوزراء بالطائرة ونزلنا بفندق فلسطين في الأسكندرية الذي أعد لأقامة الملوك والأمراء ورؤساء الدول وكان الملك قد أعد له قصر الطاهرة للأقامة فيه أثناء المؤتمر
وحال وصولنا أستلمت مكالمة تلفونية من السيد عبد المجيد فريد من قصر الجمهورية ليبلغ السيد محمود المنتصر بأن الرئيس عبد التاصر سيستقبله الساعة الثالتة بعد الظهرفي قصر التين وكان عبد الناصر مشغولا باستفبال الرؤساء والملوك الذين كانوا يصلون تباعا وكانت تلك لفتة كريمة منه فالسيد محمود المنتصر لم يكن رئيس الوفد والملك قد وصل فعلا منذ أيام وأستقبل رسميا.
وكان السيد محمود المنتصر يثوق الى مقابلة الرئيس عبد الناصر فقد قاسى من خطبة عبد الناصر حال تأليفه للحكومة الثانية وانتقاده للقواعد العسكرية في ليبيا وما خلقته من جو قاتم ورد فعل الشعب الليبي والمظاهرات التي تبعته . كما أن موقف الثورة المصرية في عهد حكومته الأولى لم يكن على أحسن حال . وقد أستغرب بدوره من تحديد موعد له بهذه السرعة مع عبد الناصرفي وقت ينشغل فيه بالرؤساء.
وبعد رجوعه من المقابلة اخبرني بما تم فيها واملى علي ملخصا لها للأحتفاظ بمحضرها معه .وقال :- أستقبلني الرئيس عبد الناصرمنفردا بترحيب خاص مستفسرا عن صحتي وقال لقد حرصت على مقابلتك حال وصولك لاني أريد توضيح بعض الأمور . لقد سمعت ان البعض أساء تفسير الخطبة التي القيتها بعد تأليفك لحكومتك الثانية ومهاجمتي للقواعد العسكرية البريطانية بانها موجهة ضدك شخصيا وهذا ليس صحيحا على الأطلاق فأنا لم أتمكن بالأجتماع بك في الماضي ولا أحمل أي شئ ضدك بل أقدر جهودك وعملك قي بناء الدولة الليبية وكنت في تلك الخطبة بالذات أرد على تصريحات ضدي في مجلس العموم البريطاني بأني أعمل ضد بريطانيا وأثير القلاقل في الدول العربية وكانت القواعد العسكرية البريطانية في ليبيا وقبرص أحدى النقاط التي أترتها لأنتقاد السياسة البريطانية في المنطقة ولم يخطر ببالي بأني أتعرض لمسألة تتير لك المشاكل في ظرف صعب كما سمعت بعد ذلك فأنا أعرف الظروف التي وقعت فيها المعاهدة البريطانية الليبية ووضع ليبيا المالي الضعيف أنذاك وقد سررت بأنك بدأت أخيرا المفاوضات مع الأنجليز لألغاء القواعد العسكرية و بريطانيا لا تستحق عطفنا فهي مصدر المشاكل في المنطقة العربية ولهذا فجلاؤها عن ليبيا خطوة لتحرير المنطقة من تدخلاتها المستمرة في شئونها وأستغلالها لمواردها ونشر الفتنة بين دولها أما بخصوص القواعد الأمريكية فأن تصفيتها يجب أن تتم ولكني لا أريد منكم أن تضغطوا على الحكومة الأمريكية للجلاء حالا بل أعطوها الوقت اللازم الذي تطلبه لأيجاد مكان أخر لقاعدتها فهي دولة عظمى وكلنا في حاجة الى مساعداتها في صراعنا مع أسرائيل وحل المشكلة الفلسطنية الأسرائيلية ولا نريد أجبارها على نقل قاعدتها الكبيرة في طرابلس الى أسرائيل مثلا. وهي تستطيع خلق مصاعب لنا كلما زاد ضغطنا عليها . . تم تناول بعد ذلك المشاكل العربية وجدول أعمال مؤتمر القمة وكان خلال المقابلة بشوشا ومرحبا كما رحب بحضور الملك للمؤتمر الذي خصص له قصر الطاهرة لأقامته لأنه أكثر راحة من الفندق المزدحم مع جميع الرؤساء االعرب .
حضر الملك افتتاح المؤتمروكان عبد الناصر يرحب بالملوك والرؤساء يشوشا وأعطى الملك أدريس أهتماما خاصا وكذلك بالوفد الليبي ولم أشاهد في حياتي بشاشة الملك أدريس وابتسامته العربضة الا لما ألتقى بالملك حسين وأخيه حسن بن طلال في القاعة قبل بدء المؤتمروقد سارع الأثنان ألى تقبيل أياديه أحتراما لكبير أهل البيت وقد كان المؤتمر ناجحا ولعب عبد الناصرفيه دورا الراعى والمضيف .

زيارة السيد محمود المنتصر للسعودية
قام السيد محمود المنتصر بزيارة السعودية لتهنئة الملك فيصل بأعتلائه العرش على رأس وفد كبير ضم رئيسا مجلس الشيوخ والنواب ورئيس أركان الجيش وبعض الوزراء وتأخر مفتي ليبيا الشيخ عبد الرحمن القلهود عن الوصول ألى مطار طرابلس فسافر الوفد بدونه وكنت أنا وياوره الخاص عبد السلام الكتاف ضمن الوفد وقد أستقبل الوفد أستقبالا عظيمما وأذكر أن الملك فيصل أستقبل الوفد في مكتبه بمفرده بينما حضر كل أعضاء الوفد الليبي الأجتماع وقد بدأ الملك فيصل بشكر الملك أدريس على أرساله للوفد للتهنئة تم تعرض بأسهاب عن العلاقات العربية وتساءل عن دوافع الرئيس عبد الناصر في التهجم على المملكة السعودية وكانت العلاقات في تلك الفترة متأزمة ألى درجة أستضافة عبد التاصر للملك السابق سعود في مصر بعد عزله وكانت الحملات الأعلامية في صوت العرب ضد السعودية على أشدها .
وقد قضى الملك أكثر من ساعة مركزا كلامه على مصر ودورها العربي وتدخلها في شئونهم الداخلية وتسأل ماذا يريدون منا وأضاف أن الموقف العربي يستدعي التضامن والتكتل لا أ ثارة شعوب المنطقة ضد حكوماتها وألقى السيد محمود المنتصر كلمة معدة مسبقا مختصرة أكد فيها أن ليبيا تدعو الى عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية وقد قاست بدورها فعلا من تدخل بعض الدول المجاورة ولم يتعرض لمصر أو عبد الناصر بالأسم . وأثناء المقابلة دخل فجأة شخص طويل القامة في ملابس الأمراء دون أستئدان فقام الملك له مرحبا وقمنا جميعا معه وقدمه الملك بأنه الأمير محمد بن عبد العزيز (على ما أذكر) وجلس الجميع وأستمر الملك في الكلام وفجأة نهض الأمير وودعه الملك والحاضرون وخرج كما دخل دون أستئدان . وفي المساء أقام الملك مأدبة عشاء على شرف الوفد حضرها عدد كبير من الأمراء السعوديين وقي صباح اليوم التالي سافر الوفد الى مكة لأداء العمرة ومنها سافر عائدا ألى طرابلس.

زيارة السيد محمود المنتصر ألى دول المغرب
في أول ديسمبر 1964 قام السيد محمود المنتصر بزيارة رسمية ألى تونس والمغرب والجزائر على رأس وفد كبير ضم عددا كبيرا من الوزراء في أول زيارة رسمية لوفد ليبي على هذا المستوى ففي تونس كان في استقبال الوفد في المطار رئيس الوزراء السيد الباهي الأدغم والوزراء التونسيين وكبار المسئولين فيها واستقبل الوفد الرئيس أبو رقيبة في منزله في قرطاج وكان بشوشا كعادته صريحا منتقدا للسياسة العربية والرؤساء العرب فردا فرد ورحب بالوفد الليبي واشاد بالعلاقات المتينة بين البلدين ولبورقيبة تاريخ طويل في ليبيا فقد قضي فيها فترة أثناء كفاحه من أجل أستقلال تونس ويعرف كثيرا من البيوت الليبية وقد سبق لي أن قابلته على مائدة سالم المنتصر عندما كنت طالبا في طرابلس في الأربعينات . هذا وبعد المقابلة أدخل الوفد ألى مكتبه الخاص وأطلعهم علىصوروالده الذي هاجر من مدينة مصراتة من ليبيا وقال أنه تونسي ليبي الأصل وكذلك السيد الباهي الأدغم رئيس الوزراء فهو من عائلة باشاغة بمدينة مصراتة الليبية التي منها أيضا السيد محمود المنتصر رئيس وزراء ليبيا وتلفت الى الوزراء التونسيين حولة وقال أرجو أن لا تأخدكم الغيرة فنحن والليبيون أسرة واحدة ولتونس فضلها علي شخصيا وحبها لا يدانيه حب . ثم أشار ألى علاقته مع الملك أدريس منذ كانا معا في المهجر في مصر والى الفترة التي قضاها في ليبيا . رغم أن الملك في الفترة الأخيرة لم يكن يشعر نحوه بود قوي بعد أستقلال تونس وقد يكون ذلك لأنقلاب أبورقيبة على النظام الملكي وطرده للباي من على عرش تونس .كما تعرض أتناء مقابلته للوفد الليبي بالنقد للرئيس عبد الناصر وموقفه من بعض البلاد العربية ومنها ليبيا وقد أعطى الوشاح الأكبر لرئيس الوزراء الليبي وهدايا من المصنوعات التونسية ألى رئيس واعضاء الوفد وأقام مأدبة غذاء فخمة على شرف الوفد حضرها رئيس وزراء تونس ووزير خارجيتها ورئيس البرلمان التونسي . انتهت الزيارة بعقد أتفاقبات ثقافية وتجارية كالعادة وأصدار بيان مشترك.
ومن تونس سافر الوفد اليبي الى المغرب وكان في أستقباله رئيس الوزراء المغرب والوزراءوأقام ولي العهد الأميرعبدالله مآ دبة عشاء صغيرةعلى شرف رئيس الوراء كما أقام رئيس الوزراء التونسي مأدبة غذاء على شرف الوفد الليبي وفي الليل ذهبنا الى إحدى القصور الملكية لمقابلة الملك وقد قضينا فترة من الوقت في الأنتظار قيل التشرف بالمقابلة وبعد أن صافح الملك رئيس الوزراء قام هذا الأخيربتقديم أعضاء الوفد المرافقين له وبعد أن جلس بضع دقائق مع رئيس الوزراء بمفردهما غادر بعدها القصر وكانت المقابلة قصيرة عابرة ولم تكن العلاقات بين الملك أدريس ووالده محمد الخامس على أحسن ما يرام يسبب مرور الملك قبل أستقلال ليبيا في رحلته الى بريطاتنيا بالمغرب ومقابلته لبن عرفه االذي عينته فرنسا على العرش أثناء سجن محمد الخامس ونفيه خارج المغرب .وقد كان وزير الخارجية المغربي السيد أحمد بن هيمة متحمسا لزيارة الوفد الليبي وحاول أنجاح الزيارة بكل السبل وشدد في كلامه على التأكيد على الحاجة الى تقوية العلاقات بين ليبيا والمغرب خاصة أن كلا منهما دولة ملكية ولهما ظروفا سياسية مشتركة وأنتهت الزيارة ببيان مشترك يشيد بالعلاقات بين البلدين وتأكيد رغبتهما في عقد أتفاقيات تتناول المجالات التجارية والأقتصادية والثقافية وتبادل الزيارت وتنسيق مواقفهما السياسية وحاجة ليبيا ألى الأستعانة بالعمال المغاربة في مشاريعها التنموية . وقد صادف موعد سفر الوفد الليبي سفر الملك الى خارج الوطن أيضا.لهذا أخر موعد سفر الوفد الليبي حتى يسافرالملك نتيجة لغلق المطار أمام الطيران لمدة ساعات وحضر رئيس الوزراء الليبي والوفد المرافق له حفل توديع الملك في المطار وتلطف الملك وأخذ معه رئيس الوزراء الليبي وأخيه الأمير عبد الله للتفتيش على حرس الشرف المعد للملك وبعد سفر الملك جرت مراسيم توديع الوفد اللييبي وشارك في التوديع رئيس الوزراء المغربي والوزراء وقد تأخر سفر الوفد الليبي الى الجزائر حتى بعد الغروب وعلمنا بعد ذلك أن المسئولين الجزائريين قضوا ساعات طويلة في المطار في أنتظار الوفد الليبي وقالوا لنا أن تأخيرنا كان مقصودا من طرف المسئولين فيي الحكومة المغربية عندما علموا أن الجزائر أعدت أستقبالا شعبيا ورسميا كبيرين وذلك حتى يصل الوفد الليبي الجزائر ليلا.ورغم أن العلاقات الليبية المغربية كانت بعد الأستقلال ليست على ما يرام للاسباب التي ذكرتها الا أن العلاقات تحسنت بعد ذلك وقد أستقبل الملك الحسن أثناء زيارته لليبيا أستقبالا رسميا وشعبيا لم يكن يتوقعه وفي خضم جماهير طرابلس ترك سيارته وترجل في شارع عمر المختار بطرابلس وسار مع عشرات الألوف من الليبيين المتحمسين له مما أوقع الأمير حسن الرضا ولي عهد ليبيا الذي كان يرافقه وكذلك رجال الأمن الليبيين في حيرة .
ورغم ما جرى في الرباط من تأخير للسفرفقد كان الأستقبال الجزائري منقطع النظير وكان على رأس المستقبلين الرئيس أحمد بن بلة ونائبيه أبو مدين ومحمد السعيد وكانت الجماهير على طول الطريق من المطار ألى قصر الشعب تستقبل الوفد الليبي بالزهور والزغاريت .كانت الزيارة أول زيارة يقوم بها وفد ليبي على هذا المستوى بعد أستقلال الجزائر . كان موقف الشعب الليبي والحكومة الليبية والملك عظيما مع الشعب الجزائري في ثورته ضد الاستعمار الفرنسي وكانت الأسلحة تمر بيسر برا وجوا عن طريق ليبيا من مصر ألى المجاهدين الجزائريين كما كانت مساعدات الشعب الليبي رغم ضيق أمكانياته غير محدودة . لهذا كان من المتوقع أن تكون العلاقات بين البلدين على أعلى مستوى من القوة والترابط ألا أن عوامل غير معروفة دفعت محمد بن عثمان عندما كان رئيسا للحكومة الى عدم التعاطف مع الحكومة الجزائرية الجديدة ويظهر أنه حاول أقناع الملك بأن بن بلة يتعاون مع عبد الناصر لأثارة القلاقل في ليبيا وتشجيع المعارضة الليبية من أجل السيطرة علي ليبيا وتقاسمها وقد سانده في هذا الرأي الأنجليز والأمريكان الذين كانوا غير راضين عن بن بله وعبد الناصر فالحكم الأشتراكي الذي قام في الجزائر شبيه بنظام عبد الناصر الذي يناصبهم العداء .
حاول الرئيس بن بلة ونائباه ابو مدين ومحمد السعيد أستغلال زيارة الوفد الليبي على هذا المستوى لتحسين العلاقات وقد رافق نائبا الرئيس السيدان أبو مدين ومحمد السعيد الوفد الليبي طوال أقامته في الجزائر وزيارة كل المرافق والمناطق الجزائرية وأقيمت العديد من الحفلات والمآدب على شرفه وكان السيدان عبد العزيز شوشان وعبد الرحمن الشريف لعلاقاتهما الوثيقة بليبيا في الماضي يسهران على راحة الوفد وأذكر أنهما كانا على أتصال بي دائما لمعرفة فيما أذا كان لرئيس الوزراء أية طلبات أوخدمات أوأذا كان في حاجة ألى أطباء لأنهما يعرفان أن حالته الصحية غير مرضية . وهما من أصدقاء اخي الأصغر الهادي الذي كان من الهيئة الشعبية الليبية لمساعدة المجاهدين الجزائريين خلال حرب الأستقلال وقد دعي مع وفد شعبي ليبي كبير لزيارة الجزائر بعد الأستقلال .وعند بدء المباحثات بين الوفدين الليبي والجزائرتقدم الجزائريون بمشاريع أتفاقيات عديدة لدمج البلدين في تعاون وتقارب وتكامل في جميع المجالات السياسية والعسكرية والأمنية بالأضافة الى المجالات الاقتصادية والتجارية والثقافية مما كان مفاجأة لأعضاء الوفد الليبي الغير مستعدين لهذا الكم الهائل من مشاريع الأتفاقيات ومستوى التعاون المقترح وكانوا مترددين في قبول كل هذه المقترحات وكان رأي الوفد الليبي أن وقت الزيارة قصير جدا ولا يستوعب كل ما تقدم به الوفد الجزائري من أقتراحات ولهذا أقترح الوفد الليبي أن تحال جميع المقترحات الى الحكومتين الليبية والجزائرية لأحالتها ألى الهيئات التشريعية في البلدين لدراستها قبل تناولها في مباحتات قادمة لأتفاقيات ثنائية وقد أدى هذا الأختلاف في وجهات النظر ألى تدخل الرئيس بن بلة الذي ألقى كلمة في الوفدين المتفاوضين قائلا أن الجزائر على أستعداد للتوقيع على بياض وعلى الليبيين وضع ما يريدون من الأتفاقيات وبلا حدود لأنني أعتبر البلدين بلدي فانا ليبي كما أني جزائري وحاضر البلدين واحد ومستقبلهما واحد بأتفافيات أودون إتفاقيات وطلب من الوفد الجزائري قبول مقترحات الوفد الليبي برمتها دون أضافة من الجانب الجزائري وهكذا أنتهت المفاوضات بالشكل الدبلوماسي التقليدي وصدر بيان رسمي يرسم الخطوط العريضة للتعاون بين البلدين كما وقعت معاهدة صداقة بين البلدين وفي نهاية الزيارة قدمت لاعضاء الوفد الليبي هدايا رمزية من المصنوعات الجزائرية الوطنية اليدوية والبدوية . وغادر الوفد الليبي الجزائر بعظيم الحفاوة وكان الرئيس بن بلا ونائباه على رأس المودعين ولا أذكر أن الرئيس بن بلا دعي لزيارة ليبيا كما دعي الملك الحسن .

أنتخابات 1964
بعد الأعلان عن أجراء الأنتخابات ’وأستعداد المعارضة لها سافر السيد محمود المنتصر للعلاج في لندن مما تعذر عليه حضور الأنتخابات البرلمانية وعين السيد أبراهيم بن شعبان وزير المواصلات رئيسا للوزارة بالوكالة وكان السيد محمود البشتي وزيرا للداخلية وكان رئيس الوزراء يتابع الأنتخابات من لندن ألى حد ما وكنت معه في لندن لمساعدته في أتصالاته ومراسلاته المشفرة مع الملك والتي تصل بشكل دوري ويومي وكان يتصل تلفونيا لمعرفة ما يجري و يستلم عشرات من برقيات الأحتجاج يوميا يشكوا فيها مرسولوها من تدخلات في الانتخابات ويطلبون عودته للأشراف بنفسه على الأنتخابات . أستدعى رئيس الوزراء وزير الدولة لشئون الرئاسة الذي يحظى بثقته السيد عمر الباروني لمعرفة سير الأنتخابات عن كتب ورغم أن الباروني كان وزيرا ومسئولا الا أنه أكد لرئيس الوزراء بان تصرفات رئيس الوزراء بالوكالة ووزير الداخلية غير سليمة وأنهما تدخلا في الأنتخابات الى حد كبير وعندئد أستأدن رئيس الوزراء أطبائه في السفر الى ليبيا ولكن الأطباء أعطوه أنذارا بعدم السفر ولهذا حرر رسالة أملاها علي شخصيا شديدة اللهحة ألى درجة الأتهام ألى السيد أبراهيم بن شعبان رئيس الوزراء بالوكالة وكان من أقرب أصدقائه وثقته وألى وزير الداخلية السيد محمود البشتي طالبا متهما عدم التدخل في الانتخابات وترك المنافسة حرة بين المرشحين وعدم مساندة أحد على الأخر وكان رئيس الوزراء يعرف جيدا قبل سفره أن الملك كان قد أمر بعد سحب أستقالته عدم السماح لنواب المعارضة الذين أتاروا موضوع ألغاء المعاهدات وجلاء القوات الأجنبية دخول البرلمان الجديد بأي حال من الأحوال ولكنه كان يخاف أن يكون رئيس الوزراء بالوكالة ووزبر الداخلية قد أستعملا هذأ التفويض من الملك للتدخل في مزيد من الحالات لمساندة مرشحين أخرين من أنصارهما وأصدقائهما وهذا ما حصل فعلا وعاد السيد عمر الباروني بتعليمات رئيس الوزراء الى طرابلس وأستلم رئيس الوزراء ردا مستعجلا موقعا من رئيس الوزراء بالوكالة ووزبر الداخلية ووزير شئون الرئاسة يؤكدون فيه نفيهم لاية تدخلات ويؤكدون حرصهم على التقيد بتعليماته متمنين له الشفاء العاجل وراحة البال. ورغم هذا توالى سيل برقيات الاحتجاج على تدخلات الحكومة من المرشحين ثم توالت أخبار عن أعتقالات كثيرة وتجاوزات وقد أضطر رئيس الحكومة الى الأتصال بالملك تلفونيا ذاكرا له عما يسمعه من تدخلات راجيا منه أن يصدر تعليماته الى رئيس الوزراء بالوكالة لوقف مثل هذه التدخلات كما طلب منه أن يقبل أستقالته نظرا لعدم سماح الأطباء له بالسفر للعودة الى الوطن نظرا لظروفه الصحية السيئة وكان رد الملك عليه صدمة لرئيس الوزراء فقد قال له بالحرف الواحد وأكده بعد ذلك في برقية مشفرة بأن لا يستمع ألى ما يصله من أشاعات كاذبة أو شكاوى فردية غير صحيحة وأن الأنتخابات تجري بصورة جيدة ومرضية له وأن عليه الأهتمام بصحته وعدم التفكير في أمور أخرى وهو أي الملك يتابع مجرى الأنتخابات عن كتب طوال فترة غيابه وطلب منه عدم التفكيرفي الأستقالة فهذا موضوع يجب أن يبحث بعد عودته. وأذكر أن السيد محمود المتنتصر قال لي بعد ذلك بصفة خاصة أنه يظهر أن الملك يؤيد ما يجري وراض عن ما يتخذ من أجراءات من طرف الحكومة وقد يكون الملك نفسه قد أصدر أوامر ضد بعض المرشحين لا يعرف رئيس الوزراء عنهم شيئا . وكانت علاقتي مع رئيس الوزراء تسمح لي في معظم الأحيان تحليل أوامر الملك وأبداء رأيي فيها صراحة وأنتفاذ أجراءات الحكومة وكان يرى في رأيي أنعكاسا لأراء الشباب المثقف في البلد ويأخذ به أحيانا وقد سألته في الأيام الأولى لحكومته سؤالا مباشرا عما أذا كان يعني حقا بما يصرح به من رغبته في أنهاء المعاهدات الأجنبية وجلاء القوات الأجنبية أو أن ما يقوله هو سياسة لأرضاء الشعب وللاستهلاك الداخلي فقال لي : ـ (أسمع يا أبني أنا لا أكذب عليك ولا على الشعب الليبي فعندما قبلت تأليف الحكومة للمرة الثانية وأنا في حالة من المرض لا تسمح لي بهذه المسئولية كنت أمل واريد ألغاء المعاهدة البريطانية التي وقعتها عن أيمان بحاحة ليبيا أليها لأن ليبيا كانت أفقر دولة في القارة الأفريقية وغير قادرة على تغطية مصاريفها الأدارية العادية ودفع مرتبات الموظفين والشرطة ولهذا حاجتنا المالية أجبرتنا على تأجير القواعد العسكرية لبريطانيا ثم لأمريكا والأن أشعر بأننا لسنا في حاجة لمد يدنا الى بضعة ملايين وعندنا عشرات الملايين تنهال علينا من البترول ولهذا أدعو الله أن يساعدني الملك في التخلص من المعاهدة البريطانية والأتفاقية الأمريكية وجلاء القوات الأجنبية من جميع أنحاء ليبيا وذلك راحة لضميري أمام الشعب الليبي وحماية لأبنائي لأن يعيشواحياتهم دون الشعور بين مواطنيهم بعقدة ان والدهم مهد للأنجليز أحتلال البلد أو خائن لوطنه وأضاف رحمه الله أقول هذا رغم أني في قرارة نفسي أعتقد أن بقاء القواعد العسكرية الأنجليزية والأمريكية في ليبيا فبه حماية لنا من جيراننا ومن من يتربص بنا حتى نتمكن من أنشاء جيش قوي رادع لمن يعتدي علينا وأن الأسراع في جلاء القوات الأجنبية قد يشجع الرئيس عبد الناصر لدخول ليبيا بالموسيقى وبالتصفيق والهتاف ولكنني لا أريد فرض رأيي على الشعب الذي يصبو ألى الجلاء ومن واجب الحكومة الديمقراطية تلبية رغبات الشعب مهما كانت مخاطرها . ولهذا فأنا مصمم على أتخاذ هذا القرار مهما كلفني من تضحيات وأدعوالله أن يمكنني الملك من ذلك ).هذا كان رأي محمود المنتصروموقفه من من موضوع الاتفاقيات العسكرية والمعاهدات وجلاء القوات الأجنبية قيل خطاب الرئيس عبد الناصر لكن الملك لم يسانده ألى النهاية ولكن ثقة في أخلاصه ورغبة في أرضائه وافق على جلاء القوات البريطانية من مدينتي بنغازي وطرابلس ولكنه أصرعلى بقاء الحلف مع بريطانيا وبقاء القوات البريطانية في مطار العدم بطبرق والتدريب في صحراء برقة وترك الحكومة حرة في التعامل مع الأمريكان فهو يعرف أن الأمريكان لن يحموه من خطر أي أنقلاب أو أحتلال . . ذكرت هذا لأن الموضوع مرتبط بمجرى الأنتخابات البرلمانية وقد سالته عما يجري فيها صراحة فانا أعرف أنه قبل شروط الملك بعد رجوعه عن الأستقالة بعدم السماح للنواب المعارضين للمعاهدة البريطانية بالعودة للبرلمان بعد حله وسؤالي كان هل أصدر أوامره لرئيس الوزرا ء بالوكالة لتنفيذ ذلك قبل سفره لأن هذا ما كان يردده السيد أبراهيم بن شعبان رئيس الوزراء يالوكالة الذي كنت أحترمه لأنه صريح دائما في أرائه وهو يكن للسيد محمود المنتصر الأحترام والتقدير. وكان جواب السيد محمود المنتصر ان الحالات التي أوصى عليها الملك معروفة وتتناول بعض نواب طرابلس وبنغازي المعروفين ومنعهم من دخول الأنتخابات وكان ذلك يجب أن يتم بطريقة سلمية بالأقناع والترغيب لا وضعهم في السجن كما أن السيد ين أبراهيم بن شعبان ومحمود البشتي أستغلا هذه التعليمات المعروفة لجميع أعضاء الحكومة لمساعدة أصدقائهم وأنصارهم وتوسعا في قائمة الممنوعين من الترشيح أو النجاح . كما علمت من السيدى أبراهيم بن شعبان وهو شخص أحترمه وأثق فيه وهو صديقي رغم فارق العمر أن الحكومة حاولت ترغيب النواب المطلوب ومنعهم من دخول الأنتخابات بأمر الملك ثم تهديدهم وطلب منهم عدم التقدم للترشيح ولكن رغم ذلك لم تنجح هذه المساعي مما أضطر الحكومة ألى أعتقال 21 شخصا أثناء فترة الترشيح لمنعهم من التقدم بالترشيح وكان من بين هؤلاء 6 من النواب السابقين المطلوب منعهم بأمر الملك والأخريين تم أعتقالهم بأمر وزير الداخلية السيد محمود البشتي وأنه حذر السيد محمود المنتصر منه عند تعيينه في الداخلية ولكنه أصر على تعيينه . عاد رئيس الحكومة الى ليبيا بعد أنتهاء علاجه بعد أنتهاء الأنتخابات وسمع أخبارا كثيرة عن التدخلات أثناء الأنتخابات والأعتقالات والكل كان يلوم رئيس الوزراء فهو المسئول الأول وكان رئيس الوزراء مصمما على حل مجلس النواب المنتخب الذي ضم مجموعة من أصحاب النفوذ ومجموعة قوية على رأسها محمد بن عثمان رئيس الوزراء السابق الذي كان صديقا للسكرتير الخاص للملك ورجال القصر الذين أستفادوا من سياسة الترغيب التي أتبعها محمد بن عثمان في تقوية نفوذه ولهذا لما طلب رئيس الوزراء من الملك حل مجلس النواب رفض الملك طلبه ووافقه على تعديل الوزارة وتنحية السيدين أبراهيم بن شعبان ومحمود البشتي من منصبيهما و قد طلب السيد محمود المنتصر منهما تقديم أستقالتهما ونقل وكيل وزارة الداخلية محمود الزليتني الى الخدمة المدنية وأجرى تنقلات في رجال الأمن ولكن يؤخذ على السيد محمود المنتصر أبقاءه على مدير الأمن للمحافظات الغربية اللواء عبد الحميد بك درنه ( قريب لرئيس الوزراء من ناحية زوجته )رغم الأتهامات ضده للتدخل في الأنتخابات . بعد التعديل الوزراي واجه رئيس السيد محمود المنتصر معارضة قوية في المجلس الجديد لأن النواب الجدد وقفوا ألى جانب الوزيرين المقالين لما قدماه لهم من مساعدات أثناء الأنتخابات وأتهموا رئيس الوزراء بالتهرب من المسئولية ووضعها على غيره وتعريض سمعة المجلس الجديد للتشويه أمام الشعب وتزعم هذه المعارضة النائب يونس بلخير وبعض الأعضاء من مجموعة السيد محمد بن عثمان وأعضاء وزارته السابقين وأتضم أليهم السيدان محمود البشتي والطاهر العقبي وهكذا أخرجت المعارضة الوطنية من مجلس النواب لتحل محلها معارضة مصلحية وقد أدى ذلك ألى سوء الحالة الصحية لرئيس الوزراء حتى أصبح لا يأتي ألى مكتبه ألا نادرا تاركا العمل لنائبه السيد حسي مازق الذي كانت ترشحه الأشاعات لرئاسة الحكومة بعد المنتصر ويشيع ذلك شخصيات برقة على جميع المستويات وسافرالسيد محمود المنتصر بعد تعديل الوزارة للعلاج ونزل في فندق الجراند هوتيل في روما وقد لاحظت وجود المستر بلت مع فريق من الخبراء القانونيين الدوليين المعروفين وقد أجتمع بهم رئيس الوزراء ودرس معهم تعديلات دستورية بأمر الملك وكان الموضوع سريا ولم أكن أعرف فحواه ولكن فهمت هدفه من المراسلات البرقية السرية المشفرة المتبادلة بين الملك ورئيس الحكومة والتي كنت أفتحها وأعدها له . وسأتعرض لهذا الموضوع في الصفحات التالية بالتفصيل .
بعد رجوع رئيس الوزراء الى طرابلس من العلاج وجد مجلس النواب في حالة تحدي لحكومته وله شخصيا وأشاع النواب بأن رئيس الوزراء أستدعى شركة أيطالية لدراسة مشروع الطريق الساحلي وشككوا في الهدف من وراء ذلك واتهموه بالأتفاق معها لخدمة مصالح أيطاليا في ليبيا وقد حول عليه الملك برقية شكوى أرسلت أليه من عدد كبير من النواب تضمن شكوى ضده حول الطريق الساحلي وقد طلب مني رئيس الوزراء تسليمها الى حسين مازق الذي كان يقوم باعمال رئاسة الحكومة خلال غيابه خارج ليبيا من أجل المرض الذي كان يعانيه في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها . وما أن سمع السيد السنوسي الأطيوش وزير المواصلات أنذاك الأشاعات وفحوى برقية النواب حتى أنبرى مدافعا عن الشركة الأيطالية وموضحا بانه لا علاقة لرئيس الوزراء بها وأنا لم أكن أعرف شيئا عن تفاصيل الموضوع ولا حتى أسم الشركة ولم تجر أية اتصالات معها عي طريقي سواء في ليبيا أو أثناء أقامة رئيس الوزراء في روما ورغم أن الأشاعات كانت قوية على مختلف المستويات الرسمية والشعبية . كانت البرقية الموجهة للملك ضد رئيس الوزراء هي القشة التي قسمت ظهر البعير كما يقولون أذ أعتبرها رئيس الوزراء مقدمة لسحب الثقة من حكومته بالأضافة الى تقدم عدد كبير من النواب باسئلة وأستجوابات عديدة عن سياسة الحكومة العامة وسياستها الزراعية والمشاريع التي فتحت للعطاءات وطالب البعض منهم بأنشاء لجنة تحقيق مع الحكومة في هذه المواضيع وكان السيد سالم القاضي رئيس مجلس النواب المخلص لرئيس الوزراء عاجزا عن السيطرة على المجلس وأيجاد تفاهم بين الحكومة والمجلس وكان النائب يونس بلخير يقود حملة المعارضة لأ نه ضد السيد علي تامر بورفلة الذي له علاقات قوية مع رئيس الوزراء سياسيا منذ قيام الأستقلال بينما كانالسيد محمد بن عثمان الصيد يتظاهر بالوقوف كوسيط بين رئيس الحكومة والنواب ولكنه في الحقيقة كان المحرك الرئيسي للمعارضة ليضغط على رئيس الوزراء لأدخال بعض أنصاره من النواب في الحكومة وحتى النواب المعتدلين كانوا يؤيدون المعارضة من وراء ستار لعدم حصولهم على مناصب وزارية أو مزايا مالية ولهذا قدموا أقتراحات بتعديل لائحة العطاءات المركزية بحيث يسمح لأعضاء مجلس الأمة الأشتراك في العطاءات والمناقصات العامة الأ مرالذي تحرمة اللائحة المعمول بها ولكن حكومة محمود المنتصر رفضت هذا وأشتكى السيد عمر الباروني وزير المالية أنذاك من النواب الذين يتربصون به أمام منزله وفي مكتبه يطلبون قروضا وسلفيات وكانوا يتوعدون بتقديم أسئلة وأستجوابات له أذا رفض أجابة طلبهم ولما لم تفد هذه الضغوط على الحكومة لجأ النواب الى موضوع القواعد العسكرية وجلاء القوات الأجنبية الموضوع الذي تتحاشاه الحكومة تجنبا لأثارة الجماهير الشعبية . ولكن النواب أخطأوا في حكمهم هذا لأن تعرضهم لهذا الموضوع الحساس للملك أضعف ثقة الملك فيهم وأصبح في صف رئيس الوزراء ضدهم .
بدأ رئيس الوزراء يفقد الأمل في التعاون مع مجلس النواب وكانت ترد أليه تقارير أمن الدولة عن تحركات النواب وعن أجتماعات تعقد في بيت السيد محمد بن عثمان لتنسيق مواقف المعارضة في المجلس رغم أن السيد بن عثمان نفسه بحاول عبثا الأجتماع برئيس الوزراء بدعوى أزالة الخلاف القائم في المجلس وهو يدعي دائما صداقته لمحمود المنتصر منذ بدء الأستقلال فقد كان دائما وزيرا للصحة في حكومته الأولى وكان يؤيده علنا في مجلس النواب ألا أن مساعيه لم تنجح لأن بعض الوزراء المقربين من رئيس الوزراء يكرهون السيد محمد بن عثمان كصهره السيد عبد المولى لنقي كانوا يحرضون رئيس الوزراء عليه. وكان رئيس أمن الدولة العقيد عبد السلام الكتاف كذلك بدوره يكره السيد بن عثمان ويبعث بتقارير ضده بأستمرارعن تحركاته وأتصالاته العديدة بالسكرتير الخاص للملك السيد ادريس أبوسيف الذي يرتبط بالسيد محمد بن عثمان بصلات قوية منذ كان هذا الأخير رئيسا للوزراء . وكان السيد أدريس أبو سيف ينقل للملك تفاصيل الخلاف بين الحكومة ومجلس النواب وما تصله من أخبار عن تدخلات الحكومة في نشاط النواب وما يتعرضون له من رقابة ومضايقة وتعرض السيد محمد عثمان نفسه للرقابة البوليسية وصلت ألى حد دخول بيته ليلا وتفتيشه من طرف بوليس أمن الدولة وبعترة محتويات بيته وأوراقه بحثا عن دليل يتبت تآمره مع النواب ضد الحكومة . ورغم أني لا أعرف مدى صحة هذا الأتهام الا أني أعرف أن أمن الدولة بتابع نشاط السيد بن عثمان عن كتب .واذكر أنه في الأيام الأخيرة لمجلس النواب طلب السيد محمد بن عثمان موعدا مع رئيس الوزراء كالعادة وقد أستطعت الحصول له على موافقة رئيس الوزراء على الموعد الا أن رئيس الوزراء طلب مني ألغاء المقابلة بعد مقابلته للنائب عبد المولى لنقي الذي كان له تأتير كبير على رئيس الوزراء ويتقبل نصيحته وأقتراحاته بدون مناقشة .اما السيد أبراهيم بن شعبان الذي كان عضوا في مجلس النواب فرغم أقالته من الحكومة بقى مخلصا لمحمود المنتصر وكان يحاول زيارته بأستمرار ويأتى الى المطار لتوديعه والترحيب به وكان دائما يمر على مكتبي ويقضي وقتا يمزح معي على صاحبه السيد محمود المنتصر الذي يطلق عليه مازحا ( القوييم ) وهي كلمة يستعملها اليهود في ليبيا لمن هو غير يهودي لا ثقة فيه . .غير أن رئيس الوزراء غير رأيه في صديقه السيد أبراهيم بن شعبان بعد أن كان من أقرب أصدقائه ولم يعد يتحمل زيارته أو رؤيته على الأطلاق وكان السيد بن شعبان يردد بأستمرار بأنه لم يخن الأمانة وأنه نفذ تعليمات رئيس الوزراء والملك بكل دقة في الانتخابات التي اجراها في غياب رئيس الوزراء أما تصرفات وزير الداخلية السيد محمود البشتي فهو غير مسئول عنها وقد سبق له وأن حذر رئيس الوزراء بعدم تعيينه وزيرا للداخلية كما حذره قبل سفره أن لا يتركه مشرفا على الأنتخابات الا أنه لم يستمع ألى رأيه وسافر ولم يرجع الى ليبيا قبل الأنتخابات كما وعد عندما قبل انتدابه لراسة الخكومة بالوكالة . وكان دائما يقول أن مشكلة السيد محمود المنتصر تكمن في صهره السيد عبد المولى لنقي الذي يستغله لخدمة مصالح برقة وضد خصومه السياسيين .

علاقات السيد محمود المنتصر
حاول السيد محمود المنتصر في أول عهده تعيين الدكتور محي الدين فكيني سفيرا واذكر أنه طلب مني الأتصال به في بيته هاتفيا وأبلاغه دعوة رئيس الوزراء لمقابلته في مكتبه وعندما أتصلت بالدكتور فكيني طلب مني أن أعطيه بضعة دقائق للرد على دعوة رئيس الوزراء ويظهر أنه كان يرغب في استشارة أخيه علي فكيني الذي كان له تاثير كبير عليه وبعد أن أتصلت به ثانية ابلغني بأنه مريض ولا يستطيع الخروج وهو يرحب برئيس الوزراء أذا أراد زيارته في بيته واعتبرالسيد محمود المنتصر رد الدكتور فكيني رفضا للتعاون معه.ورغم ذلك رشحه ليكون ممثلا لليبيا في الأمم المتحدة الا أن الملك رفض هذا الاقتراح بقوة وأعتقد أن هذه المحاولات للتقارب مع الدكتور محي الدين فكيني كانت بناء على نصيحة السيد عبد المولى لنقي لأني أذكر أنه كان معه لما طلب مني الأتصال به للمقابلة.
أخذ على محمود المنتصر تعيين عدد من أصهاره أو أقاربه من زوجته ففي مجلس الشيوخ عين السيدين محمد علي لنقي والحاج رشيد الكيخيا وفي الحكومة عين السادة عبد المولى لنقي ومحمد بك درنة وفؤاد الكعبازي ومنصور كعبار ومصطفى بن زكري وزراء فيها كما عين أبنه الدكتور عمر محمود المنتصر سفيرا لليبيا في بريطانيا والسيد الطاهر القره مانلي سفيرا لليبيا في اليونان والسيد محمود الخوجة سفيرا قي القاهرة والعقيد عبد الحميد بك درنة مديرا للأمن في المحافظات الغربية وكما قلت أن كل هؤلاء من عائلات سياسية معروفة مرشحين لمناصب سياسية سواء من طرف السيد محمود المنتصر أو من أي رئيس وزراء أخر وبعضهم كانوا وزراء في حكومات سابقة وتعيينهم لا علاقة له بالمحسوبية كما يقول خصوم السيد محمود المنتصر.
يقول البعض أن السيد محمود المنتصر متحيز لفرع السيد أحمد الشريف في العائلة السنوسية فهو صهر احمد محي الدين زوج أبنته أبن عم الملكة فاطمة وأفراد فرع أحمد الشريف كانوا جميعا في الاعتقال وتحت التحفظ المنزلي منذ أن غضب الملك على عائلته بعد مقتل ناظر خاصته وصديق العمر السيد أبراهيم الشلحي سنة 1954
أي منذ عشر سنوات وقد سعى السيد محمود المنتصر مع الملك لرفع هذا التحفظ عليهم والسماح للشباب منهم بالعمل وتعويض بعضهم عما خسروه واعادة لقب الملكة الى زوجته فاطمة وهي أبنة السيد أحمد الشريف بعد أن سحبه الملك منها بعد زواجه من السيدة عالية لملوم التي طلقت كما نعلم . كل هذا نسب ألى نفوذ السيد محمود المنتصرعند الملك وقد أثارت هذه الاعمال غضب ولي العهد الأمير حسن الرضا أعتقادا منه أنه يساند أبناء السيد أحمد الشريف لوراثة العرش بعد وفاة الملك وزاد الطين بله عزل الملك للسيد الطاهرباكيرصهرالأمير من منصبه كسفير ليبيا في القاهرة في عهد حكومة السيد محمود المنتصر وتعيينه سفيرا تحت الطلب بوزارة الخارجية وذلك بعد تصريحاته في القاهرة حول القواعد العسكرية الأجنبية في ليبيا التي ذكر فيها بأن الملك وولي عهده ضد الأتفاقيات العسكرية مع بريطانيا وأمريكا وضد بقاء القوات العسكرية الأجنبية في ليبيا وقد نشرت هذه التصريحات كل وسائل الأعلام المصرية على نطاق واسع ونقلته عنها وسائل الاعلام العربية والعالمية مما أثار غضب الملك وأمر بعزله حالا دون مراعاة لكونه والد زوجة ولي العهد وقد كانت هذه التصريحات عقب تصريحات عبد الناصر حول القواعد العسكرية في ليبيا وحاول السيد محمود المنتصر ايجاد أعذار للطاهر باكير عند الملك بأنه أخذ على غرة وهو معروف بكثرة الكلام فتورط في حديث طويل مع مراسل جريدة الأهرام السيد زكريا نيل وجره هذا الى الكلام وقد زادت الصحافة المصرية على ما قاله ولم يكن من المستطاع تعديل ما نشر أو تكذيبه لأن ذلك سيكون له أثر ضار ألا أن السيد محمود المنتصر لم يستطع أقناع الملك لأبقائه سفيرا في القاهرة وخفف أمرعزله بنقله الى وزارة الخارجية ورغم ما قام به السيد محمود المنتصر من الدفاع عليه الا أن السيد طاهر باكير وصهره ولي العهد أعتبرا أجراء النقل من تدبير السيد محمود المنتصر الذي يتآمر على ولي العهد وعائلته لنقل وراثة العرش لعائلة السيد أحمد الشريف أو بأعلان النظام الجمهوري وتوليه هو رئاسة الجمهورية وكانت هناك أسباب وقرائن لهذه التهم لما كان يجري في الخفاء بشأن رغبة الملك في تعديل الدستوروسأتعرض لذلك بالتفصيل في الصفحات التالية .
تعديل الدستور وأختيار النظام الجمهوري
لقد كان الملك منذ عهد حكومة بن حليم يفكر في موضوع نظام الحكم في ليبيا بعده ورغم تعيين أبن أخيه الأصغرالأمير حسن الرضا وليا للعهد الا أنه كان غير مؤمن بصلاحيته وغير متحمس لفكرة ولايته للعهد لأنه بعتقد بأنه سيعيد العائلة السنوسية أذا تولى الملك الى مكانتها في الدولة والملك يحمل لهم جميعا بغضا دفينا يصعب تفسيره . ورغم وجود أسباب تاريخية ترجع الى خلاف حول من هو صاحب الحق في تولي زعامة الحركة السنوسية بعد وفاة الملك أدريس ألا أن هذا لا يرقى الى درجة حرمان العائلة السنوسية بكاملها من زعامتها التاريخية للحركة السنوسية التي أسسها جدهم الأكبر السيد علي بن محمد السنوسي الكبيرمنذ أكثر منذ قرن ونصف .
ويرجع الخلاف الى أيام الكفاح ضد أيطاليا فبعد وفاة السيد المهدي الشريف السنوسي سنة 1902 والد السيد ادريس السنوسي كان عمر هذا الأخير لا يزيد على 12 سنة ولهذا قرر الأخوان ألسنوسيين كما كانوا يسمون أن يتولى السيد أحمد محمد الشريف السنوسي أبن عم أدريس رئاسة الأخوان بصفة وكالة عنه حتى يبلغ السيد ادريس سن الرشد . وتولى السيد أدريس رئاسة الأخوان بعد سفر أبن عمه أحمد الشريف الى استنبول بعد خلاف بينهما حول توسيع الحرب ضد اللأنجليز في مصر الذي عارضه السيد أدريس وقد اقترح السيد أحمد الشريف على السيد أدريس تعيين أبنه السيد العربي خليفة له بعد وفاته أو تنحيه عن منصبه . وعد السيد أدريس هذا تمسك به أبناء السيد أحمد الشريف حتى بعد استقلال ليبيا ولكن الملك عندما تولى العرش عين أخاه السيد محمد الرضا وليا للعهد بحجة أن وعده للسيد أحمد الشريف كان على زعامة السنوسيين فهو لم يكن ملكا في ذلك الحين وصفته كملك صفة جديدة وبعد وفاة أخيه أختار الملك السيد حسن الرضا أبن اخيه الأصغر وليا للعهد وأزدادت العداوة بين الملك وعائلته بعد أقدام حفيد أحمد الشريف على أغتيال السيد أبراهيم الشلحي ناظر الخاصة الملكية وصديق الملك أدريس منذ الطفولة وبدأ الملك يفكر في ولاية عهده فهو يخاف أن تنتقل رئاسة ليبيا الى طرابلس اذا الغى النظام الملكي وأعلن نظاما جمهوريا منتخبا وهو حريص على أن يكون دوربرقة مساويا على الأقل لدور طرابلس في حكم ليبيا رغم الفرق الشاسع في عدد السكان في نفس الوقت لم يكن مرتاحا لأبن أخيه السيد حسن الرضا فهو ضعيف وسيقع تحت نفوذ العائلة أذا تولى الملك ويخاف على مستقبل أبناء الشلحي بعد وفاته . فالعداوة بينهم والعائلة السنوسية أصبحت من تحصيل الحاصل وكان أولاد الشلحي كما سمعت لا يصافحون حتى الملكة وولي العهد رغم أنهم كانوا يدخلون القصر الملكي دون أستئدان ويتمتعون بالنفوذ والسلطة في القصر ومع الحكومة . وزاد هذا الوضع تعقيدا بعد وفاة السيدى البوصيري الشلحي الذي خلف والده في منصب ناظر الخاصة الملكية في حادث سيارة مريع . ولا أحد يصدق كيف أستطاع الملك أن يجمع الأعداء حوله. وقد خلق أبناء الشلحي مشاكل لمعظم رؤساء الحكومات وكانوا سببا في أستقالة معظمهم والعقيد عبد العزيز الشلحي كان الفاتق الناطق في الجيش الليبي وأخيه السيد عمر المستشار المدلل وحتى أرملة أبراهيم الشلحي وبناتها وأزواجهن كانوا يتمتعون بأمتيازات بمكانة خاصة ولا يرد لهم طلب عند الملك .
هذا التناقض في سلوك الملك أدريس مع عائلته وحاشيته أنعكس في تصرفاته في الحكم وكان على ما أعتقد يؤمن بالأسلوب القديم في الحكم وسياسة التعامل مع الخصوم فلم يجعل حدا للخلاف بين رؤساء حكومته والخاصة الملكية وحرص على تعيين الخصوم في مؤسسات الدولة وقد أدى هذا ألى أنعدام الثقة بينه وبين المخلصين له فكان كل مسئول وزيرا كان أو واليا أو مسئولا كبيرا يعزل يهمل ويؤتى بخصم له ليحل في منصبه والمعارض اليوم هو الحاكم غدا ومن يتولى الحكم يعزل من عينه سلفه في المراكز القيادية ويأتي بدوره بخصومهم ليحلوا محلهم ولو كان النظام ديمقراطيا ويتم هذا التغيير في المناصب بتغير الحكومات لكان الأمر مقبولا. ولم يعد أحد يعرف من هو صديق النظام ومن هو عدوه وهدا ينطبق على الوزراء والسفراء وكبار الموظفين وكبار ضباط الأمن والجيش .وهذا الوضع على ما أعتقد جعل كل هؤلاء غير مهتمين بالتمسك بالنظام الملكي أو الدفاع عنه والكل تفرغ لشئونه وحياته وعائلته والكل ينتقد ما يجري وكان نقد النظام في المكاتب الحكومية يتم على أعلى مستوى في الدولة بما في ذلك انتقاد الملك وسياسة الحكومة بكل صراحة دون خوف مما يجعل زوار كبار المسئولين يستغربون ولا يصدقون ما يسمعون والكل يعرف أن ما يقال من أنتقاد للملك أو الحكومة سيصل الى الجهات المعنية

أشرت في الصفحات السابقة عن فتور العلاقة بين السيد محمود المنتصر وولي العهد والقرائن المصاحبة لها التي عززت من مخاوف ولي العهد وأذكر أن الملك طلب من المستر أدريان بلت عن طريق السيد محمود المنتصر عندما كان رئيسا للحكومة في سنة 1964بأعداد دراسة قانونية عن تعديل الدستور الليبي وقد سافر فعلا رئيس الوزراء الى روما وأجتمع في الجراند هوتيل بالمستر بلت والمستر زولفيجر وأخرين لدراسة الموضوع كما جاء المستر بلت الى طبرق ومعه بعض المستشاريين للتشاور مع الملك والحصول على محاضر الجمعية التأسيسية (جمعية 60) التي ترجمت الى اللغة الأنجليزية بواسطة استاذ متخصص في القانون الدستوري من جامعة كمبريدج.
وفي سنة 1965 بعد تعيين السيد محمود المنتصر رئيسا للديوان وعندما كنت في أجازة في لندن كالعادة وصلتني برقية منه وطلب مني المرور في طريق عودتي بجنيف والأتصال بالمستر أدريان بلت وأحضار مظروف هام وسري منه. وفعلا غادرت لندن الى جنيف واتصلت بالمستر أدريان بلت ودعاني الى غذاء في مطعم جميل على بحيرة جنيف (الليمان ) وسلمني بعد الغذاء مظروفا مغلقا بالشمع الأحمر ومختوما حرصا على سريته وموجها للسيد محمود المنتصر . وكانت مقابلتي للمستر بلت فرصة لي للتحدث معه حول ليبيا والملك فقد كان من اعلم الناس بتطورات الدستور الليبي وأجراءات نقل السلطات من الأدارتين البريطانية والفرنسية الى الحكومة الليبية وتصرفات الملك في تلك الفترة وعدم أستقرار البلاد في الفترة الأخيرة وأذكر أنه وثق بي جدا وتكلم معي بصراحة العالم المجرد المحايد قائلا أن مشكلة ليبيا الحقيقية هي أن الملك لا يفقه في علم وفن أدارة الحكم الحديثة وليست له خبرة في هذا المجال وهو يحكم بعقلية قديمة وأساليب عفى عنها الزمن يظهرأ نه قرأها في كتب التاريخ العربي ويريد تطبيقها في القرن العشرين ولا نستطيع لومه لأنه يحاول في حدود مقدرته ولهذا كان الملك يعتقد أن الوزراء يستطيعون تسيير أمور الدولة من مكاتبهم بمدينة البيضاء عن طريق التلفون دون وجود مستشاريهم وموظفيهم واللجان المتخصصة التي تقوم بالدراسات وتقدم التوصيات للوزراء والذين يجب أن يكونوا ألى جانبهم في مراحل أتخاذ القرار كما تقتضي الأدارة الحديثة فالوزير لم يعد ذلك الشخص الذي ينفذ أوامر الملك بدون مراجعة كما كانوا عليه في الماضي كما أن الملك لا يؤمن بالحكم الديمقراطي وصلاحيات البرلمان ومدى أهميتها و قراراته في شئون الدولة وسلطاته التي تعلوا السلطات الدستورية للملك والحكومة كما أنه لا يؤمن بمبدأ توزيع السلطا ت التشريعية والتنفيذية والقضائية كما أن تعيينه للحكومة يجب أن يتم بعد استشارته لمجلس النواب والكتل النيابية ويجب على الحكومة الحصول على ثقة البرلمان قبل مباشرة مهامها كل هذه المتطلبات موجودة في الدستور الليبي الحالي الذي يعتبر من أحدث الدساتير في العالم وأضاف أن أي تعديل للدستور الحالي لن يخرج عن هذا الأطار الدستوري . كما أعرب في نهاية محاضرته لي عن سروره بأستعانة الساسة القدامى بالشباب المتعلم لتسيير أمور الأدارة والأستفادة منهم في الامور الفنية التي تحتاج الى علم ودراية يفقتقدها الجيل القديم .
هذا وقد شكرته على ضيافته والغذاء في هذا المطعم الجميل . وعلى معلوماته القيمة وتحليلاته الدقيقة للأوضاع في ليبيا وعلى نصائحه الثمينة التي أستمعت أليها بكل أهتمام . وودعته وعدت الى طرابلس وسلمت المظروف الى السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي وكنت أنوي قضاء يومين مع العائلة قبل السفر الى البيضاء لمباشرة عملي . ولكن السيد محمود المنتصر طلب مني البقاء في طرابلس لمهمة أخرى وأخبر حسين مازق الذي وافق على ذلك . وهذا موضوع أخر سأتعرض له في غير هذا المكان .



أستقالة حكومة محمود المنتصر الثانية وأنجازاتها
أستدعى الملك رئيس وزرائه السيد محمود المنتصر لتأليف حكومة الثانية بعد مواجهته لأصعب أزمة داخلية في عهد الدكتور محي الدين فكيني أعتقادا منه أنه الشخص الوحيد الذي يمكن أن يرجع الأمور ألى نصابها ألا أن ثقته فيه أخذت تضعف مع مرور الوقت فلم يعد السيد محمود المنتصر في رايه السياسي القوي الصارم الشجاع الذي قاد البلاد في سنواتها الأولى للأستقلال ووطد دعائم الحكم والعرش في ليبيا بيد من حديد فقد أصبح مترددا بين أصدقائه الساسة القدامى الذين جاء بهم عندما ألف الوزارة والوزراء الشباب الذين أتى بهم لتسيير شئون الحكم التي زادت تعقيدا فنيا وعمليا .كما أن سياسته القديمة و صداقته وعلاقاته مع الأنجليزأصبحت موضع شك وأصبح ميالا ألى مجاراة الموجة الوطنية العربية التي يتزعمها الرئيس عبد الناصر وما في ذلك من خطورة على أستقلال ليبيا .( كما أن الأنجليز والأمريكان عرفوا ذلك حال قدومه الى الحكم في سنة 1964 وقد تجلى ذلك في تقارير السفير البريطاني التي نشرت أخيرا فقد أوضح السفير البريطاني السيرسارل في تقاريره العديدة حول هذا الموضوع شكه في حكمة الملك وراء أختياره لمحمود المنتصر رئيسا للحكومة في تلك الفترة العصيبة التي تمر بها البلاد وأزداد هذا الشك عندما جاء السيد محمود المنتصر بتلك التشكيلة الوزارية من كبار السن الذين فاتهم القطار بعد تطور شئون الحكم في ليبيا ونصح السفير حكومته بأن الصديق القديم السيد محمود المنتصر الذي نعرفه سنة 1952 ليس هو السيد محمود المنتصر اليوم سنة 1954 ولهذا يجب أن تكون الحكومة البريطانية حذرة ومدعوة الى تفكير جديد حول سياسة بريطانيا نحو ليبيا في المستقبل ورغم أن قدومه الى الحكم يمثل نصرا للمحافظين في ليبيا ألا أن انتشار الشعور القومي بين الشعب وتدخل عبد الناصر ضد القواعد العسكرية حول ميزان القوى في صالح الأحرار في البلاد وواجه المنتصر خيارا صعبا بين السير مع التيار الناصري أو أستعمال لبقوة ويظهر أنه أختار الطريق الأول مما جعله يندفع الى الدخول في مفاوضات مع بريطانيا ومع الأمريكان لتصفية جميع القواعد العسكرية الأجنبية والجلاء الكامل للقوات البريطانية من جميع ليبيا بما فيها مطار العدم بطبرق والقولت الأمريكية في مطار الملاحة رغم ما في ذلك من خطورة على أمن ليبيا من جيرانها مصر والجزائر وأستطاع أن يقنع الملك في أتخاذ هذه السياسة رغم أن الملك كما أكد للسفير البريطاني وللسفير الأمريكي لم يكن منزعجا مما يفكر فيه السيد المنتصر بل كان يرى سياستة نهجا لتهدئة الرأي العام الليبي ولكنها لن تمس التحالف الليبي البريطاني أو الأمريكي وستقتصر على أعادة توزيع القوات الأجنبية وأبعادها من ألمدن الكبيرة المزدحمة بالسكان كطرابلس وبنغازي . كان هذا تفكير الملك الا أن السفير البريطاني واصل أنتقاده لسياسة المنتصر في نهاية سنة 1964 في تقاريره العديدة قائلا أذا أستعرضت أحدات سنة 1964 فيمكن الجزم بأن تصرفات محمود المنتصر وحسين مازق لم تكن سليمة أو مخلصة فقد وردت في تقاريره العديدة السابقة عن مقابلاته مع محمود المنتصر بالذات بأنه لم يتخذ أي أجراء لكبح القدر الهائل من الحملة الصحفية ضد القواعد والمعاهدات العسكرية و لم يقتصر عمله بعدم أتخاذ أجراء في هذا الشأن بل سعى سرا ألى تشجيع الحملة الأعلامية لأضعاف أية معارضة من الملك لتغيير سياسته المعروفة .
كان السفير البريطاني يعتقد جازما أن دوافع المنتصر التي يصعب فهمها هي حرصه على سمعته وسمعة عائلنه المنتشرة في كل فروع الحكومة وقراره أن الوقت قد حان لأزالة ما يعتقده أنها وصمة عار لتوقيعه المعاهدة البريطانية والسماح بالقواعد العسكرية في ليبيا وذلك تمهيدا للسير في ركاب الخط القومي المصري الذي يتزعمه عبد الناصر ضد النفوذ البريطاني والغربي في المنطقة العربية وأصبح متأكدا من عدم قدرة بريطانيا حمايته من أية محاولة قد يقوم بها أنصارالرئيس عبد الناصر للسيطرة على ليبيا قبل أو بعد وفاة الملك ولهذا أخذ يبالغ للملك خطورة مظاهرات الطلبة رغم قلة عددها وتأتيرها الشعبي. وفي موقف الملك من سياسة المنتصر هذه يرى السفير البريطاني بناء على مقابلاته العديدة هو والسفير الأمريكي للملك أن الملك رغم قبوله للخطوات التي ترمي ألى جلاء القوات الأجنبية من المدن الرئيسية كطرابلس وبنغازي تمشيا مع رغبات جماهير الشعب الا أنه كان غير موافق على ألغاء الحلف الليبي البريطاني الوارد في المعاهدة أو جلاء القوات البريطانية عن مطار العدم في طبرق حيث يقيم أقامة دائمة وقد أيقن أخيرا أن الأمور أصبحت تتطور وأن مجلس الأمة تمادي في قراراته ضد السيا سة المعتدلة التي يري السير فيها كما أن الحكومة سارت على طول الخط مع المجلس مما جعله يشعربالخطر على فقدان السيطرة على الوضع وقرر في قرارة نفسه السيطرة على الوضع وقراره الأخير باللأستقالة يعتبر بداية ضغطه على الحكومة لتغيير سياستها من القواعد والمعاهدات رغم أنه لم يعلن ذلك صراحة تمشيا مع سياسته في عدم أظهار معارضة علنية لحكوماته.
بهذا العرض المبسط لمجرى الأمور في أواخر عهد حكومةالسيد المنتصر وبعد حل مجلس النواب وأشتداد حملة الساسة المعارضين له والتي كان يصل صداها ألى الملك عي طريق سكرتيره الخاص وتكررشكوى زعماء يرقة و قبائل البيضاء بنقل السيد محمود المنتصر للحكومة من البيضاء وأستقرارها في طرابلس مما أثر في الأقتصاد ونقص مشاريع البنا ء والتعمير في المنطقة الشرقية وفي أخر مقابلة السيد محمود المنتصر للملك صارحه هذا الأخير بظروفه الصحية وكثرة المشاكل التي سيواجهها وحاجته الى الراحة وأقترح عليه تقديم أستقالته وتكليف حسين مازق تأليف الحكومة الجديد ة بدون تغيير في أعضائها وتعيينه هو أي السيد محمود المنتصر رئيسا للديوان الملكي ليكون الى جانب الملك ويتفرغ للعناية بصحته . وأذكر أن محمود المنتصر لم يأت الى طبرق لمقابلة الملك من اجل الأستقالة بل كان يحمل تعديلا لحكومته وأدخال المزيد من الوزراء الشباب والبحث مع الملك في شئون التنمية وتحسين المرافق العامة في البلاد للأعلان عن سياسة الحكومة أستعدادا للأنتخابات القادمة وتبادل الرأي مع الملك حول السياسة التي ستتبع في هذه الأنتخابات .
وقد خرج السيد محمود المنتصر من الملك بعد تناول الغذاء وكنت معه في القصر الملكي وتناولت أنا الغذاء مع سكرتير الملك ورجال الحاشية وأذكر السيدة محمود المنتصر قال لي بأنه سينام بعد الغذاء وبعد ذلك يريدني لأمر هام وقد شعرت بان أمراهاما قد حصل وأن رئيس الوزراء كان يشعر بعدم الأكترات بما جاء من أجله .
وجدت السيد محمود المنتصر بعد الظهر مستريح البال لا تظهر عليه الحالة العصبية التي تلازمه طوال انشغاله بالأحداث ونظرألي مبتسما يريد أن يعرف ماذا يجول بخاطري ثم قال لي تعرف حالتي الصحية ليست على ما يرام والبلاد تمر بمرحلة أنتخابات نيابية ثانية في فترة لا تزيد على سنة والظروف لا زالت هي الظروف التي جرت فيها الأنتخابات الأولى وقد درست كل ذلك مع الملك اليوم بصراحة وقد تفضل وأقترح علي تقديم أستقالتي محافظة على صحتي وتكليف السيد حسين مازق بتأليف الحكومة الجديدة لأجراء الأنتخابات على أن تتألف من نفس الوزراء الحاليين وقال لي أن الملك يريدني ألى جانبه في طبرق وسيعينني رئيسا للديوان الملكي بدلا من الدكتورعلي الساحلي وأريد الآن أن أكتب أستقالتي لتقديمها ألى الملك رسميا الساعة السادسة وأملى علي أستقالته الي تشير الى حالته الصحية والظروف الصعبة التي مرت بها البلاد خلال فترة حكومته شاكرا للملك دعمه ومساندته له للتغلب على كل الصعاب راجيا منه أعفاءه من رئاسة الحكومة وقبول أستقالته وداعيا له بطول العمر والسداد في رعاية شعبه وتحقيق أمانيه في الأمن والرفاهية والسعادة . هذا وقد كتبت نسخة نظيفة بخط يدي وقعها رئيس الوزراء ووضعها في ظرف وأخذها معه لمقابلة الملك وتناول شاي المساء معه كالعادة عندما يكون في طبرق وبعد حوالي ساعة من الزمن عاد وقال الأستقالة قبلت وقد أتصلت بالسيد حسين مازق وأبلغته بالقرار بحضور الملك وقد دعي للحضور ألى طبرق غدا صباحا لحلف اليمين وهكذا أخذنا السيارة من طبرق ألي البيضاء حيت قضى السيدمحمود المنتصر فبها ليلته جمع فيها أوراقه الخاصة من مكتبه وبيته وسافر الى طرابلس صباح اليوم التالي حيت ودعته ألى البيضاء وزأثار معي وضعي الوظيفي بعد أستقالته وقد أكد لي بأنه سيعمل مع السيد حسين مازق ألى أرجاعي الى وزارة الخارجية أذا أراد تعيين شخص آخر في منصبي وأنه يعتقد بأن السيد حسين مازق لن يتأخر فقد أسدى له خدمة كبيرة واقنع الملك بأرجاعه ألى الحكومة بعد أن كان مغضوبا عليه كما عينه نائبا للرئيس ليخلفه في رئاسة الحكومة وهذا ما تم فعلا . ورغم أني كنت أعرف السيد حسين مازق منذ كان واليا على برقة عن طريق أتصالاته المستمرة برؤساء الحكومات الا أني لا أعرفه معرفة شخصية تجعلني محل ثقته والمشرف على شئون مكتبه كوكيل شئون رئاسة مجلس الوزراء.ولكنني ذكرته بقصة لازال يتذكرها حصلت في بنغازي سنة 1958 عندما كنت سكرتيرا خاصا لرئيس الوزراء عبد المجيد كعبار وكان حسين مازق انذاك واليا على برقة فقد كنا نحضر محاضرة لعميد كلية الأقتصاد في الجامعة الليبية وهو مصري طبعا عن الصناعة النفطية وتعرض المحاضر الى عوامل الأنتاج وذكر أنها تنحصر في العمل والمصادر الأولية فقط وليبيا تملكها وهي وجهة نظر شيوعية التي لا تعترف بأي دور لرأسمال كعامل للأنتاج وكنت حديث التخرج من الجامعة كلية التجارة والأقتصاد وعلقت على المحاضر قائلا بان المحاضر أغفل عاملا هاما للانتاج وهوالرأسمال وخاصة في بلد فقير مثل ليبيا كما يوجد عامل آخر للأنتاج مهم جدا لا تملكه ليبيا وهو عامل التكنالوجيا والأدارة التي لا بد من توفرها للأنتاج وقد لاقي تعليقي أعجاب الحاضرين الليبيين وساد هرج ومرج ولم يلاقي تعليقي ترحيب هيئة التدريس المصرية ولكن الليبيين شعروا بالفخر لوجود ليبي متعلم يستطيع مناقشة الأساتذة المصريين وأقبلوا علي يهنئوني على تعليقي وكان من بينهم اتلسيد حسين مازق والي برقة قبل أن أعرفه وهذه المناسبة جعلت عميد كلية الأقتصاد بالجامعة الليبية أنذاك يعرض علي الأنتساب الى هيئة التدريس في الجامعة الليبية يعد أن عرف أني كنت أول دفعتي في كلية التجارة جامعة القاهرة لأرسالي الى بريطانيا للحصول على درجة الماجستير والدكتوراه أعود بعدها للتدريس في الجامعة الليبية ولكنني رفضت لأني كنت اسعى للذهاب الى بريطانيا للعمل في السفارة الليبية هناك والأنتساب الى الجامعة في لندن في نفس الوقت وهذا ما تم فعلا كما ذكرت في الفصل الأول .
في اليوم التالي صدر المرسوم الملكي بأستقالة السيد محمود المنتصر وتعيين السيد حسين مازق رئيسا للحكومة التي بقت بدون تغيير سواء تعيين الدكتور وهبي البوري وزيرا للخارجية ليخلف السيد حسين مازق وعلمت من السيد محمود المنتصر بعد ذلك أن السيد حسين مازق أقترع أبنه السيدعمرالمنتصر السفير الليبي في لندن وزيرا للخارجية ألا أن الملك تذكر بأنه سمع من والده بأنه مرتاح في لندن ولا يرغب في العودة للوزارة ولهذا رفض أقتراح مازق الذي أقترح السيد وهبي لبوري بدلا منه . وأعتقد أن السيد حسين مازق كان يريد ازاحة السيد عمر المنتصر من سفارة لندن الهامة لتعيين شخص يثق فيه لا ينقل أسرار أتصالاته مع الحكومة البريطانية الى احد غيره وكان السيد أبراهيم الغماري وهو صديق للسيد حسين مازق يسعى الى منصب السفير في لندن ولم يستطع أقناع الملك برغبتة هذه رغم جهود عائلة الشلحي وهو أحد أعضائها لأن الملكة فاطمة كانت تدعم السيد عمر المنتصروتريد بقاءه في لندن وقد سمعت هذا من السيد عبد السلام الغماري شخصيا في مكتبي محتجا .
وهكذا لازم السيد محمود المنتصر بيته يعد أستقالته وأحتفل خصومه السياسيين بخروجه من الحكومة . ورجع السيد حسين مازق الى البيضاء وطلب مني ومن الجميع بما فيهم الياور الخاص وسائق رئيس الوزراء السابق وكانا من شرطة أمن الدولة بطرابلس البقاء في مناصبهم والأستمرار في العمل كما كان في عهد حكومة السي محمود المنتصر. وأذكر أني كنت بعد أسبوع أو أكثر أتكلم مع السيد محمود المنتصر على الهاتف وخطر لي أن أساله عما تم في أقتراح الملك بتعيينه رئيسا للديوان الملكي فقال لي أنه لم يسمع من الملك شيئا منذ يوم أستقالته وربما يكون قد غير رأيه لأنه كان من المفروض أن يصدر امر التعيين مع مراسيم الوزارة الجديدة ولكن ذلك لم يحصل. وبعد أيام معدودة صدر الأمر بتعيينه رئيسا للديوان الملكي وجاء ألى طبرق وتسلم منصبه وبهت خصومه السياسيين الذي كانوا يتمنون أبعاده وبقاءه في التقاعد بعيدا عن السلطة والملك . وفاجأني بعد ذلك بأنه أستأدن الملك ووافق على أنتدابي ألى الديوان لأكون رئيس مكتب رئيس الديوان بدرجة وكيل وزارة وهي في مستوي وكيل الديوان الملكي ورئيس التشريفات الملكية وأنه كلم رئيس الوزراء السيد حسين مازق في الموضوع فوافق على أنتدابي وقد ترددت في الموضوع وطلبت من رئيس الديوان أعطائي فرصة للتفكير فطلب مني أخذ أذن السيد حسين مازق والقدوم ألى طبرق لبحت الموضوع معا وعندما تكلمت مع السيد حسين مازق وجدته مرحبا بالفكرة وشجعني على قبول عرض رئيس الديوان لأ نه يحتاج ألي لمساعدته ومن واجب الجميع مساعدته كما قال فهو أب للجميع وقدم خدمات لليبيا تستحق التقدير . وفعلا سافرت ألى طبرق وسرعان ما أنتشر الخبر وحال وصولي أستقبلت ببرود من السكرتير الخاص ورجال القصر فدرجتي تعطيني مكانا هاما بينهم ولم يكن مثل هذا المنصب موجودا في القصر وكان عدد رجال الحاشية محدودا وكلهم من برقة وقد أمر رئيس الديوان بتخصيص بيت الدكتور علي الساحلي رئيس الديوان السابق لي لأ ن الملك أعطاه هو أحد القصور للأقامة فيه وقد زاد هذا من حسد الحاسدين ..ومن اليوم الأول شعرت بجو غير عادي ورقابة وتصنت على اجتمعاتي برئيس الديوان كما أني لم أكن راغبا في العمل في الديوان الملكي لأن الوظيفة ليست فيها مسئولية ومجال العمل فيها محدود لا تتمشى ومؤهلاتي وطموحاتي الأكاديمية ولم يكن لي أي طموح سياسي لأستغلان القرب من الملك للحصول على مكاسب سياسية بل كنت أتوق للرجوع الى عملي في وزارة الخارجية والعمل في السفارات في الخارج . وبعد تفكير طويل صارحت رئيس الديوان بأني لا أستطيع العمل في هذا الجوالخانق لأن حياة القصور تحتاج الى نوعية من البشر لست منهم وليس هناك ما يشجعني على العمل فيها وقد حاول رئيس الديوان اقناعي بأن وجودي في القصر مهم جدا ورغم عدم وجود أختصاصات مكتوبة للوظيفة الا أني أستطيع خلق أختصاصات لها فأسكون قريبا من الملك والملكة وسيكلفاني بمهام كثيرة خاصة كانوا يكلفون بها الأجانب من عمال القصر والأصدقاء الأجانب لأنهما لأنه ليس هناك من له خبرة في الديوان الملكي في طبرق للقيام بمثل هذه الأعمال ولهذا سيعتمدان علي وعلى خبرتي في السفر والعمل قي الخارج وقد تسند لي مهام أخرى وهذا صحيح ولكنني كنت مصمما على رفض العرض رغم هذا الترغيب ورغم خطورة رفضي للعمل في الديوان وأحراج السيد محمود المنتصر الذي أقترح أنتدابي وشاور الملك في هذا الأمر وحصل على موافقته وليس من عادة الملك قبول رفض من يكلفه بمهمة رسمية وبعد نقاش طويل قبل رئيس الديوان أعتذاري لما يعرفه عني من تقديري للأمور ولا يريد فرض واقع علي لا أرتضيه وطلب مني ترشيح شخص لمساعدته في الديوان كرئيس مكتب أو سكرتير فرشحت له السيد الشيخ عبد الغني وهو سوداني الجنسية و قدعينته في رئاسة مجلس الوزراء كمترجم ومحرر واثق فيه كثيرا وقلت له أنه أجنبي لن يثير حسد أو معارضة من رجال الحاشية فلن يزاحمهم على حظوة عند الملك وهو قدير في تحرير المراسلات والترجمة والأتصالات برجال الدولة ويعتبر عندنا كليبي نظرا لأخلاقه العالية وللمدة الطويلة التي قضاعا في ليبيا وفعلا أخذت سيارتي وعدت الى البيضاء وكنت في غاية الأحراج لرفضي لعرض السيد محمود المنتصر وما يترتب عن هذا من أحراج له . وعندما أخبرت السيد حسين مازق بما تم أستغرب قراري برفض الأنتداب ويظهر أنه وجد أنتدابي فرصة لتعيين وكيل وزارة لشئون الرئاسة يعرفه ويثق فيه وأعتقد أنه كان يفكر في السيد جسين الغناي الا أنه كان مترددا لأن وجوده كوكيل لوزارة الخارجية قد يكون أفيد له لمعرفة ما يجري في الخارجية ولكن الوضع تغير بعد رفضي الأنتقال أل الديوان وقد صارحته حال رجوعي بأن العرف جرى على تغيير جهاز الرئاسة بعد تغيير رئيس الوزراء وأني لن أشعر بعدم الرضا أذا تقرر نقلي الى أية جهة أخرى في الدولة وذكرته بأني جئت لرئاسة الوزراء على أساس أنتداب مؤقت من وزارة الخارجية لأعود بعد ذلك الى وزارة الخارجية وقد تطورت الأمور ورقيت الى وظيفة وكيل وزارة في الخدمة المدنية وهي وظيفة تعادل سفير في وزارة الخارجية ولكنني مستعد لقبول درجتي العادية في الخارجية وهي وظيفة مستشار أو وزير مفوض وقد كنت عميد المستشارين الذين أنضموا ألى الخارجية بعد التخرج من الجامعة( وكان السيد منصور الكيخيا لما كان في نبويورك يقدمني الى السفراء وكبار موظفي الأمم المتحدة بأني عميد الدبلوماسيين الليبيين بما فيهم هو وكان يعني المجموعة التي تخرجت من الجامعة وأنتسبت الى وزارة الخارجية بعد الأستقلال ) وقد قضوا زملائي في وظيفة المستشار سنوات عديدة دون ترقية لأن مناصب السفراء والوزراء المفوضين كانت حكرا على السياسيين ورؤساء الوزارات والوزراء السابقين . وكان السيد حسين مازق ذكيا ودبلوماسيا يتكلم مع رجال القبائل بلغتهم ومع المتعلمين بلغة أخرى وقال لي رغم أنه يأسف لعدم قبولي الأنتداب الى الديوان الملكي الا أنه لا يريد أحداث أي تغيير في جهاز رئاسة محلس الوزراء وطلب مني الأستمرار في عملي كما وعدني بدوره بدراسة أمكانية أعادتي الى وزارة الخارجية مع وزير الخارجية كما وافق على أنتداب الشيخ عبد الغني الموظف بالرئاسة الى الديوان الملكي . وقد كان أعتذاري عن قبول النقل الى الديوان محل أشاعات حول الأسباب وأذكر أن العقيد راسم النايلي ياور الأمير ولي العهد زارني في مكتبي مستفسرا عن أسباب رفضي النقل الى الديوان وعما كنت أسعى الى تعييني في سفارة في الخارج بدلا من ذلك ويظهر أن ولي العهد علم بالموضوع الذي أنتشر في دوائر القصرواراد أن يعرف الأسباب فهو يتخوف من وجود السيد محود المنتصر في الديوان الملكي الى جانب عمه الملك . وقد ذكر لي السيد محمود المنتصر ان الملك عندما ذكرله أسمي عدة مرات ولا أعرف بأي مناسبة ؟ كان الملك يقول له باني كنت في مصر ومن المتحمسين لعبد الناصر الا أن السيد محمود المنتصر دافع عني وذكر للملك أن اسباب رفضي للأنتقال الى الديوان ترجع الى أسباب خاصة بمواصلة العمل في أختصاصه العلمي وليس لأسباب أخرى .وكانت مخابرات الأمن في قوة دفاع برقة تبعث بتقاريرها حول تصرفاتي في عملي برئاسة مجلس الوزراء في البيضاء وسأتعرض لهذا في الصفحات التالية وتلك قصة أخرى ..
مدينة البيضاء,انتقال الحكومة أليها
كانت البيضاء مقرا صيفيا لرئيس الوزراء والوزراء ثم أصبحت مقرا دائما لرئاسة مجلس الوزراء ووزارة الخارجية وبعض المصالح من باقي الوزارات ولما جاء السيد محمود المنتصر الى الحكم كات من أهدافه غير المعلنة لسياسته هي نقل رئاسة مجلس الوزراء ووزارة الخارجية الى طرابلس وبعد أنتهائه من معالجة قضية القواعد العسكرية والجلاء بالشكل الذي توصل به مع الملك حصل على موافقة الملك لنقل الحكومة الى طرابلس أرضاء للرأي العام الطرابلسي الذي كان متحمسا للجلاء والغاء المعاهدة البريطانية . وقد حاول الدكتور محي الدين فكيني نفس الشئ قبله وحول بعض المباني الحكومية التي أنشئت في عهد حكومة السيد محمد بن عثمان الصيد الى معاهد الدراسية في البيضاء لكن الوقت لم يمهله لأتمام نقل الحكومة . وقد أثار نقل السيد محمود المنتصر لمقر الحكومة الى طرابلس غضب المسئولين من قبائل برقة وعلى رأسهم اللواء محمود أبو قويطين الذي كان يكن للسيد محمود المنتصر احتراما خاصا لأنه في رأيه مخلصا للملك ولكنه غضب من نقله للحكومة من البيضاء ويقال أنه سافر ألى طبرق لأقناع الملك برفض النقل وقيل أن ذلك النقل أثر في صحته واشتداد مرضه الذي أدى الى وفاته . . كما لاقى نقل الحكومة الى طرابلس عدم رضا سكان بنغازي وزعمائها لأن وجود الحكومة في البيضاء كان مصدرا هاما لأنتعاش التجارة ومشاريع التنمية والحركة الأقتصادية في بنغازي ورغم أن بنغازي كانت العاصمة الثانية دستوريا وكانت الحكومة تتبادل الاقامة بين العاصمتين الا أن مقتل السيد أبراهيم الشلحي فيها حرمها من نقل الحكومة اليها ومنذ ذلك الوقت لم تعد بنغازي مقرا محتملا للحكومة . ورغم موافقة الملك على نقل الحكومة الى طرابلس أمر في أخر لحظة بقاء وزارة الدفاع وقيادة أركان الجيش في البيضاء وعدم شغل المباني الحكومية التي تغادرها الوزارات و يعني هذا حفظها لعودة الحكومة أليها مستقبلا .كما تأخر نقل وزارة الخارجية بسبب تردد وزيرها السيد حسين مازق ووكيلها السيد حسين الغناي في النفل رغم تعليمات رئيس الوزراء وأذكر أني كنت مع الدكتورعلي الساحلي رئيس الديوان في مكتبه في طبرق أثناء وجود السيد محمود المنتصر مع الملك أثناء أستلامه لمكالمة تلفونية من السيد حسين الغناي وكيل وزارة الخارجية وفهمت من مجرى المكالمة أن السيد الغناي كان يريد تأجيل نقل وزارة الخارجية ويطلب من رئيس الديوان الملكي التدخل لمنع النقل العاجل كما طلب السيد محمود المنتصر وقد نقلت هذا الخبرالى رئيس الوزراء الذي أتصل بوزير الخارجية وحته على نقل الوزارة بالسرعة الممكنه لأنه أتفق مع الملك على هذا النقل على أن يرجع الوزراء الى البيضاء في فصل الصيف دون جهاز وزاراتهم .ورغم أضطرار وسفر السيد محود المنتصر للعلاج ألا أنه كان يتابع اجراءات نقل الحكومة من البيضاء الى طرابلس كما كان يتابع الأنتخابات وهو في لندن للعلاج . ولكن قرار النقل كان محل أختلاف وعندما تولى حسين مازق رئاسة الحكومة سنة 1965 قرر عودة الحكومة الى البيضاء بصفة نهائية وعادت وزارة الخارجية بعد نقلها لفترة لا تزيد على شهرين بشكل أحدت أرتباكا وفوضى وحير رجال السلك الدبلوماسي الاجنبي.


أنجازات حكومة محمود المنتصر
من المواضيع الي أنجزتها حكومة محمود المنتصر هي تعديل قانون الخدمة المدنية وبرجع الفضل فيه الى السيد عبدالله سكتة الذي عين وزيرا للخدمة المدنية وقد أدى هذا التعديل الى رفع مرتبات الموظفين وخاصة صغارهم الا انه الغى الكثير من العلاوات التي كان يتمتع بها كبار الموظفين مما جعل ما يستلمونه اقل من مستحقاتهم القديمة رغم زيادة مرتباتهم الأساسية وقسمت الدرجة الخاصة الى ثلات درجات (أ) وكيل وزارة و( ب) وكيل وزارة مساعد و (ج )مدير عام بعد أن كانت كل هذه الوظائف في مستوى واحد .وقد أثار ذلك غضب كبار الموظفين ففي تاريخ واحد معين أصبح حاملوا الدرجة القديمة الخاصة تلات درجات بحسب الوظائف التي كانوا يشغلونها . كما اتار موضوع جعل توقيت العمل صباحا ومساء غضب كل الموظفين الذين تعودوا العمل في الصباح وحتى الثانية ظهرا ليتفرغوا لشراء حاجياتهم وقضاء مصالحهم بعد الظهر خاصة وأن المرأة في ليبيا لا تخرج لشراء حاجيات البيت وتنتظرمن الرجل ليقوم بذلك . كما أن صغار الموظفين كانوا يزاولون أعمالا أخرى مسائية لتحسين دخلهم لمواجهة غلاء المعيشة .وقد ادى تدمر الموظفين هذا في عهد حكومة السيد حسين مازق الى الغاء نظام الفترتين والرجوع الى نظام الفترة الواحدة .
من نقاط الضعف التي تؤخد على السيد محمود المنتصر الغاءه لرخص اصدار بعض الصحف التي تحاملت على الحكومة خلال مفاوضات الجلاء الا أن تعيينه للسيد خليفة التليسي وزيرا للأرشاد احدت تحسنا في علاقات الحكومة مع الصحافة نظرا لعلاقة التليسي برجال الصحف ورجال الفكر وفتح قنوات تعاون وتفاهم معهم للمصلحة العامة وعدم استخدام الأتارة الصحفية للجماهير .أدخل السيد محمود المنتصر عددا كبيرا من الشباب في حكومته مثل خليفة التليسي وعبد الحميد البكوش ومنصور كعبار ومصطفى بن زكري وعبد المولى لنقي ومحمد المنصوري وفؤاد الكعبازي وغيرهم كما أقنع الدكتور علي عتيقة على قبول منصب وكيل وزارة التخطيط وعين عددا كبيرا من الشباب في منصب وكيل وزارة واسند لغيرهم مسئوليات هامة وأ بعد عددا من الموظفين التقليديين من كبار السن والموظفين المعينين سياسيا غير الأكفاء وغير المؤهلين وأذكر أنه أقترح على الملك تعيين السيد منصور الكيخيا وزيرا للأقتصاد فأعترض عليه الملك وأستبدله رئيس الوزراء بعد ذلك بالسيد منصور كعبار . وكان يقول أن شئون الحكم تغيرت عما كانت عليه في السنوات الأولى للاستقلال ومهام الوزارات أصبحت فنية تحتاج الى متعلمين لتسييرها وقد أغضبت هذه السياسة الموظفين القدامى وكان معظمهم عينوا سياسيا وكذلك أعضاء مجلس الأمة الذين كانوا يعتقدون أنهم أولى واحق بالمناصب الوزارية والسياسية العليا .
كما أنه حاول الوقوف في وجه تدخل كبار رجال الأعمال مثل السيد عبدالله عابد السنوسي وتبادل معه رسائل قاسية ووقف أمام محاولاته للضغط على الوزراء للحصول على أمتيازات وخدمات غير مشروعة وكذلك رفض دفع تعويضات للسيد علي فكيني عن أملاك والده التي صادرتها أيطاليا لان التعويضات كانت قضية عامة لكثير من المواطنين ولا يجوز أعطاء البعض وحرمان الأخرين وكان السيد علي فكيني قد تحصل على منزل كبير في طرابلس وبعض الأموال أثناء حكومة السيد محمد بن عثمان وبهذا فهو أحسن حالا من غيره كما نقل السيد علي فكيني كسفير لليبيا من تونس بطلب من الحكومة التونسية لتدخله في مسائل داخلية وعلاقته السابقة بتونس التي كان يقيم فيها أثناء الأحتلال الأيطالي لليبيا .





مشروع تغيير نظام الحكم في ليبيا
...............

استدعاني محمود المنتصر بعد بضعة أيام في بيته وقال لي أنه أستشار الملك ويريد مني ترجمة الدراسة القانونية التي أعدها المستر بلت وفريق الخبراء الذين كانوا معه من اللغة الأنجليزية الى اللغة العربية لأن الملك لا يريد أي أجنبي القيام بترجمتها وكان معظم مترجمي الحكومة والديوان الملكي من الأجانب وأضاف بأن الموضوع سري للغاية ولا يعرف تفاصيله حتى رئيس الوزراء حتى الآن !؟ وأن الملك وافق على أعطائك هذه المهمة بعد أن شرح له السيد محمود المنتصرثقته بي . وقد تردد الملك في أول الأمر ويظهر أنه كان يريد معرفة مزيدا من المعلومات لأسباب أمنية من جهات أخرى لكنه وافق في النهاية على قيامي بالمهمة وسلمني السيد محمود المنتصر المظروف الذي أحضرته من المستر بلت في جنيف كما أشرت سابقا بعد أن فتح من طرف الملك .
وقد توكلت على الله وتسلمت محتويات المظروف الذي أحضرته من المستر بلت وطلب مني رئيس الديوان أستعمال مكتبه في البيت وأن لا أخذ الأوراق معي خارج المكتب باي حال من الاحوال زيادة في الحيطة . وعندما قرأت الأوراق لم أصدق فالموضوع في غاية الأهمية والوثائق كانت تضم مشروعين لتعديل الدستور الليبي أحدهما لنظام ملكي ديمقراطي مقيد يحد من سلطات الملك ويجعل كل السلطات في أيدي البرلمان ومجلس النواب بالخصوص.والمشروع الثاني لنظام جمهوري ( أي والله نظام جمهوري)شيئ غريب أن تعد مثل الدراسة بامر الملك . مشروع الدستور الملكي لا يزيد عن تعديل للدستور المعمول به أنذاك يعطي مجلس الأمة رقابة أكثر على الحكومة وتلغي سلطات الملك في تعيين الحكومة وأقالتها ألا بقرار من مجلس النواب و الغاء مشروعية حل مجلس الأمة من طرف الملك دون موافقة البرلمان نفسه ويقضي مشروع الدستور أخذ رأي مجلس النواب قبل تسمية رئيس الوزراء وعلى الحكومة الحصول على ثقة المجلس قبل مباشرة مهامها وللمجلس وحده سحب الثقة من الحكومة . وينص المشروع أيضا على أن يكون ثلتي أعضاء مجلس الشيوخ بالأنتخاب وتقوم الحكومة بالتشاور مع مجلس النواب لتعيين الثلت الباقي بمرسوم ملكي .كما يقضي المشروع بأن تعين الحكومة رئيس الديوان الملكي وكبار موظفي الديوان بمراسيم ملكية وليس بأوامر ملكية . وحدد حالات قليلة يجوز فيها حل مجلس النواب بطلب من الحكومة التي تتمتع بالأغلبية في البرلمان واجراء أنتخابات عامة في فترة لا تزيد عن ثلاتة أشهر تكون فيها الكلمة النهائية للمجلس الجديد في المواضيع التي أدت ألى حل المجلس القديم ولا يجوز حل المجلس الجديد لنفس الأسباب. كما حدد المشروع من سلطات الملك في تعيين ولي العهد أو تعديل نظام وراثة العرش وجعلها من سلطات مجلس الأمة بمجلسيه الشيوخ والنواب بما في ذلك عزل الملك أو تكليف ولي العهد ليحل محله في حالة عجزه مؤقتا عن مباشرة عمله أو سفره للخارج . ونفس الشئ ينطبق على تعديل الدستور بطلب أغلبية أحد المجلسين الشيوخ أو النواب وضرورة الحصول على أغلبية ثلتي المجلسين لأقرارأي تعديل دستوري . وكان المشروع لا يختلف عن المشروع المعمول به سواء في غلق كل التغرات الموجودة في الدستور القديم وتحديد سلطة الملك وجعله يملك ولا يحكم كملوك أوربا اليوم .وكان هدف الملك تطبيق هذا الدستور على من يخلفه ولا يعتقد أحد بأنه كان يريد تطبيقه على نفسه أثناء حياته . أما بقية فقرات المشروع فتقر نفس الحريات والحقوق التي أقرها الدستور القائم أنذاك بما في ذلك حق تاليف الأحزاب والجمعيات والنقابات والتظاهر والحريات الأساسية وميثاق حقوق الأنسان .
أما المشروع الثاني للدستور فهو الدستور الجمهوري ينص على أن نظام الحكم في ليبيا يكون جمهوريا ينتخب فيه الرئيس ونائبه لمدة أربع سنوات ( من طرف مجلس الأمة بمجلسيه أو في أنتخاب عام ) ويتولى نائب الرئيس الرئاسة بعد أنتهاء مدة الرئيس او في حالة وفاته أو أستقالته ,يجري أنتخاب نائب للرئيس الجديد بنفس الطريقة المشار أليها أعلاه . كمأ أشترط المشروع أن يكون ألرئيس ونائب الرئيس أحدهما من برقة والآخر من طرابلس بأستمرار. اما سلطات الرئيس فهي محدودة وهي نفس السلطات التي نص عليها مشروع الدستور الملكي المذكورة أعلاه للملك وتكون الحكومة مسئولة بالكامل أمام مجلس الأمة ومجلس النواب في بعض الحالات . ويوجد نص أستتنائي مؤقت بجواز أختيار الملك أدريس رئيسا مدى الحياة ويختار هو بدوره نائبه الذي سيخلفه ولم ينص المشروع عن ما إذا كان هذا النائب يحب أن يكون من برقة أو من طرابلس .. وقمت بأعداد الترجمة الى العربية بخط يدي لأنني لا أثقن الطباعة من نسخة واحدة . وكما ذّكرت لم يمكنني السيد محمود المنتصر من أخذ نسخة منها وكان يحرص كل يوم عندما انتهي من العمل والذهاب الى البيت أن لا أحمل اي ورقة معي . ولا أذكر المزيد من التفاصيل عن المشروعين لمضي فترة عن ترجمتي لهما . و أخذ السيد محمود المنتصر النص الأنجليزي الأصلي والترجمة العربية معه الى الملك ولم أسمع عن الموضوع بعد ذلك سواء أن الملك أستدعى المستربلت ورفقيه المستشارين القانونيين وعقد معهما أجتماعا بحضورالسيد حسين مازق رئيس الحكومة أنذاك و لم أعرف عن هذا الأجتماع شيئا سوى أن الملك سلم نسخة من مشروع الدستور الملكي الى السيد حسين مازق لبحثه مع الخبراء أما مشروع الدستور الجمهوري فكان للمعلومية ولا أعرف هل بحثه الملك مع السيد حسين مازق أو لا وقد أستفسرت من السيد محمود المنتصر عما تم فيه فأكد لي بأنه لا يعرف عنه شيئا منذ سلمه للملك . وفي سنة 1966 أنتشرت الأشاعات بسرعة النار في الهشيم بأن الملك يريد تعديل الدستور ويرغب في ترك العرش واذكر أن السيد محمود المنتصر قال لي أن الملك لا يعرف مصدر الأشاعة ويرشح أن يكون السيد حسين مازق المعروف بأنه ضد مثل هذا التعديل هو مصدر الأشاعات . وقد وصلت هذه الأشاعات الى أعضاء مجلس الأمة الذين أجتمعوا وأعلنوا رفضهم لأي تعديل للنظام الملكي وأنهالت برقيات الأحتجاج على القصر الملكي والديوان وعلى رئاسة الحكومة وكان الملك يعتقد أن السيد حسين مازق أخبر رئيسي الشيوخ والنواب بمشروعي التعديل للدستوركما أوعز الى وزير الداخلية بأن يطلب من المجالس البلدية والمحافظين والمتصرفين والمديرين ومستشاري وشيوخ القبائل بأرسال برقيات الأحتجاج وكانت هذه التعليمات تصدر شفويا حتى لا يعرف مصدرها . ولكن قيل أن الملك طلب التحقيق في مصدر الخبروعن وسائل نشره بهذه السرعة ولم أعرف نتائج ذلك. وترافق مع هذه الأشاعات أتهام السيد محمود المنتصر بأنه يحاول من وراء ستار مع الملك لتغيير النظام الملكي وازاحة ولي العهد واعلان النظام الجمهوري برئاسته وأن حسين مازق كان ضد مثل هذا النظام لأنه لا يخدم مصالح برقة وهو المعروف عنه بالمدافع عنها والمحافظ على مكاسبها الدستورية في الدستور القائم وأستمرار العرش في أيدي العائلة السنوسية فرئاسة الدولة في ليبيا يجب أن تكون في أيادي برقاوية حتى يمكن حفظ التوازن مع أغلبية طرابلس السكانية .. وكان السيد محمود المنتصر متألما من هذه الأشاعات التي كان يقول عنها بأنه غير صحيحة وأنه سبق وأن أبدى للملك عدم موافقته ومعارضته لأي نظام جمهوري وأن الملك لم يذكر له بأنه راغب فعلا في تعديل الدستور بل كان هذا تفكبره دائما منذ تولى الملك ولم يقدم على أتخاذ أي خطوة رسمية بشأنه .وقال أن الملك لم يطلعه على ما تم في الأجتماع بينه والمستر بلت ورفيقيه والسيد حسين مازق . وأن الملك لن يغفر للسيد حسين مازق أذاعة هذا السر أذا لم يكن بأذنه . وقد أعقب هذا الحدث أن عين الملك مجلسا أستشاريا من أربعة أعضاء من رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب وشيخ الجامعة الأسلامية ومفتي ليبيا . وقد زاد هذا الحدث من شدة كراهية ولي العهد للسيد محمود المنتصرواصبح فعلا قلقا على مستقبله .ولكن الأمور هدأت حول الموضوع حتى سنة 1969 عندما سافر الملك ألى تركيا واليونان وعادت أشاعة أن الملك قرر أعتزال الحكم وسيأتي الكلام عن هذا في الصفحات التالية في عهد حكومة السيد ونيس القذافي .









13 أكتوبر 2006
الفصل الرابع
حكومة حسين يوسف مازق
بعد أستقالة السيد محمود المنتصر ورفضي الانتقال ألى الديوان الملكي طلبت من السيد حسين مازق أن ينقلني ألى وزارة الخارجية ولكنه رغم وعده بالاستجابة لرغبتي ألا أنه طلب مني الأستمرار في عملي كوكيل وزارة لشئون الرئاسة وقد كان يعاملني بأحترام وتقدير الا أنه لم يكن يعرفني معرفة جيدة لعدم عملي معه
ولاحظت في الأيام الأولى أن السيد حسين مازق بدأ يكلف السيد حسين الغناي وكيل وزارة الخارجية والذي كان قد عمل معه في السابق ويعرفه معرفة جيدة , ببعض المسئوليات التي لها علاقة بعمل رئاسة مجلس الوزراء كأعداد خطب رئيس الوزراء في المناسبات الوطنية العامة وبعض المراسلات الهامة كما طلب مني بأن أعرض عليه بريد رئاسة مجلس الوزراء جميعه وهوكم هائل ويتجاوز يوميا مئات الرسائل والشكاوى والعرائض والطلبات وتقارير مدراء الأمن والمحافظين والسفراء و أن أحول عليه البريد السري دون فتحه .
وقد أثارت أعجابي قدرته على قراءة كل البريد الذي يحال عليه وخاصة شكاوى المواطنين وطلباتهم وكان يعلق عليها بخط يده ويكتب عليها تعليماته باحالتها للجهات المختصة للأجراء اللازم وأحيانا الطلب من الوزير المختص تلبية الطلبات التي يتقدم بها أصحاب العرائض. ولما كان معظم العرائض والشكاويوالطلبات تأتي من مواطنين من برقة فأنه كان يعرف مقدميها وقبائلهم . أما تعليقاته على تقارير السفراء فكانت تدل على مدى ألمامه بالأحداث العربية والشئون الدولية.
وفي المناسبات الدولية كانت وزارة الخارجية ترسل للرئاسة مسودة كلمة لتصدرعن رئيس الوزراء بالمناسبة وأذكر أنه كان يتعجب من بساطة وحتى من تفاهة بعض الكلمات التي كانت معدة من طرف خبراء في الخارجية وكان في غالب الأحيان يعدلها بحضوري للتأكد من بعض الأحداث وتواريخها والمصطلحات الدبلوماسية المستعملة كما كانت تعليقاته على تقارير المحافظين تتميز بالمعرفة لما يجري داخل البلاد . وكان أحيانا يسهر حتى الصباح على قراءة البريد .
كما طلب مني عدم تغيير أي موظف بما فيهم سكرتيره الخاص السيد أحمد كعوان وياوره وسائقه الخاصين، الملازم محمد أبو مرداس و السيد محمد الشريف، وجميعهم من قوة أمن طرابلس. والشئ الذي لفت نظري لأول مرة وأحرجني مع السيد حسين مازق أني وجدت أن نسبة كبيرة من موظفي رئاسة مجلس الوزراء من طرابلس ورغم أن فرع رئاسة مجلس الوزراء الذي يرأسه السيد مصطفى بن سعود وكيل الوزارة لشئون مجلس الوزراء ،وهو من برقة ، يضم عددا من الموظفين من برقة . رغم ذلك شعرت باني كنت مسئولا عن عدم تعيين موظفين من برقة نظرا لطول الفترة التي كنت فيها مسئولا عن الشئون الأدارية لرئاسة مجلس الوزراء والحقيقة التي قد تغيب عن الكثيرين أن ذلك الوضع نتج عن وجود الحكومة في طرابلس معظم الوقت منذ السنوات الأولى للأستقلال وفي عهدي السيد محمود المنتصر والدكتور محي الدين فكيني وكان من عادة الموظفين تفضيل العمل في مدنهم الأصلية مما لم يشجع الموظفين من برقة وخاصة صغارهم على طلب العمل في الحكومة الأتحادية في طرابلس كما أن الموظفين الجدد الذين عينتهم من طرابلس أخيرا كانوا من الحاصلين على شهادات جامعية ومن موظفي الرئاسة ولم يتقدم أحد لها من برقة عند أنشاء الوظائف الجديدة .
وهذا الوضع لم يكن مقصودا ولكن أنتقال الحكومة الى مدينة البيضاء نهائيا لفت نظر كثيرين من سكان برقة ومدينة البيضاءبالذات ومن ضباط قوة دفاع برقة ومستشاري قبائلها الذين أصبحوا يترددون على مكاتب رئاسة مجلس الوزراء خاصة عندما تولى السيد حسين مازق رئاسة مجلس الوزراء.وقد أستغل ذلك بعض أصحاب النوايا السيئة من ضباط قوةالأمن في البيضاء لاتهامي بالتعصب لطرابلس. وهكذا أصبحت تحت المراقبة . وكان ياور رئيس الوزراء الملازم أول محمد ابو مرداس مساعدا للياور السابق لرئيس الوزراء العقيد عبد السلام الكتاف وقد حل محله بعد أن عين هذا الأخيررئيسا لجهاز أمن الدولة في طرابلس في عهد رئيس الحكومة السابق السيد محمود المنتصر وكان يعمل من ضمن حراس رئاسة مجلس الوزراء التابعين لقوة دفاع برقة ويشاركهمفي مكاتبهم.
وقد جاءني يوما غاضبا واعلمني بأن الضابط المسئول من أمن الدولة التابع لقوة دفاع برقة والمشرف على حراسة رئاسة مجلس الوزراء يتجسس و يكتب في تقارير سرية مضللة عنه وعن جميع موظفي الرئاسة بما فيهم أنا فطلبت منه أن يحاول في غفلة منه أخذ ملف تقاريره من مكتبه وأحضاره لي واعتبارالقيام بذلك أمر مني وفعلا جاءني في اليوم التالي بالملف وكان يحتوي علىالتقارير السرية لذلك الضابط الى مديره وكانت تتناول تحرياته عن جميع موظفي الرئاسة بما فيهم الياور الخاص الملازم أول أبو مرداس نفسه والسكرتير الخاص وسائق الرئيس الخاص ويظيف الضابط في تقريره بأن وجود هؤلاء،ويعني الياوروالسائق ، حول الرئيس خطر على سلامته وأمنه وأنهما يرسلان بتقارير عن تحركات السيد حسين مازق الى العقيد عبد السلام الكتاف رئيس جهاز أمن الدولة بطرابلس ومنه الى السيد محمودالمنتصر رئيس الديوان الملكي . كما تعرضت تقارير هذا الضابط لي ووصفني بأنني متعصب لطرابلس وكل موظفي الرئاسة من طرابلس وكلهم طابور خامس و وأدعى باني أشيع بأن هناك تغييروزاري سيجري قريبا يخرج فيه السيد حسين مازق ليحل محله رئيس من طرابلس ويضيف بأني على أتصال دائم بالسيد محمود المنتصر رئيس الديوان وأوافيه بتقارير عن نشاط السيد حسين مازق وعمل الرئاسة وأني ضد النظام الملكي وناصري وقد درست في مصر وأنتقد الحكومة ونشاطها ووجودها في البيضاء وأقطن أحد البيوت المخصصة للوزراء رغم أني أعزب وأستخدمه للسهرات وأجتماعات أنصاري من الموظفين في البيضاء.
لقد صدمت بان أكتشف أني كنت مراقبا من قوات الامن مع جميع موظفي الرئاسة دون معرفتي وأنا المسئول الأول على مكاتب الرئاسة وموظفيها وأمين سر رئيس الوزراء وكانت تقاريرهذا الضابط وزملائه مليئة بتهم ملفقة لجميع موظفي رئاسة مجلس الوزراء فردا فردا ولا أساس لها من الصحة وتدل على سداجة وتفاهة كتاب تلك التقارير . كان موظفوا الرئاسة من طرابلس يعانون وضعا صعبا في مدينة البيضاء حيث كانوا يعيشون عزابا دون عائلاتهم . ولم أسمح لهم بالأنتقال الى أدارات حكومية اخرى في طرابلس ألى جانب عائلاتهم حرصا على سير عمل رئاسة مجلس الوزراء على الوجه المطلوب .
ولذلك قررت و في الحال رفع الموضوع ألى رئيس الوزراء نفسه وأخذت الملف وذهبت الى بيته كالعادة لأعرض عليه بريد الرئاسة وكان ذلك في الصباح الباكر وبعد أن فرغت من عرض البريد أستاذنته في أثارة موضوع خاص و بعد أذنه، بدأت كلامي بتذكيره بما سبق وأن قلته له، عندما ألف الحكومة ورفضى الأنتقال الى الديوان الملكي بأن العرف جرىفي ليبيا وكما في معظم أنحاء العالم أن كل رئيس حكومة جديد يتولى الحكم يختار مساعديه وموظفي مكتبه وخاصة السكرتير الخاص والياور الخاص وسائقه الخاص ومدير مكتبهمن أشخاص يتمتعون بثقته ولهذا فأنني وموظفي رئاسة مجلس الوزراء مستعدون للانتقال ألى أية أدارة حكومية أخرى في حالة رغبته تغيير جهاز مكتبه ولن نعتبر مثل هذا الأجراءعدم ثقة بل هو أجراء عاديمتعارف عليه أتخده معظم رؤساء ليبيا السابقين أما بالنسبة لي أنا فقد طلبت منه أرجاعي ألى وزارة الخارجية بأي درجة كانت. وكان رده حاسما وقال أنه يعرف وضع موظفي رئاسة مجلس الوزراء ولم يفرض أحد عليه اي موظف/t وقد أستغرب من أثارتي للموضوع معه من جديد فقمت بأعطائه فكرة عن سبب ذلك و سلمته الملف وشرحت له ظروف سحبه من الضابط المختص. وبعد أن ألقى نظرة سريعة على محتويات التقرير ظهر عليه الغضب وأحمر وجهه وهو رجل دبلوماسي ومتزن وخجول ولا يعرف الأنسان ما يجول في خاطره هل غضبه راجع ألى استنكاره لأقدام ضباط الأمن على التجسس على موظفي مكتبه أو أن غضبه كان منصبا على أهمال ضابط الأمن الذي ترك ملفه السري في متناول الأخرين وتوجه ألي بالكلام قائلا انه لم يطلب من مدير عام قوة الأمن ولا من أي ضابط أو شخص مراقبة أي موظف برئاسة مجلس الوزراء لأنه اذا كان لا يثق في بعض موظفي الرئاسة فمن يستطيع أن يمنعه من نقلهم الى مصالح حكومية أخرى و اعرب عن رضائه عن خدماتي وثقته في أخلاصي للعمل وأراد أن يخفف من وقع الموضوع بالقول أن مثل هذا العمل المشين لا يصدر ألا عن ضباط أمن جهلة يفتقرون ألى المعرفة والخبرة وهم يعتقدون بأن واجبهم هو مراقبة الأخرين وغالبا ما يعتمدون علىاستنباطات خاطئة نتيجة جهل أو غاية في نفوسهم وأبدى أسفه وأنه سيعالج الأمور مع مدير الأمن العام اللواء مفتاح بوشاح وفعلا أتصل به أثناء وجودي معه وطلب منه حضوره حالا الى بيته .

واللواء مفتاح بوشاح تربطني به علاقة عمل وصداقة منذ تعيينه في عهد حكومة السيد محمود المنتصروكان في تلك الفترة يأتي ألى مكتبي كل صباح ويسلمني مظروفا يحتوي تقارير ادارة أمن الدولة التابعة له لتسليمها ألى رئيس الوزراء وكانيرسلها أحيانا مع مساعده العقيد يونس بلقاسم.و نظرا لأني كنت أطلع على بعض هذه التقارير أحيانا فقد لفت نظره ألى أن بعض تعليقات مساعديه على ما ينشر في الصحافة الوطنية والأجنبية وبعض الكتب المدرسية لا يتمشى مع الواقع فما يكتب عن الأنقلابات العسكرية والثورات ضد الأنظمة الملكية ليس معناه دعوة الى الثورة ولا يستدعي أقتراح وقف أو ألغاء رخصة جريدة أو مجلة سواء كانت وطنية أو أجنبية أو منعها من التوزيع لمجرد نشر مثل هذه الامور التي تتعرض ألى مواضيع تاريخية لا تعرض أمن البلاد للخطر .واللواء مفتاح بو شاح رجل قبلي وشهم وتعليمه بسيط يتأثر بمن حوله من الضباط وأكثرهم في مستواه العلمي وهو مخلص للملك ومن ضباط قوة دفاع برقة التي أسسها الملك في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية .غادرت منزل رئيس الوزراء في ذلك اليوم ألى مكتبي لأواصل عملي كالعادة وفي غضون ساعة أو اقل دق جرس الهاتف في مكتبي وكان اللواء مفتاح بوشاح على الهاتف وأخبرني بانه في الطريق ألي ودخل مكتبي وعانقني وكان، ينطق أسمي "بشير" باللهجة المصرية وهوأسم لا يستعمل في مصرالا لسكان النوبة ، وذكر لي بأنه لم يأمر بفرض رقابة على موظفي الرئاسة و لم يطلب من رئيس ضباط حراسة رئاسة مجلس الوزراء القيام بذلك واشاد بعلاقاتنا وأضاف بأنه يعرفني ولا أحد يشك في أخلاصي للوطن والملك ووجودي في هذا المكتب دليل على ثقة رؤساء الوزارات المتعاقبين وأن تصرف هذا الضابط سيحاسب عليه وأنه قرر وابلغ رئيس الوزراء بتغييره ونقل كل ضباط وجنود الحراسة في رئاسة مجلس الوزراء بالبيضاء وأستبدالهم بأفراد متعلمين ولهم خبرة ومعرفة برجال الدولة حتى يمكن ضمان عدم تكرر مثل هذا العمل . كما زارني بعد ذلك حكمدار البيضاء وأبلغني أسفه بدوره وأنه نفذ تعليمات المدير العام وغير فريق الحراسة برئأسة مجلس الوزراء.
وهكذا أسدل الستار على هذه القصة الا أن الموضوع لم يغب عن دهن رئيس الوزراء و كبار ضباط الأمن في البيضاء لأنه اعتبر أختراقا لسرية قوة الأمن حتى أذا سلموا بعدم صحة المعلومات الواردة في التقاريروبعد أسابيع قليلة قام رئيس الوزراء بتغيير ياوره وسائقه الخاصين المشار أليهما أعلاه بأشخاص يعرفهم من قوة دفاع برقة عند ما كان واليا على برقة وتقرر نقل السيدين ابومرداس والشريف ألى مقر عملهما بطرابلس .وقد جعلني هذا القرار أشك في مصداقية عدم تكليف ضباط الحراسة بمراقبة موظفي الرئاسة. و رغم أني كنت أعتبر أن مثل هذا العمل بما فيه الرقابة على الموظفين قد تقتضيه المصلحة العامة لكن هذا في رأيي ليس معناه السماح لرجال المخابرات والأمن بتلفيق الأكاذيب ضد أشخاص وموظفين يتولون وظائف هامة وحساسة ولا يشك أحد في أخلاصهم للعمل والوطن .
ورغم أستمراري في العمل برئأسة مجلس الوزراء ورغم المعاملة الممتازة التي كنت ألقاها من السيد حسين مازق ألا أنه بدا واضحا لدى كبار الموظفين والوزراء والنواب وضباط الأمن ورجال الأعمال أنني لست من رجال السيد حسين مازق لكوني من طرابلس وعلاقتي قوية بالسيد محمود المنتصررئيس الديوان الملكي وقد جعل هذا الأنطباع لدى هولاء الأعتقاد بأني لست قناة أمنة أومجدية للأتصال بالسيد حسين مازق كما كنت في عهد السيد محمود المنتصروبدأوا يتصلون به عن طريق من كان على صلة به .و شعرت بأ، وكيل الوزارة لشئون مجلس الوزرتء،السيد مصطفى بن سعود، لم يعد يتعاون معي كما كان عليه في عهد الحكومة السابقة
كما لاحظت أيضا أن وزارات الخارجية والدفاع ومدراء الأمن ورئيس أركان الجيش والمحافظين لم يعودوا يتصلون بي لنقل المعلومات وتقاريرهم الى رئيس الوزراء أو نقل تعليماته أليهم كما جرى العمل في الماضي والسيد حسين مازق يتمتع بصحة ممتازة وفكر صاف وحيوية نشطة تجعله يتعامل مع كل هؤلاء بمفرده رأسا .كما عملت الجهات التي تريد الأتصال برئيس الوزراء بما في ذلك أصحاب شكاوى وطلبات مستشاري ورجال القبائل ألى البحث عن قنوات بديلة غيري للأتصال برئيس الوزراء وأقتصر عملي والأدارات التابعة لي في رئاسة مجلس الوزراء على الأجراءات الروتنية ودراسة التقارير التي تصل ألى الرئاسة وتزويد رئيس الوزراء بتعليقاتنا على التقارير وما يجري في الصحافة المحلية والأجنبية وتنفيذ تعليمات رئيس الوزراء وأعداد مراسلاته العادية .
ولم أشعر بهذا الوضع في الشهور الأولى لحكومة السيد حسين مازق خاصة وأن جميع الوزراء كانوا وزراء في عهد السيد محمود المنتصر وعلاقتي بهم أستمرت كالماضي.
هذا كما شعرت بعد فترة أن علاقة السيد حسين مازق مع السيد محمود المنتصر لم *تعد كما كانت عليه في الماضي فقد كان هناك تبادل للرأي بينهما حول موضوع جلاء القوات الأجنبية والعلاقات الليبية البريطانية والأمريكية والأنتخابات . ولكن الوضع تغير بعد تعديل السيد حسين مازق لوزارته ولم يعد يتصل هاتفيا بالسيد محمود المنتصر كالعادة ويتجنب الدخول في خلافات معه ولا يهتم برسائله و بنصائحه وأرائه في سياسة الدولة كما أنه أصبح يقتصر في أتصاله بالقصرالملكي بالسكرتير الخاص للملك رأسا بما في ذلك أرسال المراسيم الملكية للتوقيع.)وكان السيد محمود المنتصر يرغب بان تحول المراسيم الملكية ومشاريع القوانين على الديوان الملكي ليتولى دراستها ورفعها ألى الملك بعد ذلك ، غير أن هذا الاسلوب لم يتبعه السيد محمود المنتصرآبان حكومته الاولى التي أستقالت بسبب تدخل الديوان الملكي وناظر الخاصة الملكية في شئون الدولة . وهكذا أصبح السيد حسين مازق يسعى لكسب تأييد خصوم حكومة السيد محمود المنتصر السابقة وفتح صفحة جديدة في حكمه للبلاد .
ورغم أن السيد محمود المنتصر بقى رئيسا للديوان الملكي حتى الفاتح من ستمبر سنة 1969 الا أن دوره السياسي في سياسات و شئون الدولة أصبح سميا فهو لا يستشار من طرف رؤساء الحكومات ولا من طرف الملك فيما يجري من أحداث بل سمعت منه ان الملك طلب منه أن يراعي صحته وأن يستريح ويلازم بيته وأنه،أي الملك، سيتصل به أو يدعوه لزيارته في طبرق كلما أحتاج أليه. و رغم أن الملك والملكة واصلا الأتصال به للسؤال عن صحته ودعوته الى طبرق من حين الى أخر كما واصل هو الذهاب الى مكتبه كالعادة كل يوم واصبح عمل الديوان الملكي شرفيا وقاصراعلى شئون التشريفات التي يتولاها السيد فتحي الخوجة كبير التشريفات الملكية . وكان السيد محمود المنتصر يتصل بي باستمراروينتقد تخطي رؤساء الحكومات للديوان الملكي وارسال جميع المراسيم والقوانين رأسا للملك عن طريق السكرتير الخاص ولهذا لا يؤخذ رايه ولا رأي المستشار القانوني للديوان فيما يعرض على الملك وكان يتسائل عن ما هي أختصاصات وأهمية وجود الديوان الملكي وتعيين مستشارين وموظفين به ما دام الأمر كذلك وكنت أجامله وأقول له أنه هو الذي ثار على تدخل الديوان وناظر الخاصة الملكية في حكومته الأولى كما أنه على ما أذكر وأعرف كان الشخص الوحيد، عندما كان رئيسا للوزراء، الذي يتصل بالملك رأسا في أي وقت بالهاتف ويذهب الى طبرق في أي وقت ويدرس معه المراسيم ويوقعها الملك بحضوره وكان الوحيد بين رؤساء الوزارات الذي يتناول طعام الغذاء والعشاء على مائدة الملك بحضور الملكة كلما زار أوبقى في طبرق ولم يكن لرئيس الديوان او السكرتير الخاص في عهده أي دور في عمل الجكومة وعلاقاتها مع الملك .
ويظهر أن الملك أستفاد من أخطاء الماضي وأخذ برأيالسيد محمود المنتصر بعد استقالته من حكومته الأولى ووفاة السيد أبراهيم الشلحي بعدم أعطاء فرصة لرؤساء ديوانه أو رجال حاشيته بالتدخل بأسمه بينه وبين رؤساء حكوماته طوال السنوات الأخيرة وأصبح يقصر اتصاله مع رؤساء الحكومات مباشرة أو عن طريق سكرتيرهالخاض .



الأنتخابات النيابية لسنة 1965

عندما تولى السيد حسين مازق رئاسة الحكومة في 20 مارس 1965 كانت المعركة الأنتخابية على أشدها وفي مراحلها الأخيرة باشراف وزير الداخلية السيد فاضل الامير الذي تولى الوزارة في عهد السيد محمود المنتصروكان ينفذ تعليماته بشأنها حتى أستقالته وفي الحقيقة وحسب ما سمعت من وزير الداخلية لم تكن للسيد محمود المنتصر تعليمات معينة ومحددة بشأن المرشحين وهذا صحيح لأني لا أذكر أن للسيد محمود المنتصر انصار معينين يريد فوزهم في الأنتخابات أو أعداء يريد أسقاطهم فيها فقد كان يعتبر نفسه رجل الجميع دائما ولكن هذا لا يعني انه لم يوعز ألى وزير الداخلية بتنفيذ تعليمات الملك المعروفة حول عدم السماح بترشيح أوفوز النواب المعارضبن للأتفاقيات العسكرية المعروفين من مدينة طرابلس .
ورغم أن الأنتخابات جرت في عهد السيد حسين مازق ألا أنه كان يقول أنها جرت وفق تعليمات السيد محمود المنتصر ونفذها وزير الداخلية السيد فاضل الأمير و في الحقيقة وضع السيد حسين مازق لمساته الأخيرة فيها وخاصة فيما يتعلق ببرقة وقد سقط في هذه الأنتخابات جميع المرشحين المعروفين بمعارضتهم للأتفاقيات العسكرية البريطانية والأمريكية والمنادين بالجلاء العاجل عن كل التراب الليبي .
و كان أسلوب أنتخابات 1965 مختلفا عن أنتخابات 1964 ففي الأولى قامت الحكومة بأعتقال المرشحين غير المرغوب فيهم ومنعهم من الترشيح بينما في أنتخابات 1965 سمح للجميع بترشيح أنفسهم ولكن الحكومة حسب ما أشيع قامت بوضع معظم بطاقات من لم يدلوا باصواتهم في الانتخاب ، وهم كثيرون، في صناديق أنصار الحكومة مما أدى ألى هزيمة المرشحين المعارضين .
ورغم أن رد الفعل والغضب) الشعبيين في أنتخابات 1965 لم يكن بقوة رد الفعل القوي لأنتخابات 1964 الا أنه حصلت أحتجاجات كثيرة وطعن من طرف المرشحين الذين هزموا في الانتخابات التي كانت موضع شك الجماهير ففي المدن الكبرى نجح أفراد غير معروفين وسقطت أسماء لامعة لها شعبية كبيرة معروفة مما يدل على حصول التزوير وكان النواب الفائزين جميعهم من أنصار الحكومة باستثناء نائبين هما السيدان عمر التكاز وعبد الله الديفار ويظهر أنهما كانا غير معروفين للحكومة كمعارضين فلم تتعرض صناديقهم للتزوير
والله أعلم. وكان أعضاء مجلس النواب الجدد من أطوع نواب عرفهم مجلس النواب الليبي في تاريخه مما أتاح لحكومة السيد حسين مازق فترة طويلة من الأستقرار والتفرغ لاعمال التنمية وتنفيذ مشارع الخدمات التي وضعت في عهد حكومة السيد محمود المنتصر وكانت موافقة مجلس النواب على ما يعرض عليه من قوانين ومشاريع تنمية تتم بعد مناقشات خلف كواليس المجلس ومساومات مع النواب للأستجابة لمطالبهم العامة لصالح دوائرهم الأنتخابية ومصالحهم الخاصة وكان يبت في هذه الطلبات من طرف الوزراء في حينها بموافقة رئيس مجلس الوزراء ولهذا كانت مدة دورات مجلس الأمة قصيرة ولم يرى المجلس جلسات صاخبة كما كان في الماضي. و لم يشهد مجلس النواب نقاشا هاما لمواضيع سياسية حساسة كانت دائما في اول قائمة جدول أعماله مثل ألغاء المعاهدات والأتفاقيات العسكرية وجلاء القوات لأجنبية ولم يعد يجرؤأي نائب على أثارتها . ولأول مرة في تاريخ مجلس النواب الليبي لم يرتفع صوت ينادي بالجلاء ودعم الكفاح العربي ودول المواجهة . كما أن رئيس الوزراء السيد حسين مازق لم يكن برلمانيا بارزا أو خطيبا مفوها للدفاع عن سياسة الحكومة في البرلمان وكان يكره المناقشات البرلمانية كما كان غيره من رؤساء الوزارات يفعل ولهذا كان يتجنب عقد جلسات مجلس الأمة لفترة طويلة ويقصرها على مناقشة الميزانية السنوية والموافقة عليهاوكان يختار موعد انعقاد المجلس قبل العطلات الرسمية والأعياد ببضعة أيام لترفع الجلسات وتنفض الدورة ليعود النواب الىعائلاتهم في دوائرهم لقضاء عطلات الأعياد معهم خاصة أن أقامة النواب كعزاب في البيضاء غيرمريحة وكان أغلبهم يتوقون الى العودة الى عائلاتهم وأعمالهم في طرابلس وبنغازي في أقرب وقت . ونظرا لأستقرار الحكومة في البيضاء البعيدة عن المدن والتجمعات السكانية وعقد دورات البرلمانية دائما فيها فأن الشعب لم يكن يتجاوب مع ما يجري في المجلس وقرارات الحكومة في القضايا القومية الهامة التي كثيرا ما تلاقي الأحتجاجات والمظاهرات الشعبية كما كان عليه الحال عندما تعقد جلسات المجلس في طرابلس .




السيا سة الداخلية والخارجية
عين الدكتور أحمد البشتي وزيرا للخارجية في أول تعديل لحكومة السيد حسين مازق كما عين الدكتور وهبي البوري، الذي أختاره السيد حسين مازق وزيرا للخارجية عندما ألف الوزارة، ممثلا لليبيا في الأمم المتحدة في نيويورك وعقد في هذه الفترة مؤتمر وزراء الأقتصاد لدول المغرب العربي في طرابلس وحضر وزير الخارجية مؤتمرات وزراء الخارجية العرب في القاهرة كما حضر مؤتمر وزراء الخارجية الافارقة للأعداد لمؤتمر القمة الأسيوي الافريقي كما عقد المؤتمر الخامس للأوبك في طرابلس وكذلك المؤتمر الثاني لمقاطعة أسرائيل في طرابلس. بدأ السيد حسين مازق فترة حكمه اثناء أزمة العلاقات العربية مع ألمانيا بعد قرار الجامعة العربية قطع العلاقات الدبلوماسية معها بسبب مساعداتها لأسرائيل ألا أن ليبيا مع بعض الدول العربية الأخرى ترددت في تنفيذ هذا القرار وأكتفت بسحب سفيرها من بون مما أثاررد فعل معاد في الصحافة العربية وكان السيد حسين مازق بطبيعته يتجنب حدوث أي خلاف مع الدول العربية وخاصة مصر ولم يقم بزيارات رسمية الى الدول العربية والأجنبية ولم يدخل في اتفاقيات جديدة مع أية دولة عربية أو أجنبية وكانت سياسة ليبيا الخارجية في عهده هي عدم الأحتكاك وعدم أتخاذ موقف مخالف للأجماع العربي. كما توقفت في عهده الحملات الصحفية في ليبيا على الأتفاقيات العسكرية والمعاهدة البريطانية والمطالبة بجلاء القوات البريطانية.وتم في هذه الفترة جلاء القوات البريطانية من أقليم طرابلس كما أتفق عليه مع حكومة السيد محمود المنتصردون ضجة أعلامية أو أحتفال وطني رغم أنهأشيع بان الملك طلب من بريطانيا وأمريكا سرا عن طريق سفيرهما في ليبيا عدم سحب قواتهما من طرابلس الا أن الحكومة البريطانية كانت قد أصدرت قرار السحب حال موافقتها على طلب ليبيا بالجلاء ولم يكن في الأمكان الغاء القرار. وفي هذه الفترة أيضا عملت الحكومة الليبية على أضعاف ردود الفعل الشعبية للدعاية المصرية الناصرية وذلك بالموافقة على مشروع أنشاء محطة للبت التلفزيوني المباشر وتخفيض عدد المدرسين المصريين واستبدالهم بمدرسين من البلاد العربية الأخرى كما) حضرت ليبيا العديد من مؤتمرات وزراء الخارجية العرب والأفارقة ومؤتمرات القمة العربية والأفريقية ومثل ليبيا فيها الأمير الحسن الرضا ولي العهد نيابة عن الملك الذي لم يحضر أية قمة عربية أو أفريقية الأ القمة العربية الثانية في الأسكندرية تحت أصرارالسيد محمود المنتصر رئيس الحكومة أنذاك وحضر الى جانب الأمير ولي العهد في القمم لأفريقية والعربية وزير الخارجية الدكتورأحمد البشتي ولم يشترك فيها السيد حسين مازق .أما في الداخل،أتبع السيد حسين مازق سياسة الترضيات الأقليمية والقبلية والبرلمانية وقد أهتمت الحكومة في عهده بتنفيذ مشاريع التنمية التي بدأ الأعداد لها و العمل فيها خلال حكومة السيد محمود المنتصر بعد تقوية وزارة التخطيط وتعيين الدكتورعلي حمد عتيقة وكيلا لها .وشملت هذه المشاريع في عهد السيد حسين مازق توفيرمياه الري والطريق الساحلي ومشروع أدريس للأسكان وبناء جامعة بنغازي والتوسع في بناء وانشاءات مدينة البيضاء وطرح العديد من العطاءات للمشاريع الأنمائية التي نالت منها برقة نصيب الاسد.

جاءالسيد حسين مازق بالسيد سالم لطفي القاضي وزيرا للمالية وهومن الشخصيات الليبية الذين تولوا الوزارة ورئاسة مجلس النواب دون أنقطاع منذ فترة الأعداد للأستقلال في حكومة طرابلس ألمؤقتة قبل أستقلال ليبيا سنة1951 والى الفاتح من ستمبر 1969 .وقد تولى رئاسة الحكومة بالنيابة في عهد السيد حسين مازق .
كان السيد حسين مازق شخصية فذة لمن عرفه عن قرب فهو يتمتع بصفات قل أن توجد في باقي رؤساء حكومات ليبيا السابقين قبله فقد كانت ثقافته عالية رغم عدم حيازته على شهادة جامعية ولكنه تعلم في ليبيا وتدرب في العمل الأداري في العهد الايطالي وفترة الأدارة العسكرية البريطانية .كما يتميز بقدرة على التعامل مع الناس حسب مستوياتهم فهو مع السفراء الدبلوماسي القديرالذي يحظى باحترامهم وتقديرهم وهو مع شيخ القبيلة فرد من القبيلة يتكلم لغتها ويعرف حاجاتها وعاداتها ومع الشباب المتعلم المثقف الواعي يرتفع بأرائه ونقاشه الى المستوى الثقافي المطلوب معهم ويشاركهم حماسهم وأمانيهم وتطلعاتهم ومع الأجانب على مختلف مستوياتهم يرتفع ألى مستوى السياسي المحنك الحذر في كلامه وتعليقاته ومع أعضاء مجلس النواب متعاونا متجاوبا لمقترحاتهم ومطالبهم ومع أصحاب المصالح ورجال الأعمال متفهما وكريما في حدود القانون والأعراف ومع الفقير العادي كريما وقاضيا للحاجة وعطوفا . قوي الذاكرة يتذكر أي شخص سبق أن قابله في مكتبه أو التقى به خارج العمل ولو مرة واحدة وأية رسالة قرأها أو عرضت عليه مهما طالت المدة . ومن الصعب أن يعرف محدثه ما أذا كان موافقا أومعارضا لرأيه . لا يغتاب أحدا ولا يعادى أحدا جهارا ولا ينتقد أحدا من وراء ظهره مام الأخرين .
يستقبل من يطلب مقابلته أذا سمح وقته بذلك وهو يقضي كل وقته في العمل في المكتب والبيت ويرحب بضيوفه ويودعهم بأحترام حتى باب مكتبه أو منزله, صادقا في وعوده للأخرين بقدر الأمكان ولا يخيب رجاء أحد ويسعد بتلبية مطالب المواطنين بقدر المستطاع . كان يهاب الملك ولا يصر على مقابلته ألا أذا أستدعاه ولا يتصل رأسا به ويفضل الأتصال به عن طريق سكرتير الملك الخاص لنقل ما يريد أليه وأستلام تعليماته عن طريقه ولذلك كسب ثقة السكرتير الخاص.
أما في مجلس الوزراء فقد كان صبورا يستمع الى كل من يريد الكلام أو له رأي مخالف وتستمر جلسات مجلس الوزراء في عهده أياما متتالية والى الساعات المتاخرة من الليل مما جعل الوزراء غير مرتاحين لتغيبهم عن وزاراتهم طوال جلسات المجلس خاصة أن كل الوزارات بأستتناء الخارجية والدفاع كانت في طرابلس بينما مجلس الوزراء في البيضاء. لا يمل مقابلات الناس على مختلف مستوياتهم لا فرقعنده بين مواطن أو وزير.ويستقبل العشرات) من أفراد عشيرته وقبيلته التي تسكن البيضاء سواء في مكتبه نهاراأو بيته ليلا . يقيم في مدينة البيضاء بدون عائلته التي يزورها في نهاية الأسبوع والعطلات الرسمية . حذر يثق في عدد قليل من الناس وهو خجول ويحمر وجهه في حالة الغضب دون أن يفقد أتزانه ولا يحب أثارة المشاكل حتى بين مساعديه ولا يلوم أحدا أمام غريمه أو خصمه . لا يبت فيما يعرض عليه على الفور ولا يتخذ قراره أو يبدي رايه ألا بعد تفكيروتدبر . شخصية يعتريها الغموض أحيانا لا يستطيع أنسان أن يعرف ما يدور في خاطره يتهمه البعض بأنه أقليمي متعصب لبرقة ولقبيلته البراعصة ولمدينة البيضاء وهذا في رأيي ليس عيبا وكالمثل العربي لقائل بأن" الأقرباء أولى بالمعروف" . لا يستسيغ مدينة طرابلس ولا يذهب أليها بتاتا ولا يحب أن يقيم فيها ولا يعرف فيها كثيرا من المواطنين خاصة أن الناس العاديين ومشايخ القبائل والأعيان في طرابلس ليس من عادتهم ولم يتعودوا طلب مقابلة رئيس الوزراء أو حتى الوزراء وكبار الموظفين و لا أعتقد أنه يكره طرابلس وسكانها لأسباب سياسية ولكنه لا يشعر برابطة قوية نحوها . لم يذهب ألى طرابلس على ما أذكر طوال فترة رئاسته للحكومة حتى أنه) سمح لوزارة الأسكان بتخصيص بيت رئيس الوزراء في طرابلس لسكرتير الامير ولي العهد السيد عبد السلام الغماري وأعتقد أن ذلك كان بطلب من الأمير .ولم يعد لرؤساء الحكومات الذين جاءوا بعده بيت حكومي رسمي في طرابلس فالسيد عبد القادر البدري لم يذهب الى طرابلس بتاتا والسيد عبد الحميد البكوش يقيم في بيته الخاص في طرابلس ولما جاء السيد ونيس القذافي الى طرابلس في مهمة رسمية كرئيس للوزراء لم يجد وزير الأسكان له بيتا رسميا يقيم فيه وأضطر وزير الأسكان ألى أن يطلب مني بصفة شخصية أستعمال بيتي الخاص ولفترة أيام قصيرة، لأقامة رئيس الوزراء وأنتقلت أنا للاقامة في الفندق أثناءأقامة السيد ونيس القذافي في طرابلس .
وكما ذكرت رغم أن السيد حسين مازق يشعر بأنتمائه وحبه الى برقة وقبيلته ومدينة البيضاء الا أنه حريص في تعييناته للموظفين الا يكون محابيا بقدر المستطاع . وهو كالملك علاقته مع بريطانيا وثيقة منذ كان واليا ويرى فيها الحليف الوفي اما أمريكا فلا يشعر نحوها بود وأعتقد أن السبب أن أمريكا فضلت أن تجعل من طرابلس مقرا لقاعدتها وشركاتها ونشاطها وجاليتها مما ساعد على نمو طرابلس عمرانيا وأقتصاديا الشئ الذي حرمت منه بنغازي وبرقة بصفة عامة .
فقدت بريطانيا ثقتها بالسيد حسين مازق كما فقدتها بالسيد محمود المنتصر، تلك الثقة التي كانت تعتقد أنهما يبادلانها لها ، وذلك لأصرارهما على ألغاء المعاهدة والأتفاقيات العسكرية معها وجلاء قواتها من ليبيا بأسرع وقت ممكن وأعتقدت بريطانيا أن هدفهما من هذا كان التقرب من الرئيس عبد الناصروكسب شعبية في ليبيا رغم أن الملك لم يكن راضيا عن هذ ه السياسة التي وجد نفسه بموجبها مضطرا للسير معهما تحت ضغط الشعب حتى شارفت العملية على الأنتهاء وأستدركها بعد ذلك كما راينا بعملية الأستقالة والرجوع عنها مما جعل الحكوما ت المتتالية لا تعطي الموضوع أهتماما خاصا في سياساتها ومخططاتها وتناسته جماهير الشعب وخمدت الأنتفاضة الشعبية التي أشعلتها قضية الغاء الأتفاقيات والمطالبة بالجلا. فقدان بريطانيا لثقتها في السيدين محمود المنتصر وحسين مازق أكدها السير ساريل سفير بريطانيا في ليبيا في تلك الفترة 1964 – 1969 في تقاريره العديدة والمفصلة التي كان يرسلها لوزارة خارجية دولته والتي رفعت عنها الصبغة السرية ونشرت فيسجلات دار المحفوظات البريطانية اخيرا بعد مرور ثلاتين سنة من وضع الصبغة السرية عليها لتصبح مرجعا تاريخيا لسياسة بريطانيا في العالم وكما ذكرت سابقا كان السيد حسين مازق يهاب الملك وينفذ أوامره بدون مناقشة واذا أختلف معه يبعث له وسيطا له منزلة عنده مثل اللواء مفتاح بوشاح مدير عام الأمن للمحافظات الشرقية أو أحد مستشاري القبائل من كبار السن ليشرح للملك وجهة نظره وكان يعامل خصومه في برقة معاملة حسنة رغم أنهم لا يكنون له أي ود خاصة الذين ينتمون الى القبائل المنافسة لقبيلة البراعصة وكان يعامل السيد عبد القادر البدري والسيد عبد الحميد العبار رئيس مجلس الشيوخ معاملة خاصة كذلك أبناء الشلحي السيدين عمر وعبد العزيز رغم أن السيد البوصيري الشلحي كان يكرهه منذ كان واليا على برقة وقد غضب من السيد محمود المنتصر
عندما أختاره ليكون وزيرا للخارجية في حكومته الثانية بعد أن كان مبعدا منسيا .
يكره السيد حسين مازق أيضا السيد عبدالله عابد السنوسي ولا يتكلم معه وقد قاطع هذا الاخير جميع الحفلات الرسمية في عهد حكومات السادة محمود المنتصر وحسين مازق وعبد القادر البدري لانهم لم يخصصوا له ،لكونه مواطنا عاديا لا يتمتع بأية صفة رسمية ،مقعد الشرف بين رؤساء الهيئات الدستورية الثلاتفي الأحتفالات.
والسيد مازق لا يحب المظاهر ولا يرفع العلم على سيارة الرئاسة ولا يحب مرافقة سيارات الحرس لموكبه حتى في الحفلات الرسمية. ويعتبرالسيد مازق نصيرا للمرأة ويرى في الأستاذة حميدة العنيزي رائدة وراعية لقضية المرأة ويقدر دورها في هذا المجال وقد صدر في عهده قانون يمنع الموظفين من الزواج بالأجنبيات ووضع عراقيل أدارية أمام المواطنين العاديين الراغبين في الزواج من أجنبيات. السيد حسين مازق في رأيي من أذكى رؤساء حكومة ليبيا في العهد الملكي وكان طموحا لتولي زعامة البلاد عن طريق نفوذه القبلي في برقة وعلاقاته الوطيدة مع بعض زعماء طرابلس الذين عرفهم في الحكومات المتتالية منذ كان واليا على برقة رغم أنه لا يزور طرابلس ولا يعرف عنها الكثير وعقبته الوحيدة في المجال السياسي كانت عدم ثقة الملك الكاملة فيه ويرى فيه ضعفا في السيطرة على الأمور في الأزمات كما حصل له في فترة الحرب الأسرائلية العربية سنة 1967 .
في الفترة الأخيرة من حكمه بدا السيد حسين مازق يصادق عبد العزير وعمر الشلحي ليتقرب بهما ألى الملك وينافس نفوذ السيد محمود المنتصر عنده .وكانت علاقاته وطيدة مع السيد أدريس بوسيف سكرتير خاص الملك وقناة أتصاله بالملك كما أوضحت أعلاه. في سنة 1966 سافر في أجازة لأول مرة منذ توليه رئاسة مجلس الوزراء الى أيطاليا للعلاج والأستجمام وعين أقدم الوزراء السيد سالم لطفي القاضي وزير المالية رئيسا للوزراء بالوكالة .
كان السيد سالم لطفي القاضي مخلصا لرؤساء الوزارات الذين عمل معهم ولهذا بقى في الوزارة أطول فتره من غيره من الوزراء بالأضافه الى توليه رئاسة مجلس النواب لفترة طويلة .وكان بدوره طموحا ويامل في أنهاء حياته السياسية بتولي مقاليد رئاسة الوزراء خاصة أن الملك كثيرا ما يختار رؤساء الوزراء الجدد من بين اعضاء الحكومات المستقيلة لذلك كان ينتظر دوره لتولي رئاسة الحكومة بعد السيد حسين مازق لأنه كان أقدم الوزراء وتولى منصب رئيس الوزراء بالوكالة . وأثناء قيامه برئاسة الحكومة بالنيابة في عهد السيد حسين مازق أراد أن يكسب ثقة الملك ورضاء السيد حسين مازق فسارع ألى البث في عطاءات أنشاء مباني الحكومة ومنازل الوزراء والموظفين في مدينة البيضاء . ويظهر أن الملك شعر بنقطة ضعفه فاستغل زيارته له في طبرق وسلمه عن طريق سكرتيره الخاص ثلاتة مراسيم بقوانين دون مناقشتها معه لتنفيذها حالا حتى لا يؤخر تنفيذها لعودة السيد حسين مازق ورفض مناقشتها معه بعد أن سلمت له وكانت هذه المراسيم الثلاتة تتعلق بالغاء الفوائد الربوية لقروض البنك العقاري والبنك الزراعي وكذلك البنك المركزي وقد رجع السيد سالم لطفي القاضي غاضبا من طبرق وكانت تربطني به كما بينت أنفا علاقة صداقة ويعتبرني كأبنه محمد الذي كان زميلي في الدراسة وأنا أعتبره في مرتبة الوالد فهو من مصراتة وترتبط عائلته بعائلتنا منذ أمد طويل وأذكر أنه أستدعاني حال وصوله للبيضاء الى بيته الملاصق لبيتي واخبرني بان الملك لم يشاوره في أصدار هذه المراسيم الثلاتة وهي خطرة على الأقتصاد الليبي الذي يقوم على الأقتصاد المصرفي الحر و بعد أستشارته للمستشار المالي عرضها حالا على مجلس الوزراء وحاول أقناع الوزراء بالموافقة على مرسومي الغاء الفوائد على قروض البنك العقاري والبنك الزراعي وفعلا وافق المجلس عليهما وأصدرهما السيد سالم لطفي القاضي بعد توقيع الملك عليهما. أما مرسوم الغاء الفوائد على عمليات بنك ليبيا فقد لاقت معارضة من المستشارين ورفض محافظ بنك ليبيا السيد خليل البناني ونائبه تنفيذه وهددا بتقديم أستقالتهما في حالة أصرار الملك على تنفيذ المرسوم بألغاء الفوائد على قروض البنك المركزي وأنعكس هذا الرفض في سير مناقشة مجلس الوزراء وحاول السيد سالم لطفي القاضي بحنكته وخبرته السياسية أن يقنع الجميع بألغاءالوظيفة التجارية لبنك ليبيا والأبقاء عليه كبنك مركزي فقط بحيث لا يتعامل مع الليبيين بالفوائد الربوية مع الأبقاء على نظام الفائدة في استتمارات البنك في الخارج حتى لا تحرم البلاد من العوائد التي ستجنيها من أستتماراتها في الخارج ولكن فكرته هذه لم تلاقي قبولا لدى الوزراء ولدى محافظ البنك المركزي ونائبه ولهذا سعى لدى الملك بتأجيل أصدار المرسوم الخاص ببنك ليبيا المركزي لمدة ستة أشهر لدراسة ما يترتب عليه من أثار مالية وأقتصادية على البلاد.وهكذا نجح السيد سالم لطفي القاضي في تخطي أخطر مشكلة واجهته وتم حفظ مشروع المرسوم حتى عودة السيد حسين مازق من الأجازة الذي أستطاع بدوره تأجيل البت فيه حتى حفظ نهائيا وأعتقد أن عدم تنفيذ السيد سالم لطفي القاضي لمرسوم بنك ليبيا جعل الملك يغضب عليه ولم يفكر فيه أثناء استقالة السيد حسين مازق لتأليف الحكومة بدلا منه كما جرت العادة .

الأعتداء الأسرائيلي على مصر والأردن وسوريا يوم 5 يونيو1967
كما ذكرت تميزت فترة السيد حسين مازق لرئاسة الحكومة بالهدوء والأستقرارحتى هبت عاصفة الحرب العربية الأسرائلية سنة 1967 وقيام الجماهيربمظاهرات صاخبة عمت جميع أنحاء ليبيا الامر الذي لم يعرف له مثيل من قبل وذلك بمجرد أذاعة خبرالأعتداء الأسرائيلي. وكانت الجماهيرتهتف ضد بريطانيا وامريكا لمشاركتهما في الأعتداء الجوي على مصر حسب ما أعلنت) أذاعات مصر وصوت العرب بالذات وشاركت الاذاعات العربية الأخرى في نشر الخبر بما في ذلك تأكيد هذا التدخل من طرف ألملك حسين نفسه في أذاعة الأردن وكان الوضع خطيرا نظرا لوجود القواعد العسكرية البريطانية والأمريكية في ليبيا وأدعاء أذاعة صوت العرب بأن هذه القواعد أستخدمت في الأعتداء على مصر مما يعرض القوات و الجاليات الأجنبية للخطر وهاجمت الجماهير الغاضبة في بنغازي وطرابلس وبقية المدن الليبية مساكن ومتاجر اليهود والسفارتين البريطانية والأمريكية مما أدى ألى أندلاع حرائق كبيرة فيها وتدمير الجماهير بالكامل لمتاجر اليهود ومنازلهم بطرابلس كما حصل أعتداء على الأفراد والممتلكات وتراشق بالحجارة مع القوات البريطانية في بنغازي التي خرجت للمساعدة في سلامة الرعايا الأجانب. ولم تستطع قوات الأمن الليبية وقف العنف كما أن الجماهير كانت في درجة الغليان والوقوف في وجهها كان سبؤدي الى كارثة وسقوط العديد من الضحايا وزاد الطين بله كما يقال مشاركة افراد قوة الامن للجماهير في أحتجاجاتها كما تردد ضباط الأمن في أصدار تعليمات بأستعمال السلاح ضد الجماهير رغم تطور الأعتداء على الأفراد والممتلكات وذلك خوفا من تكرار حوادث يناير 1964 التي ألقيت مسئوليتها على ضباط الأمن في بنغازي وبقية المدن الليبية . كان السيد حسين مازق في موقف أقل ما يوصف بأنه حرج للغاية وكانت الحوادث أسرع منالقدرة على أتخاذ قرار بشأنها وكان الملك غاضبا أيضا وكعادته يتابع الأمور من بعد ويراقب ما تتخذه الحكومة دون أصدار اية أوامراليها وهولا يتدخل عادة في مثل هذه الحالات تاركا الأمر لرئيس ا لوزراء والحكومة تحمل مسئولياتهم وقيل أنه كانمتاثرامن الأعتداء على الأردن خاصة وأن الأخبار الأولى كانت تؤكد اشتراك الطائرات البريطانية والأمريكية في الأعتداء الأسرائيلي على مصرمما زاد في تعقيد الوضع بالنسبة ألى ليبيا وقيل أنه الملك ذهب الى خيمته في الصحراء خارج طبرق حيث يتعذر الأتصال به تلفونيا تاركا الأمر كله في أيدي الحكومة .واول قرار أتخذته الحكومةأعلانها باستنكار الأعتداء ولكن جماهير الشعب كانت تطالب بأكثر من هذا وتطالب باشتراك الجيش الليبي في المعركة ودعم الدول المعتدى عليها بالمال حالا والمطالبة من جديد بجلاء القوات البريطانية التي لا زالت في بنغازي وطبرق والقوات الأمريكية من طرابلس فورا ووقف ضخ البترول حالا وفعلا أدى هذا ألى أضراب عمال البترول وتوقف الضخ فعلا مما شل التحرك الحكومي كما كان صمت رئيس الوزراء غريبا لمن حوله ولم يكن قادرا على أتخاذ قرارعاجل وذلك راجع ألى طبيعته وتردده في أتخاذ القرار وقت الأزمات الا أن الوضع كانأخطر من التفكير طويلا في عمل أي شئ جرئ وكانت وزارة الأعلام بالذات في حيرة غير قادرة على أتباع سياسة وتعليمات محددة من الحكومة وملاحقة الأحداث المتسارعة والمتلاحقة مما دفع بوزيرها ألاستاذ خليفة محمد التليسي الى ربط الأذاعة الليبية بالأذاعة المصرية وصوت العرب الذي كان يبعث بصيحات الحماسة ويندد بأسرائيل وبريطانيا وأمريكا وواصلت الصحف الليبية نشر ما تذيعه وسائل الأعلام المصرية مما ساعد على أشتداد العنف وخاصة بعد تأكيد مصر والأردن أشتراك الطائرات البريطانية والأمريكية في الأعتداء على مطارات مصر. وشارك أفراد الجيش الليبي أنتفاضة الجماهير ورفضوا مساعدة قوات الأمن على حفظ الأمن في البلاد وأعربوا عن غضبهم لعدم مشاركتهم وأعداد وسائل النقل لهم للذهاب الى المعركة وقطعوا تعاونهم وعلاقاتهم مع أعضاء البعثة البريطانية العسكرية التي كانت تتولى تدريب الجيش الليبي كذلك أحتجت القوة الجوية الليبية التي كانت تتخذ من مطار الملاحة الأمريكي مقرا لها بمقتضى اتفاق مفاوضات الجلاء للأشراف على تحرك الطائرات الأمريكية ومنعها من الأشتراك في أي أعتداء على البلاد العربية وقرر الضباط الليبيين الأنتقال بطائراتهم الى مطار أدريس الأول بطرابلس بعد تعذر التحكم في قيام وهبوط الطائرات الأمريكية من مطار الملاحة .) و قام المقدم مصطفى القريتلي من الجيش الليبي بقتل عائلة يهودية ليبية مستعملا في جريمته سيارات وأفراد الجيش التابعين له. وكنت أعرف هذا الضابط جيدا وقد كان زميلا لي في الدراسة وتعجبت من تصرفه غير السليم. الأ انه يقال أنه أصيب بلوثة عقلية أدت به الى القيام بما قام الامر الذي أستنكره الجميع وخاصة ضباط الجيش .
أما أتحادات العمال وخاصة أتحاد نقابات البترول فقد قرروا الأضراب مطالبين الحكومة بمنع تصدير البترول لبريطانيا وأمريكا وقام العمال فعلا بوقف الضخ الى المواني البترولية والى السفن الشاحنة الراسية في الموانئ. وقامت جماهير طرابلس بقيادة عميد بلدية طرابلس الدكتور مصطفى بن زكري وبعض الشخصيات الطرابلسية المعروفة بتاليف لجنة أهلية لتنفيذ مطالب الجماهير بعد عجز الحكومة عن أتخاذ اجراءات عاجلة أو تحرك يتجاوب مع طلبات الجماهير. وقد سيطرت بعض العناصر المتطرفة على هذه اللجنة لتدعوا الى عصيان مدني مما أدى الى
عدم تعاون الحكومة مع اللجنة ألاهلية. شمل التردد وعدم أتخاذ القرار وزارة الخارجية الليبية بعدم مشاركتها العاجلة والفعالة في المساعي العربية والأجتماعات العربية في القاهرة ونيويورك وقد ادى هذا ألى زيادة الهجوم على ليبيا وخاصة من جانب الرئيس عبد الناصرو أجهزته الدعائية .
وبعد أنتهاء فترة الأرتباك دعى السيد حسين مازق مجلس الوزراء للأنعقادو أتخذ قرارات منها وقف تصدير البترول وتقديم دعم مالي عاجل للدول المتضررة وتلبية مطالب الشعب بما في ذلك أرسال ألوية من الجيش الليبي للمشاركة في المعركة وهذه الأجرءات العاجلة أغضبت الملك الذي لم يكن راضيا علي أعمال الشغب وقتل بعض اليهود وتدمير ممتلكاتهم رغم عدم أعتراضه على قرارات الحكومة في حينها وأعتكف في خيمته خارج طبرق .
كانت مدينة البيضاء ، يوم الأعتداء الأسرائيلي،كبقية المدن الليبية الاخرى
أذ خرج أغلب سكانها وسكان ضواحيها في مظاهرات عارمة لأول مرة في تاريخها ولا أعرف من أين أتى هذا الكم الهائل من البشررجال ونساء وأطفالا والتفوا حول مبنى رئاسة مجلس الوزاء يهتفون وينددون بالأعتداء ويطالبون بما تطالب به جماهير الشعب في طرابلس وبنغازي وكنا في رئاسة مجلس الوزراء نتابع أخبار ما يجري في المدن الليبية ورغم تكذيب بريطانيا وأمريكا لخبر أشتراكهما في الأعتداء لصالح أسرائيل كما كانت أذاعات مصر والأردن تؤكد ، لم تقم الأذاعة اليبية بأذاعة خبر التكذيب الأمريكي البريطاني لتهدئة جماهير الشعب الغاضبة وتخفيف الضغط على القوات البريطانية في بنغازي والجاليات الأجنبية الكبيرة في طرابلس وبنغازي وتعرض اليهود في طرابلس للأعتداء على أرواحهم ومتلكاتهم مما أضطر قوات الأمن ألى نقلهم جميعا ألى ثكنات عسكرية حماية لهم وقد قتل عدد منهم وأذكر أن السفيرين البريطاني والأمريكي كانا يحاولان الأتصال بالملك ورئيس الوزراء ووزير الخارجية دون جدوى ولم يتمكنا أما لرفض مكالماتهما أو لأنشغال رئيس الوزراء ووزير الخارجية وقد قاما شخصيا بالذهاب ألى مبنى رئاسة مجلس الوزراء في طرابلس واجتمعا بالمستر بيت هارديكر المستشار الأقتصادي لرئيس الوزراء، البريطاني (الجنسية ، و الموجود في طرابلس وأتصل هذا ألأخير بي وذكر لي أن السفيرين البريطاني والأمريكي في مكتبه ويطلبان من الحكومة بصفة مستعجلة أذاعة بيان الحكومتين البريطانية والأمريكية بنفي مشاركة القوات والطائرات الأمريكية والبريطانية في المعركة في صالح أسرائيل في الأذاعة الليبية كخبر على الأقل أذا كان هناك شكوكا حوله من طرف الحكومة الليبية حفاظا على حياة الرعايا الأجانب لأن تكرار هذا ألأدعاء المصري في الأذاعة الليبية يزيد الأمر تعقيدا وتترتب عليه نتائج وخيمة . وقد أبلغت رسالة السفيرين ألى رئيس الوزراء فذكر لي ان الموضوع قيد البحث وسيتصل بالسفيرين في الوقت المناسب لأبلاغهما بان النفي البريطاني الأمريكي سيداع حالا خاصة أن الحكومة الأردنية صححت الاخبار التي أذاعتها الأذاعة الأردنية في الساعات الأولى للمعركة عندما كان هناك أعتقاد بأن الطائرات الأسرائلية العائدة من مصركانت أتية من السفن الحربية البريطانية والأمريكية المتواجدة في البحر الابيض المتوسط كما سجلت شبكة الرادار الأردنية .
تردد السيد حسين مازق في أتخاذ قرارعاجل أغضب الملك الذي أرسل بدوره برقية مؤثرة، يظهر من صيغتها أنه كتبها بنفسه دون الأستعانة بأحد ، الى الرئيس عبد الناصر والملك حسين يستنكر فيها الأعتداء الأسرائيلي وشعوره بالألم لما تتعرض له مصر الشقيقة من خسائر في الأرواح والمعدات . ورغم أن الملك وافق على الأجراءات التي أتخذتها الحكومة المشار أليها أعلاه ألا أنه كان غير راض عن طريقة الحكومة في معالجة الأزمة والتنازلات التي قدمتها للمعارضة وأحجام قوات الأمن والجيش عن التدخل السريع للحفاظ على الأرواح والممتلكات التي تعرضت للدمار والحريق وعجزها عن حماية الأقليات والأجانب في البلاد.
وبعد أستقرار الوضع ومرور الازمة بسلام أستدعى الملك السيد حسين مازق الى طبرق وطلب منه تقديم أستقالته بعد استعراضه للأحداث التي وقعت وتقصير حكومته في واجباتها أثناء الأزمة .وكلف الملك بعدها السيد عبد القادر البدري بتشكيل الحكومة الجديدة .








14 أكتوبر 2006

ألفصل ألخامس

ألسيد عبد القادر البدري

ألسيد عبد القادر البدري رجل قبلي شهم وشجاع وثري وتحصيله التعليمي بسيط . وكان معارضا في البرلمان في كل عهود الوزارات المتعاقبة لأنه لم يكن محتاجا ألى أحد وكان يقول دائما أنه ليس في حاجة الى مناصب الدولة ويتمتع بنفوذ في قبيلة العواقيروهو صديق للشيخ عبد الحميد العبار رئيس مجلس الشيوخ من قبيلة العواقير أيضا وبعد أن فقد الملك الثقة في السيد حسين مازق نتيجة لتردده في أتخاذ أجراءات مشددة ضد المظاهرات والأنتفاضة الشعبية العارمة ضد الأعتداء الأسرائيلي وحرب 1967، أختار الملك السيد عبد القادر البدري رئيسا لمجلس الوزراء وهو الشخص الذي عرف بالحزم وعدم التردد .
جرى تغيير طفيف في قائمة وزراء الحكومة الجديدة كالعادة التي سار عليها الملك وسارع السيدعبد القادر البدري ألى أستعمال الشدة في التعامل مع وفي قمع حركة العصيان وأتخذ منالسيد عبد الحميد البكوش وزير العدل مساعدا ومستشارا فالاستاذ عبد الحميد البكوش شخص متعلم و قانوني معروف وكاتب . وفوجئت جماهير الشعب بشدة الأجراءات ضد المظاهرات والأعتقالات وتقييد حركات العمال والطلاب التي فقدت الحكومة السيطرة عليها في الأيام الأولى للحرب بسبب عدم رغبة السيد حسين مازق في أتخاذ أجراءات مشددة ضد رد الفعل الشعبي للأعتداء الأسرائيلي وأتهام بريطانيا وأمريكا بالتدخل لصالح أسرائيل. ولم يجر السيد عبد القادر البدري أي تغيير في الوزراء والموظفين . واصلت عملي كوكيل وزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء ورفض السيد عبد القادرالبدري بدوره طلبي بنقلي ألى السلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية بمجرد أن أعربت له عن رغبتي في ذلك .
كان لسيد عبد القادر البدرييعمل معظم الوقت من بيت رئيس الوزراء في البيضاء أو من بيته الخاص في بنغازي ولا يأتي ألى مبنى رئاسة مجلس الوزراء ألا لحضور جلسات المجلس وكنت أذهب له في البيت لأستعرض معه بريد الرئاسة . وقد ترك لي حرية التصرف في البريد وعدم أرسال البريد أليه كما جرى العمل مع السيد حسين مازق لأنه كما يقول ليس له وقت لقراءة كل هذا البريد وطلب مني اخذ رأيه أذا أستدعى الأمر في المراسلات الهامة فقط .
أستقبل تعيين السيد عبد القادر البدري بأستغراب وأنتقاد من الجميع حتى من الوزراء وخاصة القدامى منهم الذين يعتقدون أنهم أولى منه بمنصب رئيس مجلس الوزراء وذلك لمستوى تعليمه .وأستقال في الحال السيد سليمان الجربي وزير الدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء والذي كان يفكر فيها منذ عين من طرف السيد حسين مازق لاسباب كثيرة اهمهاعدم وجود أختصاصات معينة لمنصب وزير الدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء والأهم من ذلك هو عدم رضائه على تعيين السيد عبد القادر البدري رئيسا للوزراء لأنه يرى أنه أقدم منه وأكثر تعليما وخبرة بشئون الد ولة وكان يرى منذ قدومه للحكومة أن المستوى الثقافي والسياسي للوزراء والمسئولين في الدولة أصبح متدنيا وكان حسب ما أعتقد لا يطمح في رئاسة الحكومة أو يرغب في تحمل مسئوليات المنصب الكبيرة لا تتمشى مع شخصيتة المتواضعة وكان يحبذ أن يكون سفيرا كغيره من كبار المسئولين الذين أصبحوا يشعرون أن المناصب العامة أصبحت معرضة لتدخلات الحاشية الملكية والضغوط الشعبية الموجهة من القاهرة بوسائل الأعلام والمطالب القبلية المؤيدة من القصر .ولكن السيد عبد القادر البدري طلب من السيد سليمان الجربي البقاء في منصبه حتى يبت في أمر أستقالته . وكان السيد سليمان الجربي من المتذمرين من تعيين السيد عبد القادر البدري وكان السيد سالم لطفي القاضي وزيرالمالية وأقدم الوزراء على رأسهم.والذي كان يرى أنه أولى بمنصب رئاسة الوزراء وكان أمله أن ينهي حياته السياسية كرئيس للوزراء. ومع هذا قبل العمل مع كل رؤساء الحكومات وبقى وزيرا حتى الفاتح من ستمبر .وكانت علاقتي بالسيد سالم القاضي وطيدة ويحترمني ويصارحني برأيه فيما كان يجري .
حاولت مع السيدعبد القادر البدري أن أشرح له وجهة نظري في شأن الأعتقالات التي حصلت بعد مظاهرات حرب يونيو والقبض على الطلاب و بعض الشباب المتعلم والحزبي العاملين في الحكومة والشركات ولكن رغم أستماعه الى رأيي كان كغيره يعتقد أن سبب أهتمامي ومعارضتي للأعتقالات ترجع ألى وجود أبن عمي السيد عمر مصطفى المنتصر بينهم لكنني كنت واثقا أن هؤلاء غير خطرين على النظام وألامن ولكنهم مندفعين بحماس الشباب ووطنيته وحيويته وطموحاته وأماله وقد وعدني السيد عبد القادر البدري بأنه لن يلحق أي أدى بأي واحد منهم ما دام على رأس الحكومة وهو يحاول عدم تقديمهم للقضاء رغم أن الملك مصر على ذلك وهذا كان رد الاستاذ عبد الحميد البكوش عند ما أثرت الموضوع معه بعد أستقالة السيد عبد القادرالبدري وكان بدوره يجاملني بل صارحني بأنه يعرف أن سبب أهتمامي بهم راجع ألى وجود عمر المنتصر بينهم وهذا ليس كل الحقيقة ولكني كنت أتكلم بدافع وطني و مصلحة الحكومة وأستقرار البلاد ولهذا كنت دائما حريصا خلال عملي برئاسة مجلس الوزراء على مقابلة الطلاب والأجتماع بممثليهم أثناء المظاهرات ومناقشتهم في مطالبهم وأذكر أني كنت أجتمعت برئيس أتحاد الطلاب في طرابلس السيد الفرجاني أثناء مظاهرات الطلاب التي أنتشرت بعد خطاب الرئيس جمال عبد الناصر حول القواعد العسكرية في ليبيا محاولا أقناع الطلاب باللجوء ألى الهدوء لأن موضوع الجلاء هو موضع أهتمام الحكومة وكان رغم أستماعه لي لم يكن مقتنعا بما أقوله له وهذا شأن الشباب في عمره لأني كنت مثلهم عندما كنت طالبا في طرابلس والقاهرة وكنت أشارك في المظاهرات والأحتجاجات على ما كنا كطلاب نراه ضد مصلحة الوطن . وكنت أعتقد عن أيمان أن تعقب الطلاب والشباب المتحمس ضار بالمصلحة العامة والنظام السياسي للبلد فالأختلاف في الرأي شئ طبيعي بين البشر و يجب السماح بحرية التعبير فهي أجدى من الكبت في التفاهم ..
كان السيد عبد القادر البدري متفهما لما يجري بين طبقات الشعب فقد كان في البرلمان معارضا رغم أنه لم يكن ضد النظام . يقال ان الشيخ عبد الحميد العبار وهو من قبيلته وأحد أعضاء المجلس الأستشاري للملك كان في طبرق أثناء تعيين عبد القادرالبدري رئيسا للحكومة وهو الذي أوصى الملك بتعيينه. كانت علاقة السيد عبد القادر البدري بالسيد حسين مازق ودية في الظاهر رغم التنافس القبلي ألا أن السيد عبد القادرالبدري كان ينتقد السيد حسين مازق في سياسته وموقفه المتردد من أحدات حرب يونيو ويصفه بالضعف وأنه دفع البلاد نحو الفوضى وكان كغيره من زعماء برقة حريص على المحافظة على مصالح برقة وكان يتهم الانتفاضة الشعبية التي قامت في طرابلس أثناء حرب يونيو بأنها أقليمية ويؤكد دائما ان برقة لن تقبل سيطرة أقليم طرابلس على الأمور في ليبيا وأن الميزة السكانية التي تعتمد عليها طرابلس تقابلها ميزة وجود معظم حقول البترول في برقة مما يشكل توازنا في الثقل السياسي بين الأقليمين وهو يفضل بقاء الحكومة في البيضاء رغم أنه يفضلها في بنغازي لكنه يعرف أن ذلك كان مستحيلا لأسباب كثيرة سبق لي ذكرها . أما موقفه من المعاهدات والأتفاقيات العسكرية البريطانية والأمريكية في تلك الفترة فلم يكن واضحا ولم يثيره خلال فترة حكمه القصيرة رغم أن المعروف عنه أنه كان ضد المعاهدات والأتفاقيات العسكرية عندما كان في البرلمان .
كانت أغلبية زعماء برقة بصفة عامة يحرصون على مصالح قبائلهم و يشعورون بقوة المطالب الشعبية بجلاء القوات الأجنبية عن ليبيا ألا أن حرصهم على توازن القوى بين برقة وطرابلس ووجود مخاوف بينهم بأحتمال سيطرة طرابلس على الأمور في ليبيا في حالة وفاة الملك أو تنحيته عن الحكم وهذا جعلهم يشعرون بخطورة جلاء القوات الأجنبية على التوازن بين الأقليمين ورغم أنهم لم يستطيعوا معارضة الجلاء علنا في مجلس الأمة الا أنهم كانوا غير متحمسين للأسراع بالجلاء أو التجاوب مع دعوة السيد الرئيس عبد الناصر الى جلاء القوات البريطانية من ليبيا .
كان السيدعبد القادر البدري صريحا ويرى أن قبيلته العواقيرأولى بزعامة برقة من قبيلة البراعصة التي كانت تحتل مركز الثقل في هيكل السلطة الحكومية في ليبيا ووجود الحكومة في البيضاء ساعد على تقوية نفوذهم رغم أن قبيلة العواقيرهامة لوجودها في وحول مدينة بنغازي العاصمة الثانية لليبيا والتي تقطنها أغلبية السكان في برقة .
لم يكن السيدعبد القادر البدري متحمسا لمدينة البيضاء لكنه كان يفضل بقاء الحكومة فيها على أنتقالها الى طرابلس ورغم أن مقر عمل رئيس الحكومة في البيضاء ألا أنه كان يقضي بعض أيام الأسبوع في بنغازي . وأثار أنحيازه لقبليته العواقير بعض المشاكل عندما قام بتعيين مستشارين لقبائل برقة وتخصيص مرتبات سخية لهم وكان ضمنهم عدد غير قليل من قبيلة العواقيرالامر الذي تحاشى السيد حسين مازق أن يقوم به خلال الفترة الطويلة التي قضاها في الحكم لأنه كان يعرف حساسية مثل هذا الموضوع بين قبائل برقة . وقد ترتب على قرارالسيد البدري هذا أحتجاج القبائل الأخرى لدى الملك الذي كان بدوره يحرص على حفظ التوازن بين قبائل برقة وأعتماده على رضاها وأخلاصها في حكم البلاد.
من مزايا السيد عبد القادرالبدري صراحته وأعتداده بنفسه ولهذا لم يسمع نصيحة المحيطين به بما فيهم السيد عبد الحميد البكوش وزير العدل وأقرب الوزراء أليه بعدم التعرض لعائلة الشلحي ذات النفوذ القوي لدى الملك ولكن السيد عبد القادرالبدري أثار مع الملك وضع العقيد عبد العزيز الشلحي في الجيش وتصرفاته وتدمر ضباط الجيش منه وتدخل أفراد عائلة الشلحي في انشطة الوزارات والتوصية عن طريق القصر بتعيين ودعم بعض كبارالموظفين مما جعل معظم هؤلاء الموظفين يتصرف في شؤن العمل دون الرجوع ألى رؤسائهم ووزرائهم . ويقال أنه طلب رسميا من الملك نقل العقيد عبد العزيز الشلحي من الجيش والسيد جمعة التركي من منصب وكيل وزارة المالية وأخرين كما رفض تجديد جوازات السفر الدبلوماسية للحاجة الشلحي زوجة السيد أبراهيم الشلحي وبناتها وكن جميعهن يحظنّ بنفوذ ورعاية خاصة من طرف الملك وقد وجد الملك في تصرف السيدعبد القادر البدري عدم اللياقة لسوء معاملة عائلة ناظر خاصته السابق وصديق عمره أبراهيم الشلحي . ورغم أن الملك لم يعلن ، كعادته، عن معارضته للأجراءات التي أتخذها رئيس وزرائه ألا أن الملك شعر بتزايد الشكوى ضد السيد عبد القادر البدري فأعرب له عن عدم رضاه ويقال أنه طلب منه تقديم أستقالته بينما يقول البعض أنالسيد عبد القادر البدري لما شعر بعدم رضا الملك سارع ألى تقديم أستقالته بعد فترة لا تزيد عن ثلاتة أشهرومهد الطريق للاستاذعبد الحميد البكوش لتولي الوزارة بعده .
كانت سياسة السيد عبد القادر البدري متشددة ضد الحركات الوطنية وحاول الحد من نفوذ بعض العناصر في القصر الملكي وخاصة لأنهم كانوا في رأيه مصدر قلاقل وعدم أستقرار في الدوائر الحكومية وفي شئون التجارة والعطاءات ولتمتعهم بحصانة وكان موظفوا القصر على أختلاف درجاتهم يتقدمون بطلبات للحكومة وتلبى طلباتهم من قبل بعض الموظفين المعروفين بأرتباطاتهم بالحاشية الملكية مما أضعف من سلطات الحكومة وسيطرتها على الأمور .
كان اللواء نوري الصديق رئيس أركان الجيش السابق يجاهر بالشكوى منألعقيد عبد العزيز الشلحي وتصرفاته في الجيش وقيل أن هذا ما دفع الملك ألى تنحيته من منصب رئيس أركان الجيش وتعيين اللواء السنوسي شمس الدين السنوسي صهرألعقيدعبد العزيز الشلحي رئيسا لأركان الجيش مكانه مما زاد من سيطرة العقيد عبد العزيز على الجيش .
كانت علاقتي مع العقيد عبد العزيز الشلحي وأخيه عمر الشلحي وطيدة منذ كنت في السفارة الليبية في القاهرة الا أني حفظا لسمعتي وكرامتي كوزير في الحكومة لم أسع ألى التقرب منهما أو زيارتهما في القصر الملكي في مسة غير البعيد من مكان أقامتي بالبيضاء والذي كان السيد عمر الشلحي مستشار الملك واخوه العقيد عبد العزيز الشلحي يقيمان فيه معظم الوقت . بينما كان كثير من رجال الأعمال والمصالح يحطون الرحال من طرابلس وبنغازي لزيارتهم والتقرب أليهم لطلب رضاهم وقضاء مصالهم لدى الحكومة وكانت علاقتي مع اللواء نوري الصديق قوية نظرا للعلاقات القبلية والعائلية فهو من قبيلة الكوافي في بنغازي المتفرعة عن قبيلة الكوافي بمصراتة التي أنتمي أليها .وكان دائما يزورني في مكتبي كلما جاء لمقابلة رئيس الوزراء ويطلعني عما يجري في الجيش وتدمره من تصرفات العقيد عبد العزيز الشلحي وأنصاره في الجيش . كما كانت علاقتي مع بعض عقداء الجيش الليبي وخاصة الطرابلسيين منهم ودية فمعظمهم كانوا زملاء لي في المدرسة الثانوية أو في القاهرة أثناء دراستنا في الجامعة وكنت ألتقي بهم أحيانا أثناء العطلات في البيضاء ورغم أنهم كانوا متذمرين ويشكون من الوضع في الجيش ألا أنهم كانوا منضبطين و يقفون موقف الحياد بين أنصارالعقيد عبد العزيز الشلحي وخصومه في الجيش .
كانت علاقة السيد عبد القادر البدري بالسيد محمود المنتصر رئيس الديوان ودية للغايه لكنه لم يكن يستشيره في شئون الحكم وكان السيد البدري يرجع الى الشيخ عبد الحميدالعبار للأستشارة , وتركز عمل السيد عبد القادر البدري على شئون الأمن والجيش وأعادة الأمور الى نصابها بعد أزمة الأنتفاضة الشعبية أثر حرب يونيو 1967. ونظرا لمواقفه المتشددة مع الحاشية الملكية لم تدم فترة رئاسته للحكومة سوى ثلاثة اشهر أستقال أو أقيل بعدها وتعين بدلا منه السيد عبد الحميد البكوش رئيسل لمجلس الوزراء .

الفصل السادس

حكومة الاستاذ عبد الحميد البكوش

بعد إستقالة السيد عبد القادر البدري من رئاسة الحكومة إختار الملك الاستاذ عبد الحميد البكوش رئيسا للحكومة خلفا له وكان أصغر رئيس حكومة لليبيا ولا يزيد عمره عن 33عاما .
كان الاستاذ عبد الحميد البكوش وزيرا للعدل في حكومة السيد عبد القادر البدري والحكومات السابقة وكان تعيينه مفاجأة للكثيريين وخاصة من طرف جيل السياسيين القدامىالذين أحتكروا اهم المناصب منذ بدأ الأستقلال.
شملت حكومة الاستاذ عبد الحميد البكوش بعض العناصر القديمة مثل السادة سالم لطفي القاضي كوزير للمالية وحامد العبيدي للدفاع وأحمد عون سوف للداخلية وعمر جعودة للصحة ورغم أن الاستاذالبكوش أوضح في أول أجتماع لمجلس الوزراء بأنه أختار أعضاء الوزارة بنفسه ولم يفرض عليه الملك أي وزير ألا ان شمول من ذكروا أعلاه لعضوية الحكومة من جيل الساسة القدامى يعطي الأنطباع أن الملك حرص على بقائهم في الحكومة ليكونوا صمام أمان للشباب الذين شملهم الاستاذ البكوش في حكومته وقد ضمت حكومته بالاضافة لمن سبق ذكرهم خليطا من الأداريين القدامى والوزراء السابقين كالسادة ونيس القذافي للتخطيط والتنمية وحامد أبو سرويل للعمل والشئون الأجتماعية وأحمد الصويدق للشباب والرياضة والمهدي بوزو للدولة للشئون البرلمانية وخليفة موسى للبترول والهادي القعود للمواصلات ومن الجدد السادة حسين الغناي لشئون الخدمة المدنية وأحمد الصالحين الهوني للأعلام والثقافة وعبد الكريم لياس للزراعة وبشير المنتصرلشئون رئاسة مجلس الوزراء .
ولأول مرة تشتمل الحكومة علىعدد كبير من المؤهلين جامعيا والأداريين المتخصصين مثل السادة الدكتورأحمد البشتي للخارجية والأستاذ مصطفى بعيوللتعليم و المهندس علي الميلودي لشئون البلديات والمهندس فتحي جعودة للاشغال العامة وطارق الباروني للصناعة وعمر بن عامر للأقتصاد والتجارة وبالوكالة وزيرا للسياحة كما عيينني وزيرا للدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء خلفا للسيد سليمان الجربي الذي أستقال منذ عهد حكومة السيد عبد القادر البدري ولم يبث فيها حتى أستقالة وزارة السيد البدري .
كان الاستاذ عبد الحميد البكوش وجها جديدا لمثل هذا المنصب فلم يكن من جيل الساسة القدامى أومن كبار الموظفين المعروفين كما لم يكن من رجال القبائل البارزين وكان قد تولى الوزارة لأول مرة في عهد السيد محمود المنتصركوزير للعدل وقد أثار تعيينه في ذلك الوقت لغطا وتكهنات وتعليقات وقد كان ، قبل تعيينه وزيرا، محاميا ناجحا وكان السيد محمود المنتصر قد عرفه كمحامي سبق أن تعامل معه.
وقد أنتقد الكثيرون السيد محمود المنتصر على تعينه وزيرا لأنه كان صغير السن بالنسبة لغيره من السياسيين كما كان مترددا في قبول الوزارة وقدم أستقالته عدة مرات وسبب ذلك تخوفه من التهديدات التي تلقاها من قبل أقارب وقبائل ضباط الأمن في برقة الذين أوقفوا منذ عهد حكومة الدكتور فكيني وقد خرج ألاستاذ البكوش من وزارة السيد محمود المنتصر الثانية وعاد أليها من جديد وقد أفاده ذلك فرجع بنشاط ملحوظ وتكرر خروجه من الوزارة في عهد السيد حسين مازق ثم رجع وزيرا للعدل ليحل محل الشيخ أبوبكر نعامة . وكان خروجه من الوزارة ورجوعه أليها عدة مرات دليل على تعلقه بالمنصب العام وكذلك رغبة رؤساء الحكومات للأستفادة من خبرته القانونية.
كما أشيع أن من كان وراء تعيينه رئيسا للحكومة هو المستر دي كندول مستشار شركة شل للبترول والذي كان واليا على برقة في عهد الأدارة العسكرية البريطانية وصديق مقرب للملك والذي كانت الحكومة البريطانية تعتمد عليه في جس نبض الملك وأخد رأيه في أمور الدولة وسياسة حكوماته المتتالية وكذلك نقل النصائح والتوجيهات اليه عن طريق غير مباشر بدلا من تقديمها عن الطريق الرسمي بواسطة السفير البريطاني الذي قد يعتبر تدخلا في شئون ليبيا الداخلية .
وقد وصل الاستاذ عبد الحميد البكوش الى قمة نفوذه في وزارة السيد عبد القادر البدري حيث كان أقرب الوزراء أليه وجليسه الدائم ومستشاره في العمل اليومي وكان الملك يعرف هذا فهو لا تخفى عليه خافية وكانت أخبار الحكومة وما يجري في مجلس الوزراء تنقل أليه عن طريق بعض الوزراء القدماء الذين يتقربون اليه. وقد كانت هناك تكهنات في الماضي في من هو الذي سيخلف رئيس الحكومة السيد عبد القادر البدري في حالة أستقالته والذي يكون عادة الشخص الثاني في الحكومة المستقيلة الا أن الملك بدأ يغير في أسلوبه وبأختياره الغير متوقع للسيد البدري لرئاسة الحكومة لم يعد أحد يستطيع أن يتكهن عن من سيكون رئيس الحكومة القادم ولهذا كان تعيين الاستاذ عبد الحميد البكوش رئيسا للحكومة مفاجأة أخرى للجميع وأستقبل تعينه من قبل جميع الأوساط بردود فعل مختلفة فساسة الجيل القدامى أعتبروا تعيينه تحديا من الملك الذي خدموه بأخلاص ومنافسا يهدد مصالحهم ومكانتهم كما أعتبرته الزعامات القبلية في برقة خطرا كبيراعلى مصالحها ونفوذها فهوغير معروف لديها ولن يجدوا منه تفهما لمطالبهم كما تعودوا من الرؤساء القدامى وخاصة من كان من القبائل البرقاوية المعروفة وقد جاهر البعض منهم بعدم رضاهم بحجة ان القبائل لم تمثل تمثيلا عادلا في الوزارة. كم انه لم يكن معروفا في بنغازي رغم أنه كان وزيرا سابقا وأستقبل فيها ببرود. اما جماهير الشعب في طرابلس فقد أستبشروا به خيرا فلأول مرة في تاريخ البلاد تطل عليهم حكومة بوجوه شباب معروفين بتخصصهم في مجالات عملهم رغم أنهم ليسوا من الوجوه الوطنية المعروفة بنضالها الوطني بين جماهير الشعب. وكان الاستاذ عبد الحميد البكوش معروفا بين الشباب المتعلم بانه ماركسي التفكيرفي سنوات دراسته في القاهرة ولكنه تغير عندما دخل الحياة العملية واصبح محاميا ناجحا ثم سياسيا بارزا. أما رجال الصحافة والمثقفون فقد أستقبلوا حكومته بترحيب فهو من طبقتهم ومن جيلهم ويمثل تفكيرا متجانسا وطموحات واحدة. أما ردود الفعل لدى السفارت فقد كانت أيجابية بصفة عامة وخاصة لدى السفارتين الأمريكية والبريطانية على أساس أن مثل هذه الحكومة تضم شبابا متعلما اقدر على الأصلاح والسير بالبلاد نحو التقدم وتفهم العلاقات الدولية والمصالح المشتركة وأكتساب ثفة رجل الشارع العادي.

كان مجئ حكومة الاستاذ البكوش مرحلة جديدة في السياسة الليبية وبداية تغيير سياسي داخلي وخارجي وقبل الأسترسال في الحديث عن أعمال هذه الحكومة ومنجزاتها أود أن اتعرض بأيجاز ألى ظروف دخولي فيها كوزير للدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء.
لم تكن معرفتي بألاستاذ عبد الحميد البكوش طويلة ورغم أنه كان يدرس في جامعة القاهرة خلال فترة دراستي في نفس الجامعة الا أني لا أذكر اننا تلاقينا كثيرا للأسباب التي ذكرتها وهو أبتعادي عن الأنشطة السياسية والأجتماعية للطلاب بالاضافة الى تخرجي قبله بسنتين.
وفي فترة ما بعد الدراسة لم نلتق كثيرا فقد ألتحقت أنا بوزارة الخارجية بينما دخل هو المحاماة و لظروف عملي ، كنت معظم الوقت في مدينة البيضاء أو في السفارات في الخارج وأبتعدت بذلك عن المجتمع في طرابلس ولكنني عرفت ألاستاذ عبد الحميد البكوش جيدا لما عين وزيرا للعدل في حكومة السيد محمود المنتصر الثانية والحكومات التالية حيت كنت أراه بأستمرار لوجودي في رئاسة مجلس الوزراء وأستطيع القول بأنه لم تكن لي معه علاقات صداقة وطيدة .
والأراء في ألاستاذ عبد الحميد البكوش متضاربة فالبعض يرى فيه شخصية ناجحة وعنصرا ممتازا قادرا على تقديم افضل الخدمات للبلاد بينما يرى نفر من رفاقه في الدراسة ومن الشباب المتعلم أنه شخص لا يؤتمن جانبه ويكن بغضا لبعض رفاقه في الدراسة لأسباب مذهبية وسياسية وهو ضد البعثيين والقوميين حسب ما علمت منهم وقد يكون ذلك لكونه ماركسيا اثناء الدراسة الا انه كما ذكرت غير أفكاره بعد تخرجه واصبح رأسماليا وغربي الأنتماء سياسيا ومذهبيا.
وهو يتميز بمهارات مهنية وشخصية قوية رغم ضآلة جسمه ، طليق اللسان وكاتب ماهر وعليم بشئون البلاد السياسية والاقتصادية والأجتماعية ومثقف ملم بما يجري في العالم ولكن كانت تنقصه الخبرة في مجالات العلاقات الأنسانية والدبلوماسية في أول حياته السياسية .
لم أكن أتوقع تعييني وزيرا فلم يكن ذلك ضمن طموحاتي لأني كنت عارفا بمجرى الأمور في البلاد ولم يكن هناك ما يشجعني على العمل السياسي في ظروف البلاد
أنذاك . وأذكر أنه قبل سفر رئيس الوزراء السيد عبد القادر البدري الى طبرق لمقابلة الملك ، بعد توترعلاقاته مع القصر بسبب وضع أبناء الشلحي في بنية الدولة ، كان الاستاذ عبد الحميد البكوش ساهرا تلك الليلة معي في بيتي في البيضاء ألا أنه لم يتعرض لهدف السيد عبد القادر البدري من مقابلة الملك أو لأحتمال أستقالته وقيامه هو بتأليفه للحكومة الا أني لاحظت أنه كان يتكلم بثقة عن الفترة المقبلة للحكومة وهذا ليس غريبا لعلاقته الوطيدة بالسيدعبد القادر البدري ومشاركته له في أتخاذ القرارات و تسيير أمور الدولة فقد كان السيد البدري يركز نشاطه على الوضع الأمني للبلاد وشئون الجيش الليبي تاركا بقية الأمور للاستاذ البكوش. ولما كانت هناك اشاعات بقرب أستقاله السيد البدري من رئاسة الحكومة فأن كلامه معي عن مشاريعه في المستقبل يدل على أنه كان يعرف بأنه سيعين رئيسا للحكومة غير أن ذلك لم يلفت نظري ولم يدر بخلدي على الأطلاق . وأذكر أني أثرت معه موضوع قصر تعيين السفراء على السياسيين و الوزراء السابقين وتوقف ترقية موظفي الخارجية عند درجة مستشار مما الحق غبنا لكثير منهم الذين قضوا سنوات طويلة دون ترقية بينما واصل زملاؤهم في الخدمة المدنية الترقية الى مناصب الدرجة الخاصة دون صعوبة وقصر وظائف السفراء على جيل السياسيين القدامى الامر الذي نتج عنه حرمان السفارات الليبية من الدبلوماسيين ذوي الكفائة و المتخصصين في هذا المجال .وقد علق على كلامي بالقول أنه سيغير هذا الوضع قريبا وسيرقي المستشارين القدامي الأكفاء الى درجة سفير وسيعينون في السفارات في الخارج وقد ذكر بعضهم بالأسم مما يدل على أنه كان يفكر في الموضوع قبل أن أثيره معه .
كان بيتي في مدينة البيضاء مفتوحا لزيارة الأصدقاء من وزارة الخارجية وزملاء العمل وكان من بينهم بعض الوزراء ووكلاء الوزارات وكبار الموظفين الذين يأتون لمدينة البيضاء في مهام رسمية والأجتماع بوزرائهم الذين يقضون معظم وقتهم في البيضاء لحضور جلسات مجلس الوزراء. وكان زوار البيضاء هؤلاء يقضون سهراتهم في بيوت المقيمين في البيضاء دون عائلاتهم من أمثالي ولعب الورق الى ساعات متأخرة من الليل وكانت سهراتنا في بيتي تنتهي بأكل المكرونة المبكبكه وهي الأكلة الشعبية الليبية الشائعة والتي زاد عزاب البيضاء على مختلف مناصبهم من شعبيتها وكان الذي يعدها في بيتي هو سائقي الخاص في البيضاء مبروك عريبي وكان بدوره يدعو أصدقاءه من سائقي سيارات الوزراء العزاب وسائقي زوار البيضاء المتواجدين معي الى اكل المكرونة معه في بيتي . وكان جاري السيد سالم لطفي القاضي الوزير الشبه الدائم ووزير المالية أنذاك يصر دائما على أن أقضي السهرة معه وكان بيته بدوره يعج بزملائه الوزراء وموظفي وزارته وكبار زوار البيضاء لشرب الشاي ولعب الورق وكنت أجد صعوبة في التوفيق بين أستقبال ضيوفي في بيتي وتلبية دعوة ألسيد القاضي الذي أعزه كثيرا وأعامله كوالدي وكان يحبني ويغمرني دائما بعطفه وكرمه ويعتبرني كابنه.
هكذا كانت الحياة في مدينة البيضاءوكان هذا الوضع غريبا أذ كانت مقر رئاسة الحكومة والوزراء ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع ومكاتب لبعض الوزارات كالأسكان والأشغال في البيضاء بينما كانت باقي الوزارات في طرابلس دون الوزراء وكانت الحكومة في البيضاء بعيدة عن الشعب وكل الأعمال في طرابلس أو بنغازي والملك في طبرق والأعمال تسير بالهاتف والتنقل المستمر بالطائرات والسيارات . ورغم كل ما كان يسببه هذا التناقض من سوء ادارة وتواصل مع الشعب، لم يستطع أحد من رؤساء الحكومات أن يقنع الملك بأن هذا الوضع غير سليم وسيؤدي الى أنهيار النظام رغم أن رؤساء الحكومات البرقاويين كانوا يفضلون البيضاء على طرابلس بعد أن فقدوا الأمل في نقل الحكومة الى بنغازي العاصمة الثانية حسب الدستور الليبي لأن الملك منع نقل الحكومة أليها بعد مقتل السيد أبراهيم الشلحي بها . وكان وضع وزراء برقة لا يختلف عن وضع وزراء طرابلس فقد كانوا يقيمون في البيضاء عزابا تاركين عائلاتهم في بنغازي ولا يزورونهم الا نهاية الأسبوع وعلى كل حال فهم أقرب لعائلاتهم من وزراء طرابلس الذين يحتاجون للسفر بالسيارات والطائرات للألتحاق بعائلاتهم هناك.
وقد علق المستر أدريان بلت على هذا الوضع أثناء أجتماعي به في جنيف سنة 1965 بأن الملك لا يعرف شيئا عن الأدارة الحديثة ومتطلباتها التي تعتمد على اللجان والأجتماعات اليومية للوزراء مع موظفيهم وضرورة وجودهم قريبا من الكثافة السكنية والملك يعتقد أن الوزراء يستطيعون تسييرشئون وزاراتهم من البيضاء بالهاتف كما يفعل هونفسه مع رؤساء حكوماته من طبرق .
كما ذكرت أعلاه رافق الاستاذ عبد الحميد البكوش رئيس الوزراء السيد عبد القادر البدري في زيارته الأخيرة للملك بعد أصراره على وجهة نظره في تطهير الجيش والتمسك بالقانون في منح الجوازات الدبلوماسية وقد تراجع الملك على موافقته على بعض المقترحات التي قدمها السيد البدري له وقت تعيينه .
كان حرص السيد عبد القادر البدري على أخذ الاستاذ البكوش معه لطبرق راجع لأصراره على الأستقالة التي يعرف أن الملك سيقبلها ويبدو أنه كان راغبا في ترشيح السيد عبد الحميد البكزش للملك ليكون خلفه لتولي رئاسةالحكومة كما جرت العادة في الماضي أذ كان الملك حريصا دائما على تكليف أحد وزراء الحكومة المستقيلة بتأليف الحكومة الجديدة حتى لا يحصل تغيير كبير وفوري في سياسة البلاد.وفعلا تم ذلك وقبل الملك أستقالة السيد البدري وكلف الاستاذ عبد الحميد البكوش بتأليف الحكومة الجديدة التي ضمت معظم الوزراء في الحكومة السابقة .وكان سلفي السيد سليمان الجربي وزير الدولة لشئون الرئاسة قد سبق له أن أعرب عن رغبته في الأستقاله بعد تكليف السيد عبد القادر البدري بتأليف الحكومة لأنه كان غير راض عن مهام الوزارة وأصر على عدم التدخل في أدارة شئون الرئاسة التي كنت أتولاها كوكيل وزارة وتفرغ لما يكلفه به رئيس الوزراء من مهام خاصة لا تدخل عادة تحت أختصاصات أحد الوزراء كما شعر بعد أستقالة السيد حسين مازق أنه لا يمكنه العمل مع السيد عبد القادر البدري لأنه يرى أنه أكثر منه ثقافة وأعلى مقاما وأطول مدة في خدمة الدولة الا أنه لم يقدم أستقالته رسميا رغم أنها كانت مكتوبة وموقعة منذ ترك السيد حسين مازق الوزارة وكان يحتفظ بها في جيبه بأستمرار و لم يجرأ على تقديمها للملك خوفا من أن تعتبر رفضا لأردة الملك وقد وصل خبرأستقالتة شفويا الى الملك عن طريق السكرتير الخاص للملك ولم يتم البت في أستقالته الا أثناء تأليف الاستاذ عبد الحميد البكوش للحكومة فأضطرالاستاذ البكوش الى أيجاد بديل ليحل محله ويظهر أن الاستاذ البكوش، الذي كان حرص على أختيار الوزراء من بين وكلاء الوزارات ، قرر أختياري لأحل محل السيد سليمان الجربي في وزارة الدولة لشئون رئيس الوزراء دون أخذ رأيي مسبقا وكان العرف في ليبيا جرى على أن لا يستشار الوزراء قبل تعيينهم لأن الملك عادة يستعرض اسماء الوزراء مع رئيس وزرائه وقد يعترض على بعض من يرشحهم رئيس الوزراء أو يفرض أشخاصا من عنده كما قد يطلب بقاء بعض الوزراء في مناصبهم وكان الملك غالبا لا يتدخل في فرض كل أعضاء الحكومة على رئيس الوزراء أو يخبر الوزراء الذين أوصى بهم بأنه أختارهم ليشعر الوزراء جميعا ان الأختيار كان من طرف رئيس الوزراء ويدينون له بالولاء .
وكان العرف الشائع أن أي أعتراض من طرف المعينين بعد صدور المرسوم يفسرعلى أنه عدم ولاء للملك وقد يشطب أسم من يرفض التعيين من الترشح لأي منصب عام مستقبلا. وكان الملك يوافق على أقتراحات رئيس وزرائه بتغيير وزرائه كلما رأى ذلك ضروريا ونادرا ما يعدل الوزارة دون طلب من رئيس الوزراء سوى في حالة غيابه بطلب من رئيس الوزراء بالوكالة الذي يعينه رئيس الوزراء عادة .
سمعت خبر تعييني في وزارة الاستاذ البكوش من الأذاعة في نشرة الاخبار كما سمعها الجميع وقد كنت في البيت ومعي بعض الأصدقاء وصهري أحمد بن لامين الذي كان في البيضاء في مهمة لوزارة العدل وقد كان الخبر مفأجأة لي لأني لم أكن أسعي الى منصب وزاري ولو أردت العمل في المجال السياسي لرشحت نفسي في الأنتخابات في مصراتة منذ فترة قبل دخولي للعمل الحكومي .كما أن وجودي في وظيفة وكيل وزارة لشئون رئاسة مجلس الوزراء لفترة أكثر من أربع سنوات ومعرفتي الكاملة بالوضع السياسي المتردي زاد من تصميمي على عدم دخول المجال السياسي لأسباب كثيرة كما أني كنت أعتقد أن أختصاصات شئون الرئاسة بمكتب رئيس الوزراء غير واضحة وقد عجزت على أقناع رؤساء الحكومات السابقين بوضع أختصاصات محددة لها وقد أستطاع وكيل الوزارة السابق السيد علي المسلاتي كما ذكرت وضع أختصاصات لها أثتاء حكومة الدكتور محي الدين فكييني الا أنها ألغيت لمعارضة الوزراء بحجة تداخلها مع أختصاصاتهم كوزراء مسئولين عن كل مجال وزاراتهم أمام رئيس الوزراء مباشرة ولا يريدون جهازا يشرف عليهم ويتدخل في شئون وزاراتهم أو حتى يشاركهم في أختصاتهم . ولهذا رأيت أن تعييني وزيرا لشئون رئاسة مجلس الوزراء لن يغير من أختصاصاتي كوكيل بل يزيدها تعقيدا وقد أدى هذا الوضع في السابق الى أستقالة الوزيرين الذين توليا هذه الوزارة قبلي وهما السيدين عمر الباروني وسليمان الجربي
حال ما سنحت لهما الفرصة .
أن أهمية ومسئولية وزارة الدولة لشئون الرئاسة قد تكون كبيرة في النظام الرئاسي حيت تكون حلقة الوصل بين الرئيس والوزراء ولكن ليس لها مكان في وزارة يترأسها رئيس وزراء يتعامل مع الوزراء بشكل يومي مباشرة كما كان الحال في ليبيا انذاك .
كان الاستاذ عبد الحميد البكوش يعرف أني أرغب في الأنتقال الى وزارة الخارجية لأنه كان وزيرا للخارجية بالوكالة لعدة مرات وقد فاتحته في الموضوع مرارا ولكنه لم يفعل شيئا ولهذا أستغربت من تعييني وزيرا معه لأن معنى ذلك خروجي من كادر الخدمة المدنية بمجرد صدور المرسوم بتعييني وزيرا ومن العمل الحكومي مستقبلا في حالة أستقالة الحكومة وكنت غير مستعد لمثل هذا الوضع فقد كنت اعتمد في حياتي على الوظيفة وليس لديا دخل أعيش منه في حالة أستقالة الحكومة وهو أحتمال وارد في أي وقت . كما أن الظروف السياسية لا تساعد على العمل في منصب وزاري فسياسة الحكومات المتعاقبة في ليبييا أصبحت لا تعكس مطالب وتطلعات الشعب وهذه سياسةغير صحيحة وتؤدي ، لا محالة، الى نتائج وخيمة لا يعرف مداها الا الله سبحانه
وتعالى. والتي تمثل أغلبها في موجة الاحتجاجات والمظاهلرات التي سادت البلاد في فترات متعددة نتيجة مواقف الحكومة من القضايا العربية التي تلت هزيمة يونيه 1967 .وأستعمال العنف لقمعها وألغاء الدور الشعبي بألغاء الأحزاب والهسئات السياسية .كنت ولا زلت أعتقد أن المناصب الوزارية يجب أن تسند، مع مراعاة المؤهل العلمي، الى أعضاء مجلس الأمة أو السياسيين الذين لا يعتمدون على المرتب الحكومي في معيشتهم أو من كبار الملاك أو كبار رجال الأعمال والمهن المستقلة كالمحامين الذين يستطيعون الوقوف في وجه الضغوط وعدم التمسك بالمنصب وذلك لكونهم يتمتعون باستقلال مادي ولن تظيرهم ضغوط اعضاء البرلمان أو أصحاب المصالح من ذوي النفود وهم عادة في غنىعن المنصب و قادرون على الاستقالة في أي وقت . كما أني لست من الذين يسعون الى المناصب الوزارية من أجل تقوية مراكزهم الاجتماعية أوتحسين أوضاعهم المالية و زيادة ثرواتهم بطرق بعيدة كل البعد عن النزاهة والشرف.فقد تربيت ، والحمد لله، في عائلة طيبة وذات سمعة حسنة شبت على خدمة الناس ومصالحهم وتقديم العطاء لهم وليس الأخذ منهم وكان أفراد عائلة المنتصر التي أنتمي أليها من الملاك الميسورين القادرين في الماضي على مقاومة الضغوط السياسية وأتخاذ المواقف التي يرونها ولكن معظم أفراد العائلة اصبحوا من الطبقة المتوسطة الذين يعتمدون على العمل الحكومي والمرتب في خدمة المصلحة العامة يتعيشون منه بعد فقدانهم لأملاكهم بالتوارث والأنفاق للمحافظة على مستوياتهم ومسئولياتهم الأجتماعية كما أنهم أبعد الناس على معرفة العمل في المجال التجاري. بعد سماعي لخبر تاليف الحكومة الجديدة ذهبت الى جاري وصديقي السيد سالم لطفي القاضي الوزير المخضرم والذي أحتفظ بمنصبه في وزارة الاستاذ البكوش الجديدة وكان منزله كالعادة مليئا بالزوار من أعضاء مجلس الأمة وكبار الموظفين وزوار البيضاء من طرابلس وبنغازي وقد بادرني الجميع بالتهنئة بتعييني وزيرا وقد أستغرب بعضهم من عدم رضائي بهذا التعيين وأذكر أن عضو مجلس النواب السيد محمد الصيفاط كان حاضرا فثار في وجهي قائلا أن الوزارة أمنية لكل سياسي ومسئول في البلاد وهذه ثقة سامية أسبغت عليك رغم صغر سنك ويجب أن تكون فخورا بها . أما السيد سالم لطفي القاضي فلم يكن سعيدا بتعيين عبد الحميد البكوش رئيسا للوزراء فقد كان يعتبر نفسه أحق الوزراء بها لأقدميته، فقد كان وزيرا ولا زال منذ وحتى قبل أعلان أستقلال ليبيا حيث كان وزيرا في حكومة طرابلس المؤقتة .

قضيت تلك الليلة في دوامة ووجدت نفسي في النهاية أمام خيارين :
ألخيار الاول كان رفض المنصب وهذا أجراء لم يقدم عليه، حسب علمي، أحد من قبلي في العهد الملكي أذ جرى العرف على تعيين الوزراء دون أخذ رأيهم على أساس أنها تكليف ملكي ومخالفته معناها عدم الثقة في صاحب العرش ووالوضع في القائمة السوداء للنظام وقلما يستشارالوزراء مقدما وأي رفض قد يعتبره الملك عدم أخلاص وكثيرا ما يحرم الرافض من تولي المناصب العامة أو حتى الوظائف الحكومية الرئيسية وهذا ما لم أكن مستعدا له في ذلك الوقت .
والخيار الثاني،والذي قررت اتباعه، كان بقبول الوزارة وعمل ما أراه صحيحا في ممارسة عملي العام وخدمة البلاد في حدود أمكانياتي وأستطاعتي ثم المحاولة مع رئيس الوزراء لاعادتي الى وزارة الخارجية بأي شكل و في الوقت المناسب .
وقد تفاءلت خيرا بتعيين عدد كبير من الشباب المؤهل من وكلاء الوزارات كوزراء في تعديل حكومة الاستاذ البكوش الأول مما جعل العمل في مجلس الوزراء أكثر تجانسا. وأود هنا أن أذكر أن دخول هذه النسبة الكبيرة من الشباب المتخصص في المجالات المختلفة في الوزارة يرجع الى مبادرة من الاستاذ عبد الحميد البكوش ولو أستمر فترة أطول في الحكم لأستطاع الأستغناء عن بعض المخضرمين غيراالقادرين على التغيير والأنفتاح على الشعب والذين كانوا منتشرين في جميع مناصب ووظائف الدولة لأسباب سياسية وقبلية وأقليمية ولو تم ذلك لتغيرت الأمورفي ليبيا عما ألت أليه لاحقا . هكذا بدأت العمل مع الاستاذعبد الحميد البكوش بروح من التعاون والأخلاص المتبادل رغم أني لم أكن أعرف الكثير عن أسلوبه في العمل وسلوكه مع الناس ولهذا فأني سأحاول أن أكون صريحا في تقيمي لعمله أثناء فترة رئاسته للحكومة مع أحترامي لشخصه كصديق وزميل وأرجو أن يتقبل تقييمي له بصدر رحب .
لاحظت منذ الأيام الأولى لحكمه أنه كان جريئا في أصدار قرارته التي كان يوقعها بأسم مجلس الوزراء دون عرضها على المجلس وكان أحيانا يتصرف مع زواره بأسلوب غريب عن العادات الليبية، فقد كان يستقبل ويودع زواره وهو جالس في مكتبه والغليون في فمه وأحيانا يقوم بقراءة ما أمامه من أوراق والأستماع ألى زواره في نفس الوقت .
ورغم أني أعرف أن مقابلات المسئولين في ليبيا لا تترك لهم وقتا لدراسة ما أمامهم من ملفات سرية وعاجلة الا أن معاملة المسئولين للزوار في ليبيا تتميز دائما بالأهتمام والأحترام خاصة أن معظم زوار رئيس الحكومة و في مدينة البيضاء بالذات هم من النواب ومستشاري ومشايخ القبائل واعيان بنغازي الذين يتوقعون أستقبالا وديا ومعاملتهم وفقا لمراكزهم وكذلك كبار السن منهم يتوقعون معاملة خاصة كما عودهم رؤساء الوزراء السابقين الذين كانوا يقفون لهم عند دخولهم للمكتب ويجاملونهم بالطرق المتعارف عليها في المجتمع الليبي ويودعونهم حتى الباب عند خروجهم . وقد لاحظت أثناء عملي في رئاسة الوزراء أن الترحيب بالزواربالطرق المتعارف عليها في ليبيا، بغض النظر عن مناصبهم ومكانتهم الاجتماعية، يبعث في نفوسهم الراحة والرضا والشعورباهميتهم وهو بالنسبة لهم أهم من قضاء مصالحهم التي جاءوا من أجلها . وأذكر أن البعض من الذين يزورونني من مشايخ ومستشاري برقة كانوا يدخلون مكتبي وهم في حالة غضب من تصرفات بعض موظفي الحكومة معهم أوعدم الأهتمام بشكواهم ولكنهم سرعان ما ترتاح نفوسهم عندما أرحب بهم واستمع الى شكواهم ومطالبهم وأعرب عن أستعدادي لمراجعة المسئولين عن حالاتهم وشكواهم مبينا لهم أيضا الصعوبات التي قد تعترض تلبية مطالبهم . لهذا حرصت على أنشاء أدراة خاصة في رئاسة مجلس الوزراء تهتم بشكاوي المواطنين وطلباتهم يقوم الموظفون فيها بدراستها وأحالتها الى الوزراء المختصين بتوقيعي وبتكليف من رئيس الوزراء للنظر فيها وألرد على أصحابها كما حرصت على أن ترسل صورة من هذه الرسالة الى صاحب الشكوىأو الطلب لتمكينه مراجعة الوزارة المختصة . وقد أستغل أصحاب هذه الشكاوى والطلبات هذه الرسائل التي تبعث لهم في التردد على مكاتب الوزراء والألحاح على معرفة ما تم فيها وأحيانا الأصرار على مقابلة الوزراء المختصين . وقد أثار هذا الاجراء غضب الوزراء واثاروا الموضوع في مجلس الوزراء موضحين بأن هذا الأسلوب عطل أعمالهم وأدى الى تجمع أصحاب الشكاوى أمام مكاتبهم طلبا لمقابلتهم وأن الشكاوى المحولة من الرئاسة كثيرا ما سبق للوزارات أن درستها وأرسلت بردود لأصحابها لكن أصحاب الشكوى والطلبات الخاصة لا يقفون عند حد .لذلك أقترحت على الوزراء أنشاء مكاتب في وزاراتهم لمثل هذه الأموروللبت فيها وفعلا تم ذلك . وقد أنشأنأ بعد ذلك أدارة قانونية خاصة بالتظلمات والشكاوى برئاسة مجلس الوزراء يرأسها قاض للنظر فيها مما جعل الوزراء وكبار المسئولين في الوزارات يعطونها أهمية خاصة . وأذكر أن أحد وكلاء الوزارات وهو السيد بشير الحنش وكيل وزارة الأشغال وهو زميل وصديق أتصل بي بالهاتف وقال لي أنه يتولى فتح الرسائل التي ترسل من الرئاسة الى وزيره السيد حامد العبيدي بخصوص الشكاوى بأمر منه وأنه لاحظ بأن بعضها ضده شخصيا وأنها لا تقوم على أسس فمعظمها من مقاولين متأخرين في تنفيذ المشاريع التي تعاقدوا عليها مع الوزارة ويريد أن يعرف هل أن أرسال مثل هذه الشكاوى من طرف مكتب رئيس الوزراء ألى الوزير معناه عدم الثقة به كوكيل للوزارة وقد حاولت تطمينه بأن أحالة مثل هذه الشكاوى على الوزيرلا تعني أننا نؤيد ما جاء فيها ولكن بأمكانه الرد على رسائلنا بأن الموضوع سبق أن نظر فيه من طرف الوزارة وأحيط صاحبها علما برأي الوزارة في شكواه وستقوم رئاسة مجلس الوزراء بدورها بأعلام صاحب الشكوى بذلك ولفت نظره بعدم تكرار ذلك وأفهامه بأن أتهام موظفي الدولة كذبا سيعرضه للملاحقة القانونية . وهذه واحدة من المشاكل التي نتجت عن هذا الأجراء لفتح الباب أما المظلومين والمحتاجين لأيصال شكواهم وصوتهم الي الجهات الحكومية المختصة الذي كنت أهدف به خدمة المواطنين فأستغل من طرف اصحاب المصالح التجارية والخاصة لأستغلاله للأساءة الى سمعة بعض موظفي الدولة .
ومن ملاحظاتي على الاستاذ عبد الحميد البكوش أنه على الرغم من مهنته القانونية الاأنه كان لا يتمسك بالقانون في قراراته السياسية والأدارية وهو لا يثق في موظفي الدولة أورجال القضاء وأعتقد أن ذلك راجع ألى أنه لم يشتغل في الحكومة قط. ولهذا سلك اسلوبا مغايرا في الأدارة ولم يلتزم بنصوص قانون الخدمة المدنية في الترقيات والتعيينات التي كان يجريها أذ كان يرقي من يشاء ويعين من يشاء مما أثار موجة من الأحتجاجات بين الموظفين المتضررين وكانت حجته أن الأدارة الحكومية فيها تضخم موظفين ومعظمهم كانوا غير مؤهلين علمياوليست لهم خبرة أدارية ومعظمهم عين بطريق الواسطة الأقليمية والقبليه والمحسوبية ولا يؤدون عملا أنتاجيا . ولكن رغم ان ما كان يقوله صحيحا الأ أن الوضع كان يستدعي علاجا شاملا وفقا لقانون يخضع له الجميع.
وأود هنا أن أسجل أن جرآته في ترقية المستشارين القدامي في وزارة الخارجية الى درجة السفراء وأعتمادهم في كثير من الدول بعد أن كانت وظائف السفراء مقصورة على السياسيين ورؤساءالحكومات والوزراء السابقين أعاد الثقة الى موظفي وزارة الخارجية . ومن منجزاته الهامة أنه فتح المكاتب الحكومية أمام الصحفيين وأصبح يعقد مؤتمرات صحفية ويصدر بلاغات عن أية اجراءات وأعمال تقوم أو تنوي الحكومة القيام بها ويخاطب الشعب مباشرة والكلام بأسم الشعب الشئ الذي كان يتحاشاه رؤساء الحكومات السابقين لأنه كان مقصورا على الملك . كما أنه أصبح يقيم علاقات مع رؤساء تحرير الصحف والمثقفين ويدعمهم ماليا وعين بعضهم في جهاز الدولة كما أتبع نهجا مغايرا في تشجيع حرية الصحافة والمجالات الفكرية والأجتماعية . والأهتمام بضباط الجيش بالطلبة بالقاء المحاضرات ولأجتماع بهم وخلق باب العمل التطوعي للطلاب في أيام العطلات للعناية بالمرافق العامة والتشجير وتنظيف المدن وأزالة الأنقاض وهو أسلوب سليم للاستاذعبد الحميد البكوش قد يراه البعض سعيا للشعبية والنفوذ ويراه البعض الأخرعملا أصلاحيا أساسيا ومن هؤلاء معظم المثقفين والسفراء الأجانب ومن بينهم سفيري أمريكا وبريطانيا ولكنه في الواقع وفي رأيي لم يكن قوميا ولايجاريالشعب في طموحاته الوطنية والقومية وأنتماءاته العربية. ويعتقد أن الدول العربية لا تستطيع تقديم أي شئ لليبيا وان الدعم الذي تقدمه ليبيا للدول المتضررة من عدوان 1967 حسب قرارات مؤتمر الخرطوم وهو 30 مليون جنيه سنويا هو عبء ثقيل على الخزينة العامة و يجب التخلص منه.
كما أنه كان نادي بالشخصية الليبية محاولة لأخراج ليبيا من مجالها العربي وانتهاز سياسة تقدمية غربية أوربية دون مراعاة للأرتباطات الوطنية والقومية والأسلامية للشعب الليبي مما أثار معارضة الفئات القومية والعربية في الداخل والخارج له وهذه جبهة قوية بالأضافة الى معارضة الزعامات القبلية والعشائرية والاقليمية في ليبيا له لأسباب أخرى ولأنه لا يخدم مصالحها .وقد حاولت نصحه بأن مثل هذه السياسة غير واقعية ولن تساعده على البقاء في الحكم لتنفيذ برنامجه الأصلاحي ولكنه لم يأخذ بنصيحتي لأنه كان يرى في شخصي الشخص الطيب المسالم الحذر والمثالي في عالم السياسة وبالتعبير المصري رجل طيب معناهاعبيط !. وكنت واثقا أن نظام الحكم في ليبيا يقوم على ركائز أساسية هي القبلية والأقليمية أما بالنسبة لجماهيرالشعب الليبي فتسيطر عليها دعوة القومية والولاء للرئيس عبد الناصر والوحدة العربية وأن أي تجاهل لهذه الأعتبارات السياسة من طرف أي زعيم أو سياسي ليبي لا يكتب له النجاح لأي سياسي في النظام الليبي الملكي . وكان الاستاذ عبد الحميد البكوش واثقا من نفسه ومن ثقة الملك فيه وكان يردد بأن رؤساء الحكومات السابقين يهولون من تدخل الملك في أعمال الحكومة وعدم تجاوبه لسياسة الأنفتاح والتكلم باسم الشعب وأنه شخصيا لم يسمع منه شيئا من هذا القبيل بل كان يشجعه على الأقتراب من الشعب . وهذه ولا شك قراءة خاطئة منه لتفكير الملك وكنت أقول له في نفسي سوف ترى وليس ذلك اليوم ببعيد وهذا ما حصل له كما حصل مع غيره .
كانت مهام الحكومات الليبية المتعاقبة من أًصعب المهام في ظل النظام الملكي فهي تحاول التوفيق بين مطالب الحركات الشعبية القومية ودعوتها ألى الأنفتاح على العالم العربي والوحدة العربية والتعاون العربي في كل المجالات ومطالب فئات محلية قبلية واقليمية يدعمها الملك ويشجعها ويحافظ على مصالحها وأمتيازاتها وظهور طبقة جديدة من الشباب المثقف الذي يريد الأصلاح والمشاركة في شئون الحكم بأبداء الرأي بحرية وممارسة المسئوليات الوزارية والحكومية . بالاضافة الى ظهور فئة ثالتة تتكون من الطبقة الجديدة من رجال الأعمال والتجار التي لها وزنها لدى الملك وأصحاب النفوذ وأعضاءالبرلمان . بالأضافة ألى أن الملك رغم تسامحه وعدم تدخله في الحريات الفردية والشئون الأدارية للحكومة الا أنه يصر على أحتكار القرار السياسي في الشئون الهامة للدولة ويعتبر نفسه وليا على الشعب وأدرى بمصالحه وهو غربي في سياسته رغم تفهمه للسياسة العربية وسياسة دول الجوار وصداقته للرئيس عبد الناصر رغم الحذر في ليبيا من سياساته القومية وهو يؤمن ببريطانيا كصديق أبدي ولا يكن ودا للولايات المتحدة لأن سياستها تتغيير ويعتقد أنها دعمت الأنقلابات العسكرية في البلاد العربية والتخلص من الأنظمة الملكية كما أنها تركز نشاطها وقواعدها العسكرية في طرابلس مما أنعش الأقتصاد في طرابلس بينما لم تستفد منها برقة بشئ ..ورغم أنه ملك لليبيا جميعا الا أنه منحاز لبرقة ويعتبر نفوذه القبلي فيها مصدر قوته ولا يثق في سكان المدن الكبرى مثل بنغازي وطرابلس حيث النفوذ الناصري القوي . وبتحليل سياسة الاستاذ عبد الحميد البكوش أرىأن هناك تضاربا بين سياستة ا الوطنية الليبية والمؤيدة للغرب وبين تمسك الشعب بالقومية العربية والوحدة العربية والأخلاص للرئيس عبد الناصر وبين سياسة الاستاذ عبد الحميد البكوش الأصلاحية ومطالب القوى الأقليمية والقبلية وأصحاب المصالح ذوي النفوذ لدى الملك . كان الاستلذ عبد الحميد البكوش متكلما ماهرا قادرا على مخاطبة الطبقة المثقفة وكان يحاضرالطلاب في ا لجامعة ويتكلم عن الاصلاح والقضاء على الفقر والجهل والمرض والتخلف واللحاق بالعالم المتقدم ويلاقي كلامه تأييدا وتجاوبا من سامعية وكان دبلوماسيا عندما يتعرض في كلامه عن أرتباط ليبيا القومي بالعرب ويرى أن الشعب الليبي لا يستطيع ان يشارك في خدمة القضايا العربية الا أذا أستطاع الأعتماد على نفسه وتحقيق تقدم مادي وحضاري كما أن الدول العربية لن تستطيع مساعدة ليبيا في تحقيق مثل هذا التقدم المادي والحضاري لأنها هي نفسها تفتقرله.وليس أمام الشعب الليبي سوى الأستفادة من الغرب المتحضر والمتقدم وتحسين العلاقات معه . وشعرالاستاذ البكوش في أواخرعهده بفقدان نفوذه بين الفئات الشعبية القومية وازدياد معارضة القوى القبلية له في برقة فحاول تعزير مركزه في مجال السياسة الخارجية خاصة أنه وجد دعما من بريطانيا وأمريكا اللتين وجدتا فيه المصلح والمنقذ للنظام الملكي الذي فقد ثقة الشعب وعم فيه الفساد السياسي والمالي وعدم وضوح رؤية ولاية العهد . كما أن دعوته الوطنية ألى أعتماد الشخصية الليبية وعدم الأندفاع نحو مصر والحركات القومية في العالم العربي وتوجهه للتعاون مع الغرب كانت مصدر ترحيب الدول الغربية .
أما في المجال الداخلي فقد شعر بحاجته الى دعم من قوى سياسية معينة عندمافقد جيلالساسة القدامى وزعماء البلاد التقليديين والقبليين ثقتهم فيه ولهذا أتجه الى الحاشية الملكية ووجد في الأخوين العقيد عبد العزيز والسيد عمر الشلحي ضالته فأقام علاقات وطيدة معهما ووجدا فيهما دعما سياسيا لدى الملك وهو مان يطمح فيه لتنفيذ سياسته وهم ماكان ما كان الأخوان الشلحي ياملان فيه من توسيع نفوذهما في الحكومة الشئ الذي فشلا فيه كما فشل أخوهما السيدالبوصيري في عهود الحكومات السابقة لوقوف رؤساء الحكومات المتعاقبة ضد تدخلهما . فالأخوين الشلحي رغم رعاية الملك لهما الذي كان يساعدهم في تحسين أوضاعهم وخدمة مصالحهم الا أنه كان لا يسمع منهم عند تدخلهم في الشئون السياسية للحكومات المتعاقبة صراحة . كانت أهداف الأخوين الشلحي وأصهارهم لا تقتصر على حماية وتوسيع مصالحهما وتقوية نفودهما فقط بل كانوا يفكرون في مستقبلهم بعد وفاة الملك . فهم يشعرون بأن أفراد العائلة السنوسية يكنون لهم عداء خاصا وأن أحد ابناء العائلة السنوسية قتل والدهم السيد ابراهيم الشلحي أحتجاجا لدوره في السلطة وعلاقته مع الملك وقدلاقى السنوسيون الاضطهاد والظلم نتيجة ذلك مما زاد من بغضهم وأن ولي العهد الامير حسن الرضا في رأي أبناء الشلحي لن يخرج عن أجماع العائلة السنوسية أذا تولى الحكم بعد وفاة الملك . وكانوا يصارحون الملك بمصيرهم غير الأمن وكانت النساء منهم لا يترددون في لوم الملك وأمامه صراحة انه سبب قتل والدهم ولهذا كان الملك يعطف عليهم جميعا ويعتبر نفسه في مقام أبيهم وكان هذا مصدر قوتهم ونفوذهم مع الحكومة وسعيهم لتحسين أوضاعهم المالية بالسعي للحصول على أمتيازات لصالح شركات ترتبط بهم في العطاءات الحكومية التي كانت الحكومات المتعاقبة حريصة على نزاهتها تحسبا لردود الفعل لدى الشعب ورجال الأعمال الذين يتابعونها عن كتب . كما بدأالاستاذ البكوش في أواخر أيامه السعي لكسب ود بعض الشخصيات البرقاوية الذين أهملهم في أول حكمه وذلك بوقف تسريح العمال الحكوميين غير المنتجين الذين تغص بهم المكاتب الحكومية في برقة وتأجير الحكومة للبيوت الشاغرة في البيضاء التي بنيت بقروض حكومية في عهود الحكومات السابقة وأستئناف منح القروض العقارية و صرف مرتبات مستشاري قبائل برقة غير المدرجة في الميزانية وأعطاءالقروض الزراعية والصناعية والتعيينات الحكومية . وفي المجال الخارجي رغم أنه كان يحظى بدعم وتأييد سفراء بريطانيا وأمريكا والدول الغربية الا أنه شعر انه في حاجة الى دعم وتأييد سياسي على مستوى العواصم الغربية في واشنطن ولندن وباريس وبون وبدأ جولاته الخارجية في دول المغرب العربي وتأييد اتحاد المغرب العربي الكبير لأبعاد ليبيا عن تعلقها بمصر والمشرق العربي . وبعدها زار فرنسا وأجتمع بالرئيس الفرنسي دي جول وبدا ترتيباته لزيارة لندن وواشنطن التي لم تتم لأسباب سيأتي ذكرها. أن نقطة الضعف لدى الاستاذ عبد الحميد البكوش هي عدم فهمه لعقلية الملك فقد أغتر بتأييده ودعمه له في أول عهده ولكن فاته أن الملك يحكم بفلسفة الحكم العربية القديمة المبنية القائمة على عدم ثقة الحاكم في وزرائه ومساعديه الاقربين الذين يوليهم شئون الحكم وهو يقرأ التاريخ الأسلامي وقصة البرامكة في العهد العباسي ليست غريبة عليه و التاريخ السياسي العربي ملئ بدور المؤمرات على الخليفة والحاكم من طرف أفراد عائلته ووزرائه وأقرب مساعديه كما أنه خبير بمواقف الدول الأجنبية وخاصة بريطانيا نتيجة علاقاته الطويلة معها. ورغم أن الملك غربي في سياسته الخارجية صراحة الا أنه شعربأن أمريكا وبريطانيا وجدتا في الاستاذعبد الحميد البكوش غايتهما فهو شاب مثقف قريب من الجماهيرحريص على الشخصية الليبية والتعاون مع أمريكا وبريطانيا و في امكانه خدمة مصالحهما مما قد يدفعهما الى مساعدته لتولي حكم البلاد بدلا منه . .كما أن معظم زعماء قبائل برقة والساسة الذين يترددون على الملك حذروه من رئيس الوزراء السيد عبد الحميد البكوش وأعربوا له عن عدم ثقتهم فيه كما أن معظم العواصم العربية ومنها القاهرة غير راضية عنه وقيل أن الملك فيصل ملك السعودية اعرب للملك أدريس ع بها للمملكة السعودية و قد وجد فيه أثناء مقابلته له شابا مغرورا ومتهورا وجريئا في حضور كبار القوم لا يليق بتمثيل دولة ملكية مثل ليبيا لها تقاليدها وسياتها العربية الأسلامية ولا يؤتمن جانبه وأشار الى رفضه أداء العمرة عند زيارته للسعودية وهو تقليد تحرص المملكة العربية السعودية على توفبرلجميع كبار الزوارالمسلمين. وكانت القاهرة ،رغم علاقة الاستاذ عبد الحميد البكوش الودية بألأخوين عمر وعبد العزيز الشلحي الذين يرتبطان بعلاقة اقوية بالرئيس عبد الناصر منذ أيام السيد البوصيري الشلحي، تشعر بأن الاستاذ عبد الحميد البكوش أصبح يدفع بليبيا في أحضان الغرب بريطانيا وأمريكا بشكل أقوى من غيره من رؤساء حكومات ليبيا السابقين الذين حرصوا جميعا على المحافظة على علاقات ودية بالقاهرة والقضايا العربية رغم أرتبطاتهم الغربية . للأسباب المذكورة أعلاه كان الملك يتابع تحركات الاستاذ عبد الحميد البكوش الأخيرة عن كثب وشعربان حرصه على زيارة لندن وواشنطن يهدف الى أثارة موضوع مستقبل النظام في ليبيا معهم وهو لا يثق في أخلاصه لتناول مثل هذا الأمر على هذا المستوى العالي وأنه قد يفكر في أقامة نظام جمهوري بالأتفاق مع الامريكان لأزاحته عن العرش خاصة وأن الأمريكان والأنجليز أصبحوا قلقين على مصالحهم في ليبيا بسبب عدم وضوح مستقبل نظام وراثة العرش وتعرض ليبيا للضغط من جانب الرئيس الرئيس عبد الناصر. ولهذا سارع الملك بان يطلب من البكوش تقديم أستقالته في المقابلة التي كان المفروض أن تتناول دراسة زيارته الى لندن وواشنطن التي تمت أجراءات الأعداد لها . وبقبول استقالة السيد عبد الحميد البكوش كلف الملك السيد ونيس القذافي بتأليف الحكومة الجديدة .





الفصل السابع
حكومة السيد ونيس القذافي

كان أعفاء الملك للاستاذ عبد الحميد البكوش تحذيرا لبريطانيا وأمريكا وتأكيدا لهما بأنه الشخص الوحيد الذي له الحق الفصل في تقرير مستقبل النظام الليبي والبت في علاقات ليبيا مع الدول الأجنبية .
وقد كان رد فعل أعفاء الاستاذ عبد الحميد البكوش والغاء زيارته لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية سيئا في لندن وواشنطن وزاد من شكوك الدولتين في عدم رغبة الملك في الأصلاح وأنه يفضل أن يستمر في أدارة شئون الدولة بأسلوبه القديم وعدم أعطاء حكومته والبرلمان مبادرة التحرك ,وعدم قدرته على التجاوب مع المستجدات في البلاد وهذا في نظرهما غير صالح للنظام واستقراره ويعرض المصالح البريطانية والأمريكية والغربية بصفة العامة في ليبيا الغنية بالبترول الى الخطر في حالة حصول أي حركة ضد النظام في الجيش بتشجيع من جيرانها مصر برئآسة الرئيس جمال عبد الناصر والجزائر برئآسة الرئيس أحمد بن بلا .
وأعتقد أن أعفاء الملك للاستاذ عبد الحميد البكوش من رئاسة الحكومة كان القشة التي قسمت ظهر البعير فقد فقد الملك بهذا القرار حليفيه الأقربين بريطانيا وأمريكا ولم يأخذ رأيهما مسبقا . ومنذ ذلك التاريخ أصبحا في حل من حلفهما معه ولم يعد الملك في مركز يعتمد فيه على مساعدتهما في أي أزمة قد تواجهه مستقبلا ويظهر أنهما قررا منذ ذلك التاريخ عدم الوقوف ضد أي تغييرداخلي أو اية حركة ضد النظام في ليبيا . وبالنسبة لأمريكا كانت لا تمانع حتى ولو كان ألتغيير ناصريا لأن علاقاتها مع الرئيس جمال عبد الناصرأصبحت تتميز بالتعامل المتبادل معه على أساس أحترامه لمصالحها في المنطقة مقابل لجم التوسع والعداء الأسرائيليين .

كما أعتقد أن الملك كان في حالة نفسية سيئة وغير قادر على التفكير السليم في أتخاذه هذا القرارباعفاء الاستاذ عبد الحميد البكوش الذي وثقت فيه أمريكا وبريطانيا . ويبدو أن الملك فقد الأمل في الجميع أذ جرب الساسة القدامي مثل السيد محمود المنتصر والسيد حسين مازق فوجدا منهما تساهلا مع التيار الناصري الشعبي ورغبة كل منهما في السير مع هذا التيار . كما جرب الساسة الشباب مثل الدكتور محي الدين فكيني والاستاذ عبد الحميد البكوش فوجد في سياستهما خطرا عليه وعلى النظام الذي رسمه لليبيا . وقد أنعكست حالته النفسية وعدم قدرته على أتخاذ القرار المناسب في أختياره شخصية أدارية لتسيير الأمور بصفة مؤقتة وأعطاء نفسه مزيدا من الوقت في التفكير في مشروعه الخاص بتعديل الدستور والنظام الملكي وفي أختيار العناصر المخلصة القادرة على التجاوب مع رغباته وسياساته ومساعدته في الخروج من الحيرة التي يعيشها.
كانت أستقالة الاستاذ عبد الحميد البكوش غير متوقعة خاصة أنها جاءت في فترة كان يستعد فيها لزيارة لندن وواشنطن وقد أعدت الترتيبات للزيارتين من طرف لندن وواشنطن كما دلت على سوء تقديرالاستاذ عبد الحميد البكوش لعقلية الملك وتفكيره ولهذا لم يكن يتوقع قرار الملك باعفائه وكان يرغب في الفترة الأخيرة تعديل الوزارة وأخراج الوزراء القدامى وقيل أيضا أخراج السيدأحمد الصالحين وزير الأعلام وأنا أيضا كما أخبرني السيد أحمد الصالحين وكان على أتصال برجال القصر. لكن الملك تلكأ ولم يحددللاستاذ عبد الحميد البكوش موعدا للمقابلة لتعديل وزارته لفترة طويلة ولهذا شعرالاستاذ البكوش بأمكانية أعفائه من منصبه وكان يتمنى أن يخلفه صديقه الدكتورعلي أحمد عتيقة في مثل هذه الحالة ويقال أنه أوصى به الملك لما طلب منه الأستقالة ولكن الملك لم ياخذ بنصيحته ربما لأنه كان يعتقد أن الدور لبرقة فهو كما رأينا يوزع منصب رئيس الوزراء بين طرابلس وبرقة وأتى بالسيد محمد بن عثمان الصيد ليرضي فزان أيضا . كما أنه لا يعرف عن الدكتور علي أحمد عتيقة الكثير سوى أنه يحظى بتأييد من أمريكا وهو كما رأينا لا يثق فيها ويعتقد أنها ساعدت كل الحركات العسكرية ضد الأنظمة الملكية العربية ولن تتردد في تأييد أي حركة تمرد عليه .
وبعد رجوع الاستاذ عبد الحميد البكوش الى طرابلس أستدعي السيد ونيس القذافي وزير الخارجية من القاهرة حيث كان يحضر أجتماع وزراء الخارجية العرب وطلب منه الذهاب رأسا الى طبرق لمقابلة الملك . وبتاريخ 4 ستمبر 1968 صدر مرسوم ملكي بقبول أستقالة الاستاذ عبد الحميد البكوش وتعيين السيد ونيس القذافي رئيسا للوزراء . وقد أبقى السيد ونيس القذافي كالعادة نفس التشكيل الوزاري وكنت في هذه الفترة في أجازة في لندن وقد سمعت بخبر الأستقالة من السفير الليبي في لندن أنذاك الدكتورعمر محمود المنتصر وكان والده السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي موجودا أيضا في لندن للعلاج وقد سررت بخبر أستقالة الاستاذ عبد الحميد البكوش لأ ن ذلك معناه خروجي من الحكومة وعلي ألبدء في أيجاد عمل غير حكومي في المجال الخاص .ولكن فرحتي لم تدم طويلا أذ أخبرني السفيرقي اليوم التالي بأن أسمي ورد في قائمة حكومة السيد ونيس القذافي الجديدة كوزير دولة لشئون رئاسة الوزراء ومعنى ذلك عودتي ألى هذه الوزارة بعد أن قضيت فترة وزيرا للعدل بالوكالة بقرار من مجلس الوزراء في أواخر عهد حكومة الاستاذ البكوش على أساس أن ذلك القرار سيعتمد في التعديل الوزاري الذي كان مقررا ولكن الفترة طالت دون أن يتمكن رئيس الوزراء من الحصول على موافقة الملك على التعديل الوزاري حتى طلب الملك منه الأستقالة وبقيت وزيرا للعدل بالوكالة بقرار من مجلس الوزراء وهو وضع قانوني غير سليم نظرا لوجود الوزير الأصلي وهو رئيس الوزراء في البلاد . هذا وبعد أن أخبرني السفير الليبي في لندن بخبر دخولي لحكومة السيد ونيس القذافي تفضل والده السيد محمود المنتصر رئيس الديوان برفقة أبنه السفير الليبي بلندن بزيارتي في فندق الهيلتون في لندن لتهنئتي وبعدها رجعت الى طرابلس ومنها الى طبرق لحلف اليمين وكنت غير متحمس برجوعي ألى الحكومة وخاصة ألى وزارة الدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء.
بدأ السيد ونيس القذافي عمله كرئيس للوزراء غير متحمس وقيل أنه طلب من الملك أعفاءه نظرا لحالته الصحية ولكن الملك أصر عليه للقبول وأشك في ذلك لأنه لم يسبق لأحد من الساسة في العهد الملكي أن رفض مهمة كلفه بها الملك .

عرف السيد ونيس القذافي بكونه أداريا من الطراز الأول مترددا في أتخاذ القرار يعمل في مكتبه طوال ساعات اليوم ويستمر في العمل في بيته ليلا ليس له أعداء وتربطه علاقة وطيدة بالسيد حسين مازق فقد كان رئيسا للمجلس التنفيذي لبرقة أثناء ولاية السيد حسين مازق لها وعلاقته ودية مع السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي والحاشية الملكية كما كانت علاقته وثيقة بالاستاذ عبد الحميد البكوش وجميع رؤساء الحكومات السابقين .
استقبل تعيينه بفتور في طرابلس لأنه غير معروف شعبيا وكذلك في برقة لأنه معروف هناك بعدم الحسم في سياسته وقراراته ولكنه أستقبل بترحاب من بعض قبائل برقة لعلاقته الوثيقة بالسيد حسين مازق.

كان السيد ونيس القذافي غير طموح في السلطة واذكر أني عندما طلبت منه أن يساعدني في الرجوع الى وزارة الخارجية رفض بشدة قائلا أنه هو نفسه كان سعيدا كسفير في بون ولو خير بين منصب سفير ومنصب رئيس الوزراء لأختار منصب سفير قي أي بلد كان ولكن هذا أمر الملك وطلب مني عدم التفكير في النقل ما دام هو رئيسا للوزراء وبذلك يكون رئيس الوزراء الخامس , بعد السادة محمود المنتصر وحسين مازق وعبد القادر البدري , وعبد الحميد البكوش الذي يرفض أعادتي ألى وزارة الخارجية والأصرار على أستمراري في العمل في رئاسة مجلس الوزراء.
حاول السيد ونيس القذافي في فترة حكمه عدم الأصطدام مع أحد كما حاول أرضاء الجميع ، حسب قدرته وتوفر الأمكانيات ، وعدم تغيير أي موظف أو وزير ولم تكن له سياسة مرسومة وغايات يريد تحقيقها كالاستاذ عبد الحميد البكوش. كان يختلف مع الاستاذ عبد الحميد البكوش في سياسته العربية فقد كان يعتقد كالسيدين محمود المنتصر وحسين مازق أن الشعب الليبي قومي الشعور وناصري الأتجاه ولهذا كان حريصا على تأييد القضايا العربية وعمله السابق في وزارة الخارجية ساعد على اهتمامه بالشئون العربية والوفاء بالتزامات ليبيا العربية كما كان يرحب بأستقبال زوار ليبيا من كبار المسئولين العرب . وكان لا يعترض على موقف دول الجوار العربية ودخولها في مفاوضات مع أسرائيل على أساس قرار مجلس الأمن بعد حرب 1967 الذي كانت تعارضه معظم الدول العربية غير المجاورة لأسرائيل ومن بينها ليبيا في عهد الاستاذ عبد الحميد البكوش وعذرالسيد ونيس القذافي أن دول الجوار يجب أن تعطى حق وحرية تحرير أراضيها المحتلة من أسرائيل بأ ية طريقة تراها ولا يجب أحراجها والمزايدة على مواقفها من طرف الدول العربية البعيدة عن أسرائيل .
وكان السيد ونيس القذافي عفيفا نظيف اليد نقي القلب يقابل من يطلب مقابلته رغم أنه متغير المزاج ويحاول أن لا يفقد أعصابه نتيجة أكثاره من شرب القهوة الى درجة الأفراط . ورغم ترحيبه بالجميع في حضورهم الا أنه كثيرا ما ينتقدهم في غيابهم بأسلوبه الفكاهي اللاذع الذي يميزه عن غيره وكثيرا ما يستعمله في حل المشاكل مع الغير . وأذكر مرة كنت معه أثناء مقابلته لمستشار قبيلة من البيضاء , وكان لقب المستشار يستعمل لمشايخ القبائل في برقة لأعطائهم أهمية خاصة رسمية ، والمستشار من المترددين دائما على الملك فأستقبله رئيس الوزراء مرحبا وبعد أن مدح المستشاررئيس الوزراء للخدمات الجليلة التي يؤديها للشعب والملك وهذا في رأي المستشار ليس غريبا على السيد ونيس القذافي فهو خليفة الرجل الكبير العظيم السيد حسين مازق . وأنتهي المستشار بالقول أن لديه ثلات مطالب ، الطلب الأول يريد بيتا كبيرا لنفسه لأن له زوجتان وعدد من الأطفال وبيته الحالي صغير لا يتسع لعائلته وأن الحكومة لها بيوت جديدة جاهزة كبيرة واشار الى بعضها بالتحديد فقال له رئيس الوزراء هذه البيوت أعدت للوزراء وخاصة الطرابلسيين الذين تركوا عائلاتهم في طرابلس لانه ليست لهم مساكن في مدينة البيضاء وأضاف لا شك أن السيد المستشار يريد بقاء الحكومة في البيضاء وهذا لن يتحقق الا أذا أعددنا بيوتا للوزراء الطرابلسيين ليأتوا بعائلاتهم وليستقروا فيها والبيوت التي أشار لها المستشار قد خصصت فعلا لأصحابها وكان السيد ونيس يعرف ان المستشار حريص على بقاء الحكومة في البيضاء ومستعد للتنازل عن طلبه عن طيب خاطر في صالح بقاء الحكومة في البيضاء ولكن السيد ونيس الفذافي لا يريد أن يخيب أمل المستشارفسأله أذا كان بيته الحالي به أرض فضاء يمكن البناء عليها لتوسيعه لأنه في هذه الحالة سيطلب من وزير الأسكان بناء غرف أضافية فيه وفعلا قبل المستشار العرض وتكلم رئيس الوزراء بدوره مع وزيرالأسكان أنذاك وكان المهندس أنور أبوبكر ساسي لتنفيذ هذا الطلب . والطلب الثاني للمستشار هو الموافقة على سفره للعلاج في الخارج ومرافقة أبنه له فوافق رئيس الوزراء على الطلب وأتصل بوزير الصحة لتنفيذه . و عندما أراد المستشار ذكرطلبه الثالت طلب منه رئيس الوزراء مازحا تأجيل طلبه الثالت الى مقابلة أخرى ولكن المستشار أصر على طلبه الثالت وقال أنه يريد من رئيس الوزراء تعيين أبنه الذي لم ينجح في المدرسة بسبب مضايقة المدرسين المصريين له ؟ !! في رئاسة مجلس الوزراء في البيضاء ليكون الى جانبه وهنا أستعان الرئيس بي للأجابة فقلت له في الوقت الحاضر لا توجد وظيفة شاغرة في الرئاسة لأبنه وسننظر في طلبه أذا توفرت شواغر مستقبلا وهنا وافق المستشار على تأجيل البت في الموضوع لجلسة قادمة . وكان رئيس الوزراء يستشهد بي ليبرهن للمستشار على صدق أقواله خاصة أني من طرابلس ومن الحكومة وكان المستشار يتقبل رأيي مجاملة فأنا في رأيه ضيف في البيضاء ويحترمني رغم صغر سني كما يقول لأنني من عائلة سنوسية وذلك للعلاقة القديمة التي تربط عائلة المنتصر بالعائلة السنوسية والتي بدأت منذ مرور السيد محمد بن علي السنوسي الأول بمصراتة في طريقه ألى المشرق للحج ئم الأقامة في برقة فأكرم طوال أقامته في مصراتة من عائلة المنتصر المعروفة بأحترامها وتقديرها للأشراف دائما. وهذه القصة كانت تروى لي كلما قابلت أحد من مشائخ قبائل برقة. وبعد أن شكر المستشار رئيس الوزراء على مقابلته له وخرج من مكتبه أنفجرالسيد ونيس القذافي معلقا على تصرف المستشار قائلا أن هؤلاء المستشارين يزورون الملك ويدعون بأنهم يخدمون مصالح المواطنين ويصرون على مقابلة رئيس الوزراء والوزراء لخدمة مصالح مواطنيهم كما يدعون وهم كما رأينا يعملون على تحسين أوضاعهم ومصالحهم الخاصة ولم يذكر المستشار طلبا واحدا يهم مواطنيه أو أفراد قبيلته ، وأذا رفضت طلباتهم للمقابلة يذهبون الى للملك ويقولون له أن الحكومة لا تهتم بمطالب الشعب وتغلق الأبواب أمامهم والملك يصدقهم طبعا عن حسن نية أو قصد .
لقد سردت هذه القصة كمثل لما يجري لأن أمثالها كثيرة تحدث يوميا في مكاتب الحكومة في البيضاء ويقضي رئيس الوزراء والوزراء معظم وقتهم لمقابلة مثل هؤلاء الناس والأستماع الى مطالبهم وتلبية ما يمكن من طلباتهم الخاصة وهذا السبب في أصرار زعماء القبائل والملك على بقاء الحكومة في البيضاء لتكون قريبة منهم وقل أن يأتي الى البيضاء مواطن عادي أو شيخ قبيلة من أقليم طرابلس للمراجعة باستتناء نواب البرلمان أو موظفي الحكومة .
و في طرابلس لم يتعود مشائخ القبائل على طلب مقابلة رئيس الوزراء أو حتى الوزراء وكبار موظفي الدولة او التقدم بمثل هذه الطلبات وكل ما كانوا يسعون اليه هو الوصول الى المسئولين في السلطات المحلية لمتابعة الامور التي تهم قبائلهم . وكانت أتصالات السيد ونيس القذافي بالملك تتم عن طريق السكرتيرالخاص للملك وفي الفترة الأخيرة عن طريق السيد عمر الشلحي بعد أن أصبح مستشارا للملك .
كان السيد ونيس القذافي يتجنب المشاكل فيكره الأضرابات ومظاهرات الطلبة ويتخوف منها و لا يحب أن يرفض رأيا لوزير ومستعد لسماع أي أقتراح دون أبداء رأي حاسم حوله . كانت أجتماعات مجلس الوزراء تستمر أياما للحصول على أجماع الوزراء في أي قرار مهما كانت أهميته .وكان يعرض كل القرارات على مجلس الوزراء حتى الروتنية والأدارية التى جرى رؤساء الوزارات على توقيعها رأسا أو بالأتفاق مع الوزير المختص دون عرضها على مجلس الوزراء أختصارا للوقت والجهد والاكتفاء بتوزيعها على باقي الوزراء للمعلومية .
كان السيد ونيس القذافي يتمتع بأسلوب هادئ في الكلام والأقناع وأحيانا يلجأ الى السخرية والتهكم وأستعمال النكات لتجنب أي نقاش حاد ، ولا يثق في الغير بسهولة ولهذا يحرص على عمل كل شئ بنفسه يناقش ما يعرض عليه ويريد معرفة كل التفاصيل حوله ولهذا يصر على دراسة مذكرات الوزراء في مجلس الوزراء ويتعرض لتفاصيل المواضيع مما يحرج بعض الوزراء الذين لا يعرفون تفاصيل ما يوقعونه من مذكرات تاركين ذلك لكبار موظفيهم والخبراء . وأذا أعطى خبرا للأذاعة أو النشر تابعه بنفسه حتى يداع أو ينشر ليتحقق بانه يتمشى والنص الذي أعده او وافق عليه .
وكانت عدم ثقته في الموظفين والوزراء راجع لخبرته الطويلة في الأدارة لما كان رئيسا للمجلس التنفيذي لولاية برقة التي كان فيها معظم الموظفين يفتقرون ألى الخبرة ويتصرفون وفقا لأرائهم الخاصة دون تقديرهم للمسئولية لعدم الخوف من العقاب لأستنادهم ألى الدعم القبلي بعكس ولاية طرابلس التي حافظت على بعض الموظفين من الليبيين الذين أكتسبوا الخبرة في الأدارة الأيطالية السابقة لفترة غيرقصيرة ثم في الأدارة البريطانية حتى الأستقلال وحيث كان هناك أصرار على التقيد بالقوانين واللوائح وتنفيذها وتطبيق العقوبات على المخالفبن مهما كانت أنتمائاتهم ودرجاتهم حيث المحسوبية مستنكرة والحماية القبلية معدومة .
وكان السيد ونيس القذافي أذا أراد أعداد كلمة للمناسبات العامة يقضى وقتا طويلا في أعدادها وكتابتها ومراجعتها كأنه يعد مذكرة دبلوماسية فيحذف كلمة ويزيد أخرى ويتمعن معناها حتى لا يساء ترجمتها في الداخل والخارج ولا يلجأ للأستعانة بالأرقام الأحصائية الا أذا تأكد من مرجعها . لا يحب الأضواء والدعاية ويكره أن يذكر أسمه أو مدحه في الصحافة او الأذاعة والتلفزيون ويقول أن ليبيا بلد صغير يعرف الناس بعضهم بعضا ورأيهم في المسئولين لن يتغير بالدعاية التي تثير السخرية بينهم. ولهذا كان أسلوبه لا يتفق مع أسلوب السيد أحمد الصالحين الهوني وزيرالأعلام وقد حاول معه تغيير أسلوبه دون جدوى فالسيد أحمد الصالحين لا يمكن تغيير أسلوبه المبني على المبالغة في أسباغ كل صفات الكمال والمدح للملك وقد نال بذلك وساما من الملك على ذلك ويظهر أن الثناء يعجب الجميع حتى من عرف عنه الورع والتقشف مثل الملك .
كانت علاقة السيد ونيس القذافي مع مجلس الأمة جيدة فهو لا يحب النقاش في المجلس ويحاول حل أية خلافات مع أعضائه خارج القاعة مما يضطره الى الأستجابة لطلباتهم العامة لمناطقهم وطلباتهم الخاصة في حدود مقدرته وأمكانيات الدولة .
لم يكن السيد ونيس القذافي منحازا لبرقة ولا يحابيها في تخصيص المشاريع التنموية مثل غيره من المسئولين البرقاويين لكنه يضطر الى مجاملتهم لأنه محسوب عليهم فهو غير قبلي في داخله ولكن له أصدقاء كثيرون في مدينة بنغازي التي يحبها ويعطيها أهتماما خاصا ولا يستطيع البعد عنها .يكره مدينة البيضاء ويغادرها في العطلات الأسبوعية والأعياد وكلما سنحت الفرصة ويتضايق من زيارات مشايخ ومستشاري القبائل من برقة وطلباتهم التي لا تنتهي رغم أنه يخاف شكواهم لدى الملك ويلبي ما يستطيع من طلباتهم وهو كذلك لا تعجبه طرابلس لأنه لم يعش فيها وليس لديه أصدقاء ومعارف كثيرين فيها ولم يصر على تخصيص منزل لرئيس الوزراء فيها بعد أن حصل سكرتير ولي العهد على المنزل الذي كان مخصصا لرئيس الوزراء في طرابلس لأنه كان شاغرا طوال فترة حكومتي السيدين حسين مازق وعبد القادر البدري . والسيد ونيس القذافي صديق للاستاذ عبد الحميد البكوش ويستقبله كثيرا للمشاورة ويجامل الدكتورعلي أحمد عتيقة ولكنه لا يتفق معه في بعض أرائه ويظهر ذلك أثناء مناقشة مجلس الوزراء ، معجب بالسيد خليفة موسى وزير البترول الذي يتمتع بأمتيازات خاصة من رؤساء الحكومات بعدم حضوره جلسات مجلس الوزراء في البيضاء و كان السيد خليفة موسى صريحا بالمجاهرة برأيه بأنه ليس له ما يعمله في البيضاء فكل الشركات النفطية في طرابلس ولهذا يفضل البقاء في طرابلس أو السفر للخارج لحضور المؤتمرات الدولية والأجتماعات العديدة لمنظمة الأوبك . ويتشاور مع رئيس الوزراء بالتلفون أذا أستدعى الأمر حتى مذكرات وزارته الى مجلس الوزراء يتولى رئيس الوزراء تقديمها والأجابة عن الأستفسارات حولها . السيد خليفة موسى ، وكما ذكرت، صديق لي ويصرعلى أتولى أنا وزارة النفط بالوكالة في حالة سفره للخارج وخاصة في عهد السيد ونيس القذافي ولا يرغب أن يتولاها الدكتورعلي أحمد عتيقة وزير التخطيط وأقرب الوزراء الى أختصاص وزارة النفط وأعتقد أن سبب ذلك يرجع ألى عدم ثقته فيه وخوفه من أن يجري بعض التغييرات أو يتخذ بعض القرارات الهامة في غيابه .
كان السيد ونيس القذافي حريصا على بقاء الوزراء في مدينة البيضاء ولا يرحب يسفرهم الى طرابلس أو خارج ليبيا حتى للأجازة . وكانت علاقته مع الذين يعملون معه ممتازة يحترمهم ويستمع أليهم ولم يفكر في أستبدال موظف أو حتى سكرتير خاص طول حياته لأنه يثق ويعامل الجميع على قدم الساواة .
لم يستجب السيد ونيس القذافي الى مقترحاتي بتعديل أختصاصات رئاسة مجلس الوزراء لأنه لا يريد أن يشعر الوزراء أنه يريد أن يحد د من أختصاصاتهم نتيجة تقوية جهاز وأختصاصات رئاسة الوزراء . رغم أنه كان يوافقني على ادخال مثل هذه التعديلات ويعدني بدراستها ولكنه لم يفعل شيئا بشأنها . لم أكن أعرف السيد ونيس القذافي معرفة جيدة قبل توليه رئاسة الوزارة لكنني حزت على ثقته أكثر من الاستاذ عبد الحميد البكوش وبدأ بتكليفي دائما للقيام باعباء وزارة النفط بالوكالة عند غياب السيد خليفة موسى الوزير الأصلي أو بالقيام باعباء وزارة الخارجية بالوكالة أثناء غياب الوزير الأصلي السيد شمس الدين عرابي ثم أثناء غياب السيد علي حسنين ، الذي تولى الخارجية بعد ذلك، في الخارج لحضور الأجتماعات التي لا تنتهي طوال العام . وكان يثق في وكيل وزارة الخارجية السيد محسن عمير وكان يراجعه رأسا دون الرجوع ألى الوزيرالسيد شمس الدين عرابي الذي لم يكن يثق فيه ولهذا أستبدله بالسيد على الحسنين في أول تعديل لحكومته .
وكان حريصا على معاملة بعض الأشخاص بما لا يحرجهم مع الأخرين وأذكر مرة أن السيد عمر الشلحي كان في مكتبه قادما من طرف الملك من اليونان في الأيام الأخيرة ليدرس معه زيارات الملك الى بعض دول البلقان وتركيا فأستدعى السيد محسن عمير، الذي كان معي في مكتبي ، لمشاركته الأجتماع دون أستدعائي رغم أني كنت وزيرا للخارجية بالوكالة وذلك لأعتقاده بأن السيد عمر الشلحي قد لا يرحب بحضوري لمناقشة مثل هذا الموضوع الخاص بالملك لعلاقتي الوطيدة بالسيد محمود المنتصر رئيس الديوان الملكي الذي تحرص الحاشية الملكية على عدم أستشارته أو أطلاعه على الأمور التي يكلفهم بها الملك خاصة أن رئيس الديوان لم يكن مع الملك في زيارته لليونان وتركيا بل كان طوال هذه الفترة الهامة في أجازة في لندن وروما للعلاج .
كان السيد ونيس القذافي يرجع ألى ولي العهد في بعض الأمورالعادية أثناء غياب الملك ولكنه كان وثيق الصلة بالأخوين عبد العزيز وعمر الشلحي ويرجع أليهما عندما يريد الأتصال بالملك في الأمور الهامة مما لا يرضي السكرتير الخاص للملك الذي كان دائما حلقة الأتصال بين رؤساء الحكومات والملك ولكنه كان يعرف مدى مكانة الأخوين الشلحي عند الملك ويخشاهما ولا يعترض على تدخلهما في شئون الدولة والأتصالات بين الملك ورئيس الحكومة .
كانت رحلة الملك الى اليونان ثم الى تركيا في صيف1969 قد طالت كثيرا وقد بعث هذا الغياب الطويل كثيرا من الأرتياب والتساؤلات في دوائر الدولة العليا وأذكر أن السفير الليبي في تركيا السيد الطاهر القرمانلي قد بعث ببرقية الى رئيس الوزراء يقول فيها بأن أنطبعاته بعد مقابلتة للملك أنه ينوي البقاء لفترة طويلة في تركيا كما أنه يفكر في أتخاذ أجراء دستوري لكنه لم يصارحه في الموضوع وفعلا تحقق ما توقعه السفير فقد أرسل الملك الى رئيس الوزراء برقية يقول فيها بانه سيقوم بجولة في يوغسلافيا والنمسا وأيطاليا ولهذا ارسل السيد عمر الشلحي للتدارس معه حول هذه الزيارات .وفعلا تقرر أعداد هدايا من المصنوعات الليبية التقليدية ليأخذها الملك معه الى رؤساء دول وزوجاتهم في البلدان التي سيزورها وكلف وزير الصناعة السيد طارق الباروني بأعدادها كما كلفت وزارة الخارجية بأتخاذ الأجراءات الرسمية بشأنها .
أمور كثيرة كانت تجري في الخفاء وبسرية تامة فقيام الأخوين عبد العزيز وعمر الشلحي بأدوار الأتصال بين الملك ورئيس الحكومة في هذه الفترة وعدم أطلاع مجلس الوزراء وكباررجال الأمن والجيش على ما يجري وراء الكواليس يشير الى توقع أحداث هامة وزاد ذلك تأكيدا طلب الملك رجوع رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب من الأجازة في أوربا الي البيضاء بسرعة لحضور الأحتفاللات بمناسبة 9 أغسطس عيد الجيش السنوسي وأشيع أن رئيس مجلس الشيوخ مرعلى تركيا وقابل الملك قبل عودته الى ليبيا . مما جعل رئيس الوزراء يمنع خروج الوزراء أيضا في أجازة في هذه الفترة التي توافق العطلة الصيفية المدرسية و التي يحرص فيها المسئولون على السفر في أجازاتهم مع عائلاتهم والغريب أن كل هذا يجري دون علم السيد محمود المنتصر رئيس الديوان الذي كان في أجازة طويلة للعلاج كما أخبرني هوفي مطار طرابلس يوم عودته من أوربا يوم ( 27)اغسطس.
وقد منعني رئيس الوزراء من أخذ أجازتي في شهر أغسطس أيضا وهو الشهر الذي تعودت أن أقضيه في الخارج رغم أنه سمح لوزيرالبترول السيد خليفة موسى بالخروج في أجازة بصفة أستتنائية . وكان علي أن أتولى وزارة البترول بالوكالة في غيابه ولهذا كنت في بنغازي وطرابلس معظم شهر أغسطس للأهتمام يشئون وزارة البترول كما أن السيدعلي حسنين وزير الخارجية سافر الى أديس أبابا لحضور مؤتمر القمة الافريقي وأسندت مهام وزارة الخارجية بالوكالة ألي أيضا رغم أن رئيس الوزراء كان يتولى تسيير العمل في الوزارة مع السيد محسن عمير وكيل وزاررة الخارجية في البيضاءأثناء أنشغالي بالعمل في بنغازي وطرابلس لشئون تتعلق بوزارة البترول وأستقبال بعض كبار الزوار بصفتي وزيرا للخارجية بالوكالة . وفي هذه الفترة كان رئيس الوزراء قلقا ويتوقع أخبارا هامة من الملك لم يفصح عنها وسرعان ما أنتشرت الأشاعات بأن الملك سيستقيل أو أنه سيعلن تغييرا دستوريا هاما الشئ الذي كان موضع تكهنات منذ فترة طويلة . وفي الأسبوع الأخير من شهر أغسطس كنت في بنغازي لحضور أجتماع لجنة البترول الليبية والأجتماع بأعضاء اللجنة الذين أستقال بعضهم بسبب عدم موافقتهم على قرار مجلس الوزراء الخاص باعطاء عقود نفطية لا تتمشى مع توصيات اللجنة وبعد ذلك سافرت الى طرابلس لأستقبال السيد المهديأبو طالب وزير الخارجية المغربي الذي يزور ليبيا حاملا دعوة الملك الحسن الثاني الى الملك أدريس لحضور مؤتمر القمة العربي الذي كان سيعقد في المغرب وكذلك للأعداد لزيارة الأمين العام للأمم المتحدة الى ليبيا يوم 5 ستمبر. .وسمعت أثناء ذلك أن أجتماع مجلس الوزراء الذي عقد في البيضاء في غيابي أثير فيه موضوع الأشاعات حول غياب الملك وأن رئيس الوزراء أكد للوزراء بأنه لا يعلم شيئا وقد طلب مجلس الوزراء منه السفر الى تركيا لرؤية الملك وأستجلاء الحقائق منه وفيما أذا كان الملك يفكر في الأستقالة ففي هذه الحالة يجب أن تتم بطريقة دستورية والتنازل عن العرش لولي العهد يالطرق الرسمية . وعدم تعريض البلاد لفوضى لا يعرف مصيرها الا الله.وقد أكد رئيس الوزراء للوزراء بأنه طلب الأذن للسفر لمقابلة الملك ولكن طلبه رفض .. ووعدهم بأبلاغهم بأية تطورات بعد عودة رئيسي مجلس الشيوخ والنواب من مقابلة الملك في تركيا يوم 2 ستمبر ولم أكن أعرف بسفرهما مسبقا الأ بعد أن أبلغني وكيل وزارة الخارجية تلفونيا ببرقية السفير الليبي في أنقرة بمقابلة الملك لهما.
وبعد وصولي ألى طرابلس أستقبلت الوزير المغربي السيد المهدي أبو طالب الذي وصل الى طرابلس يوم 30 أغسطس ونظرا لغياب الملك أعددت له مقابلة مع ولي العهد لتسليمة دعوة الملك الحسن الثاني الى أخيه الملك أدريس لحضور مؤتمر القمة العربي في الرباط . وقد أعترضتني مشكلة مع سكرتير ولي العهد السيد بلقاسم الغماري عندما أعلمني بأن ولي العهد يرغب في أستقبال الوزير المغربي منفردا دون حضوري معه وقد أفهمته بأن العرف جرى أن يحضر وزير الخارجية مقابلة الوزير الزائر للملك أو ولي العهد ولكن سكرتير ولي العهد أبلغني بأن هذا قرار الأمير وهو مصر عليه . وقد أثار هذا التصرف غضبي وأتصلت برئيس الوزراء وأبلغته بالأمر محتجا وطلبت من رئيس الوزراء أعفائي من مهام وزارة الخارجية بالوكالة أحتجاجا على تصرف ولي العهد ولكنه بدلا من أن يراجع الأمير لتغيير رأيه ذكرني بالظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد وطلب مني عدم أثارة مشكلة أخرى واترك الوزير المغربي يقابل ولي العهد يمفرده كما طلب . وقد أبلغت الوزير المغربي قرار ولي العهد وقد أستغرب بدوره هذا التصرف وشعر بغضبي وهكذا تمت مقابلته لولي العهد صباح يوم 31 أغسطس وبعدها جاء الى مكتبي وابلغني بما جرى في المقابلة وسلمني صورة من دعوة الملك .وودعته بعد ذلك وذهب الى الفندق على أن نتلاقي في المساء في حفلة العشاء التي سأ قيمها على شرفه في فندق الودان.
وبعد الظهر ذهبت الى وزارة البترول وأبلغني السيد أبراهيم الهنقاري وكيل وزارة البترول أنذاك بحضورالسيد عيسى البعباع وكيل الوزارة المساعد بأن مدير شركة البترول شباكو التي وافق مجلس الوزراء على منحها عقد امتياز التنقيب يصرعلى توقيع العقد اليوم لأنه سيسافر غدا الى أمريكا وأستغربت هذا الطلب وسألت لماذا لم يوقع الوزير الأصلي السيد خليفة موسى هذا العقد كما وقع العقود الأخرى التي وافق عليها مجلس الوزراء مع باقي الشركات التي منحت أمتياز التنقيب عن البترول قبل سفره . وكان ردهما بأن السيد خليفة موسى رفض توقيع العقد مع شركة شباكو رغم أنه كان كغيره من العقود موقعا من طرف رئيس شركة النفط الوطنية السيد محمد الجروشي لأنه ورد في العقد نص أختياري لم يرد في قرار مجلس الوزراء يستتني هذه الشركة من مشاركة الحكومة لها بعد أكتشاف البترول بكميات تجارية وقررالسيد خليفة موسى حفظه حتى رجوعه من الأجازة كما أوضحا لي بأن الشركة تدعمها الحاجة نجمة الشلحي أرملة السيد ابراهيم الشلحي وأم الأخوين عبد العزيز وعمرالشلحي وقد قامت بالأتصال بهما صباح ذلك اليوم وأصرت على توقيع العقد مع شركة شباكو أسوة بالشركات الأخرى وبعد أتصالي بالسيد ونيس القذافي رئيس الوزراء وافقني على الأصرار على التمسك بشروط قرار مجلس الوزراء أسوة بالشركات الأخرى وعدم التوقيع تحت أي تهديد وفعلا طلبت من السيدعيسى البعباع أعداد رسالة الى مدير الشركة المذكورة برفضي التوقيع للعقد الموقع من شركة البترول الوطنية لعدم تمشيه مع قرار مجلس الوزرا بالموافقة على أعطاء الأمتياز للتنقيب وارجاعه الى رئيس شركة النفط الوطنية لأعادة صياغته وفقا لقرار مجلس الوزراء وأبلاغ مدير الشركة بفحوى ذلك بالهاتف اذا عاود الأتصال ولم تمض ساعات حتى دق جرس االهاتف في مكتبي وكانت الحاجة نجمة الشلحي على الخط وطلبت مني بادب توقيع العقد لأن مدير الشركة أتصل بها وترجاها أن تتصل بي لأبلاغي عذره في أستعجال التوقيع نظرا لأضطراره ألى السفر اليوم مع التلويح بالتهديد المبطن ولكني كنت صريحا معها وأبلغتها برفضي القاطع التوقيع على العقد حتى يعدل العقد وفقا لقرار مجلس الوزراء كما أبلغتها بأن رئيس الوزراء وافق على قراري ونصحتها بعدم الأستماع ألى شكوى مدير الشركة وعليه أن ينتظر حتى تنتهي أجراءات تعديل العقد . وخرجت من وزارة البترول الى فندق الودان حيت أقمت بدوري مأدبة عشاء فخمة على شرف الوزير المغربي السيد المهدي أبو طالب حضرها كل الوزراء الموجودين في طرابلس وبعض أعضاء مجلسيالشيوخ والنواب وكبار المسئولين ورئيس أركان الجيش اللواء السنوسي شمس الدين ومدير عام الأمن في طرابلس االلواء سالم بن طالب وكبار ضباط الأمن . وبعد العشاء ودعته على أساس أن أراه صباح اليوم التالي لمرافقته الى المطار للتوديع .
ورجعت الى البيت في تلك الليلة متعبا بعد يوم ملئ بالعمل والمشاكل مع ولي العهد حول مقابلته للوزير المغربي ومع السيدة نجمة الشلحي حول رفضي توقيع عقد الشركة البترولية التي تتبناها . وكان التلفزيون الليبي يركز في تلك الليلة على أستقبالي للوزير المغربي وحفلة العشاء الرسمية التي أقمتها على شرفه وكانت صورتي لا تفارق شاشة التلفزيون وكنت أعرف أن ذلك يتم عن طريق بعض المذيعين الذين أعرف أنهم يكنون لي أحتراما خاصا دون موافقة وزيرهم السيد أحمد الصالحين الذي لا يوافق على ظهور الوزراء على التلفزيون ألا بأذنه .
وقبل أن أنام أتصلت برئيس الوزراء في بنغازي وأعطيته تقريرا مفصلا عما جرى في ذلك اليوم في مجالي البترول والخارجية خاصة زيارة الوزير المغربي وبعض التفاصيل عن برنامج زيارة السكرتير العام للأمم المتحدة المستر يوتانت الى ليبيا يوم 5ستمبروالذي كان من المفروض أن يكون رئيس الوزراء في أستقباله في مطار طرابلس ولكن السيد ونيس القذافي كان مترددا في المجئ الى طرابلس ويريدني أستقباله نيابة عن الحكومة ومرافقته الى البيضاء للأجتماع به هناك وهذا ما كان يرفضه مكتب الأمين العام الذي كان يصرعلى أن يكون رئيس الوزراء في أستقبال السكرتير العام عند وصوله الى طرابلس . وكانت المشاورات لا زالت تجري عن طريق السفيرالليبي لدى منظمة الامم المتحد في نيورك الدكتور وهبي البوري وبعد ذلك أويت ألى فراشي لا أعرف ما كان القدر يخبئه لي وللبلاد بصفة عامة في تلك الليلة .






الفصل الثامن
الفاتح من سبتمبر 1969

عند حوالي الساعة الرابعة صباحا من يوم الاثنين 1 سبتمبر 1969 ، رن جرس الهاتف في بيتي فأستيقظت ، أذ كنت أتوقع مكالمة في ساعة متأخرة من الليل من السفير الليبي لدى الامم المتحدة بنيويورك ، الدكتور وهبي البوري لتاكيد تفاصيل زيارة المستر يوتانت الامين العام للامم المتحدة الى ليبيا يوم 5 نوفمبر وهي التفاصيل التي سبق لي دراستها مع رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي. وبمجرد أجابتي على الهاتف فوجئت بالمتكلم يستفسر مني عن أسمي ومتحججا بأنه يريد شرطة النجدة ألامر الذي أثار غضبي فأجبته بانه كان ألاولى به التحقق من الرقم الذي يريد مكالمته بدلا من أن يزعج العباد في مثل هذه الساعة المبكرة من الصباح وانهيت المكالمة فورا.
وفي الساعة السادسة صباحا رن جرس الهاتف من جديد وكان المتكلم الحاج صالح أهميلة رئيس مستودع سيارات مجلس الوزراء ، وكان غاضبا ، وقال لي بأن رئاسة مجلس الوزراء محاطة بالجيش وأنهم منعوا السيارات التي ستنقل الوزير المغربي الضيف ، السيد ألهادي أبو طالب، ومودعيه ألى ألمطار من الخروج وكذلك منعوا خروج بقية سيارات الوزراء. ورغم أستغرابي لمثل هذا ألاجراء ألامر الذي جعلني أعتقد أن شيئا جديدا قد حدث أثناء الليل وأن رئيس الوزراء ووزير الداخلية ووزير الدفاع قد يكونوا أتخذوا أجراء مستعجلا باعلان حالة الطوارىء وتكليف الجيش بتولي ألامن في البلاد خاصة وأننا جميعا كنا نتوقع أخبارا هامة مثل أستقالة الملك أو أجراء تغيير في نظام الحكم ولهذا طلبت من الحاج أهميلة أن يتقيد باوامر الجيش وعدم أخراج السيارات حتى أتصل به بعد أن أتحرى عما يجري. وبعد دقائق رن جرس الهاتف من جديد وكان المتكلم والدي الذي يصحومبكرا لصلاة الصبح وكان يقيم في وسط المدينة قرب سيدي الشعاب، قريبا من رئاسة مجلس الوزراء وأخبرني بانه سمع طلقات رصاص وأن سيارات الجيش تملا شوارع المدينة وأستفسر عما كنت أعرف بما يحدث وطلب مني الاستماع لمحطة الاذاعة أذ هناك بيانات تذاع. وفعلا فتحت على محطة الاذاعة وسمعت بيان حركة الجيش والموسيقى العسكرية فتأكدت أن حدثا خطيرا قد حدث فحاولت الاتصال برئيس الوزراء ووزير الداخلية ومدير الامن في طرابلس ولكن يظهر أن خطوط الهاتف مع برقة قد قطعت كما أن هواتف كبار المسؤلين قد قطعت وأستغربت بقاء هاتفي شغالا ألا أنني تذكرت بأنه لا أحد يعرفه الا القليلين وغير مسجل في دليل الهاتف. وبعد دقائق أيضا ، أتصل بي السيد محمد الخويلدي، رئيس قسم المراسم بوزارة الخارجية، وكان يسكن في وسط المدينة أيضا وقال لي أن قوات الجيش منعت الناس من الخروج من بيوتها ولا يعرف ماذا يفعل لانه يريد الذهاب الى فندق الودان لمرافقة الوزير المغربي الى المطار حسبما سبق وأن أتفقت معه عليه فطلبت منه الانتظار حتى تتضح الامور. وكانت تدور في رأسي تفسيرات عديدة لما كان يحدث بعد سماعي للبيانات التي تبثها الاذاعة وعن من هم ياترى زعماء الانقلاب؟.
كنت أعرف أغلب ضباط الجيش الكبار من رتبة عقيد الى رئيس الاركان. ومعظم العقداء كانوا من جيلي وقد كان بعضهم زملاء لي في الدراسة في المدرسة الثانوية في طرابلس كما أن الكثير منهم كانوا في القاهرة في الكلية العسكرية في نفس الوقت الذي كنت أدرس فيه في جامعة القاهرة وكنت أعتقد أنهم بعيدين عن السياسة ومنضبطين عسكريا وغير مستعدين لقلب نظام الحكم رغم تذمر معظمهم من مجرى الامور في الجيش وفي البلاد بصفة عامة.
كان التفسير الوحيد والذي أستقر عليه رأيي، هو أحتمال أستقالة الملك ، الشئ الذي عودنا عليه، أذ قد يكون قرر خطة جديدة بعد فقدانه الامل في السياسيين، بأن يولى الجيش حكم البلاد بقيادة العقيد عبد العزيز الشلحي وضباط وأفراد الجيش الموالين له وللملك بما فيهم دون شك ضباط قوة دفاع برقة. الا أن نغمة البيانات والاناشيد والتعليقات التي كانت تبثها الاذاعة لا تتمشى مع مثل هذا التفسير أذ كانت كلها ضد الملك ولا أعتقد أن العقيد الشلحي يوافق عليها. وزادت شكوكي عندما أذيع خبر تعيين العقيد سعد الدين أبوشويرب قائدا للانقلاب أذ هو زميل لي في الدراسة وأعرفه معرفة جيدة كما أعرف أنه خرج من الجيش وليس من أنصار العقيد عبد العزيز الشلحي. ورغم أطمئناني لشخصية العقيد سعد الدين أبو شويرب كونه شخصا معتدلا ومتعلما وذا خبرة في الجيش وعارفا بشئون البلاد وينتمي الى عائلة معروفة ومحترمة ألا أنني لم أصدق ذلك وكنت أرى أن أذاعة خبر تعيينه ما هو الا تغطية من طرف الضباط الموالين للعقيد الشلحي حتى يضمنوا بذلك تأييد باقي عقداء الجيش الغير موالين لهم.
بعد تعذر أتصالي بأي من المسؤلين وعدم أستطاعتي القيام بشيء أذ لم يكن للوزراء في النظام الملكي ، بأستثناء وزراء الدفاع والداخلية، أي دور في شؤن الامن أو سلطة أو أتصال مباشر بقوات الجيش أو الامن بل حتى بيوت الوزراء أو تحركاتهم كانت بدون حراسة ولهذا قررت الانتظار وكلي أطمئنان على مصيري أذ لم يساورني أي خوف حيث كنت واثقا من أنني لم أرتكب عملا ضد بلادي أوأشتركت في أية فساد سياسي أو مالي فأنا لا زلت في بداية السلم الوزاري وجئت للوزارة من الوظيفة العامة كخبير ولم يكن لي ماض في الحكومات السابقة وأعرف أنه ليس لي أعداء ولم أستغل مركزي ماديا أو أشترك في أي عملية تجارية أوغيرها من الامور ذات المصلحة الخاصة رغم المغريات وألامكانيات.
كنت أعيش بمفردي في بيت بقرقارش دون حرس سوى غفير عينته أدارة الاملاك الحكومية ، لحراسة أثاثها المعار لبيتي رغم كون السرقات كانت شبه معدومة , وذلك نظرا لتغيبي الطويل في مدينة البيضاء. وكان معظم جيراني أجانب من العاملين في شركات النفط والذين لم يكن لي اتصال معهم. وكان والدي ووالدتي وأخوتي يعيشون بعيدا عني وسط المدينة. وجائني ألاخوان محمود وألامين بن ناجي الذين كانا جيرانا لي بالاضافة لكونهم ملاك للبيت الذي كنت أسكنه ، وذكروا لي بأنهما لا يعرفان شيأ عن هوية من قاموا بالانقلاب، رغم أن ألسيد محمود بن ناجي كان عقيدا بالجيش وأستقال منذ فترة، وكانا يعتقدان ، كما أعتقدت، أن الانقلاب بقيادة العقيد عبد العزيز الشلحي.
لم يطمأن قلبي لانقلاب يقوده العقيد عبد العزيز الشلحي لانه غير محبوب شعبيا في طرابلس وسمعته أنه مستغل لعلاقته بالملك. هذا بلاضافة الى أن طرابلس تفتقد زعامة شعبية تستطيع الوقوف ضده كما ان شعب برقة لن يقف ضده خاصة أذا كان الملك يؤيده وأن قوة دفاع برقة ستساعده بدون حدود كما أن ضباط الامن في طرابلس لن يقفوا ضده لانهم يعتبرونه من رجال الملك أدريس والنظام الملكي الذي خدموه باخلاص.
كان ذلك يدور في ذهني دون أعارتي لاي أنتباه لوضعي الخاص، فأنا وزير دولة لشؤن الرئاسة ووزيرا للخارجية وللنفط بالوكالة وهما من أهم الوزارات بعد وزارتي الداخلية والدفاع.
كنت أتوقع أن يتصل بي أحد من رجال حركة الجيش لمعرفة ما يجري في مجال مسؤلياتي أو أعتقالي وكان هذا واردا بل توقعته منذ الساعات الاولى ذلك اليوم ويظهر أن ضباط الجيش الذين قاموا بالحركة لا يعرفون حتى بيوت الوزراء فقد سمعت أن رجال الجيش ذهبوا الى بيت والدي في وسط المدينة يسألون عني وقيل لهم أنني لا أسكن هناك وقضيت اليوم كله وأنا لا أعرف شيئأ فقد قطع خط الهاتف عني ولم يبق لدي من مصدر لمعرفة ما يجري في البلاد سوى ما تبثه الاذاعة أو من ألاخوين محمود وألامين بن ناجي اللذين كانا يتحريان عما كان يجري في البلاد ويخبراني بما عرفا. وفي مساء ذلك اليوم ونظرا لعدم أتصال أي أحد بي، ذهبت الى بيت ألاخوين بن ناجي حيث تناولت العشاء معهم ومع بعض الجيران وبقيت هناك حتى الصباح حيث قررت بعدها الرجوع الى بيتي وعلمت من الغفير أن جنودا من الجيش قد جاءوا للسؤال عني فأعلمهم بأني غير موجود بالبيت وبأنه لا يعرف مكاني. وبعد تفكير طويل فكرت في تسليم نفسي للجيش ولم يخطر في بالي أبدا التفكير في الهروب من البلاد أو ألاختفاء أو قبول عرض جيراني ألاميريكان بأخذي في سياراتهم الى قاعدة ويلس فيلد الامريكية بالملاحة حتى تتضح لي الأمورلانهم عرفوا أن قوات الجيش لا تمنع الامريكيين من الذهاب الى القاعدة أوقبول عرضهم في مساعدتي في الاتصال بالسفارة الامريكية او البريطانية وهي أمور لم تدر في خلدي على الاطلاق مهما كانت الامور أن أسعى ، لا قدر الله، بأن تتدخل دولا أجنبية في شؤن بلادي الداخلية.
لم أفكر في مستقبلي ماديا طوال عملي بالحكومة في منصب عام ولعل ذلك يعود لصغر سني آنذاك أو لتربيتي العائلية المحافظة والدينية وكنت أعيش على مرتبي ولم أخذ سوى قرض واحد من المصرف العقاري لم تتجاوز قيمته العشرة آلاف جنيه ، والذي كنت في ذلك الوقت قد دفعت معظم أقساطه ولم يبق منه ألا مبلغ بسيط سددته بالكامل بعد الفاتح من سبتمبر ، وذلك لبناء منزل لي جوار والدي وفي مزرعته الصغيرة بالهضبة الخضراء نتيجة ألحاح زملائي الموظفين الذين كانوا يعملون معي ويعرفون ظروفي ومتعاطفين مع حالتي حيث كنت أعيش على مرتبي ولم يتجاوز رصيدي في المصرف حينذاك عن ألفين جنيه من مدخراتي كنت أوفرها للاجازة التي تعودت عليها سنويا ولم أملك أي حساب بأي مصرف خارج ليبيا.
من الناحية العامة، فقد كنت أعتقد ، أسوة بغيري من الشباب المثقف ، أن النظام الملكي لم يحقق ما كان مرجوا منه وأن الاصلاح من الداخل كان متعذرا في الظروف التي كانت سائدة ويحتاج ألى وقت كما أن دخل البترول الذي أصبح يتزايد فتح المجال للفساد الذي بات يسري في أجهزة الدولة وفي دائرة الاعمال التجارية والمالية كما أن الملك أصبح عاجزا عن السيطرة على الوضع تتقاذفه أمواج الحاشية والاقليمية الضيقة بالاضافة لحالته الصحية والنفسية. كما كنت أعتقد أن أي تغيير لن يكون أسوأ مما كان عليه الحال خاصة أذا كان ضباط حركة الجيش من الشباب المتعلم الواعي.
أما من الناحية الشخصية ، فقد كنت أمل أن لا يكون ضباط حركة الجيش من فريق الجيش الموالي للاخوين عمر والعقيد عبد العزيز الشلحي لأنه رغم علاقتي الودية معهما ألا أنني لم أكن أتوقع منهما معاملة ودية لأن علاقة والدهم السيد أبراهيم الشلحي مع عميد عائلتنا السيد محمود المنتصر كانت بعيدة عن الانسجام وتكاد أن تكون عدائية بالاضافة الى عملي مع السيد محمود المنتصر أثناء توليه الوزارة للمرة الثانية سنة 1964 . الامر الذي لم أعيره أي أهتمام لاني لن أتبرأ من أرتباطي العائلي كما لم أكن راغبا في الاستمرار في العمل الحكومي على أية حال.
في صباح يوم 2 سبتمبر، وبعد رفع منع التجول، جاءني والدي وأخي الاصغر عبد العظيم وقالا لي بأن والدتي تمر بحالة عصبية منذ سماعها خبر الانقلاب وأنها كانت تصرخ في وجه رجال الجيش كلما جائوا يبحثون عني وطلبا مني مرافقتهما الى بيت العائلة والبقاء معهم فيه حتى يكتب الله أمرا كان مفعولا. ولكنني رفضت ذلك وطلبت منهما تطمين الوالدة بأني بخير ولست خائفا على مصيري وليس لديا ما أخشاة وكل ما أرجوه منها هو الاهتمام بصحتها.
أصبحت أحداث الانقلاب تتضح بعد أعتراف ولي العهد وألقاء القبض على كبار ضباط الجيش والامن وبعد منتصف النهار رن جرس الباب وعندما فتحته وجدت سيارات لاندروفر عسكرية أمام البيت ورأيت عددا من الجنود بمدافعهم الرشاشة ينتشرون حول البيت وتقدم مني ضابط وقال أن أسمه أحمد بن حليم وأستفسر مني عن أسمي ولما أجبته طلب مني مرافقته فطلبت منه منحي بضع دقائق لاغير ملابسي فأنتظرني في الخارج ولم يدخل لتفتيش البيت كما فعل غيره مع باقي من أعتقلوا كما علمت بعد ذلك منهم و بأنهم تعرضوا لمعاملة سيئة أثناء أعتقالهم. كما علمت بعد ذلك أن أحد رجال المباحث ، والذي كان يساعد رجال الجيش ويدلهم على بيوت الوزراء وغيرهم من المسؤلين، قد جاء الى بيت العائلة وطلب من أخي ألاصغر عبد العظيم مرافقته الي بيتي لتفتيشه وفعلا رافقه أخي وعند أنتهاء التفتيش أخد رجل المباحث معه بعض أوراقي الخاصة بما فيها شهادات دراستي والملفات الرسمية التي كانت على مكتبي ويظهر، كما قال لي أخي عبد العظيم لاحقا، بأن رجل المباحث كان يبحث عن وجود أي سلاح لي بالبيت ولم يهتم كثيرا بالاوراق.
أرتديت ملابسي وبمجرد خروجي من البيت رافقني جنديان بمدافعهما الرشاشة الى أحدى سيارات أللاندروفر الواقفة أمام ألبيت لاجلس في المقعد الخلفي بين الجنديين بينما جلس الضابط بن حليم في المقعد الامامي الى جانب السائق وركب باقي الجنود السيارات الاخرى. وقد لاحظت أن جيراني الاميريكان كانوا جميعا في شرفات منازلهم يودعونني ويتابعون ما كان يجري أمامهم وكانت زوجاتهم يبكين أعتقادا منهن باني في طريقي لمواجهة مصير سيئ. وبمجرد تحرك السيارات سألني الضابط بن حليم أذا ما كنت أعرف بيتالعقيد أسماعيل التويجيري، أحد رجال جهاز أمن ألدولة، فأجبته بالنفي ولكن أحد الجنود قال أنه يعرفه لانه جاء الليلة الماضية مع أحد الضباط للبحث عنه ولكنهم لم يجدوه وعند وصولنا الى بيته وأستفسارهم عنه أخبرهم والده بأنه قبض عليه بالامس ورغم عدم أقتناع الضابط بأقوال ألاب ألا أنه لم يصر على تفتيش المنزل.
بعد مغادرة بيت التويجيري سألني الضابط بن حليم عما أذا كنت قد أرسلت برقية تأييد للثورة فأجبته بالايجاب أذ كنت فعلا قد كلفت جاري الاخ ألامين بن ناجي لارسال برقية تأييد باسمي في اليوم السابق. كما سألني عما أذا كان السيد حامد العبيدي، وزير الدفاع، في طرابلس أو بنغازي فقلت له بأني لا أعرف ذلك ولكنه لم يحضر مأدبة العشاء التي أقيمت ليلة 31 أغسطس على شرف الوزير المغربي الزائر مما أتاح لي الفرصة لسؤاله عما تم في أجراءات سفرالضيف المغربي فأعلمني بأنه سافر برا عن طريق تونس.
عند وصولنا الى ثكنات باب العزيزية أخذت الى أحدى الحجرات حيث سؤلت عما أذا كنت قد أحضرت معي ملابس للنوم وعندما أجبتهم بالنفي قدموا لي جهاز هاتف وطلبوا مني الاتصال بعائلتي لاحضار ما سوف أحتاجه من ملابس. وكانت المعاملة طوال الوقت تتم بألاحترام . ووجدت بالحجرة كل من الوزراء المهندس علي الميلودي والدكتورعلي أحمد عتيقه والسيد حامد أبوسريويل والاستاذ مصطفى بعيو والسيد سالم لطفي القاضي وكانت الحجرة صغيرة مخصصة لاقامة ضابطين في الثكنات ويظهر أنهما غادراها على حين فجأة أذ تركا بها أوراقهما الخاصة مبعثرة والادراج مفتوحة وملابسهما خارجها. وسألني الضابط بن حليم بعد دخولي للحجرة عما أذا كنت أرغب في نقلي الى الحجرة التالية والتي بها السيد محمود المنتصر فقلت له بأني أفضل البقاء في هذه الحجرة لاني أدخن بكثرة ولا أسمح لنفسي بالتدخين في حضوره وذلك عملا بتقاليد أسرتنا.
قضينا ليلتنا الاولى في ثكنات باب العزيزية وكنا نتجاذب أطراف الحديث وكأننا في مدينة البيضاء حيث كان الوزراء يعيشون فيها أغلب الوقت بدون عائلاتهم حيث يسهر الوزراء معا. وقدمت لنا تلك الليلة وجبة عشاء بسيطة مكونة من صحن من الشربة على ما أذكر.
وفي ساعة متأخرة من الليل أفقنا مذعورين على أصوات طلقات نار من مدفع رشاش أستمر بشكل متواصل لعدة دقائق مما أظهر الرعب في عيون كبار السن منا وكانوا يستفسرون عما حدث وكنت الشخص الوحيد بينهم بدون أطفال لكوني غير متجوز فقلت لهم مازحا ، وشر البلية ما يضحك ، أن رجال الجيش قرروا أعدام المعتقلين وعليهم الاستعداد وترديد الشهادة فقد بداوا بالمجموعة الاولى في الحجرة المجاورة وأن دورهم قادم. وكان ردهم بغضب لماذا يقتلون وما هو ذنبهم ولهم أبناء يريد ون تربيتهم وتعليمهم وليسوا مثلي رجل أعزب متشائم.وبعد توقف أطلاق النار أنتظرنا أن يدخل علينا أحد الا أن أحدا لم يدخل ليخبرنا على الاقل بما حصل ويبدوا أن أطلاق للنار كان عملا مدبرا لبت الرعب فينا نفسيا وهو من اعمال التعذيب الممنوع بالنسية للسجناء وهكذا نمنا حتى الصباح بدون أن نعرف شيئا عن مصيرنا . وفي صباح يوم 3 سبتمبر دخل علينا بعض الضباط وطلبوا منا أرتداء ملابسنا والوقوف أمام أسرتنا وبعد ذلك طلبوا منا مغادرة الحجرة الى خارج المبنى حيث وجدنا عدد من السيارات الكبيرة لنقل الجنود وبقية المعتقلين من الحجرات الاخرى والذين كان بينهم السيد محمود المنتصر ، رئيس الديوان الملكي، والسيد أحمد الصالحين الهوني، وزير الاعلام، والسيد أحمد صويدق، وزير الاقتصاد، والسيد حامد العبيدي ، وزير الدفاع، واللواء السنوسي شمس الدين،رئيس أركان الجيش، واللواء نوري الصديق أسماعيل، رئيس أركان الجيش سابقا،والسيد خليل البناني،محافظ مصرف ليبيا المركزي،والسيد منصور محمد، عضو مجلس الشيوخ، وغيرهم وطلبوا منا الصعود اليها وكانت السيارات عالية مما تعذر على كبار السن الصعود أليها فأسرعنا الى مساعدتهم بينما وقف الجنود الشباب يراقبوننا دون تقديم يد المساعدة.
تحركت بنا السيارات، دون أن نعلم عن وجهتها،ومرت بنا عبر وسط المدينة التي كانت شوارعها تعج بالمظاهرات الشعبية الهاتفة بسقوط الملكية ومرحبة بحركة الجيش وأعتقد كما قال لنا حراسنا من الجيش بانه لو تم تسليمنا لتلك الجماهير لقطعتنا أربا أربا ولسحلتنا في شوارع طرابلس مما يدل على مدى غضب الشعب على النظام الملكي.
وصلنا ثكنات الجيش في الفرناج حيث وضعنا في نادي الضباط وأنضم الينا بعض ضباط الامن الذين كان من بينهم العقيد علي عقيل والذي كان يبدوا عليه أنه عومل معاملة قاسية فقد قيل بأنه كان الضابط الوحيد من ضباط الامن الذي قاوم الانقلاب ورفض الاوامر التي أصدرها له رجال الجيش بالتسليم وقدمت لنا وجبة الغداء التي كانت من المكرونة المطبوخة على الطريقة الليبية دون تقديم ملاعق معها فأكل البعض وأمتنع البعض الاخر. أخذنا بعد ذلك الى صالة لعبة الاسكواش التي حوّلت الى حجرة نوم لاكثر من 16 شخصا وكانت الاسرة والاغطية والفرش كلها جديدة من المخازن ونظيفة.وفصلونا عن ضباط الامن وعلمنا بوجود مجموعات أخرى في غرف أخرى منفصلة عنا ووضعوا لنا جهاز راديوا لسماع أخبار نجاح الانقلاب وبرقيات التأييد التي كانت تنهال بكثرة من المسؤلين والسفراء ومن المواطنين على أختلاف طبقاتهم وكان من ضمن المؤيدين أخي علي السفير الليبي في بلغراد وكان يزورنا من حين لأخر ضياط من صغار الرتب لا نعرف منهم أحدا ويسألون عما كنا نحتاجة فشكونا من عدم وجود تهوية كافية في الحجرة لعدم وجود نوافد فيها فطلبوا من الجنود وضعنا في صالة النادي حتى مجيء وقت النوم ووافقوا على نقل السيد محمود المنتصر الى المستشفى العسكري لانه كان كبيرا في السن ومريضا يعاني من ضغط الدم وتصلب في شرايين القلب وتضخم في غدة البروستاتا وفي حاجة ماسة الى الرعاية الطبية. وقد أستلمنا بعض الملابس من عائلاتنا وقضينا الوقت في الحديث وسط تساؤلات عن هوية ضباط الانقلاب وسألنا رئيس أركان الجيش اللواء السنوسي شمس الدين المعتقل معنا فقال بأنه يقال أن رئيسهم ضابط معروف من تنظيم الاخوان المسلمين به مس من الجنون كان دائما يقول بأنه سيقوم بأنقلاب ألا أن كلامه كان يؤخذ على مأخذ الهزل والضحك من طرف رؤسائه وزملائه.
وفي تلك الليلة حدث أمر أثار أسغرابنا حيث طلبوا منا عدة مرات وعلى فترات تفصلها دقائق، أرتداء ملابسنا وجمع حاجاتنا والوقوف أمام أسرتنا استعدادا للخروج ثم يطلبون منا أرتداء ملابس النوم مرة أخرى والرجوع لحالتنا العادية. وكان السيد منصور محمد، عضو مجلس الشيوخ، كثير الحركة فوضعوا في يديه سلسلة حديدية مثبتة في الحائط أمام الحجرة. وكان الجنود الحراس متعبين وينامون على الارض ويرافقوننا الى دورة المياه كلما طلبنا ذلك.
وفي أحدى الليالي طلبوا منا أرتداء ملابسنا والخروج الى قاعة النادي فوجدنا عددا كبيرا من باقي المعتقلين من رؤساء الحكومات والوزراء السابقين وكبار المسؤلين في النظام الملكي الموجودين في طرابلس يوم قيام الانقلاب كما لاحظنا وجود رجال الاذاعة والتلفزيون بآلاتهم للتصوير والتسجيل وتكلم أحد الضباط وقال لقد قام نفر من جماعة الملك الموجودين في الخارج وعلى رأسهم عمر الشلحي وطلبوا من بريطانيا وأمريكا التدخل لقمع الثورة بالقوة ونريد أن نعرف رأيكم في طلبهم هذا؟ وطلب منا تسجيل رأينا لاذاعته في الراديو والتلفيزيون ضمن برقيات أحتجاج المواطنين وفعلا ألقى جميعنا كلمات أستنكرنا فيها أي تدخل أجنبي في ليبيا مهما كانت الدوافع وبينا أن ضباط الأنقلاب هم من أبناء البلاد وأنهم سيحرصون على مصلحة الشعب وأمن البلاد. الشخص الوحيد الذي رفض الكلام كان السيد محمود المنتصر الذي عندما جاء دوره في الكلام حسب ترتيب مكانه بين الجالسين، قام متجها الى دورة المياه ولم يطلب منه أحد الكلام بعد عودته.
أذكر أنني قلت في كلمتي بأننا في العهد الملكي حاولنا أن نؤدي واجباتنا وفقا لضمائرنا في ضوء الظروف السائدة ولا شك أننا فشلنا في تغيير الاوضاع والقضاء على الفساد بالشكل الذي كنا نأمله ونريده ولكننا لم نقصر في الحد من ذلك وفقا لامكانياتنا وبأني آمل بأن يتمكن الضباط الشباب الذين قاموا بالثورة من الاصلاح والسير بالبلاد في طريق الحرية والتقدم والازدهار ونحن ندعوا لهم بالتوفيق وفي نفس الوقت أستنكرت بشدة أية دعوة للتدخل الاجنبي في شؤون البلاد الداخلية وقلت أنه لا يجوز لأي من كان أن يتكلم بأسمنا أو بأسم الشعب للتدخل الاجنبي وأن ضباط الثورة هم أولادنا وقد نختلف معهم ولكنهم ليبيين وأني على أستعداد للدفاع عن الوطن ضد أي تدخل أجنبي فقد دفع أجدادنا ثمنا باهضا في الارواح والاموال للدفاع عنه وتحريره.
وقد حاول ألاستاذ عبد الحميد البكوش نصح ضباط الجيش بالتركيز على العمل بالاصلاح الاقتصادي والاجتماعي وشرح الصعوبات التي تواجهها البلاد كما تكلم الدكتور علي أحمد عتيقة بنفس المعنى.
سمعنا بعد ذلك أن كلماتنا أذيعت من التليفزيون مما طمن عائلاتنا على أننا بصحة جيدة ولم نتعرض لمعاملة سيئة كما كان يشاع .
وفي أحدى الليالي دخل علينا عدد من الضباط وطلبوا منا أرتداء ملابسنا وجمع حاجياتنا والتوجه الى الخارج ، وعند خروجنا أستغربنا وجود حافلات عسكرية معدة لنا وقوة عسكرية كبيرة وسيارات مدرعة ودبابات وجىء بباقي المعتقلين وكان من بينهم ألاستاذ محمود البشتي وزير الداخلية السابق الذي أضيف الى مجموعتنا، وصعدنا على الحافلات وأذكر أني جلست الى جانب السيد حامد العبيدي، وزير الدفاع السابق، وكان يسألني عن أتجاهنا لكوني من طرابلس وملم بمسالك طرقاتها أكثر منه، فقلت له أن الحافلات تتجه نحو مدينة طرابلس وعندما وصلنا الى مفترق الطرق عند باب بن غشير أتجهت السيارات الى اليسار فقلت له الظاهر انهم متجهين بنا الى المطار ولعلهم يرغبون في نقلنا الى فزان ولكن قبل وصولنا الى مفترق الطرق المؤدي الى المطار أتجهت الحافلات يمينا نحو الشارع الضيق المؤدي الى السجن المركزي المبني منذ العهد الايطالي والذي كان يطلق عليه أسم سجن "بورتا بينيتوا" والذي عرف أيضا بأسم سجن " الحصان ألابيض" لوجود تمثال حصان أبيض عند مدخله. وقد أسف السيد حامد العبيدي لهذا المصير المهين .
بعد وصولنا دخلنا الى السجن، بين صفين من الجنود المسلحين بمدافع رشاشة، وخصص لكل سبعة أشخاص منا حجرة تحتوي على مرحاض على الطراز العربي ، مما أعجز كبار السن منا على أستعماله، ونافذة قرب السقف محصنة بأعمدة حديدية وبابها من الحديد أقفل بمجرد دخولنا اليها.والسجن ينقسم الى اقسام مفصولة عن بعضهاوكان قسمنا كله مخصصا للسياسيين بينما خصص قسم آخر للعسكريين وقوات ألامن وقسم لرجال ألاعمال وغيرهم بينما أودع ولي ألعهد والعقيد عبد العزيز الشلحي في قسم مستقل. وكانت ألاسرة وألاغطية وألفرش كلها جديدة ولم تستعمل من قبل. وكانت المجموعة التي شاركتني الحجرة تتألف من السادة سالم لطفي القاضي وزير المواصلات وأحمد الصالحين ألهوني،وزير ألاعلام،والهادي ألقعود، وزير المالية،وأحمد صويدق،وزير ألاقتصاد، وخليل البناني، محافظ بنك ليبيا المركزي،ومحمد فخر الدين،رئيس تحرير جريدة طرابلس ألغرب ألرسمية.
أستقر بنا ألحال ولم يسمح لنا بالخروج لاستنشاق ألهواء أو ألاختلاط بألاخرين في ألايام ألاولى أو ألاتصال بعائلاتنا هاتفيا للحصول على ملابس لتغييرها مع ما كنا نرتديه وبعد أيام سمح لنا بالخروج الى ساحة السجن مع بقية المعتقلين من ألحجرات ألاخرى وكانت أسواروأسقف السجن ألمحاطه بالساحة مليئة بالجنود ألمسلحين وطلب منا غسل ملابسنا بأنفسنا في ألساحة وكان بعض ألجنود يضحكون ويتنذرون من على ألسطوح وأذكر أن السيد محمد سيف ألنصر نظر أليهم بحدة ناهرا أياهم. ولم نكلف بتنظيف حجراتنا بل أتو بالمساجين العاديين للقيام بذلك وحذرونا منهم وبعدم ترك حاجات ثمينة في متناولهم أثناء تنظيفهم للحجرات لان المساجين كانوا من اللصوص المحترفين أصحاب السوابق وفعلا وفي كل مرة بعد تنظيفهم للحجرات يعود ألينا الجنود بالساعات والخواتم والحاجات ألثمينة التي سرقها السجناء من المعتقلين وأسترجعها منهم الجنود. وكان من بين المساجين سجين قديم من عائلة أعبيد التي أعرفها بمصراته وكان يعرف أفراد عائلتي جائني وقال لي بأنه مفرج عنه صباح أليوم ألتالي وسألني فيما كنت أريده تبليغ رسالة شفوية لعائلتي فشكرته على ما تتطوع على القيام به ولم أطلب منه شيء حتى لا أسبب له أية مشاكل قد يتعرض لها بسبب ذلك.
بعد أيام سمح لنا بترك باب ألحجرة مفتوحا كما سمح لنا بعد ذلك زيارة ألحجرات ألاخرى للدردشة مع قاطنيها من المعتقلين. وفي الليل كان بعض الضباط وبالاخص الملازمين ألخويلدي الحميدي وعبد المنعم ألهوني يزوروننا بأستمرار ويسألوننا على كل صغيرة وكبيرة وكان ألخويلدي وألهوني يتصرفان معنا بأحترام وتفهم كاملين. كما زارنا بعض الضباط الأخرين وقد عرف الشيخ سالم لطفي القاضي أحدهم وأسمه الملازم عمر المحيشي لأن كليهما من مدينة مصراتة أما ألملازم عبد السلام جلود فزارنا مرة واحدة وكان فظا في كلامه معنا وخاطبنا بلهجة فيها شئ من ألوقاحة وقلة الادب ووجه للمعتقلين التهم بالفجور وسوء السلوك وأهان بالذات السيد منصور محمد ، عضو مجلس الشيوخ من فزان. وكذلك كان العقيد موسى أحمد في زيارته الوحيدة لنا فظا شرسا يتوعد ويهدد بالعقاب ولك الملازمين الخويلدي والهوني كانا يتصرفان بأعتدال وأعتذرا على تصرفات الملازمين عبد السلام جلود وأحمد موسى.
وفي هذه الفترة أخبرنا بأن مرتبات الوزراء ستتوقف أما الموظفون فستصرف مرتباتهم لعائلاتهم. وأذكر أن الملازم ألخويلدي الحميدي طلبني لمقابلته خارج الحجرة وسألني عما كنت في حاجة الى مبلغ من المال للأنفاق على عائلتي لأنني قلت للضباط عندما أعلمنا بذلك ماذا يفعل الوزير الذي لا يملك مالا وكان موظفا قبل تعينه وزيرا. فشكرته وقلت له بأني أعزب وليست لي عائلة وبأني سأشتغل عندما أخرج من المعتقل في أي عمل ولا أحتاج مالا ألان رغم أني علمت من عائلتي أن جاري السيد محمود بن ناجي ، الذي هو في نفس الوقت مالك البيت الذي أسكنه، أرسل لهم رسالة طالبا أخلاء البيت لان مصلحة ألاملاك أنهت العقد معه وطالب بأيجار البيت في حالة تأخر تسليم البيت كما كانت لي ألتزامات مالية أخرى أحدها للمصرف العقاري للبيت الذي أشدته لنفسي ولم يجهز بعد للسكن.
كان السيد محمود المنتصر، الرئيس السابق للديوان الملكي، مريضا وأخذ الى المستشفى عدة مرات وأعيد في اليوم التالي في كل مرة وكنا نسمع وقع عكازه على الارض عندما يعاد في الساعات المتأخرة من الليل. وفي أحد الايام وقع في دورة المياه ولم يستطع الوقوف لكبر سنه لفتح الباب فأضطر السيد شمس الدين محسن رفيقه في الحجرة الى الدخول من الفتحة الموجودة في أعلى الباب لاخراجه وكانت حالته الصحية سيئة وأجتمع المعتقلون وطالبوا ضباط الجيش بنقله الى المستشفى وتركه هناك لان حالته الصحيه تزداد سوء كل يوم. واذكر أن السيد محمود عبد المجيد المنتصر، أبن عمه، ثار في وجه الضباط قائلا أن أعتقال مثل هذا الشخص ظلم فهو مريض ويجب تركه تحت الحراسة في البيت لانه لاخوف منه لحالته الصحية ووفاته في المعتقل ستكون نقطة سوداء في سجل الثورة. مما جعلنا جميعا نخاف على ما قد يلاقيهالسيد محمود عبد المجيد المنتصر نتيجة شجاعته التي قد تؤذيه بوضعه في زنزانة منفردة ولكن الذي حصل كان العكس أذ أفرج عنه ضمن المفرج عنهم تلك الليلة مما يدل على عدم وجود تنسيق بين ضبلط الجيش.
بعد فترة لا تزيد عن شهر بدأ الافراج عن بعض المعتقلين والغريب أنه أطلق سراح بعض السياسيين القدامى مثل السادة سالم لطفي القاضي وحامد أبوسرويل وأبوبكر أبو نعامة في أول دفعة في شهر رمضان ولكن أعيد أعتقالهم بعد ثلاثة أيام وقيل أن ضباط الانقلاب لاحظوا كثرة زوارهم للتهنئة وفتح بيوتهم للناس فلم يعجبهم هذا التصرف فأعادوهم الى المعتقل.
وفي شهر رمضان سمح للعائلات بأحضار الطعام للمعتقلين فتراكمت الموائد في السجن وكانت مطابخ أهم وأرقى بيوت طرابلس المعروفة ترسل كل ما لذ وطاب من طعام الى نزلاء المعتقل من رجال العهد الملكي مما حدا بأحدهم الى تسمية المعتقل تنذرا بأسم "هيلتون طرابلس" وكانت سهريات رمضان صاخبة في المعتقل نتيجة الدردشة ولعب الورق. وفي أحد ألايام أرسلت بعض الجرائد المصرية الى أحدالمعتقلين فرأينا فيها صورة الملك على الصفحة ألاولى لجريدة ألاهرام وهو يهبط من الباخرة في ألاسكندرية ويستقبل معززا مكرما من طرف محافظ ألاسكندرية نيابة عن الرئيس جمال عبد الناصر ويخصص قصر الطاهرة لاقامته. وبقدر ما سررنا له بسلامة المصير وحسن المعاملة، شعر بعضنا بعدم الرضا عن أختلاف المعايير في المصير فالملك كان الحاكم بأمره في ليبيا وهو المسئول ألاول عما كان يجري ومن الظلم أن يلاقي الوزراء ومساعديه هذا المصير عن أعمالهم التي كلفهم بها الملك الذي يستقبل اليوم بالترحيب من الدولة التي ساعدت الانقلاب على النجاح.
وفي يوم 3 ديسمبر، بعد أنقضاء أكثر من ثلاثة أشهر في المعتقل شعرت بمعملة ودية جدا من طرف الجنود والضباط المشرفين علينا وخاصة من الملازم المبروك القويري مما جعل زملائي في الحجرة يتوقعون خروجي في تلك الليلة وفعلا طلب مني بعد تناول العشاء أعداد حاجياتي وأرتداء ملابسي للخروج ومررت على أدارة المعتقل حيث قدمت لي ورقة وقعت عليها متعهدا فيها بعدم مقاومة الثورة وأن لا أقوم بأي عمل ضدها. وكنت كباقي المعتقلين جميعا قد سبق وأن وقعت على أقرار بذمتي المالية عن أية ممتلكات لي في داخل البلاد وخارجها. وكلف أحد الجنود بنقلي الى بيتي في سيارة لاندروفرفطلبت من السائق نقلي الى بيت والدي في الهضبة الخضراء لاني لم أكن أعرف ما تم في بيتي في قرقارش وهل سلمّ لمالكه أم لا. وكان بيتي الذي بنيته في جوار بيت الوالد غير مؤثث أو قابل للسكن. وعند دخولي لبيت الوالد وجدته بمفرده يؤدي صلاة التراويح وبمجرد ما رأني أنهى صلاته وقام فرحا كثيرا لرؤيتي طليقا وأخبرني بأن والدتي وأخي عبد العظيم ذهبا الى بيتي لاحضار ملابس لي لارسالها لي في المعتقل. وشاع خبر ألافراج عني بين عائلات المعتقلين أذ يبدوا أن أحد أفراد هذه العائلات الذين كانوا أمام المعتقل قد رأوني خارجا من المعتقل في السيارة العسكرية فأخبروا أهاليهم فأنهالت المكالمات الهاتفية للتهنئه وسمعت الوالدة بالخبر قبل رجوعها للبيت وفرحت تلك الليلة فرحا عظيما وقد علمت بأنها كانت خلال فترة وجودي في المعتقل في حزن وعذاب شديدين أثرا في صحتها بقية حياتها رغم أني كنت صغير السن قادرا على الحياة الخشنة ولم أتعرض للتعذيب أو الأهانة بل تعودت على حياة المعتقل الرتيبة ومعاشرة الزملاء ووجدت أن نزيل المعتقل يتسى كل المشاكل خارج السجن رغم أن كل شيء وارد بالنسبة لمصيره فهو لا يعرف ما يجري في الخارج ولا يهمه على كل حال أي شيء فهو تحت رحمة الغير ولا منجيا الا الله .
وكنت الشخص الوحيد الذي أفرج عنه في تلك الليلة الامر الذي لم يحدث من قبل فقد كان المعتقلون يفرج عنهم في مجموعات صغيرة ومن حين لآخر. ولا أعرف من الذي أمر بالافراج عني تلك الليلة ولماذا. ورغم أن مسؤلياتي في النظام الملكي لم تكن خطيرة كبعض زملائي ألا أنني أنتمي الى عائلة كان لها دور بارز في النظام الملكي وكان هذا سبب الأبقاء علي لفترة ثلاتة أشهر يدلا من أخراجي مع أول دفعة .
كنت آخر معتقل يفرج عنه طوال شهر نوفمبر لانه بعد الأفراج عني بأيام أعتقل المقدمين موسى أحمد وآدم الحواز بعد أول محاولة أنقلاب فاشلة على النظام الجديد وأغلقت أبواب المعتقل لفترة نتيجة لذلك.
أول شيء عملته بعد الافراج عني هو الانتقال الى بيتي الخاص في جوار الوالد وسلمت البيت المؤجر الى صاحبه ولم أطلب أجراءات بتمليكه لي بعد نصيحة السيد سليمان الكبير مدير أدارة الأملاك أنذاك، بعدم شرائه من الادارة لان ثمن الاثاث حسب تقديرها سيكون عاليا جدا كعادة المشتريات الحكومية وهكذا أعدته لادارة الاملاك وفرشت بيتي الجديد بأثات بسيط.
بقيت في بيتي ولم أخرج منه بالرغم من عدم وضعي تحت ألاقامة الجبرية كبعض من المعتقلين الذين أفرج عنهم. وفي هذه الفترة حصلت أحداث هامة منها قيام المقدمين موسى أحمد وآدم الحواز بحركة تمرد على الثورة التي كانا من صناعها وفرضت قيود جديدة على التحركات وتوقف ألافراج عن المعتقلين السياسيين.
أما الحدث الثاني فكان وفاة السيد محمود المنتصر في المعتقل يوم 30 سبتمبر 1970 وقد تأثرت عليه كثيرا أذ كان رحمه الله يحبني كأحد أولاده ويحترمني ويعاملني في العمل معاملة حسنة ولا أعتقد أنه وثق في أنسان أكثر من ثقته بي . ولم أتمكن من رؤيته منذ نقله من المعتقل الى المستشفى بعد حادثة وقوعه في دورة المياة. ورغم أني كنت أقيم في حجرة غير الحجرة التي كان يقيم فيها في المعتقل ألا أني كنت أقضي معه معظم ساعات النهار والليل عندما كان في المعتقل لانهم كانوا ينقلونه الى المستشفى ثم يعيدونه الى المعتقل بأستمرار. ولقد خرجت لاول مرة من بيتي لحضور جنازته يوم 2 أكتوبر وللمشاركة في مراسم العزاء في بيته وقد علمت أن ضباط الجيش لم يبلغوا أو يسلموا جثمانه الى عائلته ألا في اليوم الثاني لأن يوم وفاته صادف يوم جنازة الرئيس عبد الناصر رحمه الله وقد قيل أن ضباط الثورة لم يرغبوا في ألاعلان عن وفاته في نفس اليوم حتى لا يشيع جتمانه في نفس الوقت الذي تجمع فيه عشرات ألالوف من المواطنين لتشييع الرئيس عبد الناصرغيابيا بطرابلس في نفس وقت تشييع جثمانه في القاهرة لان ذلك قد يدفع ببعض من تلك ألآف من المواطنين للمشاركة في جنازته وعزائه طبقا للعوائد الليبية في أحترامها لجلال الموت.
وفاة الرئيس عبد الناصر كانت أيضا مبعث أسى وحزن كبيرين لي فقد أحببته منذ قيام ثورة 23 يوليه والتي عشت السنوات الاربع ألاولى منها في مصر وتشبعت بمبادئها وطموحات الرئيس عبد الناصر القومية الذي كان وبدون منازع باعث القومية العربية والداعي الى الوحدة والحرية في الوطن العربي ولاول مرة في تاريخ العرب الحديث تتوحد الشعوب العربية تحت زعامة عربية واحدة تعبرعن آمالها وأمانيها رغم الحدود المصطنعة والتي فرضها ألاستعمار على العالم العربي. وعندما أذيع خبر وفاته على التلفيزيون أنهمرت دموعي مدرارا وبكيت بمرارة وكانت والدتي تراقبني بأستغراب وقالت لي بأن هذا الرجل هو سبب المصائب والمشاكل التي تعرضت لها فكيف أبكيه ولم يكن ذلك كرها منها للرئيس عبد الناصر،والذي أصبح في جوار الله سبحانه وتعالى، أنما كان ذلك راجع الى حنان ألام على أبنها الذي حرمت منه بسبب أعتقاله والذي سجنته حركة الضباط التي أشعلها الرئيس عبد الناصر قبل قيامها ودعم نجاحها.
أتاحت لي فرصة ملازمتي للبيت كتابة هذه الذكريات عندما كانت الذاكرة لازالت في شبابها وقوية تحتفظ بأدق التفاصيل كما كتبت عدة مقالات في كثير من المواضيع تعبر عن ما كان يجول بخاطري عن ألاوضاع الوطنية والقومية ألا أنني لم أقرر نشرها أو جمعها في كتاب بعد. ولم أنقح هذه الذكريات حتى قررت طباعتها على الكومبيتر بعد تقاعدي من العمل في الامم المتحدة سنة 1994 وحرصت على عدم تعديل ما كتبت، بخط يدي سنة 1970 ،لانه سرد لاحداث عن مرحلة تاريخية لم يتأثر فيها فكري بمستجدات وأحداث حصلت طوال عقود بعدهاوما كتب ونشر من وثائق عن النظام الملكي السابق ولو أخذت ما كتب ونشر عنه في الاعتبار لآصبحت هذه الصفحات كتابا تحليليا وليست ذكريات شخصية تعبر عما كنت أعمله وأعلمه وأسمعه وأراه وأعتقده خلال عملي في النظام الملكي بعد ذلك على الجوانب ألاملائية والصياغة وتسلسل الاحداثالتاريخية للنظام الملكي عند الضرورة.
وحيث أن الثورة أحالت والدي على التقاعد وكان وكيلا لكلية العلوم في جامعة طرابلس فقد قرر الذهاب لآداء فريضة الحج برفقة والدتي وأخي ألاوسط ألحاج الهادي الخبير في شؤن الحج لآنه رافق عماته وخالته للحج عدة مرات فتوكلت على الله وقررت مرافقتهم للحج وكانت الصعوبة الوحيدة التي واجهتني تكمن في حصولي على ألاذن بالسفر أذ كان معظم المسؤلين في النظام الملكي ممنوعين من السفر الى خارج البلاد.
وبعد عدة أتصالات ومراجعات وافق المدعي العام لمحكمة الشعب الملازم عمر عبد الله المحيشي ،عضو مجلس قيادة الثورة،الذي لم أكن أعرفه، ولكن شكرا لتدخل والده السيد عبد الله المحيشي، النائب السابق في البرلمان في العهد الملكي، وصهر أبن عمي السيد عبد اللطيف المنتصر، النائب السابق في البرلمان ايضا، قفد وافق المدعي العام على سفري وحصولي على وثيقة سفر وتأشيرة الحج وذلك بعد تأكده من عدم وجود أي تهمة ضدي في ملفات القضايا التي ستنظر أمام محكمة الشعب. وهكذا غادرنا طرابلس للحج وكانت هذه أول رحلة لي للخارج بعد تغير نظام الحكم في البلاد. وبعد وصولنا الى ألاراضي المقدسة ساعدنا السفير الليبي السيد حسن بلعون، وهو من سفراء النظام الملكي الذي لم يتم تغييره بعد على الحصول على وسائل النقل والحجز لنا في فنادق تيسير المريحة في جدة والمدينة ومنى.
كان الحج راحة لي ولاعصابي بعد ألاحداث التي مرت بي من أعتقال وأعتكاف في البيت الى هجران قسري للاصدقاء والاحباب. وكان جلال الكعبة المكرمة وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم ما أثر في نفسي بقية حياتي وزاد قوة أيماني بالله والاعتماد عليه وزاد من ثقتي بنفسي لخوض مرحلة حياتي الجديدة القادمة التي أقبلت عليها بعد الفاتح من سبتمبر.
وبعد الحج غادرنا الرحاب الطاهرة الى بيروت وبعدها سافر والدي منها الى طرابلس وأخي الهادي الى دمشق لمواصلة دراسته الجامعية بها وبقيت أنا فيها لعدة أيام أتجهت بعدها الى القاهرة المدينة التي أرتبطت بها عاطفيا حيث كنت قد قضيت فيها أحسن سنوات حياتي، سنوات الدراسة الجامعية وسنوات الشباب.وبعد فترة راحة قصيرة فيهاعدت الى طرابلس.
لم تكن زيارتي هذه للاراضي المقدسة هي ألاولى لها فقد سبق وأن زرتها للعمرة سنة 1964 عندما رافقت الوفد الليبي برئاسة رئيس الوزراء السيد محمود المنتصر لتهنئة الملك فيصل عند توليه عرش المملكة العربية السعودية.
بعد رجوعي الى أرض الوطن شعرت بضرورة هجر حياة الانزواء التي فرضتها على نفسي وقد سنحت لي فرصة زيارة السيد سليمان قرادة لي في البيت، وهو صديق وزميل لي في العمل حيث كان أحد المدراء في رئاسة مجلس الوزراء التي كنت أتولى وزارة الدولة فيها والذي أختير بعد الفاتح من سبتمبر ليكون السكرتير الخاص لرئيس الوزراء العقيد معمر القذافي رئيس مجاس قيادة الثورة. وذكرت أثناء زيارته لي بأني أرغب في العمل ألا أنني لا أعرف عما أذا كان مسموحا لي من قبل نظام الحكم الجديد بالعمل ام لا فأنا كما هو يعلم لا أملك شيئأ وأعيش على المرتب الوظيفي. وأقترح علي مشكورا بأنه في أمكانه أن يسلم رسالة محررة مني الى رئيس الوزراء أطلب فيها الأذن بالعمل وفعلا سلمته رسالة مني لرئيس الوزراء العقيد معمر القذافي بهذا المعنى طالبا السماح لي بالعمل في شركات البترول وبعد يومين أخبرني ألاخ سليمان قرادة بالهاتف بأن العقيد معمرالقذافي لا يرى مانعا في أن أعمل في القطاع الخاص بما في ذلك مجال البترول ولكنه لا يسمح للعاملين في المناصب العام في العهد الملكي بالعمل مع الحكومة في النظام الجديد.
وهكذا بدأت البحث عن عمل في شركات البترول وخلال زيارتي للسيد محمد الكاديكي،المدير الليبي للعلاقات التجارية بشركة شل والذي عمل معها لاكثر من 17 سنة، علمت منه أن الشركة تبحث عن عنصر ليبي لتولي مهام مدير أدارتها لشؤن الموظفين لان وزارة البترول أصرت على تلييب هذه الوظيفة في جميع شركات البترول. ونصحني بالتقدم أليها وفعلا تقدمت بطلبي وقدمني السيد محمد الكاديكي الى مدير عام الشركة المستر بيتر هولمز الذي كان يعرفني لقيامي بمهام وزارة شؤن البترول بالوكالة في العهد الملكي ، والذي رحب بي بكل أحترام و أستعرض معي
ملخص حياتي الدراسية وخبرتي والمسؤليات ألادارية التي توليتهاوقال لي بأنه يسر شركة شل أن تضمني الى فريق مدرائها ولكن نظرا لمناصبي السابقة أبان الحكم الملكي، فأنه يود أخد موافقة وزير البترول قبل أن يقدم لي عرضا رسميا بالوظيفة ألامر الذي أتفق كلانا على وجوب أتباعه.
كان وزير البترول آنذاك السيد عز الدين المبروك وهو صديق لي وزميلي في المدرسة الثانوية في طرابلس وكذلك تشاركنا في السكن أبان دراستنا الجامعية في القاهرة. وبعد أيام أتصل بي المستر هولمز وأبلغني أن وزير البترول وافق على تعيني في الشركة بألاضافة الى تزكيته لي بأنني عنصر هام وبأني سأكون مفيدا للشركة ولعملياتها في ليبيا.
على أثر ذلك باشرت العمل مع شركة شل في أوائل سنة 1971 حيث أوضح لي المدير العام للشركة بانه يتحتم عليا قضاء فترة تدريب بمركز الشركة في لندن وحضور دورات مكثفة في ألادارة وشؤن الموظفين قبل تسلمي لمهام وظيفتي من مديرها الانجليزي المستر جراهم هيل. وكان هذا الاجراء شيئا جميلا بالنسبة لي ألا أني أشرت له بأمكانية وجود صعوبة في حصولي على أذن للسفر الى الخارج. وعليه بدأت أتصالاتي للحصول على أذن السفر وبعد جهد وافق المدعي العام لمحكمة الشعب على السماح لي بالسفر الى لندن .
ألتحقت في لندن بالمركز الرئيسي لشركة شل الدولية للبترو ومبنى الشركة الشاهق العلو في واترلو يعتبر أحد معالم المدينة لزوار لندن من السواح.
حضرت اثناء وجودي في لندن عدة دورات عالية المستوى في ألادارة على مختلف مستوياتها سواء كان ذلك فيما يتعلق بأتخاد القرارات أو علم السلوك أو العلاقات بين المستخدمين والادارة أو العلاقات العمالية بالاضافة الى مواضيع شتى في معاهد عالية متخصصة. كانت بيئة العمل في شركة شل ممتازة تتناسب ورغبتي في مواصلة الدراسة في ميادين البترول التي لها مستقبل في ليبيا والبلاد العربية. كما كان عملي
في لندن فرصة ذهبية للعودة الى الحياة في هذه المدينة التي أحببتها وقضيت فيها حوالي أربع سنوات أثناء عملي في السلك الدبلوماسي.
وفي شهر ديسمبر من سنة 1971 أستلمت رسالة من مدير عام شركة شل في ليبيا اخبرني بأن الحكومة الليبية مصّرة على ألاسراع في تلييب وظيفة مدير أدارة شؤن الموظفين وسفر المدير الانجليزي جراهم هيل وعليه فهو مضطر الى أن يطلب مني قطع فترة التدريب التي كنت ملتحقا بها وأستدعائي للعودة الى طرابلس لاستلام مهامي ،التي عينت من أجلها، كمدير لادارة شؤن الموظفين بالشركة. وهكذا دخلت فترة جديدة من حياتي لا تشملها هذه الذكريات عن النظام الملكي في ليبيا.

الفصل التاسع
أحداث هامة

سردت في الصفحات السابقة جوانب من سيررؤساء الحكومات الذين أشتغلت معهم دون التعرض بشئ من التفصيل للانجازات والأحداث الهامة التي جرت في فترات حكمهم وموقفهم منها وهو ما يهم القارئ .
ورغم تعرضي لمجرى أنتخابات سنة 1964/ 1965 بأختصار ألا أنني لم أتعرض لأنتخابات سنة 1960 لأنني كنت دبلوماسيا في السفارةالليبية في لندن ولم أتعرض كذلك لأنتخابات سنة 1952 و1956 لوجودي في مصر للدراسة . ولم أحضر أنتخابات سنة 1964 لأني كنت آنذاك في الخارج مرافقا للسيد محمود المنتصر رئيس الوزراء الذي اضطر للسفر بسبب مرضه ولكني كنت على علم ببعض ما يجري فيها لأطلاعي على مراسلات رئيس الوزراء السيد محمود المنتصر مع الملك والسيد أبراهيم بن شعبان رئيس الوزراء بالوكالة وبعض الوزراء في حكومته.
أما أنتخابات سنة 1965 فرغم أني كنت في ليبيا وفي مدينة البيضاء مع رئيس الوزراء أنذاك السيد حسين مازق لم يكن بامكاني معرفة الكثير عنها لتعامله مباشرة بالهاتف مع وزير الداخلية أنذاك السيد فاضل الأمير ومحافظي ومدراء أمن المناطق ولم يصدر تعليمات مكتوبة عن طريقي رغم أن بعض الأخبار كانت تصلني عن طريق السيد فاضل الأميروزير الداخلية وعن طريق التقارير المكتوبة و شكاوىالمرشحين التي كانت تصل رئاسة مجلس الوزراء والتي أحيلها بدوري ألى رئيس الوزراء .و سأكتفي بما كتبت عنها أئناء تعرضي لسيرة رؤساتء الحكومات وٍاتعرض فيما يلي عن بعض المواضيع الأخرى التي كانت موضع أهتمام رؤساء الحكومات الذين أشتغلت معهم .

تسليح الجيش الليبي

كان موضوع تسليح الجيش الليبي يحوز أهتمام كل رؤساء الحكومات المتعاقبة في الفترة ما بين سنة 1964 والفاتح من ستمبر سنة 1969.
ففي سنة 1964 رفض الملك أدريس أقتراح وزير الدفاع أنذاك السيد سيف النصر عبد الجليل تسليح الجيش الليبي باسلحة حديثة وثقيلة أثناء حكومة السيد محمود المنتصر حيث أقال الملك السيد سيف النصر عبد الجليل وزير الدفاع من منصبه بسبب سفره المتكرر الى القاهرة دون أذنه أو أذن رئيس الحكومة وعلاقاته الوثيقة بالحكومة المصرية وأحتفاظه بزوجة ومسكن دائم في القاهرة الأمر الذي أثار مخاوف الملك وشكوكه لأحتمال قيامه بالتعاون مع المصريين بتدبير حركة ضد النظام في ليبيا وقد وقع نظري على تقريرلأمن الدولة في بنغازي موجها لرئيس الوزراء السيد محمود المنتصر عن تحركات السيد سيف النصرعبد الجليل وعلاقاته الخاصة بزوجة الملحق العسكري المصري في بنغازي ويخلص التقرير ألى أن السيد سيف النصر قد يكون وقع في فخ مصري باستغلال علاقته بزوجة الملحق العسكري المصري ،التي كانت تتمتع بجمال ملفت للنظر، للحصول منه على معلومات تتعلق بالجيش الليبي ومدى تعاون ليبيا مع بريطانيا وأمريكا في شئون الدفاع . وقد قام جهاز أمن الدولة في بنغازي بتسجيل مكالماته الهاتفية بينه وبين زوجة الملحق العسكري المصري وكانت زوجة الملحق العسكريي تقوم حالا بعد مكالماتها مع السيد سيف النصر بنقل فحواها الى المعتقد بأنه زوجها في السفارة المصرية ويشك جهاز أمن الدولة ببنغازي بان هذه السيدة هي زوجة الملحق العسكري فعلا وكان الأعتقاد انها جاسوسة تابعة لجهاز المخابرات المصري أستخدمت لهذا الغرض بعد أعطائها صبغة رسمية دبلوماسية حتى لا تتعرض للمراقبة. واذكر أن رئيس الوزراء السيد محمود المنتصر نقل هذا التقرير حالا ألى الملك الذي أستلم بدوره نسخة منه رأسا من مدير عام الأمن ببرقة وحال أطلاع الملك على التقرير أصدر مرسوما بعزله من الوزارة وعين شخصا يثق فيه هو السيد حامد العبيدي .
بعد أستقالة حكومة السيد محمود المنتصر واصلت الحكومات المتتالية الأهتمام بموضوع تسليح الجيش الليبي واذكر أطلاعي على كثير من عروض شركات و مراسلات وكاتولوجات الأسلحة التي كانت ترسل من طرف السفارة البريطانية الى رئيس الوزراء السيد حسين مازق الذي كان يسلمها بدوره ألى وزير الدولة لشئون رئاسة مجلس الوزراء أنذاك السيد سليمان الجربي لدراستها وأعداد قوائم بها و تقديرات لتكاليفها . الا أن الوقت لم يسمح للسيد حسين مازق والسيد عبد القادر البدري أتخاذ قرار بشأنها رغم أن الملك أبدى موافقته للسفير البريطاني عليها وكلف الحكومة بدراستها وأتخاذ قرار بشأنها ويظهر أن السيد حسين مازق والسيد عبد القادرالبدري غير موافقين على تسليح الجيش باسلحة صاروخية ودبابات ثقيلة خوفا من الأخلال بالتوازن بين الجيش الليبي وقوة دفاع برقة الذي كانا يصران علىالمحافظة عليه لأن الجيش الليبي يغلب عليه الطابع الطرابلسي ومعظم ضباطه من طرابلس مما يشجعهم على القيام بحركة ضد الملك وتوحيد ليبيا تحت قيادة طرابلسية . ورغم الأجتماعات العديدة التي كان يعقدها رئيس الوزراء مع كبار ضباط الجيش لدراسة عروض هذه الأسلحة كانت توصية السيدين حسين مازق وعبد القادرالبدري للملك برفضها لأرتفاع تكاليفها وعدم توفر العناصر الفنية المتخصصة في الجيش لاستيعابها . كما كانا يشكان في تصرفات العقيد عبد العزيز الشلحي في الجيش وتدمر كثير من ضباط الجيش منه وصلاته هو وأخيه السيد عمر بالرئيس عبد الناصركما كان اللواء نوري الصديق أسماعيل رئيس اركان الجيش كثير الشكوى من تصرفات العقيد الشلحي وتدخلاته في ترقيات الضباط وشئون تسليح الجيش كما كان اللواء السنوسي الأطيوش من قبله .
ورغم أن الملك يؤمن بضرورة وجود توازن بين قوات الجيش وقوة دفاع برقة في الحصول على أحدث الأسلحة ألا أن السفير البريطاني كان يلح عليه لأقناعه بفائدة نظام الصواريخ الدفاعي ضد أي أعتداء محتمل من مصر أو الجزائركما كان العقيد عبد العزيز الشلحي الذي يثق الملك في اخلاصه يؤيد ويدافع عن قبول العروض البريطانية لتسليح الجيش .
بقى موضوع تسليح الجيش دون قرار حاسم حتى جاء الاستاذ عبد الحميد البكوش رئيسا للوزراء والذي كانت علاقاته وطيدة مع العقيد عبد العزيز الشلحي وعلى أتصال به رأسا وكذلك كان الاستاذالبكوش يحظى بثقة وصداقة السفير البريطاني السير ساريل . وحال أستلامه لمنصب رئيس الوزراء بدأ في الأسراع في البت في موضوع تسليح الجيش وكان اللواء نوري الصديق أسماعيل ينتقد الاستاذ البكوش بدوره لمساعدته العقيد عبد العزير الشلحي والتعامل معه من وراء ظهره لأنجاز صفقة الأسلحة الصاروخية والثقيلة . وقد أستغل الاستاذ عبد الحميد البكوش الفرصة وأجتمع بضباط الجيش في مدينة بنغازي وأوضح لهم رأيه في الدفاع عن ليبيا قائلا أن الخطر الخارجي الذي يهدد ليبيا لن يأتي من الشمال أي أوربا وامريكا وأنما من جيران ليبيا ويقصد مصر والجزائرولهذا لا بد من أقامة نظام دفاع جوي وصاروخي يعتمد على التقنية المتقدمة وليس على القوة البشرية لأن ليبيا بلد قليل السكان بالنسبة لجيرانه ومساحتها واسعة يصعب الدفاع عنها بالأسلحة التقليدية وقد خرج رئيس الأركان اللواء نوري الصديق أسماعيل غاضبا من الأجتماع وزارني بعدها وأخبرني بخطاب رئيس الوزراء الاستاذ البكوش في ضباط الجيش.
وفي يوم الأحتفال بأفتتاح ميناء الزويتينة البترولي سنة 1968 الذي حضره الملك أستدعىالسيد عبد الحميد البكوش مجلس الوزراء في أجتماع عاجل بعد الأحتفال مباشرة وأعلم المجلس بأنه نظرا لحاجة البلاد الى سلاح دفاعي يعتمد على التقنية الفنية العالية وعدد قليل من البشر لتغطية السماء الليبية لهذا تقرر تسليح الجيش بشبكة من الرادار والصواريخ الدفاعية لتغطية معظم المناطق الليبية الشمالية والجنوبية وهذه الصواريخ متحركة وتعمل على مدى 500 كيلومتر وأن لجنة من ضباط الجيش قامت بدراسة عرض بريطاني دراسة دقيقة ووافقت على نظام دفاعي يحقق هذا الغرض . وتكلم بعد ذلك وزير الدفاع السيد حامد العبيدي وأكد كلام رئيس الوزراء وأضاف بأن النظام الصاروخي المقترح يعتبر من أحدث الأسلحة ولا يوجد له مثيل في دول المنطقة سوى لدى دول حلف الأطلسي بالأضافة الى رغبة وزارة الدفاع في الأستمرار في تسليح الجيش بالأسلحة التقليدية الأخرى مثل الدبابات البريطانية والطائرات الأمريكية . وقد تسائل بعض الوزراء ومنهم وزير التخطيط الدكتور علي أحمد عتيقة عن تأثير مثل هذا المشروع على مشاريع التنمية الأقتصادية والأجتماعية التي يجب أن تكون لها الأولوية في تقديرات الميزانية فمشاريع الدفاع الحديثة غالية التكاليف خاصة أن ليبيا ملتزمة بدفع 30 مليونا جنيه ليبي سنويا لدعم الدول المجاورة لأسرائيل طوال فترة الخطة الخماسية للتنمية. كما طلب وزير المالية السيد الهادي القعود ضرورة معرفة تكاليف المشروع قبل الألتزام بأي عقد وأضاف بأن مصروفات وزارة الدفاع الحالية تزيد على مخصصاتها في الميزانية العامة وأية نفقات أضافية يجب الموافقة على تخصيص أموال لها قبل تنفيذها كما تساءل وزير السياحة السيد معتوق أدم عن سبب عرض مثل هذا الموضوع الهام بصفة مستعجلة على المجلس وهل الغرض من ذلك هو مجرد عرضه للمعلومية بعد أن تمت الموافقة علية . وأوضح رئيس الوزراء بان هدفه من عرض الموضوع على المجلس هو أخذ رأيه نظرا لأهميته رغم سريته بعد أن تمت دراسته الفنية من قبل لجنة عسكرية متخصصة من كبار ضباط الجيش الليبي وقد أكد الخبراء الأجانب من بريطانيين وأمريكيين على أن الضباط الليبيين على درجة عالية من الكفاءة والخبرة لا تقل عن كفاءة وخبرة ضباط حلف الأطلسي وطالب مجلس الوزراء بأن يثق في ضباط الجيش الليبي . كما أوضح أن المشروع قد حظي بموافقة الملك وهو الأن قيد التنفيذ وأنه كان حريصا على عرضه على المجلس وأخذ رأيه في الموضوع حتى لا يفاجأ أعضاء مجلس الوزراء عند أذاعة خبر الموافقة عليه في الأذاعة كما كان يجري في السابق في عهد رؤساء الحكومات السابقين .
وقد أبديت رأيي قائلا أني أعتقد أن الموضوع ليس اجراء روتنيا عاديا يمكن لرئيس الوزراء بالتشاور مع وزير الدفاع أتخاذ قرارا فيه دون الحصول على موافقة مسبقة من مجلس الوزراء فالموضوع يتعلق بتسليح الجيش بأسلحة ضخمة متطورة بتكاليف باهضة والناس في ليبيا أصبحوا يشكون في المشاريع والصفقات الكبيرة وأخشى أن أعلان هذا المشروع فجأة سيفتح مجالا للأشاعات والأقاويل وتهم الفساد وهو الشئ الذي حرصت هذه الحكومة على محاربته . وطالبت باعطاء وقت كاف لدراسته من طرف اللجان الفنية ومجلس الوزراء وأحاطة الراي العام عن تفاصيله أعلاميا في مراحل دراسته واعداده لتقبل مثل هذاالقرار الخطير. وكان رد رئيس الوزراء بأنه أذا تخوفنا من ما يقال في الشارع من أشاعات عن الفساد فلن تستطيع الحكومة عمل أي شئ يعود بفائدة على البلاد وأن الحكومة يجب أن تنطلق من قناعتها بسلامة القرارات و الأجراءات التي تتخذها وانهى الجلسة عند هذا الحد بقوله أنه سيطلع المجلس على مزيد من التفاصيل في الجلسات القادمة .
وخرج الوزراء غير مقتنعين باجابة رئيس الوزراء وسبب عرض الوضوع عليهم بهذه الصورة المستعجلة رغم تسليمهم بأن الحكومة ملتزمة أمام مجلس الأمة بتسليح الجيش باسلحة حديثة كما أن أختيار نوع السلاح هو من أختصاص وزير الدفاع ومساعديه في الجيش وأن ما عرض عليهم لم يتعرض لتكاليف المشروع وعطاءاته التي هي من أختصاص مجلس الوزراء حسب القوانين واللوائح. وبعد هذه الجلسة أعلن رئيس الوزراء في مؤتمر صحفي موافقة الحكومة على تسليح الجيش الليبي بشبكة من الصواريخ والراداروبعد فترة أعلن توقيع عقد الشراء وعقد المساندة مع الشركات البريطا نية بأشراف الحكومة البريطانية دون عرض المزيد من المعلومات على مجلس الوزراء حول الموضوع سوى طلب موافقته على الاعتمادات المالية لتغطية مشروع السلاح الذي يتضمن شبكة للرادار والصواريخ ومتطلباتها وكذلك عقودا لشراء دبابات وطائرات وسفن حربية التي سبق وأن وافقت عليها حكومة السيد حسين مازق ووزير الدفاع أنذاك السيد أبوسيف ياسين . وبرر وزير الدفاع السيد حامد العبيدي عدم تقديم العقود لموافقة مجلس الوزراء ترجع ألى أن عقود التسليح سرية و تتناول الصوارخ ومواقعها وكذلك الدبابات والطائرات وقدرتها وكفاءتها وتكاليفها وتاريخ التعاقد وتاريخ التسليم والأنتهاء من أنشاء المنشئات لها وكل هذه المعلومات تعتبر أسرارا عسكرية . وأستمرتنفيذ مشروع التسليح في سرية في عهد حكومة السيد ونيس القذافي وكانت لجنة تسليح الجيش التي ألفها وزير الدفاع تجتمع وتوافق على العقود وترسل البعثات التدريبية ووفود التفاوض مع الشركات المعنية في بريطانيا وطلبت اللجنة أستعارة المستر بيت هارديكر المستشار المالي لرئيس مجلس الوزراء للأستعانة به في أعمالها ودراسة العقود وتمشيها مع القوانين المالية والجمركية المعمول بها في ليبيا وكنت عن طريق المستر بيت هارديكر أعرف ما يجري في اللجنة وأذكرأنه أخبرني بأنه أستطاع تخفيض تكاليف العقود لأن الشركات البريطانية المتعاقد معها وضعت تقديرات مبالغ فيها دون ألمامها بمستوى المرتبات في ليبيا ومستوى المعيشة فيها كما حرص على مراجعة أسعار الأسلحة والمعدات التي تطلبها الشركات ومقارنتها بالأسعار المعروفة في بريطانيا.
( أن ما ذكرته أعلاه هو ما كنت أعرفه عن مشروع تسليح الجيش الليبي أنذاك عندما بدأ تنفيذ المشروع وفي السنوات الأخيرة قرأت الكثير من التقارير المفصلة عن المشروع في ملفات الحكومة البريطانية التي نشرت بعد مضي فترة 30 عاما عليها وتتضمن مراسلات وزارة الدفاع وتقارير السفير البريطاني ومراسلات الحكومة البريطانية مع وزارتي الخارجية والدفاع الليبيتين والشركات المتعاقدة مع ليبيا ومراسلات هذه الشركات مع ليبيا وهي كاملة التفاصيل وانصح من يريد معرفة المزيد عن الموضوع الرجوع الى هذه الوثائق البريطانية في دار الوثائق البريطانية في منطقة كيو جاردن بلندن ).

البترول

رغم أني كنت أعرفالكثيرعن أنشطة البترول ودور وزارة البترول لأني توليت منصب وزير البترول بالوكالة عدة مرات وعندما كنت وكيلا لرئاسة مجلس الوزراء ألا أنني لا أعرف بالتفصيل كيف منحت عقود الأمتياز في سنة 1965 في عهد حكومة السيد حسين مازق وكل ما كنت أعرفه أن مناطق معينة عرضت على شركات البترول العالمية وقد تقدمت هذه الشركات بعروضها وان هذه العروض عرضت على ما يسمى أنذاك لجنة شئون البترول ورفضت اللجنة بعضها لعدم توفر الشروط المطلوبة أو أن الشركات صاحبة العروض لا تتمتع بسمعة طيبة أو لكونها شركات جديدة وليس لها خبرة سابقة وبعضها على ما أعلم شركات جديدة أنشئت خصيصا للمشاركة في العطاءات التي أعلنتها الحكومة الليبية لامتيازات عقود البترول .
وقد كتبت عن عملية فتح أمتيازات جديدة كثير من الصحف الغربية والعربية بالخصوص .والذي أعلمه أنه كان هناك خلاف بين وزير البترول أنذاك الاستاذ فؤاد الكعبازي وبين لجنة البترول وبينه وبين كبار موظفي وزارة البترول وقد أدى هذا الخلاف ألى استقالةالاستاذ فؤاد الكعبازي من منصبه كوزير للبترول وتعيين السيد خليفة موسى بدلا منه والذي كان يشغل منصب وكيل وزارة البترول بالأضافة الى عمله الرئيسي في وزارة المالية كوكيل للوزارة لشئون الجمارك . وكان السيد محمد الجروشي رئيس الشركةالوطنية للبترول يعارض و ينتقد وزير البترول الاستاذ فؤاد الكعبازي علنا الأمر الذي كان له رد فعل سئ لدى الرأي العام ورغم أن رئيس الوزراء السيد حسين مازق كان لا يؤيد رأي وزير البترول ويظهرأنه لم يستطع أقناع الملك بأخراج الاستاذ فؤاد الكعبازي من وزارة البترول في أول تعديل له للوزارة ولكنه أستطاع أخراجه بعد أن تمت الموافقة على عقود الأمتياز للتنقيب عن البترول .وكان يشاع أن السيد عمر الشلحي ووالدته كانا يؤيدان الاستاذ فؤاد الكعبازي وساعداه في البقاء كوزير للبترول في الحكومة ليساعدهما في الحصول على موافقة الحكومة على العقود البترولية للشركات التي لهما علاقة بها . وكما ذكرت كان قد عرض على مجلس الوزراء قرارات لجنة البترول حول العطاءات المقدمة وقد وافق عليها مجلس الوزراء وعلى أثر ذلك أستقال ثلاتة من أعضاء اللجنة وهم على ما أذكر :ـ الدكتورعلي أحمد عتيقة والسيدان سالم عميش وابراهيم الفقي حسن . وقيل أن الملك أمرالسيد حسين مازق بالموافقة على عرض شركة أكسدنتال التي يرعاها السيد عمر الشلحي لأنها في نظر الملك تقدم مزايا ترمي ألى تخصيص نسبة 5 في المائة من أرباحها لتنمية منطقة الكفرة القريبة الى قلب الملك لكونها مهدا للحركة السنوسية وفيها يرقد جثمان جده السيد محمد بن علي السنوسي رغم أن لجنة البترول لم توافق علىعرض شركة أكسدنتال المذكورة لعدم أهليتها للقيام بالتنقييب والأنتاج والتصدير. وقيل أن مجلس الوزراء لم يكن موافقا بالأجماع على قرار منح الأمتيازات وعارضه الوزراء السادة عبد المولى لنقي ومنصور كعبار وعمر الباروني والدكتورمصطفى بن زكري وقيل أن السيد الطاهر العقبي كان وراء بعض عروض الأمتياز . وكان رئيس الوزراء السيد حسين مازق صريحا في كلامه مع الوزراء وكبار المسئولين في الدولة بأن الملك نفسه أصدر تعليماته بالموافقة على كل العروض بما فيها عرض شركة أكسدنتال وقد وصلت بعض هذه الأقوال الى مسامع الملك مما جعل الملك يأمر سكرتيره بنفي هذه الأشاعات وبأن الملك لم يتدخل أطلاقا في عروض شركات البترول ولكنه نصح بالموافقة على العقود التي تقدم ميزات وخدمات من أرباحها للبلاد وكان يقصد شركة أكسدنتال وقد لاقى هذا البيان استنكار الناس لأن البيان دعم ما أشيع بان بعض العقود أعطيت بأمر الملك دون مراعاة لنتيجة العطاءات وأنه وراء شركة أكسدنتال .
وقد عقب هذا البيان صدور مرسوم ملكي بتعديل الوزارة وخروج كل الوزراء الذين عارضوا أعطاء امتياز التنقيب لشركة أكسدنتال وبقى الأستاذ فؤاد الكعبازي وزيرا للبترول وأستمر خلافه مع كبار موظفي وزارة البترول الذين كان رئيس الوزراء السيد حسين مازق يؤيدهم من وراء ستارلانه كان غير موافق على سياسةالاستاذ فؤاد الكعبازي وزير البترول ولم يدم الاستاذ الكعبازي في وزارة البترول وخرج في التعديل الثاني لوزارة السيد حسين مازق وخلفه السيد خليفة موسى كوزير للبترول كما سبق وان ذكرت.




عقود المشاركة مع شركات البترول سنة 1968

تمت الموافقة على هذه العقود الخاصة بامتيازات التنقيب عن البترول في عهد حكومةالاستاذ عبد الحميد البكوش سنة 1968 وذلك باقتراح وتأييد السيد خليفة موسى وزير البترول أنذاك ولما كنت غائبا في أجازة أثناء أتخاذ القرارفقد أستفسرت بدوري بعد رجوعي من الأجازة من الوزراء الذين كانوا حاضرين فأكدوا لي بان تفاصيل العقود لم تعرض على المجلس للمناقشة رغم صدورقرار مجلس الوزراء بشأنها وقعه رئيس الوزراء . وكل ما أعرفه عن هذه العقود أنها كانت عقود مشاركة تعطي أمتيازات أكبر من أية امتيازات سبق للحكومة أن منحتها للشركات البترولية العاملة في ليبيا. وكانت هذه الخطوة عاملا لأنشاء مؤسسة البترول الوطنية لتقوم بدراسة عقود المشاركة والاشراف على تنفيذها.
وفي عهد حكومة السيد ونيس القذافي وافق الملك على أقتراح لوزير البترول السيد خليفة موسى بعرض بعض المناطق، التي أسترجعت من شركات النفط بعد مضي المدة المحددة في العقود معها، في مناقصة عالمية وطلب من الشركات التقدم بعروضها للدخول في مشاركة مع الحكومة ممثلة بالشركة الوطنبة للبترول وقد تقدمت عدة شركات بعروضها التيعرضت على مجلس المؤسسة الوطنية للبترول فوافق عليها باستتناء عرض شركة شباكوالذي رفضه المجلس لعدم توفر الشروط المطلوبة . وكانت معظم الشركات الأخري التي تقدمت بعروض هي من الشركات الكبرى المعروفة ومعظمها لها نشاط سابق بليبيا . وكان مجلس المؤسسة الوطنية للبترول منقسما في قراره حول عرض شركة شباكو فرفض العرض ثلاتة من أعضاء المجلس هم السيد مصطفى رشيد الكيخيا والسيد شكري غانم والدكتور علي أحمد عتيقة وقد عرض وزير البترول قرار مجلس المؤسسة على مجلس الوزراء ورأيه الخاص بأضافة عرض شركة شباكووقال انه بالرغم بان عرض شركة شباكو لم يوافق عليه مجلس المؤسسة للبترول ألا أنه رغبة في أعطاء هذه الشركة فرصة أخرى فقد طلب منها التعهد بشروط تتعلق بالأسباب التي رفض العقد من أجلها وهي الأهلية المالية لكونها شركة جديدة ليست لها الخبرة المطلوبة وقد أشترط عليها تقديم ضمان مالي من مصرف عالمي موثوق به والتعهد بعدم التنازلعن امتيازها لشركة أخرى وذلك ضمانا لعدم المتاجرة و بيع أمتيازها لأحدى الشركات العاملة في البلاد . وقد وافقت الشركة على كل هذه الشروط ولهذا أقترح وزير البترول على مجلس الوزراء بصفته السلطة العليا المختصة الموافقة على عرض شركة شباكو رغم معارضة مجلس مؤسسة البترول الوطنية وكان رئيس الوزراءالسيد ونيس القذافي يؤيد رأي وزير البترول وكان واضحا لدى أعضاء محلس الوزراء أن وزير البترول ورئيس مجلس الوزراء واقعان تحت ضغط من السيد عمر الشلحي وأن الملك نفسه كان موافقا على ذلك وكان وزير البترول رغم تقدمه بأقتراح الموافقة غير متحمس لعرض شركة شباكو وقد وافق مجلس الوزراء على عقود المشاركة التي وافق عليها مجلس مؤسسة البترول وكذلك على عقد شركة شباكو بالشروط التي ذكرها وزير البترول وقد رفض مجلس الوزراء عرض شركة أسو للبترول بقبول امتيازات لبعض المناطق المعروضة دون التقيد بمبدأ المشاركة الذي لا يتمشى مع سياستها الدولية رغم تقدمها بأمتيازات أضافية مغرية بأنشاء صناعات بتروكيمائية كبرى في ليبيا. والمعروف أن منظمة الأوبك اعتمدت مبدأ المشاركة ألا أنها تركت الباب مفتوحا لعقود الأمتياز التقليدية لأصرار الشركات الكبرى التي رفضت مبدأ المشاركة خوفا من تطبيقها على العقود السابقة المعمول بها .
أحيل قرار مجلس الوزراء بالموافقة على عقود البترول على وزارة البترول التي حولته بدورها على المؤسسة الوطنية للبترول لتنفيذه واعداد العقود للتوقيع وفقا لقانون البترول وقام رئيس المؤسسة السيد محمد الجروشي بالموافقة على العقود وتوقيعها نيابة عن المؤسسة وأحالها على وزير البترول أنذاك خليفة السيد خليفه موسى للتصديق عليها وأصدارها حسب القانون . وفعلا صادق السيد خليفة موسى ووقع كل العقود التي وافق عليها مجلس الوزراء باستتناء العقد مع شركة شباكو المشار أليه أعلاه بعد أدخال تعديل عليه بالأتفاق بين الشركة ورئيس مؤسسة البترول الوطنية مما يعطي الشركة معاملة خاصة في التقيد بالمشاركة عند بلوغ الأنتاج الحد المقرر لا يتمشى مع قرار مجلس الوزراء ومن المصادفات أني توليت منصب وزير البترول بالوكالة في هذه الفترة عندما ذهب السيد خليفة موسى الوزير الأصلي لوزارة البترول في أجازته السنوية وفي يوم 31 أغسطس 1969عرض علي وكيل وزارة البترول السيد أبراهيم الهنقاري والوكيل المساعد السيد عيسى البعباع عقد شركة شباكو المشار أليه للتوقيع وذكرا لي بان ممثل الشركة يصر على توقيع العقد أسوة بغيره من العقود التي وافق عليها مجلس الوزراء وأنه مسافر ألى أمريكا ويرغب في أخذ العقد معه موقعا . وقد اعتراني الشك في الموضوع فسألت السيدين ابراهيم الهنقاري وعيسى البعباع عن سبب عدم توقيع السيد خليفة موسى وزير البترول الأصلي على العقد أسوة بغيره من العقود التي وافق عليها مجلس الوزراء فكان جوابهما بأن العقد مع شركة شباكو يتضمن بنودا أستثنائية تعفي الشركة من الدخول في مشاركة مع الحكومة في حالة أكتشافها للبترول بكميات تجارية وهو استثناء غير وارد في قرار مجلس الوزراء ولم يذكر في العقود مع الشركات الأخرى وأن السيد خليفة موسى أمر بحفظه ألى حين عودته لدراسته مع رئيس مؤسسة البترول الوطنية والسبب في عرضه على اليوم هو ان القصر الملكي في طبرق اتصل بهما بأسم الحاجة الشلحي وطلب منهما تقديم العقد ألي للتوقيع . وعلى الفور طلبت من السيدين ابراهيم الهنقاري وكيل وزارة البترول والسيد عيسى البعباع الوكيل المساعد والسيد سهيل السعداوي نائب رئيس المؤسسة للبترول دراسة عقد الشركة المشار أليه أعلاه وتقديم تقريرمكتوب أ لي حالا. وفعلا تقدموا بتقريرمفصل فحواه بأن العقد مخالف لقرار مجلس الوزراء وعلى الفور طلبت من السيد عيسى القبلاوي الوكيل المساعد اعداد رسالة ألى رئيس مؤسسة البترول وأعادة العقد اليه لتعديله وفقا لقرار مجلس الوزراء وعلى أن يتضمن أيضا الشروط الأضافية التي ألتزم بها وزير البترول أمام مجلس الوزراء بالنسبة لشركة شباكو وتقديمه من جديد للتوقيع والمصادقة عليه من وزير البترول . كما طلبت أرسال رسالة ألى ممثل شركة شباكو بهذا المعنى وألأعراب له عن أسفي له لعدم أمكاني توقيع العقد حتى يتم تعديله ليتمشى مع قرار مجلس الوزراء . كما أخبرت السيد ونيس القذافي رئيس الوزراء بما أتخذته من أجراءات وطلبت النظر في أهلية
رئيس مؤسسة البترول لمنصبه لتوقيعه على عقد شركة شباكو بما لا يتمشى مع قرار مجلس الوزراء وقد وافقني رئيس الوزراء في الأجراء الذي أتخذته ووعد بالنظر في وضع رئيس المؤسسة الذي كثرت الشكوى منه و خلافاته مع مجلس المؤسسة ومع كبار الموظفين فيها . وفوجئت بعد ذلك برسالة من ممثل شركة شباكو يعلمني فيها بانه أذا لم يتم التصديق والتوقيع اليوم على عقد شركته الموقع من طرف رئيس مؤسسة البترول فان شركته ستلجأ الى القضاء والمطالبة بالتعويض عن التأخيروفي نفس الوقت أستلمت مكالمة من السيدة نجمة الشلحي أرملة السيد أبراهيم الشلحي ووالدة السيدين عبد العزيز وعمر الشلحي تطلب مني توقيع عقد شركة شباكو الذي وافق عليه مجلس الوزراء أسوة بغيره من عقود الشركات الأخرى اليوم لأن ممثل الشركة مضطر الى السفر ويريد أخذ العقد معه وأضافت بأن ممثل الشركة أتصل بها بصفة خاصة وطلب مساعدتها للأتصال بي في الموضوع . وقد اوضحت لها وضع الشركة وأجراءاتنا لتعديل العقد حسب قرارمجلس الوزراء وأن السيد ونيس القذافي رئيس الوزراء وافق على هذه الأجراءات بأحالة العقد من جديد على رئيس مؤسسة البترول لتعديله من جديد ولذلك لا أستطيع عمل أي شئ في هذه المرحلة وقد شعرت بعدم رضاها على جوابي فأتصلت بعد ذلك برئيس الوزراء دون جدوى . و قد أحضر لي السيد عيسى القبلاوي الرسالتين المشار أليهما أعلاه الى كل من رئيس مؤسسة البترول الوطنية وممثل شركة شباكو فوقعتهما في مكتب وزير الخارجية من نفس اليوم رغم أنشغالي مع السيد الهادي أبو طالب الوزير المغربي الذي كان في زيارة رسمية الى ليبيا لتسليم دعوة الملك الحسن ألثاني ملك المغرب الى الملك أدريس لحضور مؤتمر القمة الذي كان سيعقد في الرباط في ستمبر. وقد سررت بعد ذلك عندما أذيع قرارألغاء العقد مع شركة شباكو من طرف الحكومة التي ألفت بعد قيام الثورة أستنادا على رسالتي التي أرسلتها الى ممتل الشركة المشار أليها أعلاه. وما اثار غضبي أن وزير البترول الأصلي السيد خليفة موسى لم يعلمني مسبقا بالمشكلة قبل سفره في أجازة وقد قابلته بعد ذلك في روما واثرت معه الموضوع ولمته على ذلك وكنت أعتقد بان السيد خليفة موسى رغم صداقته لي أراد أن يحيل المشكلة علي حتى أوقع العقد تحت ألحاح الحاجة نجمة الشلحي ويتخلص هو من المسئولية .








زيارة بعض الشخصيات العربية الى ليبيا خلال فترة عملي كوزيرا للدولة

أود في هذه المرحلة من الذكريات سرد ملخص لزيارات قامت بها بعض الشخصيات العربية لليبيا لاعطاء القارىء فكرة عما يجري من مداولات وراء الابواب المغلقة للحكومات العربية والتي لا يعرف المواطن العادي عنها شيئا.

السيد حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة

قام السيد حسين الشافعي بزيارة الى ليبيا سنة 1968 رافقه فيها السيد عادل حسونه وزير العدل المصريوقد أسندت لي مهمة مرافقته أثناء الزيارة.
كان في أستقباله في المطار الدكتور أحمد البشتي وزير الخارجية نيابة عن الملك وأنا نيابة عن رئيس الوزراء الاستاذ عبد الحميد البكوش.
قابل رئيس الوزراء بمكتبه السيد الشافعي وبرفقته وزير العدل المصري السفير المصري في ليبيا وكنت حاضرا هذه المقابلة.
وذكر السيد الشافعي خلال المقابلة بأنه جاء الى ليبيا حاملا رسالة الى الملك أدريس من الرئيس عبد الناصر وفي نفس الوقت سيشرح للمسئولين الليبيين الحالة العسكرية على الجبهة الغربية مع أسرائيل وأضاف بأن الجمهورية العربية المتحدة تقوم بأعادة قواتها المسلحة على أسس جديدة لتجنب نكسة 1967 كما ذكر بأن مساعي الحل السلمي لازالت جارية ولكن لابد من الاستعداد لمعركة قادمة مع أسرائيل لاسترداد الارض التي أحتلتها أسرائيل سنة 67 مع الاعداد للمعركة جيدا. كما قدم شرحا وافيا للاتصالات الجارية مع الولايات المتحدة الامريكية والوضع العربي وأستمع بعد ذلك الىتعليق رئيس الوزراء ألاستاذ البكوش الذي أكد له حرص ليبيا على تأييد الجهود والمساعي العربية لاسترداد الاراضي العربية المحتلة وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في استقلاله وأسترداد أراضيه المغتصبة كما أن ليبيا تتفهم مشاكل الدول المجاورة لاسرائيل وحقها في أستعادة أراضيها بالاسلوب الذي تراه مناسبا لها.ولكن الدول العربية غير المجاورة ومن بيتها ليبيا ليست في حاجة التفاوض مع أسرائيل كما قابل السيد الشافعي بعد ذلك الملك أدريس وحضر المقابلة عن الجانب الليبي رئيس الوزراء وكذلك وزير الخارجية ولم أحضر المقابلة الا أني علمت أن الحديث مع الملك جرى على نفس النهج الذي جرى عند مقابلته لرئيس الوزراء مع التأكيد على مشاركة ليبيا للجهود الجارية لتقوية الجبهة العربية مع أسرائيل ولم تثار أثناء المقابلة مسائل المساعدات المالية خاصة و أن ليبيا ملتزمة حسب مؤتمر القمة في الخرطوم بدفع ثلاثين مليون دولار لدول الجوار.
وقد سنحت لي فرصة مرافقة الشافعي مناقشته حول الوضع العربي ودور الكفاح العربي من أجل تحرير ألاراضي العربية المحتلة وكان الشافعي واثقا كل الثقة من مقدرة الامة العربية على الصمود ويرى أن العرب يجب أن يواجهوا حملة التشكيك التي يروجها الغرب للنيل من أرادة ألامة العربية بدعوى التخلف العلمي والتيكنولوجي وليفقدهم الثقة بأنفسهم. كما لاحظت على الشافعي تدينه العميق وأستخدامه للآيات ألقرآنية في أحاديثه وكان على جانب كبير من المعرفة بالفنون والنهضة الثقافية العربية بألاضافة الى تحليلاته السياسية الثرية. وكنا قد أعددنا له برنامجا حافلا مليئا بزيارات المتاحف والمدن الاثرية خارج العاصمة طرابلس.
لم يكن رئيس الوزراء الاستاذ عبد الحميد البكوش متحمسا لهذه الزيارة لان برنامجه السياسي لا يركز على الاهتمام بالتضامن العربي أو القضية الفلسطينية بل كان منصبا على تقوية التعاون مع الغرب وخاصة مع أمريكا وبريطانيا وفرنسا وفي المجال العربي مع دول المغرب العربي ويظهر أن مصر كانت تعرف ذلك كما يفهم من سياق الحديث مع السيد الشافعي. كما كان الملك ووزير الداخلية السيد أحمد عون غير مرتاحين للزيارة خوفا من أحتمال رد فعل شعبي يصعب التحكم فيه فقد كان أغلب الشعب الليبي متحمسا و يكن حبا وأخلاصا منقطع النظير للرئيس عبد الناصر ولهذا أتخد وزير الداخلية السيد أحمد عون سوف أحتياطات أمنية خاصة وأصر على حصر تحركات الشافعي في نطاق البرنامج الذي أعد له وخاصة في مدينة طرابلس حيث التيار القومي المتحمس يعم أغلب طبقات الشعب. وقد سببت هذه الاجراءات ألامنية أحراجا كبيرا لي بصفة خاصة لاني كنت الوزير المرافق ومن واجبي الحرص على راحته ورغباته كضيف على البلاد وكان رئيس الوزراء يؤيد وزير الداخلية في تحفوظاته وكانا يحذراني بأني سأكون مسؤلا عن أية حوادث شغب أو مظاهرات قد تحدث أثناء الزيارة. وقد طلب مني رئيس الوزراء تعديل برنامج الزيارة وألغاء زيارة السيد الشافعي لمدينة ترهونة لحضورالاحتفال الشعبي الذي أعد هناك للحفاوة بالضيف الكبير وذلك بعد سماعه خبر الاستعدادات الكبرى وأحتمال تجمع الجماهير الشعبية الكبيرة التي ستحضر من المناطق المجاورة ومن معظم أنحاء البلاد خاصة وأن وزير الداخلية أخبره بأن السيد أبوبكر نعامة، الوزير السابق، وعضو مجلس النواب أقام أستعدادات ضخمة لاظهار نفوده في المنطقة أمام ممثل الرئيس عبد الناصر وكان الاستاذ البكوش على علاقة غير ودية مع السيد أبو بكر نعامة. وفعلا تم ألغاء الزيارة الى ترهونة وعدل البرنامج وفقا لذلك. وقد حدث بعد ذلك أن أبلغ السفير المصري مدير أدارة المراسم بوزارة الخارجية الليبية وكان بالمصادفة أخي السفير علي السني المنتصر بأن السيد الشافعي يشعر بألم في ساقه ويود الراحة في طرابلس يوم الجمعة أذا أمكن كما أبدى السيد الشافعي رغبته في أداء صلاة الجمعة في مسجد أحمد باشا القرمانلي الواقع في وسط مدينة طرابلس وعندما ناقشت طلب السيد الشافعي بالصلاة في مسجد أحمد باشا مع رئيس الوزراء بحضور وزير الداخلية عارضا ذلك وأصرا على أن يصلي السيد الشافعي صلاة الجمعة في المسجد المركزي لمدينة الخمس الواقعة على بعد 100 كم شرقي مدينة طرابلس بعد زيارته لمدينة لبدة ألاثرية المجاورة لمدينة الخمس وتناول طعام الغداء في فندق الخمس ثم الرجوع الى فندق الودان بطرابلس الذي يقيم فيه الضيف.
وهكذا طلبت من مدير المراسم بوزارة الخارجية أبلاغ السفير المصري بعدم أمكانية تعديل البرنامج بعد ألغاء بند زيارة ترهونة نظرا للأستعدادات التي أتخذت من طرف السلطات المحلية وهكذا ذهبنا في اليوم التالي في موكب كبير الى مدينة الخمس وما أن وصلنا حتى وجدناها تعج بالجماهير هاتفة للرئيس جمال عبد الناصر والوحدة العربية وقد أستغربنا كيف سمعت الجماهير بالزيارة غير المعلنة وعرفنا بعد ذلك أن الجماهير التي كانت تنتظر الضيف في ترهونة علمت بتغييرزيارته ألى الخمس. وبعد صلاة الجمعة وتناول الغداء عدنا الى طرابلس وكان الشافعي عظيما وفهم ما كان يجري وراء الكواليس وقال لي أنه سعيد بزيارة ليبيا و تمكنه من زيارة مدينة لبدة التاريخية ومشاهدة أثارها العظيمة وتأثر بالحفاوة والترحيب التي أبدتها جماهير الخمس والمدن الاخرى التي مررنا بها وكانت الجماهير في طرابلس تتجمع وتظهر ترحيبها بالضيف كلما تحرك موكبه في المدينة دون تنظيم أو أعداد مسبق.
وعند مغادرته عائدا لمصر حيث ودع بنفس المراسم التي أستقبل بها، أعرب عن تقديره لترحيب الملك ورئيس الوزراء به وشكرني على مرافقتي له كما شكر المرافقين الاخرين من وزارة الخارجية ورجال ألامن وكانت زيارته فرصة لي للتعرف عليه وقد سر كثيرا عندما أخبرته باني درست العلوم السياسية في جامعة القاهرة وقضائي خمس سنوات في الدراسة بمصر من سنة 1951 ولغاية سنة 1956 بالاضافة الى عملي بالسفارة الليبية في القاهرة طوا سنة 1962 .كما كنت ضمن الطلبة العرب الذين دعوا من طرف أعضاء مجلس الثورة لمأدبة أفطار في نادي الضباط في القاهرة بعد قيام ثورة المصرية مباشرة وحتى قبل ألاعلان عن أسمائهم رسميا حيث أستمعنا لارائهم وأهداف الثورة في الوحدة العربية وتحرير الوطن العربي من الأستعماروالأ حتلال ودورنا في المستقبل عند عودتنا ألى أوطاننا
وقد شعرت أثناء مرافقتي له أنه كان غير واثق في تصرفات الرئيس عبد الناصر وكان من المصادفة أن الرئيس عبد الناصر القى خطابا هاما أثناء وجود السيد الشافعي في ليبيا ولما أخبرته بأني سمعت الخطاب أستفسر مني عن فحواه وكان حسب ما فهمت يتوقع تغييرا أو خبرا هاما وفعلا بعد عودته من زيارة ليبيا تم أستبداله بالسيد أنور السادات كالنائب ألاول لرئيس الجمهورية. هذا كما تطرق الى سمعي حديثه مع وزير العدل السيد حسونة أثناء مرافقتي لهما في السيارة مما فهمت منه بأنهما غير راضيين عن تصرفات الرئيس عبد الناصر وأعوانه أذ كانا ينتقدان الوضع السائد في مصر بصفة عامة مما جعلني أستغرب صراحتهما رغم أنهما كانا يعرفان أني كنت أسمع حديثهما بوضوح من مقعدي الامامي في السيارة.


زيارة السيد محمود رياض وزير الخارجية المصري
زار ليبيا بعد السيد حسين الشافعي السيد محمود رياض وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة وأعد له أستقبال رسمي وقابل الملك أدريس وقد حضرت مقابلته مع رئيس الوزراء الاستاذ عبد الحميد البكوش وقد بدأ حديثه بسرد تفاصيل الاتصالات في أمريكا التي قضى فيها عدة أشهر وقابل فيها العديد من الوزراء وأعضاء الكونغرس وأوضح أنه فشل في مساعيه في الحصول على أي تأييد أمريكي أو وعد لالغاء أثار العدوان لحرب 1967 بأجبار أسرائيل على الجلاء عن الاراضي المحتلة وأضاف بأن جميع المسؤلين في وزارة الخارجية الامريكية يعرفون ويتفهمون الموقف العربي في الخلاف الاسرائيلي العربي وكانوا صرحاء معه وأوضحوا له بأن أعضاء الكونغرس والبيت الابيض يسيران بتوجيه من اللوبي اليهودي الداعم لاسرائيل والذي يمثل النفود المالي والاعلامي في اللولايات المتحدة كما يمثل الصوت اليهودي في الانتخابات الامريكية وخاصة في المدن االكبرى مثل نيويورك ولوس أنجلوس وكذلك بقية المدن التي لليهود فيها نفوذ مالي وأعلامي رغم ضآلة نسبتهم العددية كما أن تساوي الاصوات في الأنتخابات بين الديمقراطيين والجمهوريين جعل للصوت اليهودي أهمية خاصة بينما لم يكن للعرب والمسلمين تنظيم يؤثر على هذا الحزب أوذاك ولهذا فأن صوت وزارة الخارجية الامريكية لا يلاقي أهتمام أصحاب القرار في البيت الابيض والكونجرس الذين يوجهون السياسة الامريكية في الشؤن الخارجية. كان السيد محمود رياض فاقدا للامل في أمريكا وشدد على ضرورة التعاون العربي وقال أن الجمهورية العربية المتحدة تحاول تقوية دفاعها بكل أمكانياتها ولكن على العرب تقوية كل الجبهات الشرقية والشمالية والغربية وذكر بأن العرب في حاجة الى طيارين أكثر من حاجتهم الى طائرات فالطائرات يمكن تعويضها في وقت قصير لكن الطيارون يحتاجون الى وقت طويل للاعداد والتدريب وأن الحرب اليوم تعتمد على التقدم العلمي والتكنولوجي وضرب مثلا بنفسه فقد كان أستاذا في الكلية الحربية في مصر واليوم لايفهم كثيرا في شؤن الحرب والسلاح وأستفسر السيد رياض من رئيس الوزراء الاستاذ عبد الحميد البكوش عن موقف ليبيا من الصراع العربي الاسرائيلي فرد ألاستاذ البكوش بأن ليبيا تؤيد الدول العربية المجاورة لاسرائيل في مساعيها من أجل أسترداد أراضيها و في نفس الوقت مساعدة الفلسطينيين لتحرير أراضيهم وممارسة حق تقرير مصيرهم بكل الوسائل المتاحة وأن ليبيا كانت ولا زالت مستعدة للمساهمة بمالديها من أمكانيات عسكرية ومالية أما فيما يخص الحل السلمي فأن ليبيا تؤيد الدول المتضررة المجاورة لاسرائيل في أتخاد أي أجراء تراه يتمشى ومصالحها بما في ذلك قبول قرار مجلس الامن وتنفيذه بدون المساس بحق الشعب الفلسطيني في فلسطين. وهنا قال السيد محمود رياض بأنه يخاف من أن تكون الدول العربية لا زالت تسير في نفس سياستها السابقة والمغالاة في مطالبها كلاما لا فعلا فقد كان العرب ينادون برمي اليهود في البحر وتحرير كل شبر من فلسطين وكانت النتيجة دخولهم في ثلاثة حروب خسروا فيها فلسطين كلها وبعض أجزاء من الدول العربية المجاورة و قرار مجلس الامن القاضي بأنسحاب أسرائيل من أراض عربية أحتلتها أسرائيل في حرب 1967 مقابل سلام دائم معها معناه قبول أسرائيل كدولة بحدودها في 5 يونية 1967 ورغم ذلك لازال الزعماء العرب يرددون كلاما غير محدد بالتأكيد على حقوق الشعب الفلسطيني كاملة وتحرير كل أراضيه وكان يشير الى جواب الاستاذ عبد الحميد البكوش حول موقف ليبيا وأضاف أن هذة التصريحات ترجعنا الى الدخول في مناقشات كلامية نعجز فيها عن حل المشكلة الفلسطينية. ولم يجب الاستاذ عبد الحميد البكوش صراحة عن ما يحاول السيد محمود رياض الحصول عليه وهو موقف ليبيا صراحة من قرار مجلس الامن الذي حاول الاستاذ البكوش عدم الاشارة اليه.
وكان هدف زيارة السيد محمود رياض للدول العربية هو أقناعها بنبذ سياسة ذات الوجهين التي تتبعها الحكومات العربية وعدم مصارحة شعوبها بقبول أسرائيل في حدودها يوم 5 يونية 1967 وكان ينوي من كلامه غير الصريح أقناع الدول العربية غير المجاورة لأسرائيل الى القبول بأسرائيل وفقا لقرار مجلس الأمن حتى تجنب الرئيس عبد الناصر الاحراج في الدعوة العلنية أليه وخاصة بعد قرار قمة الخرطوم واعتماد اللاءات الثلات هذا بينما ترى الدول غير المجاورة وخاصة السعودية والعراق وليبيا أنذاك أنها ليست مستعدة أو مضطرة لقبول قرار مجلس الامن والاعتراف بأسرائيل مع ترك الحرية للدول المجاورة لانتهاج السياسة التي تراها مناسبة لاسترجاع أراضيها دون المساس بحق الشعب الفلسطيني في أراضيه.


زيارة السيد حسن لطفي الخولي مبعوث الرئيس عبد الناصر الخاص الى ليبيا سنة 1969

يظهر أن زيارتي السادة حسين الشافعي ومحمود رياض كانت مقدمة لمهمة السيد الخولي الهامة.
أستقبل السيد حسن لطفي الخولي رسميا من طرف السيد فتحي الخوجة كبير التشريفات الملكية مبعوثا من الملك وأنا نيابة عن رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي والعقيد عبد العزيز الشلحي بصفته الشخصية فالخولي تربطه بعائلة الشلحي علاقات خاصة منذ أيام السيد البوصيري الشلحي وعلاقته الوثيقة بالرئيس عبد الناصر. هذا وقد قابل السيد الخولي الملك وتناول معه الغداء الذي حضره رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي والعقيد الشلحي ولم أحضر الغداء لان الملك لا يدعوا عادة الوزراء الى مائدته. وفد علمت بعد الغداء من رئيس الوزراء أن الهدف من الزيارة هو الحصول على مساعدة مالية أضافية لتغطية صفقة شراء طائرات عمودية من أيطاليا لان الروس الذين يزودون مصر بالاسلحة لا يملكون مثل هذا السلاح وليس لدى مصر نقد أجنبي لذلك فوافق الملك على هذا الطلب، وأجتمع رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي بمكتبه وبحضوري مع السيد حسن الخولي وأبلغه موافقة الحكومة الليبية على دفع مبلغ عشرة ملايين دينار ليبي (30 مليون دولار) على دفعتين حسب طلب الجمهورية العربية المتحدة وبالطبع كان القرار بأمر من الملك وأذكر أن السيد حسن الخولي أستقبل القرار بسرور بالغ كأنه لم يكن يتوقع نجاح مهمته بهذه السرعة وقال لرئيس الوزراء بأن التاريخ سيسجل لليبيا هذا العمل الجليل لانها بهذا المبلغ ستمكن الجيش المصري من أن يتحول من جيش راجل (بري) الى جيش طائر (جوي) وأضاف بأن التاريخ سيسجل لليبيا بكل فخر وأعتزاز مدى المساعدات التي قدمتها وتقدمها ليبيا للصمود العربي في وجه الصهويونية والاستعمار وأشاد بصفة خاصة بموقف الملك أدريس من القضايا العربية وأضاف بأن الجمهورية العربية المتحدة ترغب في أظهار حسن نيتها وتطلب من ليبيا أن تدفع فواتير شراء الطائرات العمودية رأسا الى المصانع دون تدخل مصر ولكن رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي رفض هذا العرض قائلا أن ليبيا تثق في الشقيقة مصر وسيحول المبلغ رأسا الى الحكومة المصرية وهي حرة لاتمام عملية الشراء حسب أجراءاتها المالية وطلب السيد الخولي بعد ذلك موافقة ليبيا على أن يطلق الجيش المصري على فرقة الطائرات العمودية التي سيتم تأسيسها أسم ليبيا أظهارا لمدى مشاركة ليبيا في المعركة المصيرية القادمة مع أسرائيل ورأى السيد ونيس القذافي أحالة القرار في هذا الشأن الى قيادة الجيش الليبي للبث في هذا الموضوع وقال أن هدف الحكومة الليبية هو مشاركة الجمهورية العربية المتحدة في عبء المعركة ولا تريد جزاء ولا شكورا لانها تعتبر ذلك واجبا عربيا ولو توفرت لدى ليبيا قوات عسكرية قوية لما ترددت في المشاركة الفعالة في المعركة. وقد تقرر بعد ذلك دفع المبلغ على دفعتين وسمح لمصر شراء،بجزء من المبلغ، أسلحة أخرى غير الطائرات العمودية كما أعتذرت ليبيا عن قبول أقتراح السيد الخولي بأطلاق أسم ليبيا على فرقة الطائرات العمودية في الجيش المصري وكذلك وضع شعار الجيش الليبي عليها.
ومن الصدف أن السيدة أم كلثوم كانت تحي حفلاتها في ليبيا أثناء زيارة السيد حسن الخولي ودعي من طرف السيد عبدالله عابد السنوسي الذي يشرف على زيارة السيدة أم كلثوم لحضور حفلتها التي أقيمت في طرابلس وقد أضطر رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي الى حضور الحفلة بدوره بعد أن أظهر لي تردده في أول ألامر. كانت زيارة السيد حسن الخولي قبل قيام ثورة الفاتح من سبتمبر بأيام .




زيارة السيد صالح المهدي عماش نائب رئيس الوزراء العراقي 1968

زار ليبيا في هذة الفترة السيد صالح المهدي عماش نائب رئيس الوزراء العراقي يرافقه وزير التربية العراقي وأستقبلتهما في المطار نيابة عن رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي ولم يتمكنا من مقابلة الملك ولكنهما قابلا رئيس الوزراء وقد حضرت هذه المقابلة حيث قدم السيد عماش شرحا للوضع في العراق والخسائر التي تكبدها في حرب 1967 حيث فقد عددا كبيرا من طائراته ودباباته قبل وصول الجيش العراقي الى جبهة القتال كما أنه قال بأن دخل العراق من النفط قد تضاءل بسبب الصراع بين شركات البترول الاجنبية ولهذا فأنهم يأملون في الحصول على مساعدة مالية من ليبيا لتسليح الجيش العراقي وتقوية الجبهة الشرقية في الصراع العربي ألاسرائيلي. ألا أن رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي أعتذر بعدم مقدرة ليبيا في الوقت الحاضر على تلبية طلب العراق وأضاف بأن ليبيا ملتزمة بالدعم العربي للدول المتضررة المجاورة لأسرائيل و المقرر في قمة الخرطوم كما أنها ساهمت في دعم الجبهة الغربية مع الجمهورية العربية المتحدة بألاضافة الى ألتزام الحكومة الليبية بمشاريع خطة التنمية لحاجة البلاد الملحة الى بناء مرافقها العامة و أفتقار الشعب الى كثير من الخدمات لفقر البلاد قبل أكتشاف البترول وعجز الحكومة عن تمويل أية مشاريع تنموية في الماضي كما أن ألاستعمارالأيطالي حرم الشعب الليبي من كل مقومات الحياة الكريمة وقد أبدى السيد عماش تفهما لظروف ليبيا الحاضرة وقال أن الوفد العراقي جاء بحسن نية وبرسالة نبيلة لخدمة ألامة العربية ولم يشعر العراق بالحرج لطلب المساعدة من دولة عربية مثل ليبيا لدعم الجيش العراقي فهو جيش العرب جميعا وحصنهم المنيع ضد ألاستعمار والصهيونية.
السيد عماش شخصية فريدة ويحب اللهو والسمر وأذكر أنه قال أن الشعب العربي شعب غريب يتوقع من حكامه وساسته أن يكونوا ملآئكة أو رهبانا وتصلت ألانظار على حياتهم الخاصة وفي نفس الوقت يطلب منهم المستحيل في مهامهم الرسمية وفهمت منه أنه يرغب السهر ليلا خاصة أن برنامج زيارته كان متعبا ويشمل السفر والتنقل جوا داخل ليبيا فرغم أن العاصمتين في ليبيا هما طرابلس وبنغازي ألا أن رئيس الوزراء يستقبل زواره في مدينة البيضاء والملك يستقبل زواره في مدينة طبرق ولهذا كان برنامج كبار الزواريستدعي تنقلهم بين طرابلس وبنغازي والبيضاء وطبرق وتوضع برامج أستقبالات رسمية في كل منها ويقيم كبار الزوار عادة في فندق الودان في طرابلس وقد يستريحون في فندق البرينيتشي في بنغازي لبضع ساعات أثناء سفرهم من والى طرابلس والبيضاء وطبرق .


زيارة السيد حسن العويني رئيس الوزراء اليمني 1968

زار السيد حسن العويني ليبيا في شهر يولية وكنت في أستقباله في المطار نيابة عن رئيس الوزراء الاستاذ عبد الحميد البكوش.
لم أكن أعرف السيد العويني شخصيا ولهذا سألني ونحن في السيارة عن منصبي في الحكومة وقد أرتاح عندما عرف أني على مستوى وزير وكان كما شعرت يتوقع أن يستقبله رئيس الوزراء فشرحت له أوضاع ليبيا ونظام ألاستقبالات الرسمية المتبعة فيها كما سألني أيضا عن السيد منصور رشيد الكيخيا الذي كان زميله في الدراسة في مصر. وبعد قضاء ليلته في طرابلس، سافرنا في اليوم التالي معا الى البيضاء حيثأستقبل في مطار البيضاء من طرف رئيس الوزراء. وكنت قد أقترحت على رئيس الوزراء أستقباله رسميا في مطار البيضاء بدلا من أستقباله في مكتبه حال وصوله كما كان معدا في برنامج الزيارة وذلك بعد أن شعرت برغبة السيد العويني أستقباله من طرف نظيره في الحكومة الليبية حسب البرتكول المتبع . وعمل رئيس الوزراء بما أقترحته عليه رغم أن ألاستاذ البكوش كان غير متحمس لزوار ليبيا من العرب لانه يرى عدم أهميتهم كما أنه يعرف أن هدف زياراتهم كان دائما لطلب الدعم المالي خاصة بعد أن أصبحت ليبيا دولة منتجة للبترول رغم أن سعر برميل البترول كان لا يتعدى دولارا واحدا. وأعتقد أن السيد العويني لم يكن راضيا عن زيارته فهو لم يستقبل من طرف الملك كما أن الاستاذ عبد الحميد البكوش لا يعرف المجاملة خاصة عندما يواجه بطلبات مالية.
والشيء الذي لم يكن يعجبني هو أن كبار المسؤلين العرب يطلبون الزيارة دون أعطاء وقت للأعداد لها في متسع من الوقت ويطلبون مقابلة الملك ورئيس الوزراء دون أن يعلنوا عن الغرض من زيارتهم مما يضع المسؤلين الليبيين في حرج بما فيهم الملك الذي لا يريد أن يواجه بطلبات ورغبات من رؤساء دول وحكومات ليتخد فيها قرارا فوريا في مواضيع هي من أختصاص الحكومة ويجب أن تدرس على كل المستويات قبل بدء الزيارة لكن الزوار العرب يحبدون التوجه بطلبات بلدانهم بأسم رؤساء دولهم الى الملك مباشرةلأنهم يؤمنون بأن قرار الموافقة على مثل هذه الطلبات لا يتخد ألا على هذا المستوى العالي.

زيارة الرئيس التركي سوناي سنة 1968
كان الرئيس التركي هو رئيس الدولة الوحيد غير العربي الذي زار ليبيا في هذة الفترة من27 يناير الى 2 فبراير1968 وقد جاء الملك الى طرابلس حيث كان في أستقباله ووداعه. وجرت للرئيس التركي أستقبالات كبيرة وأذكر أنه كانت قد وصلت في هذه الفترة الى ميناء طرابلس سيارة كاديلاك مصفحة ضد الرصاص التي كانت الحكومات السابقة قد أوصت بصناعتها لأستعمال الملك وقد قمت مع السيد فتحي الخوجة ، كبير التشريفات الملكية،بعرضها على الملك والملكة في بيتهما الخاص في سواني بني آدم ألا أن الملك لم تعجبه السيارة المفتوحة وذكر لنا بأنه يفضل أستقبال الرئيس التركي في سيارته الرولس رويس أما السيارة الجديدة فتترك لاستعمال ضيوف الحكومة.


زيارة الملك حسين ملك الأردن
زار الملك حسين ليبيا سنة 1967 ولم أكن على أطلاع على ماجرى خلالها من مباحثات بينه وبين الملك لاني كنت في أجازة خارج ليبيا أما زيارته الثانية التي تمت في نفس السنة فقد وافق الملك على تقديم مساعدة للاردن قيمتها خمسة ملايين جنيه ليبي لشراء أسلحة صاروخية دفاعية بالرغم من أن طلب ألاردن كان أكثر من ذلك بكثير.
كان الملك أدريس يحب الملك حسين وأخيه ألامير حسن وكان يرحب بأي زيارة لهما وأذكر في سنة 1964 أثناء أجتماع مؤتمر القمة العربي في ألاسكندرية كان الملك سعيدا وأحتضن الحسين والحسن الذين قبلا يديه على مرآى من الحاضرين بكونه كبيرالأشراف.


المساعدات الليبية
بلغت المساعدات الرسمية الليبية للدول العربية التي وافقت عليها الحكومة نتيجة هذه الزيارات العديدة خلال سنتين 68-69 أكثر من 75 مليون جنيه ليبي بما في ذلك الدعم العربي المقرر في قمة الخرطوم وهو 30 مليون جنيه ليبي بالاضافة الى المساعدات الشعبية من نقديه وعينية وما لدى الجيش الليبي من أسلحة متوفرة وعتاد ومعدات التي قدمت في شكل هبات ومساعدات وفي هذه الفترة تلقت ليبيا طلبات عديدة للمساعدة في شكل مساعدات نقدية أو قروض من كل من تونس والمغرب والسودان واليمن الشعبية ولكن ليبيا أعتذرت عن تلبية هذه الطلبات لكنها قدمت قرضا لتونس. كما تلقت ليبيا طلبات للمساعدة من حركة أريتريا فقدمت لها المساعدات عن طريق الجامعة الاسلامية ودفعت لها تكاليف أصلاح سفينة شحن كانت سوريا قد تبرعت بها لاريتريا. كما قدمت ليبيا مساعدات لتشاد والنيجر في ميادين بناء المساجد والمدارس الحديثة وفي المجال الزراعي والمواصلات وتوفير وسائل النقل كما أن ليبيا ألتزمت بقبول اللاجئين المسلمين من تشاد بما فيهم زعيم التوارق وأولاده في مناطق الحدود مع تشاد وحددت لهم مرتبات و مساعدات وكان هناك جدل حول هذه المساعدات فيرى فريق أنه من الواجب تقديم هذه المساعدات للمعارضة التشادية ودعمها بالمال والسلاح ولكن البعض كان يرى أن مثل هذه المساعدات تجر ليبيا الى مشاكل مع فرنسا والدول المجاورة ولهذا أستقر الرأي على تحسين العلاقات مع تشاد في ميادين التعاون المختلفة المتعلقة بالمسلمين كبناء المساجد والمدارس وفي نفس الوقت السماح لزعيم الثوار ورجاله بالالتجاء الى الاراضي الليبية بشرط ألا يهاجموا تشاد من داخل الحدود الليبية وأن تكون المساعدات المقدمة لهم سرية.
وحاولت تشاد الوصول مع زعيم الثوار الموجود في ليبيا الى أتفاق وتعهد الرئيس النيجيري طولابي بعدم التعرض له أذا رجع الى بلاده ولكنه رفض هذا العرض وبقى هو وأبناءه في حركة تمرد على الحدود الليبية التشادية. هذا كما أمر الملك بتقديم مساعدات الى ملك ألبانيا لرعاية أنصاره الموجودين خارج وطنهم لمساعدتهم للعودة الى بلادهم وذلك بصفته ملكا مسلما في صراع مع الحكم الشيوعي في بلاده. كما أمر بمساعدة المسلمين في يوغسلافيا في مجال حاجاتهم الدينية كبناء المساجد والمدارس وأمتدت هذه المساعدات لتشمل المساهمة في مشاريع الجاليات ألاسلامية الثقافية في الدول ألاوروبية والامريكية بما في ذلك بناء مركز أسلامي في روما كما فتح الباب أمام الطلاب الافريقيين المسلمين للدراسة في جامعة السيد محمد بن علي السنوسي ألاسلامية والجامعات والمعاهد الليبية. أما بشأن منظمة التحرير الفلسطينية ومنظمة فتح الفلسطينية فأن ليبيا كانت تقدم المساعدات لهما قبل عدوان 1967 وضاعفت من مساعداتها لهما بعد ذلك غير أن التركيز كان على فتح خاصة بعد أنضمام ياسر عرفات الى منظمة التحرير وأصبحت المنظمتان شبه موحدة وكان موضوع المساعدات قد أوقف في فترة حكومة ألاستاذ عبد الحميدالبكوش بسبب الخلاف الذي نشأ حول زعامة منظمة التحرير الفلسطينية وأتجهت المنظمات الشعبية الى توجيه مساعداتها الى منظمة فتح ألا أنه في عهد حكومة السيد ونيس القذافي أعيدت المساعدات الرسمية والشعبية التي أوقفت بعد أستجلاء الموقف بين المنظمتين وكان رئيس الحكومة السيد ونيس القذافي متحمسا مع ياسر عرفات ومنظمة فتح ولم يرفض لها طلبا سوى الأذن لها بالتدريب في معسكرات الجيش الليبي أذ رفض الملك السماح بذلك.









المغرب العربي الكبير

جرت أتصالات ومساعي كثيرة في فترة حكومة ألاستاذ عبد الحميد البكوش والسيد ونيس القذافي مع دول المغرب العربي حول وحدة دول المغرب العربي وكانت ليبيا مترددة في توقيع الاتفاقية الاقتصادية المتعلقة بأنشاء سوق واحدة أسوة بالسوق ألاوروبية المشتركة وكان بعض أعضاء الحكومة مترددين في مدى فائدة ليبيا من ألانضمال لهذه الاتفاقية وقد أستقر الرأي بعد ذلك على الدخول في ألاتفاقية وكان من المتوقع التوقيع عليها في نهاية سنة 1969.


كبار المسؤلين العرب والاجانب الذين زاروا ليبيا سنة 1967 - 1969

بألاضافة الى ما تقدم ، زار ليبيا عدد كبير من المسؤلي العرب والاجانب لتبادل الرأي في الوضع العربي أو لتوثيق العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية ومن بينهم وزراء مواصلات المغرب العربي الذين حضروا مؤتمر المغرب العربي للمواصلات السلكية في 20 يناير 1968 ووزير الاقتصاد الوطني الاردني في 27 فبراير ووزير التجارة البريطاني السير أدوارد س. أندروس من 1 الى 5 مارس. كما زار ليبيا وزير التجارة الايطالي يوم 13 مارس ووزير التجارة المغربي يوم 14 مارس ووزير التجارة التركي من 16 الى 21 مارس ووزير التجارة المالطي من 17 الى 21 مارس ووزير المواصلات التركي يوم 22 أبريل ورئيس وزراء مالطا يوم 27 أبريل وحتى يوم 1 مايو والامين العام للجامعة العربية من يوم 6 الى 8 يونية والوزير التركي للخارجية من يوم 17 الى يوم 22 يونية ورئيس وزراء اليمن من يوم 2 الى 4 يولية ورئيس وزراء مالطا من 8 الى 14 يونية ورئيس وزراء السودان من20 الى25 أغسطس ووزير التجارة السوداني يوم 2 سبتمبر ووزير الدولة البريطاني من 12 الى 15 أكتوبر. كما عقد مؤتمر وزراء العمل في طرابلس من يوم 3 الى 10 نوفمبر. كما زار ليبيا في هذة الفترة وزير خارجية هولندا من 8 الى 12 يناير 1969 ووزير الدفاع البريطاني من 12 الى 15 يناير ووزير خارجية الجزائر السيد عبد العزيز أبو تفليقة من يوم 29 يناير الى 3 فبرايروزار ليبيا في هذه الفترة وزير المانيا الاتحادية للدفاع الهير ستراوس كما عقد مؤتمر المواصلات لدول المغرب العربي من يوم 15 الى 17 مارس، وزار ليبيا للمرة الثانية وزير الفاع البريطاني من يوم 20 الى 21 أبريل وفي نفس هذه الفترة زار ليبيا نائب وزير الخارجية الامريكي لشؤن أفريقيا ووزير خارجية أسبانيا.
كان وجودي في الحكومة كوزير دولة لشؤن رئاسة الحكومة و غير مسئول عن وزارة معينة حيث أن مهام هذه الوزارة هوتولي الامور العارضة التي يستوجب القيام بها من شخص بدرجة وزير يكلفه رئيس الوزراء بها الى حين أتمامها الامر الذي جعلني أتولى مسؤلية زيارة كبار المسئولين المذكورين أعلاه وأستقبالهم ودراسة برامج زياراتهم مع الوزراء المختصين وقد لاحظت أنه رغم حضوري لجميع مقابلات كبار الزوار من المسئولين العرب مع رئيس الوزراء ألا أني لم أدع لحضور مقابلات الوزراء الاجانب لاسباب لم أعرفها عندئذ ولكني فهمت لاحقا أن مقابلات المسئولين العرب كانت مجاملات بروتوكولية فقط ولا يتوقع منها نتيجة ولهذا تركوا لي أمر مجاملتهم خاصة وأني عشت في مصر وخبرت السياسة العربية اكثر من أغلب زملائي من الوزراء أما مقابلات الوزراء الاجانب فقد كانت مواضيعها مدروسة مقدما وتهدف الى تقوية الروابط السياسية والاقتصادية والتجارية ولم يكن وجودي فيها مرغوبا فيه لأن رئيس الوزراء والوزراء المختصين،كل في مجاله،كانوا يحرصون على أستقبالهم والاجتماع بهم والاهتمام بأقامتهم ويرحبون بدعواتهم لرد الزيارة التي كانوا يحددون مواعيدها على الفور وكأن عقدة الأجانب لا زالت تسيطر على النفوس لاسباب نفسية وشعور بالنقص وهذه التصرفات ترجع أيضا الى سياسة ألاستاذ عبد الحميد البكوش الرامية الى التعاون مع الدول الغربية وعدم أثارة مشاكل مع الاخوة العرب ومجاملتهم وتجنب أي صدام معهم خوفا من رد فعل الشعب الذي يسيطر علية الشعور القومي الناصري. كما أن الزوار من كبار المسئولين العرب لم تكن زياراتهم بهدف تقوية التعاون في المجالات الأقتصادية بقدرما تهدف ألى الحصول على مساعدات مالية .
أن هذه التصرفات العربية وعدم ثقة الزعماء العرب في بعضهم البعض هي السبب الرئيسي في فشل الجامعة العربية وأية محاولة وحدوية بين الدول العربية.


خطة التنمية الثانية للسنوات الخمس 1968 -1973

لا اريد التعرض الى تفاصيل الميزانية فهي متوفرة في الوثائق الرسمية والمكتبات ولكنني أريد ذكر بعض التفاصيل عن عملية أعدادها وما جرى من نقاش حولها في مجلس الوزراء وخارجه والمشاكل الاقتصادية التي كانت سائدة في تلك الفترة والصراع الاقليمي ،ولللأسف، بين الولايات الليبية السابقة الذي كان عقبة في وضع ميزانية على أسس علمية وحاجات البلاد الحقيقية.
وقبل التعرض للخطة الخمسية أود أن أسجل بأن ليبيا كانت الدولة العربية الوحيدة التي حظيت بدراسات دقيقة لأقتصادها منذ كانت أفقر دولة في أفريقيا يوم أستقلالها الى أن أصبحت أول دولة أفريقية في مستوى دخل الفرد في أواخر الستينات وذلك راجع بالطبع الى أكتشاف البترول وتصديره في فترة قصيرة لا تتجاوز بضع سنوات كما أن أقتصادها حضى بدراسة دقيقة من طرف خبراء الامم المتحدة والخبراء الدوليين الاجانب الذين شاركوا في هذه الدراسات ثم في التخطيط الاقتصادي ورسم خطط التنمية الخمسية وكان دور أبن ليبيا الشاب وألاقتصاديالقدير الدكتور علي أحمد عتيقة دوراعظيما في دراسة الاقتصاد الليبي ووضع خطط التنمية الخمسية الاولى والثانية بالتحديد والتي كانت نتاج جهده وجهد زملائه في وزارة التخطيط.
وكانت الخطة الخمسية الاولى للتنمية التي وضعت في عهد وزارة الدكتور محي الدين فكيني للفترة 1962-1967 قد مددت وذلك لانهاء المشاريع التي لم تتم مع الاستمرار في مشاريع الخدمات العامة والمنشآت الصحية والتعليمية. بألاضافة الى مشكلة موازنة الدخل مع المصروفات العامة بعد أن تضخم العجز في الميزانية العامة وتراكمه طوال السنوات الماضية بسبب تنفيذ مشاريع لم تدرج في الميزانية أو في خطة التنمية وكذلك نتيجة للتقديرات المبالغ فيها من دخل البترول وخاصة في ميزانية السنة المالية 65 -1966 . وهكذا أستمرت دراسة خطة التنمية الثانية فترة طويلة رغم محاولات الدكتور علي أحمد عتيقة لتعميم فرص التنمية على كل المناطق الليبية ومراعاة الكثافة السكانية ألا أن الاقليمية الضيقة ، مع الاسف الشديد،التي كانت سائدة في تلك الفترة كانت تعرقل مشاريع التنمية المدروسة والمدعمة بالاحصائيات الدقيقة وتشجع مشاريع غير أقتصادية وأنشاءات معينة في مدينة البيضاء التي كانت تستنزف أموالا باهضة على حساب مشاريع التنمية وبدون مراعاة للمخصصات مما ساعد على أرباك الخزانة وقد جرت عدة محاولات للحد من نفقات هذا البند المفتوح وذلك بأنشاء مؤسسة البيضاء أسوة بمؤسسة المرج حتى يمكن وضع حد لهذه المصروفات والانفاق في حدود مخصصاتها وخصص لها مبلغ كبير في الخطة الخمسية رغم أنه ينقص كثيرا عن التقديرات المطلوبة والمصروفات الفعلية والتي كانت أضعاف المبلغ المخصص لها.
أما مشروع المرج فكانت ميزانيته مفتوحة ورغم المحاولات لتخفيض التقديرات المخصصة له ألا أنها باءت كلها بالفشل فقد كان المشرفون عن المشروع غير متقيدين بالمخصصات بقدر أهتمامهم بجعل المرج مدينة مثالية فقد أقيم بها أكبر مسجد في ليبيا كلف نحو مليون ونصف جنيه رغم تخفيض التقديرات المطلوبة له وأنشأت فيها مدرستان كلفت كل منها ستمائه ألف جنيه وقد كانت هذه الانشاءات من الحساسية بمكان فأتهم الوزراء الطرابلسيين الذين عارضوا هذه المشاريع بأنهم أقليميون وكان الوزير المتحمس لمشروع المرج السيد عمر بن عامر الذي كان يثور لأي أعتراض على أي مشروع لمدينة المرج أو تأجيل أي مشروع فيها وكان النقاش حادا بينه وبين الدكتور علي أحمد عتيقة وصل الى درجة تبادل الاتهامات وكان السيد عمر بن عامر يعترض على مشاريع في الشق الغربي من البلاد مثل مشروع طريق نالوت – غدامس وتحويل مخصاصاته لبناء المسجد والمدرستين المشار اليها في أعلاه في مدينة المرج.
وكما ذكرت أستمر الاصرارعلى أنشاء مدينتين رياضيتين وقاعتين عامتين للمدينتين في كل من طرابلس وبنغازي بنفس السعة والخدمات وكذلك مطارين عالميين متشابهين ومينائين في كل من طرابلس وبنغازي وصرف مساعدات متساوية للبلديتين فيهما بحجة أن بنغازي دمرت بالكامل في الحرب العالمية الثانية الى جانب مطار عالمي في البيضاء هذا كما أوقف مشروع ميناء قصر أحمد في مصراتة حتى تمت الموافقة على ميناء درنة وميناء طبرق وكذلك كان الحال في مشاريع السدود الكبيرة على الوديان وبناء المواني في المدن الساحلية والمدارس والمستشفيات بنفس الحجم والسعة والخدمات في المدن الاخرى بالتساوي مثل سرت ،مصراتة ،زليطن ،الخمس ،الزاوية ،غريان ،غدامس، بن وليد وزوارة في الشق الغربي وأجدابيا وقمينس ، المرج،البيضاء،القيقب،شحات،عين ماره،درنه، القبه، رأس الهلال،الحمامة،زغبوب،الكفرة،وأوجله في الشق الشرقي دون اعتبار لعامل الكثافة السكانية والموقع الجغرافي .بألاضافة الى أنشاء ثلات مدارس للفنون والصنائع في كل من طبرق والبيضاء وبنغازي أسوة بمدرسة الفنون والصنائع الاسلامية في طرابلس والتي أنشأت أبان العهد العثماني في سنة 1898 .
كذلك مساواة مخصصات الطرق بين الشق الغربي والشق الشرقي الى جانب أنشاء كليات للجامعة الليبية في كل من طرابلس وبنغازي والاصرار على أنشاء كلية الطب في بنغازي وأنشاء مدينة جامعية في بنغازي وكذلك المراكز الرئيسية لكل من مؤسسة الطيران والجامعة الليبية ومؤسسة البترول والمصرف الزراعي والمصرف العقاري والصناعي والجامعة الاسلامية والكلية الحربية في بنغازي والبيضاء ومراكز مماثلة لبقية المؤسسات التي توجد مراكزها الرئيسية في طرابلس. وكذلك توفير طاقة كهربائية تزيد عن حاجة الاستهلاك في الشق الشرقي هذا الى جانب بعض المشاريع الخاصة مثل توفير المياه لمدينة طبرق وجلبها من الكفرة حيث أكتشفت مياه جوفية وفيرة ونقلها أيضا الى الجغبوب ثم الى بنغازي رغم التكاليف الباهضة ورغم أن هذه المشاريع لم تظهر في الخطة الخمسية الثانية ألا أنها درست من طرف شركات البترول العاملة في المنطقة. كذلك الاصرار على أن تكون مراكز المصانع البتروكيميائة في منطقة بنغازي بحجة قربها من مصادر البترول رغم معارضة شركات البترول لعدم توفر الامكانيات الأسكانية وبعدها عن السوق الاستهلاكية الرئيسية في طرابلس والموانىء في الشق الغربي.
أذكر أني حضرت جلسات مجلس التخطيط لاول مرة بصفتي وزيرا للبترول بالوكالة فأعترضت على نفس الميزانية لكل من مينائي درنة ومصراتة والتي كانت في حدود أربعة ملايين جنيه وذكرت بأن ميناء مصراتة لا توجد فيه أية أنشاءات ويحتاج الى مبلغ أكثر من ذلك بينما سبق وأن صرفت أموال خلال الخطة الخمسية الاولى على ميناء درنة والذي يعمل ألان وقد وافقني على هذا الرأي الدكتور علي أحمد عتيقة وقال أن الدراسات قدرت الاحتياجات الفعلية لميناء مصراتة وهي تتعدى المبلغ المخصص له في الخطة ولكن وزير المواصلات السيد عمر بن عامر عارض ذلك وأصر على المبلغ المحصص المذكور أعلاه . وأنهى رئيس الوزراء السيد ونيس القذافي مناقشة بند المينائبن وأنتقل لمناقشة بند أخر.
ولما أنشيء خط تليفوني سلكي بين طرابلس وروما أصر السيد عمر بن عامر وزير المواصلات على مد خط أخر الى بنغازي رغم معارضة وزير التخطيط الدكتورعلي عتيقة الذي كان يرى أن مد خط دولي ثان مع أيطاليا لا حاجة له ويمكن تخصيص المبلغ لخط دولي أخر مع البلاد العربية وكان رد السيد بن عامر أن البلاد العربية المرشحة لذلك لاترتبط بخط تلفوني مع البلاد المجاورة ولا فائدة من أنشاء خط معها كما أن خط طرابلس روما لايكفي ، وهذا مجانب للصواب، وبعد نقاش طويل أقترح السيد أحمد نجم وزير الأقتصاد ربط بنغازي باليونان بخط تلفوني حتى يضمن لها خطا دوليا مع أوربا أسوة بطرابلس.
كانت هذه الانشاءات المزدوجة للمرافق وضخامتها و أرتفاع تكاليفها في الخطة الخمسية حرمت القطاعين الزراعي والصناعي الهامين من الحصول على الأعتمادات اللازمة خاصة أن ما خصص لهما في الخطة كان يسير وفق ما أتبع في أنشاءات المرافق وهو المساواة أذ كلما تقرر أنشاء مصنع في طرابلس أضيف مصنع شبيه له في بنغازي دون أعتبار لعامل التكاليف وأتساع السوق والعمالة.وكذلك الحال بالنسبة للقطاع الزراعي حيث توجد مشكلة عويصة فالمناطق الزراعية في برقة تملكها على الشيوع قبائل بدوية ليس لديها خبرة في الزراعة لاستغلال هذه الارض وكان لابد أن تقوم الحكومة بتمويلها والانفاق عليها بمساهمات من الميزانية العامة وأدارتها لاصحابها دون أن تتوقع ربحا أي أنها مشاريع أستهلاكية رأسمالها حكومي وأنتاجها لاصحابها بينما كل مزارع الشق الغربي تدار من قبل أصحابها الذين يقترضون الاموال من المصارف على أسس تجارية ويعملون فيها بأنفسهم.
خلق هذا الوضع نوعا من التفرقة في المعاملة وسخطا في الشق الغربي من البلاد ورغم حساسية هذه الامور ألا أن مبالغة أنصار الاقليمية في الشق الشرقي من ليبيا أضطرني الى هذه الصراحة وذلك للتاريخ ، و لعله يكون درسا تستفيد منه الاجيال القادمة. ورغم أضطرار وزراء طرابلس الى قبول هذا الوضع الغريب حفاظا على وحدة البلاد التي كانت معرضة للانفصال ألا أن هذه السياسة عملت على فقدان الثقة في الحكومات المتعاقبة والنظام الملكي من طرف الغالبية الواعية من الشعب وخاصة في الشق الغربي من البلاد.
أنني عندما ذكرت هذه الحالات المؤسفة لم أكن أدعوا الى تركيز الانشاءات في مدينة أو منطقة معينة فليبيا واسعة الارجاء ولابد من الاهتمام بمناطقها المترامية الاطراف ولكن على أساس متكامل وليس على اساس متنافس وكان لابد من التركيز على مدينة طرابلس لانها عاصمة البلاد الرئيسية وأكبر مدن البلاد ولهذا يجب أن تكون المكان الملائم لاكبر مطار وأكبرمدينة رياضية والجامعة والقاعة العامة للمدينة والمباني الحكومية وهذا ليس معناه عدم أقامة مثل هذه المنشئات في خطة قادمة في مدينة بنغازي والبيضاء وغيرها من المدن الليبية ولكن على أساس الاخذ في الاعتبار عوامل الكثافة السكانية والانشطة الاقتصادية حتى لا تصرف الاموال على منشئات تفوق الاحتياجات الفعلية لها ودون مردود أقتصادي وحتى توجه أموال خطة التنمية الى المشاريع الزراعية والصناعية التي يجب بدورها أن تقام بعد دراسة شاملة للعوامل البشرية والطبيعية والتسويق.
والشيء الذي كان يحز في نفسي هو أن هذه الظاهرة ترجع الى أهداف أقليمية معينة وهي أعداد البلاد لقيام دولتين وأذا ما تحقق هدف الانفصاليين في فصل طرابلس عن برقة فستكون في الدولتين مرافق جاهزة لجميع الانشطة بحيث لا تكون للانفصال نتائج سلبية على الجماهير. أنني كنت أشعر بأن معظم زعماء برقة كانوا يسيرون في هذا الاتجاه ولا أريد أن أظلم الجماهير الواعية في برقة والتي أرتبطت مع جماهبر طرابلس في كفاحها من أجل الوحدة لسنوات طويلة ولكن مع مرور السنوات وجدت مصالح متعارضة تنساق فيها الجماعير وراء زعمائها بفعل الواقع والفائدة المادية التي تعود عليها .



10 نوفمبر 2006

الفصل العاشر

النظام الملكي الليبي

قبل الحكم على نجاح أو فشل النظام الملكي الليبي يجب استعراض الظروف والأسس التي قام عليها .
المملكة اليبية المتحدة كدولة مستقلة أنشئت بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة أستجابة لرغباتالشعب الليبي وكانت قبل الأستقلال مقسمة الى ثلات أقاليم تديرها ثلات أدارات عسكرية بريطانية وفرنسية بعد تحريرها من الأستعمار الأيطالي في الحرب العالمية الثانية ، وتم تنفيذ هذا القرار عن طريق بريطانيا وفرنسا الدولتان اللتان تقومان بادارة الاقاليم الليبية ومشاركة مندوب للأمم المتحدة ومجلس أستشاري عينته الامم المتحدة لمساعدته. وقد تم بعد التشاور مع الأحزاب السياسية القائمة في البلاد أنذاك ومع زعماء البلاد أقامة نظام ملكي أتحادي تحت تاج أمير برقة
السيد محمد أدريس السنوسي أنذاك . وكانت السياسة البريطانية تهدف بعد الحرب العالمية الثانية أيجاد بديل لقواعدها في مصر التي كانت مضطرة للجلاء عنها نتيجة لمقاومة الشعب المصري لها وذلك بأقامة أمارة سنوسية غربي قناة السويس يحكمها الأمير أدريس السنوسي ترتبط سياسيا وأقتصاديا ببريطانيا مثل أمارات دول الخليج العربية وكانت الفكرة تقتصر على برقة ولكن بعد فشل مشروع بيفن سفورزا تقرر تعميمها على كل ليبيا .
أنشاء النظام الملكي واختيار الملك و النظام الأتحادي قرارات تمت بدون أستفتاء شعبي ووضع الدستور عن طريق جمعية تأسيسية معينة بالتساوي بين الاقاليم الثلات كوسيلة لتنفيذ السياسة المذكورة أعلاه , حيث لم ينص الدستور على ضرورة المصادقة عليه من طرف أول مجلس نيابي منتخب لأعطائه الصبغة الشرعية الديمقراطية .
ولضمان أقامة هذا النظام الملكي الأتحادي أستدعى الأمر أختيار فئة من السياسيين ترتبط مصلحيا بهذا النظام وتتمشى مع سياسة الدول التي كانت تدير البلاد خاصة في المراحل الأولى للأستقلال .
ورغم أن الدستور كان من أحدث الدساتير وأشرف على أعداده أكبر خبراء القانون الدستوري في العالم وضمن جميع الحقوق والحريات والتوازن بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وتقييد سلطات الملك الى حد ما ألا أن صدوره من طرف هيئة معينة و أرساء نظام أتحادي يحدد أختصاص الأتحاد والولايات وينص على أنشاء ثلات حكومات لثلات ولايات وثلاتة مجالس تشريعية وثلاثة ولاة بالتعيين المباشر بأمر ملكي وليس بمرسوم ومراعاة المساواة في التمتيل في مجلس الشيوخ المعين جعل من الناحية الواقعية تركيز السلطات الحقيقية في يد الملك وقد تعززت هذه السلطات بمرور الوقت وأصبحت تقليدا دستوريا للبلاد .
وبعد حل الاحزاب السياسية ومنع أنشاء أي تنظيم سياسي وتقييد الصحافة لم يجد الرأي العام الليبي منصة للتعبير والمعارضة سوى القيام بالمظاهرات من حين لأخر وأنشاء تنظيمات سرية . وكان الترشيح وأنتخاب مجلس النواب يجري على أساس شخصي فردي ويشمل عادة أفرادا معروفين بأنتمائاتهم الحزبية السابقة يكونون ما يعرف بالمعارضة .
والحقيقة أنه رغم أحتكار القرار السياسي من فئة معينة الا أن البلاد كانت تتمتع بكثير من الحريات الفردية والأقتصادية وحقوق الأنسان لا توجد في بقية دول العالم العربي أنذاك وقد أمكن حتى تحدى السلطة أمام القضاء وأصدار أحكام ضدها .
ليبيا لها تاريخ طويل عرفت بهذا الأسم منذ أيام الأغريق وتقاسمتها روما وبيزنطة بعد أنقسام الأمبرطورية الرومانية شرقية وغربية وتوحدت بعد الأحتلال العربي ثم في العهد العثماني والحكم القرمانلي وعرفت بطرابلس الغرب من الاسكندرية حتى تونس وحتى احتلال أيطاليا بعد الحرب العالمية الأولي التي أعادت اليها أسمها القديم ليبيا .
والشعب الليبي شعب عربي الأصل وسكان البربرالذين سكنوها قبل الأحتلال العربي أستعربوا بالكامل لغة ودما ولم يبق سوى نسبة ضئيلة منهم في مناطق زوارة وجبل نفوسة حافظوا عل لغتهم الى جانب اللغة العربية .
وقد تعرضت ليبيا الى ما تعرضت له الشعوب العربية والأسلامية من الغزو وألأحتلال الأوربيين ومرت بظروف شبيهة أخرها الأمبرطورية العثمانية التي أرتبطت بالعالم العربي بسبب العامل الديني والولاء للخلافة الاسلامية ، وقد فشل الحكم العثماني في مواكبة التطور العلمي والتقدم الحضاري وفي منافسة الدول الغربية القوية مثل بريطانيا وفرنسا وروسيا التي سيطرت على مناطق واسعة في العالم وأصبحت تهدد المناطق الواقعة تحت الحكم العثماني ومنها المنطقة العربية الهامة التي تتحكم في طرق المواصلات بين الشرق والغرب والتي تخلفت أقتصاديا وثقافيا ، واخذت عوامل الضعف تعسف بالأمبرطورية العثمانية حتى أنهارت أمام القوى الأوربية التي فاقتها تقدما وتسليحا وقيام القوميات المختلفة بالثورة ضدها وظهور زعامات قومية عملت على التخلص من السيطرة العثمانية وكان الشعب الليبي هو أخر الشعوب العربية الذي حافظ على ولائه للأمبرطورية العثمانية والحرب تحت لواءها حتى تنازلت تركيا عن ليبيا لأيطاليا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وسرعان ما سيطر العامل القومي على الليبيين بفضل ما كان يجري في المشرق العربي من حركات قومية تحررية ضد الحكم العثماني والأحتلال الاجنبي .وتجلى ذلك في أستمراركفاح الليبيين ضد الأحتلال الأيطالي بعد تخلى تركيا عنهم ، وقد تزعمت هذا الكفاح في برقة الحركة السنوسية بزعامة السيد أحمد الشريف السنوسي ثم الأمير أدريس السنوسي و الشيخ عمر المختار وقام زعماء مناطق طرابلس فرادى وجماعات بالوقوف في وجه الأحتلال الأيطالي . وكان للعامل الديني الدور الأكبر في تولي الحركة السنوسية الدور القيادي في الجهاد ضد الأحتلال الأجنبي ولم تكن للعائلة السنوسية مطامح سياسية لتولي الأمارة والملك في ليبيا الا بعد ظهور زعامات سياسية وعروش عربية في المشرق العربي بالتعاون مع بريطانيا مما شجع الأمير أدريس السنوسي على تولي قيادة الحركة السنوسية بعد السيد أحمد الشريف وقيامه بالتفاوض مع الأنجليز والطليان لاقامة أمارة في برقة تحت عرشه وكان أخلاص القبائل في برقة للعائلة السنوسية قد أعطاه سندا قويا للمطالبة بذلك.
أما في طرابلس فقد كان الخلاف بين زعماء الأقليم وعدم ألتفافهم تحت زعامة واحدة قد أضعف الكفاح ضد أيطاليا وأعطاها فرصة للتدخل ومناصرة بعضهم ضد بعض وقد أضطر هؤلاء اخيرا الى مبايعة الأمير أدريس السنوسي لتوحيد البلاد ضد الاحتلال الأيطالي.ولكن تولي الحزب الفاشيستي بزعامة موسليني الحكومة في أيطاليا غير من موازين القوى و قررت أيطاليا أحتلال ليبيا بالكامل وضمها الى أيطاليا وأستطاعت أيطاليا السيطرة على كل التراب الليبي وهجرة الأمير أدريس وزعماء الجهاد الى مصر وتونس وافريقيا
مرت ليبيا تحت الحكم الأيطالي بفترة ركود وأستطاعت أيطاليا تهجير مئات الألوف من الأيطاليين أليها وأعتبار ليبيا جزء من أيطاليا ورغم الأستبداد والعنف ضد الليبيين فقد أستطاعوا الحفاظ على شخصيتهم الأسلامية العربية وفشلت أيطاليا في القضاء على ثقافتهم ولغتهم أوفي أقناعهم بقبول الجنسية الأيطالية مع المحافظة على ديانتهم الأسلامية.
كانت أيطاليا حليفة لبريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى الشئ الذي مكنها من الحصول على ليبيا كنصيبها من تركة الأمبرطورية العثمانية التي خسرت الحرب . وكان من حسن حظ ليبيا أن أيطاليا دخلت الحرب الى جانب المحور ضد بريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الثانية مما ساعد على فقدان أيطاليا لليبيا واحتلت بريطانيا شمال ليبيا وأطلقت عليه أسم ولاية طرابلس وولاية برقة وأحتلت فرنسا جنوبها الغربي وأطلقت عليه أسم ولاية فزان تمهيدا لتقسيم ليبيا بعد الحرب بينهما ألا أن أمريكا أرادت أن تستفيد أيضا بالحصول على نصف ليبيا الشمالي المعروف بولاية طرابلس أو أرجاعه ألى أيطاليا تعويضا لها على ثورتها ضد موسوليني في المراحل الأخيرة من الحرب ودعم الحكومة الأيطالية اليمينية للوقوف ضد الحزب الشيوعي الأيطالي القوي الذي كانت تسنده روسيا الأمر الذي تبلور في مشروع بيفن سفورزا في الأمم المتحدة عندما أحيل مصير المستعمرات الأيطالية السابقة أليها.
كانت بريطانيا وهي تخوض معركة الحياة والموت ضد ألمانيا تفكر في أمبرطوريتها
في الشرق الأوسط ووجدت أن أحتلال ليبيا قد يساعد على وضع مصر وسوريا وفلسطين وهي الدول التي كان يتوقع تمردها على الأحتلال البريطاني بين كفي كماشة قواعدها في الخليج العربي وليبيا.
وفعلا بعد الحرب اعلنت عن رغبتها في البقاء في برقة شرقي ليبيا تلبية لوعدها للأمير أدريس السنوسي بعدم عودة برقة للأستعمار الأيطالي مقابل مشاركة الليبيين في المعركة ضد أيطاليا . بينما أستمرت في المناورات الدبلوماسية دوليا وفي داخل ليبيا للأحتفاظ بسيطرتها على كل ليبيا شمالها وجنوبها.
أتبعث أيطاليا سياسة مخالفة لسياسة أيطاليا في ليبيا تقوم على حرية التعبير بشتى الطرق فسمحت لليبيين بحرية التعبير وأنشاء النوادي الأجتماعية والأحزاب السياسية
مما شجع الحركة القومية والوطنية للمطالبة بالأستقلال والوحدة والأنضمام للجامعة العربية بمقتضى حق تقرير المصيروالتجاوب مع الأشقاء العرب في كفاحهم القومي من أجل التحرر والوحدة العربية .
بعد تنازل أيطاليا عن مستعمراتها السابقة في معاهدة الصلح فشلت الدول الأربع الكبرى بريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا في الأتفاق على تقرير مصيرها .
وتقرر أحالة الموضوع إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة حيت تجدد الخلاف بين الداعين ألى تأييد أستقلال ليبيا والدول الأستعمارية الداعية ألى تقسيمها ووضعها تحت الوصاية وقد فشل مشروع بيفن سفورزا لتقسيم ليبيا بين بريطانيا وفرنسا وأيطاليا عند التصويت عليه بصوت واحد هو صوت دولة هايتي التي صوت مندوبها أميل سان لو ضد القرار مخالفا بذلك تعليمات حكومته بتأييد المشروع. وبفضل معارضة دول الجامعة العربية والدول الأسلامية والآسيوية وروسيا ورد فعل الشعب الليبي المعارض للقرار والذي كانت تشجعه بريطانيا من وراء ستار رغم أنها أحدى الدوليتين المقدمة لمشروع بيفن – سفورزا رفضت الجمعية العامة للامم المتحدة المشروع ووافقت في 21 نوفمبر 1949 على أن تصبح ليبيا دولة مستقلة ذات سيادة في موعد لا يتجاوز أول يناير 1952 وأيفاد أدريان بلت مندوب للأمم المتحدة يساعده مجلس من ست دول وأربعة أعضاء ليبيين لمساعدة الشعب الليبي لوضع دستور الدولة الجديدة ويطلب من الدول القائمة بالأدارة بريطانيا وفرنسا تنفيذ هذا القرار بالتعاون مع مندوب الأمم المتحدة .
ورغم اجماع الشعب الليبي على المطالبة بالأستقلال والوحدة أثناء نظر القضية في مؤتمر الصلح ثم في الأمم المتحدة ألا أن خلافا كبيرا حدث بين زعماء برقة وزعماء طرابلس حول الوضع الدستوري لأمارة السيد محمد أدريس السنوسي على البلاد جميعها وكذلك بين زعماء طرابلس بعضهم البعض وكان ذلك قبل صدور قرار الأمم المتحدة وأستمر هذا الخلاف خلال فترة الأعداد للأستقلال ووضع الدستور وتأليف أول حكومة ليبية .
كان النشاط السياسي في ليبيا قد بدأ بعد ألأحتلال البريطاني مباشرة وتمتل في البداية في أنشاء النوادي الثقافية ثم أنشاء الأحزاب السياسية مما ساعد على عودة المهاجرين الليبيين من الخارج للمشاركة في المطالبة بالأستقلال والوحدة وكان على رأس هؤلاء العائدين الأمير أدريس السنوسي ألى برقة والسيد بشير السعداوي ألى طرابلس .
رجع السيد بشير السعداوي الى ليبيا في مارس 1948 وقد إستقبل شعبيا ورسميا لأنه جاء على رأس هيئة التحرير الليبية التي تألفت من بعض زعماء طرابلس وبرقة وبدعم من السيد عزام باشا أمين عام جامعة الدول العربية ومصر لتنسيق مواقف زعماء ليبيا في مطالبة اللجنة الرباعية التي أرسلتها الأمم المتحدة بأمور ثلاثة والمتمثلة في الوحدة والأستقلال والأنضمام إلى الجامعة العربية ولكن الخلاف دب بين زعماء برقة وطرابلس حول الأمارة فزعماء طرابلس كانوا يرون المناداة بالسيد أدريس المهدي السنوسي أميرا على ليبيا بطريقة دستورية على رأس حكومة نيابية منتخبة أما زعماء برقة فأصروا على المناداة بالأمارة بلا قيد أوشرط دستوري وانقاذ ما يمكن إنقاده أي إسثقلال برقة اذا تعذرت الموافقة على إستقلال طرابلس الا أن السيد بشير السعداوي ليضمن مواقة برقة ويحول دون الأنقصال الذي كان يشجعه كثير من زعماء برقة والذي بدأت طلائعه باعلان حكومة في برقة دون أنتظار تنفيذ استقلال ليبيا , أنفرد بقبول مبدأ امارة إدريس السنوسي غير المشروطة وعذره في ذلك، منع تقسيم ليبيا إلى ثلات دول قزمية واعلن ذلك صراحة مما أدى إلى خلافه مع الجامعة العربية وبقية الأحزاب الطرابسية وإنشائه للمؤتمر الوطني الطرابلسي على أنقاض الجبهة الوطنية بعد إستقالة السيد سالم المنتصر من رئاستها وتأليفه لحزب الأستقلال الذي ساندته ودعمته إيطاليا وشجعته الجامعة العربية بزعامة عزام باشا لمعارضة السيد بشير السعداوي والسياسة البريطانية الرامية ألى الأحتفاظ بسيطرتها على كل ليبيا تحت التاج السنوسي وربطها بحلف عسكري وأمني وأبقاء قواتها للحفاظ على ما تبقى لها من نفوذ في الشرق الأوسط.ولم يكن زعماء وأحزاب طرابلس أقل تمسكا بمبدا الأمارة من السيد بشير السعداوي ولكنهم كانوا أكثر حيطة وحرصا على ضرورة اقرارها دستوريا وربطها بنظام ديموقراطي نيابي للحيلولة دون قيام حاكم مطلق ينفرد بالقرار وأدىقبول السيد السعداوي للأمارة بدون قيد أو شرط الى تحقق ما كانت الأحزاب الطرابلسية تخشاه وهو إعلان الدستورعن طريق جمعية تأسيسية معينة لا تمثل الشعب وأعلان النظام الفدرالي وأعطاء الملك والولايات سلطات تحد من سلطة الأتحاد .
وتحول السيد بشير السعداوي ألى معارض للنظام بعد أن شعر بمحاولة الأدارة البريطانية والملك إبعاده عن المشاركة في السلطة وأعلن معارضته لتاليف أعضاءالجمعية التأسيسية بالتعيين و بالتساوي بين الولايات وإعتماد النظام الفدرالي وتأليف الحكومة المؤقتة بدون انتخابات. وقد أدت معارضته هذه إلى إنشقاق فريق كبير من أعضاء المؤتمر الوطني عنه عندما غيرت الأدارة البريطانية سياستها نحوه وتحولت إلى دعم جناح المؤتمر المنشق عنه. ورغم ذلك أحتفظ السيد بشير السعداوي بدعم وتأييد جماهير الشعب في طرابلس , حتى الأنتخابات النيابية الأولى التي فاز فيها أعضاء المؤتمر المنشقين عن السعداوي في الدواخل مع عدد قليل من مرشحي حزب الأستقلال بمساندة السلطات المحلية وقوات الأمن التي ما زالت تحت سيطرة الضباط الإنجليز بينما فاز جناح السيد بشيرالسعداوي في المؤتمر الوطني في مدينة طرابلس مما أدى ألى قيام مظاهرات متهمة الحكومة بالتدخل وكانت هذه فرصة للنظام للتخلص من السيد بشير السعداوي ونفيه خارج ليبيا بحجة جنسيته السعودية لأنه كان يحمل جواز سفر سعودي , كما نفي معه بعض اعوانه من الليبيين والمصريين.
بعد قرار الجمعية العامة للامم المتحدة بأستقلال ليبيا، بدأت مرحلة من أهم مراحل الحركة الوطنية في ليبيا وبدأت بريطانيا في كشف مخطاطاتها. فبعد أن أسست أمارة سنوسية في برقة أخذت تعمل لتحقيق هدفها الاوسع وهو خلق مملكة في كل ليبيا تحت التاج السنوسي وهذا أستدعى التدخل في الحركة الوطنية وأختيار الزعماء ذوي الطموح والمخلصين للسيد أدريس السنوسي ولبريطانيا لوضع دستور يضمن سلطة الملك ويحافظ على سلطات ولاية برقة بحيث لا يسمح لأغلبية الشعب في ولاية طرابلس السيطرة على البلاد وأختيارحكومة موالية لتسيير شئون البلاد والدخول في حلف دفاعي وأمني مع بريطانيا.
وقد لاقت هذه السياسة تأيدا من أمريكا ومن فرنسا بعد أن ضمنتا الحصول على أمتيازات وتسهيلات عسكرية الأولى في طرابلس والثانية في فزان بينما لاقت معارضة شديدة من طرف الدول العربية والاسلامية وعلى رأسها مصر ومن أيطاليا التي حاولت مساندة الزعماء التقليديين في طرابلس لمعارضة السياسة البريطانية بعد أن شعروا بأن تأييد بريطانيا للسيد بشير السعداوي وتقوية شعبيته بين الجماهير يهدد نفوذهم التقليدي ويبعدهم عن السلطة في الحكومة القادمة ولهذا أنضموا الى حزب الاستقلال الذي ترأسه السيد سالم المنتصر. ورغم أنضمام عدد كبير من الشخصيات المعروفة لهذا الحزب ألا أنه فشل في الحصول على تأييد شعبي رغم تأييد عزام باشا والجامعة العربية له لأتهامه على المستوى الشعبي بالولاء لايطاليا العدو الاول للشعب الليبي لتاريخها الاستعماري في ليبيا وخاصة أن معظم أعضاء الحزب معروفون بالعمل والتعاون مع أيطاليا أثناء أستعمارها لليبيا.
وبعد قبول حزب المؤتمر، برئاسة السيد السعداوي، لأمارة السيد أدريس السنوسي بدون قيد أو شرط بدأت بريطانيا في تحقيق هدفها الثاني وهو أختيار النظام السياسي لأقامة المملكة السنوسية ووجدت في النظام الفدرالي ضالتها الذي ساعد المستر أدريان بلت،مندوب الامم المتحدة في ليبيا،في أختياره فهو يوزع السلطة بين الولايات ويمنع سيطرة الحكومة الاتحادية على شئون البلاد ويجعل القرارات الهامة خاضعة لموافقة المجالس التشريعية والتنفيذية في الولايات الثلات ويعطيها حق الرفض مما يضعف سلطات الحكومة الاتحادية وبمعنى آخر تستطيع ولايتا برقة وفزان ، وسكانهما لايزيد عن ربع سكان ليبيا ، فرض رأيهما على ولاية طرابلس التي تضم أغلبية سكان البلاد.
وما أن وضحت هذه السياسة حتى هب الشعب في طرابلس بزعامة السيد بشير السعداوي ضدها. وقد شعر السيد بشير السعداوي بأن الادارة البريطانية خدعته وأستغلته لاقامة نظام ملكي ديكتاتوري وأبعدته عن المشاركة في سلطة أتخاد القرار مما يسهل الاستغناء عنه والاستعانة بزعامات أخرى ترتبط بالنظام الفدرالي بروابط المصلحة دون الرجوع الى الشعب في أرساء نوع النظام للدولة. وكان النظام الفدرالي المقترح يرمي الى تقسيم البلاد الى ثلات دول شبه مستقلة ترتبط فدراليا برباط ضعيف ويجعل سلطة القرار الحقيقية في أيدي الملك . وقد أضطر السيد بشير السعداوي الى أن يتحول الى المعارضة وأعلن معارضته لتأليف الجمعية التأسيسية بالتساوي بين الولايات وبغير أنتخابات كما عارض أختيار الجمعية التأسيسية للنظام الفدرالي رغم أنه هو الذي أنيط به تعيين عضو طرابلس في المجلس الأستشاري لمندوب الأمم المتحدة وكذلك تعيين أعضاء طرابلس السبعة في لجنة الواحد والعشرين التي مهدت لأنشاء الجمعية التأسيسية وقد أدت معارضته هذه الى تخلي بريطانيا عنه وانشقاق عدد كبير من أعضاء حزب المؤتمر برئاسة نائب الرئيس مفتي ليبيا الشيخ محمد أبو ألاسعاد العالم وخاصة كبار التجار وكبار موظفي الادارة ومشائخ القبائل وأعيان الدواخل الذين يتبعون دائما سياسة الادارة الحاكمة حماية لمصالحهم . ولكن مع هذا بقت أغلبية جماهير الشعب في مدينة طرابلس والمدن الكبرى والعمال والشباب والطلاب والمثقفون مخلصون للمؤتمر الوطني ورئيسه السيد بشير السعداوي وقد أدى هذا الى دخوله في صراع مع الادارة البريطانية ثم مع الحكومة والسلطات الليبية المؤقتة وخاصة خلال ألانتخابات الاولى التي فاز فيها مرشحوا المؤتمر الوطني برئاسة السيد السعداوي في مدينة طرابلس بينما فاز مرشحوا المنشقين عنه وعن المؤتمر الوطني مع عدد قليل من مرشحي حزب الاستقلال في دواخل البلاد بمساندة السلطات المحلية وقوات الامن التي كان معظم ضباطها من الانجليز , مما أدى الى قيام مظاهرات في طرابلس متهمة الحكومة بالتدخل وقد تطورت هذه المظاهرات الى أشتباكات مع الشرطة أضطرت معها الحكومة الىأتخاد أجراءات صارمة وأبعدت السيد بشير السعداوي خارج ليبيا بحجة أنه سعودي يحمل جواز سفر المملكة العربية السعودية وكذلك أعوانه من المصريين.
وكانت الجامعة العربية قد عارضت سياسة بريطانيا منذ البداية وأرسلت وأيدت السيد بشير السعداوي على رأس هيئة التحرير ليتولى هذه المعارضة داخل ليبيا وعارضته وتخلت عنه عندما تعاون مع بريطانيا في قبول أمارة السيد أدريس السنوسي دون قيد أو شرط وأضطرت الجامعة العربية الى التعاون مع حزب الاستقلال وأيطاليا التي تسانده للوقوف في وجه السياسة البريطانية ولكن تحول السيد بشير السعداوي بعد ذلك الى معارضة السياسة البريطانية من جديد ووقوفه ضد النظام الفدرالي جعل الجامعة العربية تبارك خطوته في معارضته للفيدرالية وتأليف الجمعية التأسيسية بالتعيين وبالتساوي بين أقاليم البلاد الثلات وتتخلى عن زعماء حزب الاستقلال الذين تخلوا عن معارضتهم للسياسة البريطانية وقبولوا المشاركة في دعم النظام الفدرالي وتعزيز سلطات الملك رغبة في المشاركة في الحكم.
وتجاوبت جماهير الشعب في طرابلس وحتى في بنغازي ودرنة بزعامة جمعية عمر المختار لمعارضة النظام الفدرالي. ورغم معارضة الشعب العارمة والجامعة العربية وبعض أعضاء المجلس الاستشاري التابع لمندوب الامم المتحدة ، أستمرت بريطانيا بالتعاون مع الملك وزعماء حزب المؤتمر النشقين عن السيد السعداوي برئاسة مفتي ليبيا السيد محمد أبو ألاسعاد العالم وحزب الاستقلال بزعامة السيد سالم المنتصروالمستقلين بزعامة السيد محمود المنتصر وكان هؤلاء جميعا يمثلون الزعامات التقليدية والوجوه السياسية المعروفة في مناطق طرابلس لكنهم يفتقدون ألى تأييد رجل الشارع العادي. وقد أختيرمنهم أعضاء الجمعية التأسيسية برئاسة مفتي ليبيا السيد محمد أبو ألاسعاد العالم.كما أختيرت شخصيات عرفت بحيادها بين الاحزاب في الماضي لقيادة أول حكومة مؤقتة في طرابلس برئاسة السيد محمود المنتصر،وهومستقل ويقرب لرئيس حزب الاستقلال السيد سالم المنتصر، وعضوية السيد أبراهيم بن شعبان، وهو مستقل ويقرب للسيد علي بن شعبان أحد زعماء حزب الاستقلال، وبقية الوزراء من المؤتمر الوطني المنشقين عن السيد السعداوي مثل السيد محمد الميت ومثل السيد سالم القاضي ولم يكن زعماء برقة في الجمعية التأسيسية يمثلون أية معارضة للخطوات التي أتخذتها الجمعية التأسيسية فكل قراراتها كانت في صالح برقة وافق عليها الملك مقدما قبل عرضها على الجمعية التأسيسية بالاتفاق مع الادارات الحاكمة البريطانية والفرنسية وممل الأمم المتحدة المستر أدريان بلت .
سردت في ما تقدم الاحداث وتطوراتها الدرامية والاسلوب الذي سلكته بريطانيا في أضعاف الحركة الوطنية وتشتيت جبهاتها بهدف أقامة دولة ملكية سنوسية كغيرها من الأمارات العربية التي ترعاها بريطانيا في المشرق العربي . و كانت السياسة البريطانية التي رسمت تتعارض مع رغبات أغلبية الشعب الليبي ولكنها عملت على فرضها بالقوة مخالفة بذلك قرارات الامم المتحدة ومبادىء الديمقراطية وأستطاعت أن تضمن موافقة فرنسا وأمريكا وكذلك المستر أدريان بلت مندوب الامم المتحدة الذي وجد نفسه آلة لتنفيذ السياسة البريطانية بأسم الامم المتحدة وعذره في ذلك كما سمعت منه شخصيا في فترات متأخرة بعد أن عرفته أن التوفيق مستحبلا بين الدعوة الى وحدة البلاد التي نؤيدها أغلبية الشعب الليبي ورغبة ولاية برقة في المحافظة على شخصيتها وكيانها السياسي بقيادة السيد أدريس السنوسي ورغم أنه بويع من طرف الشعب الليبي كله دون قيد أو شرط قبل وضع الدستورألا أنه أستمرفي أنحيازه الى برقة في كل طلباتها أثناء الاعداد للاستقلال وقد كان اختيار النظام الفدرالي الحل العملي لتنفيذ قرار الامم المتحدة بأستقلال ليبيا في التاريخ الذي حددته الجمعية العامة لللامم المتحدة وهو أول يناير سنة1952. ولو أستمر الخلاف بين زعماء طرابلس المنقسمين على أنفسهم وزعماء برقة بقيادة الملك أدريس لاعيد موضوع مستقبل ليبيا الى الجمعية العامة للامم المتحدة وذلك لم يكن في صالح ليبيا لأن أعادة القضية الليبية الى الجمعية العامة للأمم المتحدة قد يثير موضوع وضعها تحت الوصاية من جديد وتأجيل البت في استقلالها . ولهذأ كان هدف المستر بلت، والذي عبر لي عنه فيما بعد، هو أستقلال ليبيا قبل أي أعتبار أخر أما المسائل الاخرى فيمكن حلها مع الزمن وفق رأي الاغلبية وهذه من طبيعة الاشياء. ولا شك أن هذا العذر كان غير منطقي في ذلك الوقت فقد كان في أستطاعه المستر بلت أن يفرض أختيار الجمعية التأسيسية بالانتخاب لوضع الدستور وعرضه على الأستفتاء الشعبي بدلا من تأليف الجمعية التأسيسية بالتعيين والموافقة على الدستور دون الرجوع ألى الشعب . مما يخالف مبادىء الامم المتحدة والديمقراطية وحقوق الأنسان. وما توقعه المستر بلت لوحدة ليبيا مستقبلا كان قد تحقق فمع مرور السنوات تحققت وحدة ليبيا الكاملة بدون أستفتاء شعبي أو مبادرة من مجلس النواب بل تحققت بأقتراح من الملك نفسه بعد سيطرته الكاملة على السلطة وتم ذلك في أواخر عهد حكومة السيد محمد بن عثمان الصيد و وبداية عهد الدكتور محي الدين فكيني وكان ذلك بتوصية من أمريكا تحاشيا لتطور الخلاف بين ولايتي برقة وطرابلس حول أستغلال الحقول والمواني البترولية المتداخلة على الحدود بين الولايتين.
لاشك أن قرار الوحدة أستقبل بالترحيب على كل المستويات الشعبية والعربية. لكن الوحدة رغم أنها قررت في الدستور والغيت بهذا حكومات الولايات وقسمت البلاد الى محافظات ألا أن الملك حرص على أستمرار ما أرساه النظام الفدرالي من أسس في توزيع السلطات كالتعينات المتساوية بين طرابلس وبرقة لاعضاء مجلس الشيوخ وفي مجلس الوزراء والمجالس التابعة له وفي المخصصات المالية وحصر التعينات في مناصب الامن والدفاع والجيش في أيد برقاوية مما جعل جماهير الشعب في طرابلس لا تشعر بحصول تغيير في نظام الحكم الفدرالي. وأستمرت في عدم تجاوبها ومشاركتها الحكومة في ما يجري في البلاد مما كان له أثر كبيرفي نهاية الحكم الملكي والترحيب بحركة الجيش في الفاتح من ستمبر 1969 .
ورغم الثغرات التي كانت في الدستور الليبي فقد كان من أحدث الدساتير الديموقراطية ولكن تنفيذه كان يحتاج الى تسليم حقيقي للسلطة الى الشعب لانتخاب نوابه و ورسم سياسة حكوماته وحفظ التوازن بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية دون تدخل من الملك الذي كان من المفروض أن يملك ولا يحكم ولكن الملك وضع كل السلطات في يده عندما بويع من الشعب حتى قبل وضع الدستور ثم حل الاحزاب السياسية بعد أول أنتخابات نيابية ولم يعد للشعب منصات شعبية يبدي فيها رأيه في حكم البلاد وأصبحت الانتخابات تجري على أساس فردي وقبلي ومساومات بين النواب والحكومة ولا ترتبط ببرامج مسبقة يطالب بها الشعب ولم يعد للدستور أحترامه الملزم لجميع الاطراف مما شجع الولايات على تجاهل اختصاصات وسلطات الأتحاد والأنفراد بالسلطة المستمدة رأسا من الملك .
وكما أوضحت، وافقت الجمعية التأسيسية التي عين أعضائها بالتساوي، 20 عضوا من كل ولاية، وقدعين أعضاء برقة الملك أدريس وأعضاء طرابلس عينهم مفتي ليبيا بصفته رئيس الفريق المنشق على المؤتمر الوطني وقد شمل ضمن من أختارهم بعض أعضاء من حزب الأستقلال ومن المستقلين ينما كانت الأغلبية من فريق المؤتمر الوطني المنشقين عن السيد بشير السعداوي وذالك بالتشاور مع الادارة البريطانية والمستر بلت أما أعضاء ولاية فزان فقد عينهم حاكم فزان السيد أحمد سيف النصر بالتشاور مع الادارة الفرنسية وموافقتها وطبعا لم يكن في أستطاعة أحد من الاعضاء المعينين في الجمعية التأسيسية أن يعارض أو يناقش مشروع الدستور الفدرالي الذي أعد مقدما وعرض عليهم للموافقة التي تمت بالاجماع رغم معارضة الجماهير الشعبية والمؤتمر الوطني برأسة السيد بشير السعداوي والأحزاب الطرابلسية الأخرى وجمعية عمر المختار في برقة وممثلي مصر وباكستان وولاية طرابلس في المجلس الاستشاري التابع للامم المتحدة ولم يعرض الدستور في أستفتاء عام كما كان يجب وأنما فرض على الشعب دون النص على أمكانية تعديله من أول مجلس نواب منتخب وحتى أمكانية تعديله مستقبلا ألا وفق شروط لايمكن توفرها من الناحية العملية ومنها موافقة الولايات الثلات ومجالسها التشريعية ومجلس الشيوخ المؤلف بالتساوي بين الولايات كما حدد الدستور أختصاصات الاتحاد وترك ما لم ينص عليه للولايات ونص على ربط الولايات رأسا بالملك الذي أصبح ملكا على ليبيا ونفس الوقت ملكا لكل من ولايات طرابلس وبرقة وفزان يعين ولاتها ومجالسها التنفيذية ويوافق على تشريعاتها دون موافقة الحكومة الاتحادية بل أكثر من ذلك، أحتفظ الملك بلقب أميربرقة مما يمهد الطريق للانفصال في حالة أية معارضة من ولاية طرابلس للدستور الذي صادقت عليه الجمعية التأسيسية.
هكذا بدأت ليبيا أستقلالها وقد تم فعلا قيام دولة ملكية سنوسية كما رغبت بريطانيا وكان لابد من أرساء دعائم النظام في وجه معارضة شعبية لازالت قوية يقودها حزب المؤتمر بزعامة السيد بشير السعداوي الذي لا زال في أوج قوته ولم يكن أمام الحكومة المؤقتة التي ألفها الملك والجمعية ألتأسيسية من خيار لأستقرار نظام الحكم سوى العمل على هزيمة المعارصة المثمتلة في حزب المؤتمر الطرابلسي برئاسة السيد بشير السعداوي في أول أنتخبات نيابية ولما كان من الصعب هزيمته في مدينة طرابلس وغيرها من المدن حيت كانت الجماهير الشعبية واعية لما يخطط لها كان لابد من العمل على هزيمته في الدواخل والريف في ولاية طرابلس حيث التعصب القبلي والعشائري لا زالا على أشدهما وأنعدام الرأي العام فيها وقلة عدد المثقفين الواعين وسهولة تسخير مشائخ القبائل ورجال الادارة المحلية للتأثير على المواطنين العاديين والفلاحين وقبائل البدو للتصويت لمرشحي الحكومة والتدخل في سير الانتخابات بشتى الطرق المتاحة وهكذا ضمنت الحكومة أصوات الاغلبية في هذه المناطق وفازت الشخصيات المحلية والعناصر المنشقة عن المؤتمر الوطني ومن بينهم بعض مرشحي حزب الاستقلال وكما كان متوقعا أنظم نواب طرابلس المنخبين ألى نواب برقة وفزان وكونوا أغلبية في مجلس النواب مؤيدة للحكومة المؤقتة وبقي يضعة نواب من المؤتمر المؤيدين للسعداوي المنتخبين في المعارضة وقد أستقبلت نتيجة الانتخابات بأستياء وأحتجاجات شعبية جرت فيها حوادث شغب وأضطربات عارمة أستخدمت الحكومة فيها العنف للسيطرة عليها وقمعها بالقوة واتهمت الحكومة عناصر المؤتمر الوطني بزعامة السيد السعداوي بالقيام بحركة للاطاحة بالنظام وقررت على أثر ذلك أبعاد السيد بشير السعداوي بحجة جنسيته السعودية ومساعديه من المصريين خارج البلاد كما تعرض أتباعه المقربين في المؤتمر الوطني للسجن .
وبقيام مجلس نيابي موال للحكومة المؤقتة والملك بادرت الحكومة البريطانية بالتعاون مع الملك للضغط على الحكومة الليبية الجديدة لنوفيع معاهدة صداقة والدخول في تحالف معها والموافقة على بقاء القوات البريطانية في ليبيا مقابل مساعدة مالية لتغطية عجز الميزانية الليبية و فعلا ثمت مصادقة البرلمان على المعاهدة الانجليزية الليبية والاتفاقية المالية المرفقة بها وكذلك تم الاتفاق مع أمريكا لبقاء قواتها في مطار الملاحة مقابل دعم مالي للتنمية في ليبيا كما ضمنت مصالح فرنسا في فزان ومصالح أيطاليا في ليبيا حتى لا تعارضا الترتيبات التي أتخدت.
كان الملك أدريس من الجيل القديم لا يعرف من الديموقراطية سوى أنها وسيلة لتبرير السياسات والقرارات التي يتخدها الحاكم العادل وهومتمرس في أساليب الحكم القديمة وطرق السيطرة على السياسيين والحكومات التي تسير الامور في البلاد. وبعد أن ضمن السيطرة على حكم البلاد دون الرجوع حتىألى مجلس الأمة بمجلسيه في أتخاذ قراراته في الأمور الهامة تخلى عن الشخصيات التي ساندته وأوصلته للحكم بهدف أرضاء مجموعات أخرى من السياسيين الطامحين في المشاركة في الحكم وخدمة مصالحهم السياسية والمالية لان أهمالهم قد يضطرهم الى الاستمرار في تشجيع القوى الشعبية المعارضة للنظام مما يعرض البلاد لعدم الاستقرار وعرشه للخطر.
وكان هذا هو الاسلوب الذي أتبعه الملك في تعيين رؤساء الحكومات والوزراء وأقالتهم وأستبدالهم أحيانا بخصومهم السياسيين أحيانا دون الرجوع ألى مجلس النواب وقد شجع هذا الاسلوب على التنافس بين الطامحين في االحكم والتباري في أرضاء الملك وقبول تعليماته وتوجيهاته دون مناقشة وكان ألغاء الاحزاب السياسية قد ساعد على عدم وجود سياسيين يعتمدون على قاعدة شعبية قادرين على الوقوف ضد تدخل الملك وحاشيته وأبداء رأيهم بصراحة في شئون البلاد ومعارضة أية تعليمات لا تتمشى ورغبات الشعب . ومنع الملك رؤساء الحكومات والوزراء التكلم بأسم الشعب على أعتبار أنه هو الممثل الشرعي الوحيد للشعب وهكذا أصبح هم الحكومات الليبية المتوالية هو أرضاء الملك وتنفيذ تعليماته .كانت سياسة الملك تهدف الى عدم تمكين أي شخص من الوصول الى مركز يمكنه من زعامة الشعب كما أستطاع السيد بشير السعداوي ولهذا ألغى الأحزاب وواصل ترسيخ سلطته حتى أصبح يعتقد أن ما يراه هو خير للبلاد وأن من واجب رؤساء الحكومات العمل بتعليماته في أدارة شئون البلاد ومن واجب مجاس الامة السير بسياسته في تشريعاته وقراراته وأصبح من حقه التدخل في شئون الحكم وتعيين انصاره من قيائل برقة ومن الأفراد الذين خدموه في المهجر في المناصب الهامة والحساسة وحتى في المناصب التي تحتاج الى العلم والمعرقة والخبرة مما أضر بمستوى هذه الوظائف لان من عينوا فيها كانوا من أهل الثقة وليسوا من أهل الخبرة والمعرفة وبذلك فقدت هذه المناصب حيادها وهيبتها وفاعليتها وأستغلت للمصالح والاهواء.
ورغم تعيين الملك للمقربين منه ومن كان في خدمته في المهجر قبل الاستقلال في وظائف هامة في الدولة ألا أنه لم يعامل السياسيين الذين خدموه بأخلاص وأحترام كرؤساء الحكومات والوزراء والموظفين الكباروضباط الامن مما يجعلهم يرتبطون به مصيريا والالتفاف حوله في الازمات فمعظم الساسة الذين تولوا الحكم والموظفون في المراكز القيادية و كبارضباط الامن والجيش أهملوا بعد خروجهم من مناصبهم وتعرضوا الى ملاحقة خصومهم الذين تولوا الحكم بعدهم وبذلك لم يعد أحد من هؤلاء يشعر بالأمن على نفسه ومصالحه ففقدوا الثقة والولاء للملك ولم يعد أحد منهم يشعر بأي رباط مصيري به أو بعرشه وألتفت كل منهم الى أموره ومصالحه الخاصة والحصول على الفوائد المالية كلما سنحت له فرصة وجوده في السلطة حتى يتمكن من الوقوف في وجه خصومه عند الخروج من الحكم. وتمثل هذا في عدم أكتراتهم بنهاية النظام الملكي بقيام حركة الجيش في الفاتح من سبتمبر1969 .
وعند تحليل تصرف الملك في حكم البلاد نجد أنه لم يكن يسمع نصائح أحد حتى حلفائه الانجليز والاميركان في الشئون الداخلية فقد كانوا غبر راضين عن سياسته وأصراره علىالتصرف حسب تفكيره التقليدي في الحكم وحسب عواطفه وعلاقاته القديمة بالأسخاص وتعينه لغير المؤهلين في المناصب العامة مما ساعد على أنتشار الفساد وفقدان ثقة الشعب وأضعاف النظام بصفة عامة وهذا ما كان يهدد المصالح البريطانية والأمريكية أيضا أذا تعرض النظام الملكي الى خطر. وكان سلوكه نحو عائلته موضوع أستغراب الجميع فقد شتت شملهم وجعل منهم أعداء وفقد بذلك سندهم وتأييدهم عند الحاجة وعاش شبه معزول عن الجماهير وعن عائلته وكبار معاونيه في ركن بعيد من الوطن، في مدينة طبرق التي تبعد عن مراكزتجمعات السكان بمئات وآلاف الكيلومترات. كما كان حائرا في من يخلفه بعد وفاته ورغم أنه قبل عن مضض تعيين أخيه السيد محمد الرضا في أول الاستقلال وتعيين أبن أخيه الاصغر السيد الحسن الرضا بعد وفاة أخيه ألا أنه لم يكن يؤمن بفكرة ولاية العهد لأحد من أسرته وكان مصمما على حرمان عائلته من تولي الحكم بعد وفاته وبعد أن حرمهم من حق المواطن العادي أثناء حياته. وقد كان يفكر في تعديل الدستور ولكنه كان حائرا بين أختيار نظام جمهوري أو نظام ملكي لا سلطة فيه للملك ورغم أنه كان يحبذ النظام الجمهوري ألا أنه كان يرغب في المحافظة على التوازن بين أقليمي طرابلس وبرقة وضمان تبادل منصب رئيس الجمهورية بين الأقليمين مما جعله يتردد في أستعجال تعديل الدستور رغم أنه كلف المستر أدريان بدراسة التعديل وألفت هيئة من كبار القانونيين الدوليين برئاسته دون علم أو مواغفة الحكومة والبرلمان درست التعديل وتقدمت بمشروعين للدستور أحدهما جمهوري والأخر ملكي مفيد لا سلطة فيه للملك ولم يتخذ الملك قراره بشأنهما حتى أنتهى الحكم الملكي في الفاتح من ستمبر1969 .ّ
كان الملك أدريس يثق في نفسه ولم يكن يعتمد عاى شخص أوأشخاص معينين وكان يسند المسؤلية بما فيها رئاسة الوزراء لمن يشاء دون الرجوع لمجلس النواب لأخذ موافقتهم مسبقا كما ينص الدستورودون الاخذ في الاعتبار رغبات الجماهير ورأي من حوله من السياسيين لأنه يعتقد أنه هو القوة السياسية الوحيدة في البلاد ويستطيع أسباغ سلطة رئيس الوزراء على أي فرد يختاره دون الاخذ في الاعتبار مكانته السياسية في البلاد أو مؤهلاته أو مقدرته أو خبرته وهكذا كان يختار معظم رؤساء حكوماته ووزرائه وكبار الموظفين والضباط كما كان يعتقد أنه يسبغ السلطة والامان حتى لحراسه ويحكى أن القائد العام لقوات ألامن اللواء محمود أبوقويطين طلب موافقته مرة لبناء بيوت لحراسه من قوات الامن الساهرين على حمايته فتوقف عند هذه العبارة " السهاهرين على حمايته" والتي لم تعجبه ورد على قائد الامن العام قائلا أنه لا يعرف من يحمي من؟ هل الحراس هم الذين يحمونه أو أنه هو الذي يحمي حراسه ويسبغ عليهم الامن لوجودهم الى جانبه.
أن الدارس لتصرفات الملك يقع في حيرة من أمره. هل كان تصرفه نتيجة حقد على الجميع لأنه لم يرزق بولي عهد من صلبه أو كان رد فعل لحقده على عائلته
و أعتقاده بأنهم يشككون في أهليته وقدرته على زعامة العائلة السنوسية منذ تنحي السيد أحمد الشريف عن الزعامة وسعيهم لتنحيته من الملك بعد الأستقلال وهل هذا سبب أنعزاله والبعد عن حياة البدخ الذي عرف به الحكام العرب وكذلك الادعاء بسوء صحته مبالغ فيه فقد كان يتمتع بصحة جيدة وعاش حت التسعينات . وهل كانت دراسته للتاريخ العربي وتصرفات الحكام العرب القدامى وملوك ورؤساء الدول العربية عندما كان في المهجر وسلوكهم جعلته يقلد أسلوبهم في الحكم.
كانت تصرفات الملك غريبة وكانت مصدر قلق لرؤساء حكوماته فكان أحيانا يتظاهر بقبول النصيحة ثم يغير رأيه ولم يستقر رأيه في أختيار رؤساء حكوماته فمثلا عين في أول فترة الأستقلال السيد مصطفى بن حليم والدكتور محي الدين فكيني مما يدل على رغبته في ألاستعانة بالشباب المؤهلين جامعيا لتسير أمور البلاد ولكنه سرعان ما تخلص منهما وعاد للساسة المخضرمين مثل السادة محمد بن عثمان الصيد ومحمود المنتصر وحسين مازق وعبد القادر البدري ثم غير رأيه وعاد للشباب المؤهل وأختار الاستاذ عبد الحميد البكوش ولكنه سرعان ما تخلص منه وعاد للأداريين المخضرمين فعين السيد ونيس القذافي. وكذلك علاقته بالرؤساء العرب لم تستقر على حال فمثلا كان يظهر صداقة قوية للرئيس عبد الناصر ويلبي كل طلباته وفي نفس الوقت يصدر تعليماته السرية الى رؤساء حكوماته بأن يحتاطوا من الرئيس عبد الناصر والمصريين عامة في ليبيا كما كان يعارض زيارة الرئيس عبد الناصر لليبيا رغم أنه هو يسافر الى مصر أحيانا. كما أن علاقته مع السيد بن بيلا كانت وثيقة قبل أستقلال الجزائر ولكنها تغيرت حالما توطدت علاقات الرئيس بن بيلا بالرئيس عبد الناصر. ولم يكن ودا للرئيس الحبيب أبورقيبة ولا للملك الحسن الثاني ولا للعائلات الحاكمة في السعودية ودول الخليج ولا للعراق بعد الثورة ولا لسوريا ولكنه كان يعطف على الملك حسين ملك ألاردن وغضب كثيرا عندما قتل الملك فيصل ملك العراق ورفض الاعتراف بحكومة العراق الثورية لفترة من الزمن.
كان الملك أدريس أحيانا يستعرض علنا ما يقرأه في التاريخ العربي محاولا أقتباس أقوالهم في العدل والأنصاف والظهور بالحاكم العادل فيندد بالفساد الذي أستشرى في البلاد وخير مثل لذلك كان بياته المعروف ببلغ الزبى ولكنه كان يصدر أوامره لمحاباة هذا أو ذاك من المقربين منه ومساعدة غير المستحقين مما يجعل بيانه عن الفساد لا معنى له.
كان الملك أدريس حريصا على صحته وأحيانا يتظاهر بأنه لا يريد الخوض في شئون الحكومة ليبتعد عن مقابلة المسؤلين حتى رؤساء حكوماته قلما يتمكنون من مقابلته لشهور أما وزرائه فلا يراهم الا يوم حلف اليمين بمناسبة تعينهم أو في المناسبات العامة من بعيد. وكان يصدر أوامره لرؤساء وزرائه عن طريق سكرتيره الخاص ولا يعرف أحد من رؤساء الحكومات ما أذا كانت الاوامر صادرة منه فعلا أو أنها صدرت من الغير بأسمه ونقلها السكرتبير الخاص . ولا أذكر أنه أستدعى مجموعة من الوزراء أو وزير بمفرده لمعرفة رأيهم في أمر هام أو دعاهم الى الغداء معه لمناقشة مسائل تهم البلاد وشئون وزاراتهم . وكان الوزراء يسمعون عنه مثل ما يسمع الناس العاديين عنه في الاخبار ومن رؤساء الوزارات عندما بزورونه . ولم يكن معظم الوزراء يعرفون أراء الملك وأفكاره و في نفس الوقت كان حريصا على أستقبال سفراء بريطانيا وأمريكا وكبار موظفي سفارتيهما وعائلاتهم وكبار الزوار من الدولتين وكان يدعوهم للغداء معه وبحضور الملكة أحيانا وكان أتصاله بهم رأسا وليس عن طريق وزارة الخارجية كما جرى عليه العرف. وقد سمعت كثيرا من هؤلاء الاجانب الذين قابلوه يتحدثون عنه وعن ترحيبه بهم وأنه كان يعد لهم الشاي بيده على الطريقة العربية زيادة في الكرم والترحيب .وقد تعرض السفراء البريطانيين في تقاريرهم العديدة ألى وزارة الخارجية البريطانية عن أحدات العهد الملكي في حينها الى حياة الملك الخاصة والعامة والعائلية وعلاقاته وحاشيته وخدمه بشئ من التفصيل وقد كان من المستغرب تعرضهم أيضا الى الحياة الخاصة لكل رؤساء الحكومات وكبار المسئولين الليبيين بشئ من التفصيل بمافي ذلك ما يشاع عتهم بين الناس حول سلوكهم ونسبهم وعلاقاتهم الخاصة والرسمية مع بعضهم البعض ومع الأحرين .
أعتقد أن الملك كان كما قال المستر بلت لا يعرف أسلوب الحكم المعاصروتطور العلاقة بين الحكام والشعب ولا يعرف معنى اليموقراطية أو أساليب الأدارة الحديثة ولم يقرأ عنها بل كان يقرأ التاريخ العربي وما حصل فيه من مؤامرات وحروب وكان يعتقد أن الوزير في البيضاء يستطيع أن يصدر أوامره ويسير شئون وزارته في طرابلس أو بنغازي بالهاتف ولا يعرف دور وكلاء الوزارات واللجان المتخصصة والمستشارين الذين يجب أن يكونوا الى جانب الوزير لأداء مهامه على أكمل وجه .
و لم يكن يؤمن بأي تنظيم سياسي يربط القاعدة الشعبية بالقمة ,اعتقد أنه كان يتجاهل أو لايعرف أن الشعب غير راض عنه لانه يؤمن في قرارة نفسه بأنه الممثل الحقيقي للشعب الذي بايعه قبل ألاستقلال وبعده ولهذا كان ضد كل رئيس وزراء يحاول بناء شعبية أو القيام بزيارات خارج البلاد أو في أرجاء البلاد من أجل ألالتحام بجماهير الشعب والتحدث مباشرة الى الجماهير في مهرجنات شعبية كما كان غير متحمس لزيارات رؤساء حكوماته للدول العربية والاجنبية الا في حالات الضرورة وبعد أخد رأيه وكان قد أصدر تعليماته بألا يتكلم أحد بأسم الشعب الليبي الا هو حتى في الرد على برقيات المجاملة التي يتبادلها المسؤلون الليبيون الكبار كرؤساء الحكومات ورؤساء مجلسي الشيوخ والنواب مع من في مستواهم من الاجانب فلا يجوز لهم تبادل التهاني أو التعازي باسم الشعب ولا يجوز لاحد من هؤلاء أن يصرح بأن الشعب يريد أو ينادي لأن ما يريده هو أي الملك وما يدعوا اليه هو ما يريده الشعب فهو ينطق بلسانهم ويعبر عن رغباتهم ولا يجوز حتى للبرلمان الكلام بأسم الشعب لأنه هو المتكلم بأسم الشعب وقد يكون ذلك تشبها بملكة بريطانيا التي تملك كل شئ و يسند كل شيء عام لها دون دراية أن الملكة في بريطانيا تملك ولا تحكم وتعمل ما تريد منها الحكومة أن تعمله أو تقوله.
أما كراهيته لعائلته فهي تفوق الوصف ولا يريد أحدا أن يتكلم عن دور السيد أحمد الشريف في الجهاد الليبي أو دور السيد صفي الين أو يذكر العائلة السنوسية بخير في حضوره وهو طبعا يحتكر البت في شئون عائلته ألا بعد الرجوع اليه ولا يسمح لهم بالعمل ألا بأذنه وعندما أخبر بوفاة السيد صفي الدين السنوسي سأل هل أوصى أين يدفن فقيل له بأنه أوصى بدفنه في الجغبوب فوافق على أحضار جثمانه ودفنه في الجغبوب دون مراسم رسمية ولم يحضر دفنه أحد من الحكومة وعندما قيل له أنه كان محتاجا وتوفى وعليه ديون قال يجب على أولاده دفع ديونه ولم يستطع أحد أن يقول له أن أبناءه فقراء وغير مسموح لهم بالعمل ولو كان هذا حرصا على أموال الدولة لكان هذا مشكورا ولكن الكل يعرف أن الملك رغم حياته البسيطة الخالية من البدخ ألا أنه كان يأمر بصرف األاموال الى أفراد معلومين وتمليكهم القصور والمزارع على حساب الدولة. وهل كثير على السيد صفي الدين أن تدفع الدولة نفقات دفنه وديونه الناتجة عن نفقات حياته البسيطة في المهجر في مصر بعيدا عن وطنه الذي ضحى من أجله مجاهدا محاربا بسلاحه وماله.
أن توسعي في سرد حياة الملك وتصرفاته لم تكن بدافع الكراهية له بل أني خدمته طوال عملي في الحكومة بكل تفان وأخلصت له وهو أخلاص عائلي موروث للسنوسية وانما رأيت أنه من واجبي نحو وطني ونحو كل الرجال الذين أخلصوا لليبيا أبان العهد الملكي أن يعرف الناس أن سبب فشل النظام الملكي في ليبيا لا يقع على عاتق السياسيين الذين تولوا الحكم في العهد الملكي وحدهم بل يرجع بعضه لسياسات وأسلوب الملك في الحكم الى حد كبير.وهذا لا يعني أن رؤساء الوزارات والوزراء وكبار المسئولين في العهد الملكي السابق غير مسئولين فقد كانوا بشرا يحسنون ويخطئون وكان فيهم الشريف النزيه والمستغل المستفيد .
أن تجربتي في العمل في رئاسة مجلس الوزراء كسكرتير خاص وكوكيل وزارة وكوزير دولة كانت قاسية وكانت تجربة تعلمت منها الكثير وعرفت فيها لماذا تتأخر شعوبنا العربية ودور الاستعمار في رسم مسيرتها كما عرفت أن فشل القيادات العربية يرجع ألىعدم أيمانها بالديمقراطية و عدم أحترامها لشعوبها كما أن أستكانة الشعوب العربية ورضوخها للظلم والكبت والاضطهاد والتخلي عن حرياتها للحاكم دون مقاومة قد ساعدت الحكام العرب على التمسك بالحكم والأستمرار في الطغيان .
أن أسلوب الحكم الذي خبرته في العهد الملكي لايختلف عما يجري في البلاد العربية ألاخرى فأنظمة الحكم تفرض وصايتها على الشعوب بسبب عدم وعي الشعوب العربية وتفشي الجهل فيها مما يساعد الحاكم على الانفراد بالحكم . لقد تفشى النفاق بين الشعوب العربية ،وللأسف، على أختلاف طبقاتها وعودت الحاكم على التطبيل والتصفيق والتهليل والمدح مما يجعله يتناسى دوره كخادم للشعب وليس سيدا يفرض أرادته عليه . ولم يعد الحاكم العربي يعتمد على مساعديه ومستشاريه الأكفاء المختصين في تسيير شئون الحكم بل أصبح يعتقد بأنه فعلا هو مصدر الحكمة الملهم وله حق ألهي في عمل ما يشاء وفق ما يراه . ويتوقف مستوى العدالة والحياة والحرية الشخصية في أي بلاد عربية على شخصية الحاكم الذي قد يكون شريرا همه أذلال الناس وأستغلال البلاد لمصالحه وعائلته دون أعتبار آخر وقد يكون الحاكم حسن النية خييرا عفيفا يرغب في عمل الخير وما يراه هو صائبا وليس ما يراه الشعب كما كان حال الملك أدريس.أن الرغبة في عمل الخير شيء والحكم الديموقراطي شيء آخر فالحاكم الفردي حتى لو كان خييرا نزيها لا يستطيع أن يعدل لأنه يعتقد أنه ولي ألامر وصاحب القرار وما يقدمه من خير للشعب هو أحسان منه وأن من حقه أن يحسن لمن يشاء وأن يحرم من يشاء وأن يكون في قمة السلطة ما دام حيا بينما الحاكم الديموقراطي هو الذي يؤمن بسلطة الشعب الذي هو صاحب الحق وله سلطة القرار ودوره كحاكم هو تنفيذ ما يريده الشعب وأن يتقبل الحاكم تبادل السلطة وترك الفرصة لغيره أذا رأى الشعب ذلك .
والملك أدريس قد ينطبق عليه الحاكم حسن النية الذي يرغب في عمل الخير كما يراه هو لكنه يفتقد لصفات الحاكم الديموقراطي المستنير .



بشير في الحج مع والده 1970
posted by Bashir Ibrahim at 12:59 PM 0 comments
في مؤتمر القمة الأفريقي الأول1963
posted by Bashir Ibrahim at 12:52 PM 0 comments

في الجمعية العامة لمنظمة الصحة العالية
ممثلا عن
في زيارة للجزائر مع رئيس الوزراء
posted by Bashir Ibrahim at 12:44 PM 0 comments
في أجتماع لمجلس الوزراء برأسة عبد الحميد البكوش
posted by Bashir Ibrahim at 12:40 PM 0 comments
بشير والجامعة العربية
أجتماع الجامعة العربية وطاهر باكير رئيس الوفد في
posted by Bashir Ibrahim at 12:32 PM 0 comments
الوالدان ابراهيم السني المنتصر و خديجة بلقاسم عمرالمنتصر
posted by Bashir Ibrahim at 11:26 AM 0 comments
في الجامعة وبطرص غالي
posted by Bashir Ibrahim at 11:22 AM 0 comments
حضور المؤتمر السنوي لمنظمة الجات 1959
posted by Bashir Ibrahim at 8:06 AM 0 comments

بشير السني المنتصر وزير الدولة1967
posted by Bashir Ibrahim at 7:48 AM 0 comments
About Me
Name:Bashir Ibrahim
Location:London, England, United Kingdom
الأنسان في حياته مسير